والجواب:
لا شك أن هؤلاء الجماعة علموا شيئًا من الشريعة، وفاتتهم أشياء كثيرة، فنسأل الله أن يهدينا وإياهم صراطه المستقيم، وأن يمنحنا وإياهم العلم النافع، والبصيرة النافذة، واتهام الرأي، والرجوع إلى الحق، فقد قال بعض السلف: يفسد الدين نصف متعلم، ويفسد الأبدان نصف طبيب، ويفسد اللغة نصف نحوي، وما ذاك إلا بسبب الجهل، فإن هؤلاء وأشباههم بسبب علمهم بعض الأشياء، وجهلهم أشياء كثيرة من الشرع، يعتقدون أنهم مصيبون فيما ذهبوا إليه، مما خالفوا فيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وخالفوا فيه ما درج عليه سلف الأمة، ونحن -إن شاء الله- نجيبك عما نقلته عنهم في كتابك بالتفصيل، فنقول:
أولًا: قولهم: شروط الصلاة، وأركان الصلاة، وواجبات الصلاة، ومبطلات الصلاة، كل هذا لم يثبت عن الرسول منه شيء... إلخ:
جوابه: أن هذا الكلام يدل على جهلهم العظيم، وقلة معرفتهم بالشريعة، فإن من شروط الصلاة المعتبرة؛ كالطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، والنية، والإسلام والعقل، والتمييز، ودخول الوقت، كلها عليها أدلة ثابتة في كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام يعرفها صغار الطلبة، وهكذا أركان الصلاة المعتبرة، وواجباتها، ومبطلاتها، كلها أدلتها واضحة من الكتاب والسنة، ومن راجع كلام أهل العلم، وراجع كتب الحديث؛ كـ (بلوغ المرام)، و(منتقى الأخبار)، عرف تفصيل ذلك.
وأما قولهم: وأن الصلاة لا يبطلها العبث الكثير والالتفات وغيره:
فهذا مخالف لإجماع أهل العلم، فإن العبث الكثير المتواصل المتعمد، يبطل الصلاة عند جميع أهل العلم؛ لأن فاعل ذلك يعتبر متلاعبًا بصلاته، غير مطمئن فيها، ولا خاشع، وقد دل القرآن الكريم على أن من صفات المؤمنين: الخشوع في الصلاة، وثبت عن النبي ﷺ أمر الذي لم يطمئن في صلاته بإعادتها.
وأما احتجاجهم على ما قالوه: من عدم بطلان الصلاة بالعبث الكثير، بالتفات الصديق في صلاته لما أكثر الناس من التصفيق، حين صلى بالناس عند غيبة النبي ﷺ في بني عمرو بن عوف للإصلاح بينهم، فجاء عليه الصلاة والسلام، وقد كبر الصديق، بالناس تكبيرة الإحرام فلما علم الناس به أكثروا في التصفيق فالتفت الصديق فرآه عليه الصلاة والسلام فأشار عليه النبي ﷺ أن يثبت في مكانه، فحمد الله وأثنى عليه ثم تأخر، والقصة معروفة في الصحيحين.
فهذا لا حجة فيه، على أن العبث الكثير المتعمد لا يبطل الصلاة، بل يدل على أن الالتفات للحاجة لا حرج فيه، وهذا بالعنق لا بالبدن.
واحتجاجهم بهذا الأمر على جواز العبث الكثير، أو على أنه لا يبطل الصلاة، يدل على جهل عظيم.
ثانيًا: اكتفاؤهم بتسليمة واحدة على اليمين:
هذا يقوله أكثر أهل العلم، وليس خاصًا بهم، ولكن الصواب من جهة الدليل، أنه لابد من تسليمتين؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ بالأحاديث الصحيحة أنه كان يسلم تسليمتين، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي[1]، وعما احتجوا به أجوبة معروفة عند أهل العلم ذكرها شراح الحديث؛ كصاحب كتاب (فتح الباري)، و (نيل الأوطار)، وغيرهما.
