ج: وهذا نص الجواب. والله الموفق سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المسألة الأولى: ما حكم ذبائح أهل الكتاب؟
الجواب: حكمها الحل والإباحة بالإجماع ما لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي كالخنق ونحوه؛ لقول الله سبحانه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌٌّ لَهُمْ [المائدة:5] قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية ما نصه: (لما ذكر تعالى ما حرمه على عبادة المؤمنين من الخبائث، وما أحله لهم من الطيبات، قال بعده: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُُ الطَّيِّبَاتُ ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى، فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابََ حِلٌّ لَكُمْ قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان: يعني ذبائحهم. وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس.
وقد ثبت في الصحيح عن عبدالله بن مغفل قال: (أدلي بجراب من شحم يوم خيبر، فحضنته وقلت لا أعطي اليوم من هذا أحدا، والتفت فإذا النبي ﷺ يبتسم) فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة، وهذا ظاهر، واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم، فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله لقوله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ قالوا: وهذا ليس من طعامهم، واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث، وفي ذلك نظر؛ لأنه قضية عين، ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله كشحم الظهر والحوايا ونحوهما والله أعلم.
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله ﷺ شاة مصلية وقد سموا ذراعها، وكان يعجبه الذراع فتناوله فنهش منه نهشة، فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه، وأثر ذلك في ثنايا رسول الله ﷺ وفي أبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات، فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب، فقتلت ببشر بن البراء، ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟
وفي الحديث الآخر أن رسول الله ﷺ أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة يعني ودكا زنخا) انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وفيه الدلالة على أن ذبائح أهل الكتاب حلال للمسلمين بالإجماع، وهكذا شحم ذبائحهم، وإن كان محرما عليهم فهو حل لنا للأحاديث المذكورة آنفا، وهو قول جمهور أهل العلم خلافا لأصحاب مالك رحمهم الله جميعًا.
المسألة الثانية: ما حكم نكاح نسائهم؟
الجواب: حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم؛ لقول الله سبحانه في الآية السابقة من سورة المائدة: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنََّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] والمحصنة: هي الحرة العفيفة في أصح أقوال علماء التفسير، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية ما نصه: وقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنََ الْمُؤْمِنَاتِ أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما في الرواية الأخرى عنه، وهو قول الجمهور ههنا، وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل (حشف وسوء كيل).
والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنى، كما قال تعالى في الآية الأخرى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات؛ لقوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية [التوبة:29].
وقد كان عبدالله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الآية [البقرة:221].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينََ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْْ قَبْلِكُمْ فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] وكقوله: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواا فَقَدِ اهْتَدَوْا الآية [آل عمران:20]. انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله-.
وقال أبو محمد موفق الدين عبدالله بن أحمد بن قدامة الحنبلي -رحمه الله- في كتابه المغني ما نصه: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكا بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10]. ولنا قول الله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ إلى قوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَاا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة:5] وإجماع الصحابة.
فأما قوله سبحانه: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ [البقرة:221] فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان والآية التي في المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون ليس هذا نسخا، فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب، بدليل قوله سبحانه: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ [البينة:1] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:6] وقوله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82] وقوله تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ [البقرة:105] وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة؛ ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة، وآيتنا خاصة في حل نساء أهل الكتاب والخاص يجب تقديمه، إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية؛ لأن عمر -رضي الله عنه- قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: (طلقوهن)، فطلقوهن إلا حذيفة، فقال له عمر: (طلقها) قال: (تشهد أنها حرام) قال: (هي خمرة[1] طلقها) قال: (تشهد أنها حرام) قال: (هي خمرة) قال: (قد علمت أنها خمرة، ولكنها لي حلال، فلما كان بعد، طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي، ولأنه ربما مال إليها قلبه فتفتنه، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها) انتهى كلام صاحب المغني -رحمه الله-.
