ما حكم التوسل بجاه الأنبياء؟

السؤال: 

ما حكم التَّوسل بجاه النبي ﷺ، علمًا بأن أخي يقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز يقولون بأنها مسألةٌ خلافيةٌ بين أهل العلم، والراجح أنه مكروه كراهة تنزيهٍ؟ فما قول فضيلتكم في هذا الأمر وجزاكم الله خيرًا؟

الجواب:

التَّوسل بجاه النبي ﷺ، وبجاه الأنبياء، أو بحقِّ النبي، أو بحقِّ الأنبياء؛ بدعة في الدعاء، ومنكر لا يجوز، وهذا الذي قاله جمهورُ أهل العلم، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأئمَّة الدعوة، كالشيخ محمد بن عبدالوهاب وغيرهم؛ لأنَّ الرسول ما كان يُعلِّم الناسَ هذا، يقول الله: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، ما قال: فادعوه بجاه فلان، أو بحقِّ فلان، قال: فَادْعُوهُ بِهَا.
والرسول كان يدعو الله بأسمائه، يقول للصديق لما قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم، ما قال: ادعُ الله بجاهي.
والحديث الذي يقول: توسَّلوا بجاهي، فإنَّ جاهي عند الله عظيم هذا موضوعٌ، أجمع العلماء على أنه موضوعٌ مكذوبٌ عن النبي ﷺ.
وقال لمعاذٍ: يا معاذ، والله إني لأحبُّك، لا تدعنَّ أن تقول دبر كل صلاةٍ: اللهم أعني على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، ما قال: بجاه نبيك، أو بحقِّ نبيك، فالدعاء عبادة، والوسائل عبادة، لا بد فيها من دليلٍ: قال الله، وقال رسوله.
يُروى عن بعض العلماء أنَّهم أجازوا ذلك، واحتجُّوا بحديث الأعمى، قالوا: إنَّ الأعمى علَّمه النبيُّ لما شكى، علَّمه النبيُّ ﷺ قال: توضأ وصلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمدٍ نبي الرحمة، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك في حاجتي هذه أن تُقضى، اللهم شفِّعه فيَّ، وشفعني فيه، قال بعضُهم: وذكره بعضُهم عن العز ابن عبدالسلام، أنَّ هذا يدل على التوسل بالنبي خاصَّةً.
قال العلماء: الجواب عن هذا أن هذا توسّل بدعائه؛ لأنه حيٌّ، أمره أن يدعوه، هذا توسّل بدعاء النبي، ولهذا قال: اللهم شفّعه فيَّ، فقوله: اللهم إني أتوجه إليك وأتوسّل بنبيك محمدٍ يعني: بدعائه لي وشفاعته لي، ثم قال: اللهم شفّعه فيَّ، وشفعني فيه يعني: اللهم اقبل دعاءه فيَّ، ودعائي فيه، ولم يقل للناس: ادعوا الله بشفاعتي، بجاهي، أو بحقِّي، لا، بل يُدعى الربُّ بأسمائه وصفاته وبالأعمال الصَّالحة، كأن تقول: "اللهم إني أسألك بمحبتي لك، أو بمحبتي لنبيك ﷺ، أو باتباعي لنبيك محمد ﷺ"، هذا طيبٌ، توسل بالأعمال أو بالصفات: "اللهم إني أسألك بعلمك الغيب، بمحبتك، بكرمك، بجودك"، توسل بصفات الله، أو بأسمائه، كله حقٌّ.
فالتوسل بأسماء الله وصفاته وتوحيده وبالأعمال الصَّالحة كله حقٌّ، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وعلم الصديق يقول: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم، هذا توسّل بأسماء الله وصفاته، وهكذا في الحديث: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنَّك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، هذا توسل بصفات الله وتوحيده، كله حقٌّ.
وهكذا أصحاب الغار الثلاثة الذين أخبر عنهم النبيُّ ﷺ في "الصحيحين" أنهم آواهم المبيت، وفي لفظٍ: المطر إلى غارٍ، جاؤوا إلى غارٍ في الليل بسبب المبيت والمطر، فدخلوا فيه، فانحدرت عليهم صخرةٌ عظيمةٌ سُدَّت الغارَ، فما استطاعوا أن يخرجوا ولا أن يدفعوها، فقالوا فيما بينهم: لن يُنجيكم من هذه المصيبة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال أحدُهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنتُ لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، يعني: اللبن الحليب، الغبوق: لبن يشربونه بعد العشاء، فنأى بي طلبُ الشجر ذات ليلةٍ، فلم أرح عليهما إلا وقد ناما -صيف عليهم- فوقفتُ بالقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، وكرهتُ أن أُوقظهما، والصِّبية يتضاغون تحت قدمي –يعني: يُريدون الشراب- فلم أزل أنتظرهما حتى برق الصبحُ، اللهم إن كنت تعلم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصَّخرةُ بعض الشيء، لكن لا يستطيعون الخروج.
ثم قال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنةُ عمٍّ كنتُ أحبها كأشدّ ما يُحب الرجال النساء، فطلبتُها لنفسي، فاعتذرت عليَّ، طلبها للزنا فأبت، فألمت بها حاجةٌ –يعني: فقرًا- فجاءت إليه تقول: يا عبدالله، أعطني كذا وكذا، أنا محتاجة، فقال: لا، حتى تُمكنيني من نفسك، فعند الضَّرورة وافقت على أن يُعطيها مئةً وعشرين دينارًا، مئة جنيه وعشرين جنيهًا ذهبًا حتى تُمكّنه من نفسها، ففعل، فلما جلس بين رجليها قالت: يا عبدالله، اتَّق الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقِّه، فخاف الرجلُ وقام وتركها وذهبها، ولم يُجامعها، ثم قال: اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلتُ هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرةُ بعض الشيء، لكن لا يستطيعون الخروج.
فقال الثالث: اللهم إنه كان لي أُجراء، فأعطيتُ كلَّ أجيرٍ حقَّه، إلا أجيرًا واحدًا ترك عندي حقَّه، فثمرته له، واشتريتُ منه إبلًا وبقرًا وغنمًا ورقيقًا، ثم جاء يطلب حقَّه فقلتُ: كل هذا من حقِّك، هذه الإبل، وهذا البقر، وهذه الغنم، وهذا الرقيق؛ كله من حقِّك، وحقّه كان أرزًا أو ذرةً، شيء من طعامٍ، فباعه وثَمَّره هذا حقّك، فساقه كلَّه ولم يدع منه شيئًا، اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلتُ هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرةُ وخرجوا.
هذه من آيات الله، أراهم الله العبرة، ودعوا ربَّهم بهذه الأعمال الصَّالحة، فهذا لا بأس به، التوسل إلى الله بأعمالك الصَّالحة: بتوحيد الله، بأسمائه وصفاته، بمحبَّتك له؛ لأنَّ هذا عملٌ صالحٌ، المحبَّة لنبيه والمؤمنين عملٌ صالحٌ، هذا لا بأس، أما بالجاه والحقّ: بجاه فلان، أو بحق فلان، فهذا ليس وسيلةً، بل هذا بدعة، لا يجوز التَّوسل بها على الصحيح الذي عليه جمهورُ أهل العلم.
والله ولي التوفيق.
فتاوى ذات صلة