ثالثًا: قولهم: إنه يزاد في السلام " وبركاته ":
فهذا ليس خاصًا بهم، بل قاله بعض أهل العلم، وثبت ذلك من حديث وائل بن حجر عن النبي ﷺ ولكن الأحاديث الصحيحة الكثيرة ليس فيها هذه الزيادة.
والصواب: أنه لا بأس بهذه الزيادة، إذا فعلها الإمام أو المنفرد أو المأموم في بعض الأحيان؛ جمعًا بين الأحاديث، ولكن الأفضل أن يقتصر غالبًا على "ورحمة الله"؛ عملًا بالأحاديث الصحيحة الكثيرة، ولعل النبي ﷺ زادها في بعض الأحيان، فإذا فعل المسلم ذلك في بعض الأحيان، فقد استعمل الأحاديث كلها، ومن تركها فلا بأس، كما تركها علماؤنا وجمهور أهل العلم.
ومعلوم أن النبي ﷺ أمر أبا محذورة بالترجيع في الأذان بمكة، وهو شيء ثابت، ومع ذلك لم يأمر به بلالًا وهو يؤذن بين يديه ﷺ في المدينة.
والجمع بين الأحاديث في ذلك: أن أذان بلال مشروع بدون ترجيع، وأذان أبي محذورة مشروع بالترجيع، فمن فعل هذا أو هذا فلا حرج.
وهكذا كان بلال يوتر في الإقامة بين يدي النبي ﷺ ما عدا التكبير ولفظ الإقامة، أما أبو محذورة فكان يشفع الإقامة بتعليم النبي ﷺ وكلٌ سنّة، ولا منافاة بين الحديثين، لكن ذهب جمع من أهل العلم إلى أن الأفضل هو ما فعله بلال بأمر النبي ﷺ حتى توفاه الله؛ لأن الله سبحانه لا يختار لنبيه إلا الأفضل، ولا إنكار على من فعل هذا أو هذا.
ويسمي أهل العلم هذا الاختلاف (اختلاف التنوع)، وهو جائز، ومن هذا الباب تنوع الاستفتاح والتعوذ والتشهد، وكل نوع من ذلك مما صح عن النبي ﷺ يجوز العمل به، وإنما الاختلاف في الأفضل من ذلك -كما تقدم- في أنواع الأذان والإقامة.
ومثل هذه المسائل لا ينبغي فيها الاختلاف والتشويش على الناس؛ لأنها مسائل معلومة عند أهل العلم، والأدلة فيها معروفة، والاختلاف فيها لا يضر؛ لأن كل نوع منها جائز -بحمد الله- ولكن الجهل يضر أهله، ويدخلهم فيما لا يعنيهم.
رابعًا: أما زعمهم أن الخط لا يجوز جعله سترة: فهذا تقليد منهم لمن ضعف حديث الخط، وزعم أنه مضطرب، كابن الصلاح والعراقي. والصواب: أنه حديث حسن، ليس فيه اضطراب، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام)، حيث قال لما ذكره: رواه أحمد وابن ماجة، وصححه ابن حبان، ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن.
خامسًا: أما قولهم: إن الركعة لا تدرك بالركوع: فهو قول ضعيف مخالف للحديث الصحيح، ولما عليه الأئمة الأربعة وجمهور أهل العلم، وقد ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن أبي بكرة الثقفي أنه أدرك النبي ﷺ ذات يوم وهو راكع، فركع دون الصف، ثم دخل في الصف، فقال له النبي ﷺ: زادك الله حرصًا، ولا تعد[2]، ولم يأمره بقضاء الركعة التي أدركه في ركوعها، وما ذاك إلا لأنه معذور؛ بسبب عدم إدراكه القيام؛ لأن القيام هو محل قراءة الفاتحة، فلما فات، سقطت الفاتحة عند الأكثرين لهذا الحديث الصحيح، مع أن الجمهور يرون عدم وجوب الفاتحة على المأموم، وأن الإمام يتحملها عنه، لكن ظاهر الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ يدل على وجوبها على المأموم، لكن إذا لم يدرك الركوع، فإنها تسقط عنه على كلا القولين.