والخلاصة مما ذكره الحافظ ابن كثير وصاحب المغني -رحمة الله عليهما- أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الآية [البقرة:221] وبين قوله في سورة المائدة: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ الآية [المائدة:5] لوجهين:
أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق؛ لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات، مثل قوله عز وجل: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ الآية [البينة:1] وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا الآية [البينة:6] وقوله عز وجل: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [البقرة:105] إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين، وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم؛ لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يمنعون من دخول المسجد الحرام لقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا الآية [التوبة:28] ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] فوصفهم جميعا بالشرك؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ولأنهم جميعا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وهذا كله من أقبح الشرك، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والوجه الثاني: أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة، والخاص يقضي على العام ويقدم عليه كما هو معروف في الأصول، وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب، وبذلك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهى عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم، بل هو كالإجماع منهم، لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل؛ لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- وابنه عبدالله وجماعة من السلف الصالح -رضي الله عنهم، ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر، ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين وكثر فيه الميل إلى النساء والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها، كما يخشى على أولاده منها من ذلك، والله المستعان.
فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك- والله أعلم- أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، ومن جملة ما أنزل على الرسل التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى، لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلا منه عليهم وإكمالا لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد ﷺ وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن، حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا، وصار لهم ما لنا وعليهم ما علينا، والله سبحانه هو الحكم العدل البصير بأحوال عباده، العليم بما يصلحهم، الحكيم في كل شيء، تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين. وهناك حكمة أخرى وهي: أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج، فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب لأفضى بها ذلك غالبا إلى دين زوجها؛ فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك.
المسألة الثالثة: من هم أهل الكتاب؟
والجواب: هم اليهود والنصارى، كما نص على ذلك علماء التفسير وغيرهم، أما المجوس فليسوا من أهل الكتاب عند الإطلاق، ولكنهم يعاملون معاملتهم في أخذ الجزية منهم؛ لأن الرسول ﷺ أخذها منهم، أما نساؤهم وذبائحهم فحرام على المسلمين عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو كالإجماع من أهل العلم، وفي حلهما قول شاذ لا يعول عليه عند أهل العلم، وممن نص على ما ذكرنا من العلماء أبو محمد بن قدامة -رحمه الله- في كتابه المغني قال ما نصه: (فصل: وأهل الكتاب الذين هذا حكمهم هم أهل التوراة والإنجيل، قال الله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا [الأنعام:156] فأهل التوراة اليهود والسامرة، وأهل الإنجيل النصارى ومن وافقهم في أصل دينهم من الإفرنج والأرمن وغيرهم... إلى أن قال -رحمه الله: فصل: وليس للمجوس كتاب، ولا تحل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم، نص عليه أحمد وهو قول عامة العلماء إلا أبا ثور، فإنه أباح ذلك لقول النبي ﷺ: سنوا بهم سنة أهل الكتاب؛ ولأنه روي أن حذيفة تزوج مجوسية، ولأنهم يقرون بالجزية فأشبهوا اليهود والنصارى.
ولنا قول الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ وقوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ فرخص من ذلك في أهل الكتاب، فمن عداهم يبقى على العموم، ولم يثبت أن للمجوس كتابا، وسئل أحمد: أيصح عن علي أن للمجوس كتابا؟ فقال: هذا باطل واستعظمه جدا، ولو ثبت أن لهم كتابا فقد بينا أن حكم أهل الكتاب لا يثبت لغير أهل الكتابين، وقوله -عليه السلام: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، دليل على أنه لا كتاب لهم، وإنما أراد به النبي ﷺ في حقن دمائهم وإقرارهم بالجزية لا غير، وذلك أنهم لما كانت لهم شبهة كتاب غلب ذلك في تحريم دمائهم، فيجب أن يغلب حكم التحريم لنسائهم وذبائحهم، فإننا إذا غلبنا الشبهة في التحريم فتغليب الدليل الذي عارضته الشبهة في التحريم أولى، ولم يثبت أن حذيفة تزوج مجوسية، وضعف أحمد رواية من روى عن حذيفة أنه تزوج مجوسية، وقال أبو وائل: يقول تزوج يهودية وهو أوثق ممن روي عنه أنه تزوج مجوسية، وقال ابن سيرين: كانت امرأة حذيفة نصرانية، ومع تعارض الروايات لا يثبت حكم إحداهن إلا بترجيح، على أنه لو ثبت ذلك عن حذيفة فلا يجوز الاحتجاج به مع مخالفة الكتاب وقول سائر العلماء، وأما إقرارهم بالجزية فلأننا غلبنا حكم التحريم لدمائهم فيجب أن يغلب حكم التحريم في ذبائحهم ونسائهم) انتهى المقصود من كلام صاحب المغني -رحمه الله. والله أعلم.
المسألة الرابعة: من هو الخليفة الأول بعد رسول الله ﷺ؟ ومن يتلوه بالتسلسل إلخ؟
والجواب: قد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الخليفة بعد رسول الله ﷺ هو أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم جميعا-، وهذه مراتبهم في الفضل والخلافة، وقد فضل بعض أهل السنة عليا على عثمان -رضي الله عنهما، ولكن جمهور أهل السنة قدموا عثمان على علي؛ لأن الصحابة قدموه عليه في الخلافة، وجاءت آثار كثيرة عن رسول الله ﷺ تدل على ذلك.
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته المشهورة التي نقل فيها عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: (ونحب أصحاب رسول الله ﷺ، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، ونثبت الخلافة بعد رسول الله ﷺ أولا لأبي بكر الصديق تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب ، ثم لعثمان ، ثم لعلي بن أبي طالب ، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون) انتهى.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- في كتابه المسمى (بالمقالات في حكاية مذهب أهل السنة والجماعة) ما نصه: (وجملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته ورسله وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله ﷺ لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وأن له عينين بلا كيف كما قال سبحانه: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] وأن له يدين بلا كيف كما قال سبحانه: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وأن له وجها جل ذكره كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكََ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27] إلى أن قال -رحمه الله- ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ، ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضي الله تعالى عنهم، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي ﷺ). انتهى المقصود من كلامه -رحمه الله، وبه يعلم أن أصحاب الحديث وأهل السنة جميعهم يقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا -رضي الله عنهم- جميعا في الفضل والخلافة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية التي ذكر فيها عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ﷺ، كما وصفهم الله بذلك في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من فضائلهم ومراتبهم... إلى أن قال -رحمه الله: ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها، أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي ، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي -رضي الله عنهما- بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي، وقدم قوم عليا، وقوم توقفوا.
لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي، وإن كانت هذه المسألة -مسألة عثمان وعلي- ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله ﷺ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله) والنقول عن أهل السنة في هذا الباب كثيرة، ونرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية لطالب الحق.
واسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يهدينا صراطه المستقيم، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين[2].
المسألة الأولى: ما حكم ذبائح أهل الكتاب؟
الجواب: حكمها الحل والإباحة بالإجماع ما لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي كالخنق ونحوه؛ لقول الله سبحانه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌٌّ لَهُمْ [المائدة:5] قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية ما نصه: (لما ذكر تعالى ما حرمه على عبادة المؤمنين من الخبائث، وما أحله لهم من الطيبات، قال بعده: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُُ الطَّيِّبَاتُ ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى، فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابََ حِلٌّ لَكُمْ قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان: يعني ذبائحهم. وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس.
وقد ثبت في الصحيح عن عبدالله بن مغفل قال: (أدلي بجراب من شحم يوم خيبر، فحضنته وقلت لا أعطي اليوم من هذا أحدا، والتفت فإذا النبي ﷺ يبتسم) فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة، وهذا ظاهر، واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم، فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله لقوله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ قالوا: وهذا ليس من طعامهم، واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث، وفي ذلك نظر؛ لأنه قضية عين، ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله كشحم الظهر والحوايا ونحوهما والله أعلم.
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله ﷺ شاة مصلية وقد سموا ذراعها، وكان يعجبه الذراع فتناوله فنهش منه نهشة، فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه، وأثر ذلك في ثنايا رسول الله ﷺ وفي أبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات، فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب، فقتلت ببشر بن البراء، ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟
وفي الحديث الآخر أن رسول الله ﷺ أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة يعني ودكا زنخا) انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وفيه الدلالة على أن ذبائح أهل الكتاب حلال للمسلمين بالإجماع، وهكذا شحم ذبائحهم، وإن كان محرما عليهم فهو حل لنا للأحاديث المذكورة آنفا، وهو قول جمهور أهل العلم خلافا لأصحاب مالك رحمهم الله جميعًا.
المسألة الثانية: ما حكم نكاح نسائهم؟
الجواب: حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم؛ لقول الله سبحانه في الآية السابقة من سورة المائدة: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنََّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] والمحصنة: هي الحرة العفيفة في أصح أقوال علماء التفسير، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية ما نصه: وقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنََ الْمُؤْمِنَاتِ أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما في الرواية الأخرى عنه، وهو قول الجمهور ههنا، وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل (حشف وسوء كيل).
والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنى، كما قال تعالى في الآية الأخرى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات؛ لقوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية [التوبة:29].
وقد كان عبدالله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الآية [البقرة:221].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينََ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْْ قَبْلِكُمْ فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] وكقوله: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواا فَقَدِ اهْتَدَوْا الآية [آل عمران:20]. انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله-.
وقال أبو محمد موفق الدين عبدالله بن أحمد بن قدامة الحنبلي -رحمه الله- في كتابه المغني ما نصه: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكا بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10]. ولنا قول الله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ إلى قوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَاا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة:5] وإجماع الصحابة.
فأما قوله سبحانه: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ [البقرة:221] فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان والآية التي في المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون ليس هذا نسخا، فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب، بدليل قوله سبحانه: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ [البينة:1] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:6] وقوله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82] وقوله تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ [البقرة:105] وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة؛ ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة، وآيتنا خاصة في حل نساء أهل الكتاب والخاص يجب تقديمه، إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية؛ لأن عمر -رضي الله عنه- قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: (طلقوهن)، فطلقوهن إلا حذيفة، فقال له عمر: (طلقها) قال: (تشهد أنها حرام) قال: (هي خمرة[1] طلقها) قال: (تشهد أنها حرام) قال: (هي خمرة) قال: (قد علمت أنها خمرة، ولكنها لي حلال، فلما كان بعد، طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي، ولأنه ربما مال إليها قلبه فتفتنه، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها) انتهى كلام صاحب المغني -رحمه الله-.
والخلاصة مما ذكره الحافظ ابن كثير وصاحب المغني -رحمة الله عليهما- أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الآية [البقرة:221] وبين قوله في سورة المائدة: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ الآية [المائدة:5] لوجهين:
أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق؛ لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات، مثل قوله عز وجل: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ الآية [البينة:1] وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا الآية [البينة:6] وقوله عز وجل: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [البقرة:105] إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين، وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم؛ لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يمنعون من دخول المسجد الحرام لقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا الآية [التوبة:28] ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] فوصفهم جميعا بالشرك؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ولأنهم جميعا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وهذا كله من أقبح الشرك، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والوجه الثاني: أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة، والخاص يقضي على العام ويقدم عليه كما هو معروف في الأصول، وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب، وبذلك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهى عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم، بل هو كالإجماع منهم، لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل؛ لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- وابنه عبدالله وجماعة من السلف الصالح -رضي الله عنهم، ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر، ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين وكثر فيه الميل إلى النساء والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها، كما يخشى على أولاده منها من ذلك، والله المستعان.
فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك- والله أعلم- أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، ومن جملة ما أنزل على الرسل التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى، لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلا منه عليهم وإكمالا لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد ﷺ وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن، حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا، وصار لهم ما لنا وعليهم ما علينا، والله سبحانه هو الحكم العدل البصير بأحوال عباده، العليم بما يصلحهم، الحكيم في كل شيء، تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين. وهناك حكمة أخرى وهي: أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج، فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب لأفضى بها ذلك غالبا إلى دين زوجها؛ فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك.
المسألة الثالثة: من هم أهل الكتاب؟
والجواب: هم اليهود والنصارى، كما نص على ذلك علماء التفسير وغيرهم، أما المجوس فليسوا من أهل الكتاب عند الإطلاق، ولكنهم يعاملون معاملتهم في أخذ الجزية منهم؛ لأن الرسول ﷺ أخذها منهم، أما نساؤهم وذبائحهم فحرام على المسلمين عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو كالإجماع من أهل العلم، وفي حلهما قول شاذ لا يعول عليه عند أهل العلم، وممن نص على ما ذكرنا من العلماء أبو محمد بن قدامة -رحمه الله- في كتابه المغني قال ما نصه: (فصل: وأهل الكتاب الذين هذا حكمهم هم أهل التوراة والإنجيل، قال الله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا [الأنعام:156] فأهل التوراة اليهود والسامرة، وأهل الإنجيل النصارى ومن وافقهم في أصل دينهم من الإفرنج والأرمن وغيرهم... إلى أن قال -رحمه الله: فصل: وليس للمجوس كتاب، ولا تحل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم، نص عليه أحمد وهو قول عامة العلماء إلا أبا ثور، فإنه أباح ذلك لقول النبي ﷺ: سنوا بهم سنة أهل الكتاب؛ ولأنه روي أن حذيفة تزوج مجوسية، ولأنهم يقرون بالجزية فأشبهوا اليهود والنصارى.