وممن يرى وجوب الفاتحة على المأموم الإمام الشافعي، ومع ذلك يسقطها عنه إذا لم يدرك القيام، وذهب بعض السلف إلى أنه يعيد الركعة، ولكنه قول ضعيف مرجوح؛ لأنه مخالف مخالفة صريحة لحديث أبي بكرة المذكور. وبهذا تعرف: أن الخوض في مثل هذا والتشويش به، ليس من شأن أهل العلم.
سادسًا: أما إلزامهم الناس بجلسة الاستراحة: فهو قول ساقط، ولا أعلم به قائلًا من أهل العلم، وإنما الخلاف في استحبابها أو عدمه، والصواب أنها مستحبة وليست واجبة. وذهب بعض أهل العلم، إلى أنها إنما تستحب عند الحاجة؛ كالمرض، وكبر السن، وقالوا: إن الرسول ﷺ إنما فعلها في آخر حياته لما بدّن وثقل.
وهذا القول ليس بجيد لعدم الدليل عليه، والصواب أنها من سنن الصلاة، لا من واجباتها، ولهذا اختلف الناقلون لصلاته عليه الصلاة والسلام فمنهم من ذكرها، ومنهم من لم يذكرها، والسبب في ذلك -والله أعلم- أن النبي ﷺ لم يواظب عليها، ولهذا خفيت على بعض النقلة، واستحبها بعض الصحابة وبعضهم لم يستحبها -لما ذكرنا- والله أعلم.
سابعًا: أما قولهم: إن الجمعة لا شروط لها، وأنها تصلى في البادية:
فهذا قول باطل مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، وعمل أصحابه، ومخالف لإجماع أهل العلم المعتبرين.
فقد كانت البوادي في عهد النبي ﷺ وفيما حول المدينة، ولم يكونوا يصلون الجمعة، ولم يأمرهم النبي ﷺ بصلاة الجمعة، ولم يأمر من لم يصل معه من المرضى والنساء بأن يصلوا الجمعة، بل كل هؤلاء يصلون ظهرًا، وهكذا المسافرون يصلون ظهرًا.
ومما يدل على ذلك، ما ثبت عنه ﷺ في الصحيحين وغيرهما، أنه في حجة الوداع صادفت حجته يوم الجمعة، فخطب الناس وذكرهم، ثم أمر بلالًا فأذن، ثم أقام، فصلى الظهر ركعتين، ثم أقام، فصلى العصر ركعتين جمعًا وقصرًا في وادي عرنة، ثم ذهب إلى الموقف، وكان ذلك في يوم الجمعة، ولم يصل بالناس الجمعة، ولو صلى بهم جمعة لنقله الصحابة ويدل على ذلك، أن الصحابة سموا صلاته ظهرًا، ولم يجهر بالقراءة، ولم يجعل الخطبة بعد الأذان، ولم يخطب خطبتين، بل خطب خطبة واحدة قبل الأذان، ولو كان صلى الجمعة لصلاها الصحابة جمعة، ولم يسموها ظهرًا، ولجهر فيها بالقراءة، وجعل الخطبة بعد الأذان، وخطب خطبتين كعادته ﷺ حين كان في المدينة، ولم يحفظ عنه ﷺ في جميع أسفاره أنه صلى الجمعة، ولو فعل ذلك ولو مرة واحدة، لنقل ذلك أصحابه فقد نقلوا عنه من السنة ما هو أقل من ذلك.
ومن الدليل على ذلك -أيضًا- ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: من أدرك ركعة من الجمعة، فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته[3]، وهذا يدل على أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، وأن من أدرك أقل من ذلك لا يصلي جمعة، بل يصلي ظهرًا.
ثامنًا: وأما قولهم أن الدعاء بعد الأذان بقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة بدعة: فهو قول باطل، ولا أدري كيف شبه عليهم في ذلك، مع أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة[4]. وفي صحيح مسلم، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي ﷺ قال: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه به عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة[5].
تاسعًا: أما زعمهم أن كلمة "الصلاة خير من النوم" إنما تقال في الأذان الأول:
فهذا محل تفصيل؛ لأن كثيرًا من أهل العلم قد اعتقد: أن المراد بالأذان الأول هو الأذان الذي ينادى به قبل الصبح.
وليس الأمر كذلك، وإنما المراد به -فيما نرى- الأذان الذي قبل الإقامة، وهو الذي ينادى به عند طلوع الفجر، فيقال له وللإقامة الأذانان كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة[6]. الحديث.
فإن المراد بالأذانين هنا هو: الأذان والإقامة، وهو واضح لمن تأمل السنة الواردة في ذلك؛ لأن أبا محذورة كان يؤذن بذلك في أذان الصبح في مكة، وقد أخبر أن النبي ﷺ أمره أن ينادي بذلك في أذان الصبح، وسماه أبو محذورة الأذان الأول، فعلم أن المراد بذلك هو الأذان الذي قبل الإقامة.
ولا نعلم في شيء من طرق حديث أبي محذورة، أنه كان يؤذن للصبح أذان آخر قبل الصبح، وإنما هذا معروف من حديث بلال في رمضان خاصة، قال فيه النبي ﷺ: ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم[7].
ولا نعلم أن بلالًا كان ينادي قبل الصبح بأذان غير أذانه للصبح في غير رمضان، بل كان يؤذن للصبح إذا طلع الفجر، أما في رمضان، فكان يتعاون مع ابن أم مكتوم فيؤذن قبل الصبح بقليل، ثم يؤذن ابن أم مكتوم على الصبح.
وعلى فرض أنه نادى به بلال في أذانه قبل الصبح، ونادى به أبو محذور في أذانه للصبح، يكون من باب اختلاف التنوع، فلا حرج في ذلك، ولكن ينبغي أن يترك ذلك في أحدهما إذا كان المؤذن واحدًا؛ حتى لا يشتبه الأمر على أهل البلد، فإذا اصطلح أهل البلد على جعله في أذان الصبح، فلا حرج في ذلك، كما عليه العمل الآن في هذه المملكة، وقد درج عليه علماء الدعوة ولم يكن عندهم في ذلك إشكال، وهم من العلماء المعروفين بتعظيم السنة والمحافظة عليها، والدعوة إلى ترك ما خالفها، ولو اصطلح بعض الناس على جعله في الأول دون الآخر، لم يكن في ذلك محذور من حيث المعنى؛ لعدم الاشتباه، ولأن كل واحد منهما يسمى (أذان الفجر)، ولكن العمل بظاهر السنة يقتضي، أن جعله في الأذان الذي ينادى به بعد طلوع الفجر أولى وأوفق؛ للأحاديث الواردة في ذلك عند من تأملها، وعرف أن الإقامة تسمى أذانًا ثانيًا، وأن الأذان يسمى أذانًا أولًا.
وقد جاء في بعض الأحاديث، تسمية الأذان الذي ينادى به يوم الجمعة بعد جلوس الإمام على المنبر بالأذان الأول؛ لأن بعده الإقامة، وهي الأذان الثاني، وقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على أن أذان الصبح يسمى (الأذان الأول)، والإقامة تسمى (الأذان الثاني) كما تقدم.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا للفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يصلح أعمالنا وقلوبنا جميعًا، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من القول عليه بغير علم؛ إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[8]
أولًا: قولهم: شروط الصلاة، وأركان الصلاة، وواجبات الصلاة، ومبطلات الصلاة، كل هذا لم يثبت عن الرسول منه شيء... إلخ:
جوابه: أن هذا الكلام يدل على جهلهم العظيم، وقلة معرفتهم بالشريعة، فإن من شروط الصلاة المعتبرة؛ كالطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، والنية، والإسلام والعقل، والتمييز، ودخول الوقت، كلها عليها أدلة ثابتة في كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام يعرفها صغار الطلبة، وهكذا أركان الصلاة المعتبرة، وواجباتها، ومبطلاتها، كلها أدلتها واضحة من الكتاب والسنة، ومن راجع كلام أهل العلم، وراجع كتب الحديث؛ كـ (بلوغ المرام)، و(منتقى الأخبار)، عرف تفصيل ذلك.