ولنا قول الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ وقوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ فرخص من ذلك في أهل الكتاب، فمن عداهم يبقى على العموم، ولم يثبت أن للمجوس كتابا، وسئل أحمد: أيصح عن علي أن للمجوس كتابا؟ فقال: هذا باطل واستعظمه جدا، ولو ثبت أن لهم كتابا فقد بينا أن حكم أهل الكتاب لا يثبت لغير أهل الكتابين، وقوله -عليه السلام: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، دليل على أنه لا كتاب لهم، وإنما أراد به النبي ﷺ في حقن دمائهم وإقرارهم بالجزية لا غير، وذلك أنهم لما كانت لهم شبهة كتاب غلب ذلك في تحريم دمائهم، فيجب أن يغلب حكم التحريم لنسائهم وذبائحهم، فإننا إذا غلبنا الشبهة في التحريم فتغليب الدليل الذي عارضته الشبهة في التحريم أولى، ولم يثبت أن حذيفة تزوج مجوسية، وضعف أحمد رواية من روى عن حذيفة أنه تزوج مجوسية، وقال أبو وائل: يقول تزوج يهودية وهو أوثق ممن روي عنه أنه تزوج مجوسية، وقال ابن سيرين: كانت امرأة حذيفة نصرانية، ومع تعارض الروايات لا يثبت حكم إحداهن إلا بترجيح، على أنه لو ثبت ذلك عن حذيفة فلا يجوز الاحتجاج به مع مخالفة الكتاب وقول سائر العلماء، وأما إقرارهم بالجزية فلأننا غلبنا حكم التحريم لدمائهم فيجب أن يغلب حكم التحريم في ذبائحهم ونسائهم) انتهى المقصود من كلام صاحب المغني -رحمه الله. والله أعلم.
المسألة الرابعة: من هو الخليفة الأول بعد رسول الله ﷺ؟ ومن يتلوه بالتسلسل إلخ؟
والجواب: قد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الخليفة بعد رسول الله ﷺ هو أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم جميعا-، وهذه مراتبهم في الفضل والخلافة، وقد فضل بعض أهل السنة عليا على عثمان -رضي الله عنهما، ولكن جمهور أهل السنة قدموا عثمان على علي؛ لأن الصحابة قدموه عليه في الخلافة، وجاءت آثار كثيرة عن رسول الله ﷺ تدل على ذلك.
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته المشهورة التي نقل فيها عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: (ونحب أصحاب رسول الله ﷺ، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، ونثبت الخلافة بعد رسول الله ﷺ أولا لأبي بكر الصديق تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب ، ثم لعثمان ، ثم لعلي بن أبي طالب ، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون) انتهى.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- في كتابه المسمى (بالمقالات في حكاية مذهب أهل السنة والجماعة) ما نصه: (وجملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته ورسله وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله ﷺ لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وأن له عينين بلا كيف كما قال سبحانه: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] وأن له يدين بلا كيف كما قال سبحانه: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وأن له وجها جل ذكره كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكََ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27] إلى أن قال -رحمه الله- ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ، ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضي الله تعالى عنهم، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي ﷺ). انتهى المقصود من كلامه -رحمه الله، وبه يعلم أن أصحاب الحديث وأهل السنة جميعهم يقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا -رضي الله عنهم- جميعا في الفضل والخلافة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية التي ذكر فيها عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ﷺ، كما وصفهم الله بذلك في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من فضائلهم ومراتبهم... إلى أن قال -رحمه الله: ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها، أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي ، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي -رضي الله عنهما- بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي، وقدم قوم عليا، وقوم توقفوا.
لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي، وإن كانت هذه المسألة -مسألة عثمان وعلي- ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله ﷺ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله) والنقول عن أهل السنة في هذا الباب كثيرة، ونرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية لطالب الحق.
واسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يهدينا صراطه المستقيم، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين[2].
- في المغني (جمرة) (7/130)
- نشرت من مكتب سماحته بتاريخ 10/8/1407هـ. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 4/ 268)