وأما قولهم: وأن الصلاة لا يبطلها العبث الكثير والالتفات وغيره:
فهذا مخالف لإجماع أهل العلم، فإن العبث الكثير المتواصل المتعمد، يبطل الصلاة عند جميع أهل العلم؛ لأن فاعل ذلك يعتبر متلاعبًا بصلاته، غير مطمئن فيها، ولا خاشع، وقد دل القرآن الكريم على أن من صفات المؤمنين: الخشوع في الصلاة، وثبت عن النبي ﷺ أمر الذي لم يطمئن في صلاته بإعادتها.
وأما احتجاجهم على ما قالوه: من عدم بطلان الصلاة بالعبث الكثير، بالتفات الصديق في صلاته لما أكثر الناس من التصفيق، حين صلى بالناس عند غيبة النبي ﷺ في بني عمرو بن عوف للإصلاح بينهم، فجاء عليه الصلاة والسلام، وقد كبر الصديق، بالناس تكبيرة الإحرام فلما علم الناس به أكثروا في التصفيق فالتفت الصديق فرآه عليه الصلاة والسلام فأشار عليه النبي ﷺ أن يثبت في مكانه، فحمد الله وأثنى عليه ثم تأخر، والقصة معروفة في الصحيحين.
فهذا لا حجة فيه، على أن العبث الكثير المتعمد لا يبطل الصلاة، بل يدل على أن الالتفات للحاجة لا حرج فيه، وهذا بالعنق لا بالبدن.
واحتجاجهم بهذا الأمر على جواز العبث الكثير، أو على أنه لا يبطل الصلاة، يدل على جهل عظيم.
ثانيًا: اكتفاؤهم بتسليمة واحدة على اليمين:
هذا يقوله أكثر أهل العلم، وليس خاصًا بهم، ولكن الصواب من جهة الدليل، أنه لابد من تسليمتين؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ بالأحاديث الصحيحة أنه كان يسلم تسليمتين، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي[1]، وعما احتجوا به أجوبة معروفة عند أهل العلم ذكرها شراح الحديث؛ كصاحب كتاب (فتح الباري)، و (نيل الأوطار)، وغيرهما.
ثالثًا: قولهم: إنه يزاد في السلام " وبركاته ":
فهذا ليس خاصًا بهم، بل قاله بعض أهل العلم، وثبت ذلك من حديث وائل بن حجر عن النبي ﷺ ولكن الأحاديث الصحيحة الكثيرة ليس فيها هذه الزيادة.
والصواب: أنه لا بأس بهذه الزيادة، إذا فعلها الإمام أو المنفرد أو المأموم في بعض الأحيان؛ جمعًا بين الأحاديث، ولكن الأفضل أن يقتصر غالبًا على "ورحمة الله"؛ عملًا بالأحاديث الصحيحة الكثيرة، ولعل النبي ﷺ زادها في بعض الأحيان، فإذا فعل المسلم ذلك في بعض الأحيان، فقد استعمل الأحاديث كلها، ومن تركها فلا بأس، كما تركها علماؤنا وجمهور أهل العلم.
ومعلوم أن النبي ﷺ أمر أبا محذورة بالترجيع في الأذان بمكة، وهو شيء ثابت، ومع ذلك لم يأمر به بلالًا وهو يؤذن بين يديه ﷺ في المدينة.
والجمع بين الأحاديث في ذلك: أن أذان بلال مشروع بدون ترجيع، وأذان أبي محذورة مشروع بالترجيع، فمن فعل هذا أو هذا فلا حرج.
وهكذا كان بلال يوتر في الإقامة بين يدي النبي ﷺ ما عدا التكبير ولفظ الإقامة، أما أبو محذورة فكان يشفع الإقامة بتعليم النبي ﷺ وكلٌ سنّة، ولا منافاة بين الحديثين، لكن ذهب جمع من أهل العلم إلى أن الأفضل هو ما فعله بلال بأمر النبي ﷺ حتى توفاه الله؛ لأن الله سبحانه لا يختار لنبيه إلا الأفضل، ولا إنكار على من فعل هذا أو هذا.
ويسمي أهل العلم هذا الاختلاف (اختلاف التنوع)، وهو جائز، ومن هذا الباب تنوع الاستفتاح والتعوذ والتشهد، وكل نوع من ذلك مما صح عن النبي ﷺ يجوز العمل به، وإنما الاختلاف في الأفضل من ذلك -كما تقدم- في أنواع الأذان والإقامة.
ومثل هذه المسائل لا ينبغي فيها الاختلاف والتشويش على الناس؛ لأنها مسائل معلومة عند أهل العلم، والأدلة فيها معروفة، والاختلاف فيها لا يضر؛ لأن كل نوع منها جائز -بحمد الله- ولكن الجهل يضر أهله، ويدخلهم فيما لا يعنيهم.
رابعًا: أما زعمهم أن الخط لا يجوز جعله سترة: فهذا تقليد منهم لمن ضعف حديث الخط، وزعم أنه مضطرب، كابن الصلاح والعراقي. والصواب: أنه حديث حسن، ليس فيه اضطراب، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام)، حيث قال لما ذكره: رواه أحمد وابن ماجة، وصححه ابن حبان، ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن.
خامسًا: أما قولهم: إن الركعة لا تدرك بالركوع: فهو قول ضعيف مخالف للحديث الصحيح، ولما عليه الأئمة الأربعة وجمهور أهل العلم، وقد ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن أبي بكرة الثقفي أنه أدرك النبي ﷺ ذات يوم وهو راكع، فركع دون الصف، ثم دخل في الصف، فقال له النبي ﷺ: زادك الله حرصًا، ولا تعد[2]، ولم يأمره بقضاء الركعة التي أدركه في ركوعها، وما ذاك إلا لأنه معذور؛ بسبب عدم إدراكه القيام؛ لأن القيام هو محل قراءة الفاتحة، فلما فات، سقطت الفاتحة عند الأكثرين لهذا الحديث الصحيح، مع أن الجمهور يرون عدم وجوب الفاتحة على المأموم، وأن الإمام يتحملها عنه، لكن ظاهر الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ يدل على وجوبها على المأموم، لكن إذا لم يدرك الركوع، فإنها تسقط عنه على كلا القولين.
وممن يرى وجوب الفاتحة على المأموم الإمام الشافعي، ومع ذلك يسقطها عنه إذا لم يدرك القيام، وذهب بعض السلف إلى أنه يعيد الركعة، ولكنه قول ضعيف مرجوح؛ لأنه مخالف مخالفة صريحة لحديث أبي بكرة المذكور. وبهذا تعرف: أن الخوض في مثل هذا والتشويش به، ليس من شأن أهل العلم.
سادسًا: أما إلزامهم الناس بجلسة الاستراحة: فهو قول ساقط، ولا أعلم به قائلًا من أهل العلم، وإنما الخلاف في استحبابها أو عدمه، والصواب أنها مستحبة وليست واجبة. وذهب بعض أهل العلم، إلى أنها إنما تستحب عند الحاجة؛ كالمرض، وكبر السن، وقالوا: إن الرسول ﷺ إنما فعلها في آخر حياته لما بدّن وثقل.
وهذا القول ليس بجيد لعدم الدليل عليه، والصواب أنها من سنن الصلاة، لا من واجباتها، ولهذا اختلف الناقلون لصلاته عليه الصلاة والسلام فمنهم من ذكرها، ومنهم من لم يذكرها، والسبب في ذلك -والله أعلم- أن النبي ﷺ لم يواظب عليها، ولهذا خفيت على بعض النقلة، واستحبها بعض الصحابة وبعضهم لم يستحبها -لما ذكرنا- والله أعلم.
سابعًا: أما قولهم: إن الجمعة لا شروط لها، وأنها تصلى في البادية:
فهذا قول باطل مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، وعمل أصحابه، ومخالف لإجماع أهل العلم المعتبرين.
فقد كانت البوادي في عهد النبي ﷺ وفيما حول المدينة، ولم يكونوا يصلون الجمعة، ولم يأمرهم النبي ﷺ بصلاة الجمعة، ولم يأمر من لم يصل معه من المرضى والنساء بأن يصلوا الجمعة، بل كل هؤلاء يصلون ظهرًا، وهكذا المسافرون يصلون ظهرًا.
ومما يدل على ذلك، ما ثبت عنه ﷺ في الصحيحين وغيرهما، أنه في حجة الوداع صادفت حجته يوم الجمعة، فخطب الناس وذكرهم، ثم أمر بلالًا فأذن، ثم أقام، فصلى الظهر ركعتين، ثم أقام، فصلى العصر ركعتين جمعًا وقصرًا في وادي عرنة، ثم ذهب إلى الموقف، وكان ذلك في يوم الجمعة، ولم يصل بالناس الجمعة، ولو صلى بهم جمعة لنقله الصحابة ويدل على ذلك، أن الصحابة سموا صلاته ظهرًا، ولم يجهر بالقراءة، ولم يجعل الخطبة بعد الأذان، ولم يخطب خطبتين، بل خطب خطبة واحدة قبل الأذان، ولو كان صلى الجمعة لصلاها الصحابة جمعة، ولم يسموها ظهرًا، ولجهر فيها بالقراءة، وجعل الخطبة بعد الأذان، وخطب خطبتين كعادته ﷺ حين كان في المدينة، ولم يحفظ عنه ﷺ في جميع أسفاره أنه صلى الجمعة، ولو فعل ذلك ولو مرة واحدة، لنقل ذلك أصحابه فقد نقلوا عنه من السنة ما هو أقل من ذلك.
ومن الدليل على ذلك -أيضًا- ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: من أدرك ركعة من الجمعة، فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته[3]، وهذا يدل على أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، وأن من أدرك أقل من ذلك لا يصلي جمعة، بل يصلي ظهرًا.
ثامنًا: وأما قولهم أن الدعاء بعد الأذان بقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة بدعة: فهو قول باطل، ولا أدري كيف شبه عليهم في ذلك، مع أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة[4]. وفي صحيح مسلم، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي ﷺ قال: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه به عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة[5].
تاسعًا: أما زعمهم أن كلمة "الصلاة خير من النوم" إنما تقال في الأذان الأول:
فهذا محل تفصيل؛ لأن كثيرًا من أهل العلم قد اعتقد: أن المراد بالأذان الأول هو الأذان الذي ينادى به قبل الصبح.
وليس الأمر كذلك، وإنما المراد به -فيما نرى- الأذان الذي قبل الإقامة، وهو الذي ينادى به عند طلوع الفجر، فيقال له وللإقامة الأذانان كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة[6]. الحديث.
فإن المراد بالأذانين هنا هو: الأذان والإقامة، وهو واضح لمن تأمل السنة الواردة في ذلك؛ لأن أبا محذورة كان يؤذن بذلك في أذان الصبح في مكة، وقد أخبر أن النبي ﷺ أمره أن ينادي بذلك في أذان الصبح، وسماه أبو محذورة الأذان الأول، فعلم أن المراد بذلك هو الأذان الذي قبل الإقامة.
ولا نعلم في شيء من طرق حديث أبي محذورة، أنه كان يؤذن للصبح أذان آخر قبل الصبح، وإنما هذا معروف من حديث بلال في رمضان خاصة، قال فيه النبي ﷺ: ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم[7].
ولا نعلم أن بلالًا كان ينادي قبل الصبح بأذان غير أذانه للصبح في غير رمضان، بل كان يؤذن للصبح إذا طلع الفجر، أما في رمضان، فكان يتعاون مع ابن أم مكتوم فيؤذن قبل الصبح بقليل، ثم يؤذن ابن أم مكتوم على الصبح.
وعلى فرض أنه نادى به بلال في أذانه قبل الصبح، ونادى به أبو محذور في أذانه للصبح، يكون من باب اختلاف التنوع، فلا حرج في ذلك، ولكن ينبغي أن يترك ذلك في أحدهما إذا كان المؤذن واحدًا؛ حتى لا يشتبه الأمر على أهل البلد، فإذا اصطلح أهل البلد على جعله في أذان الصبح، فلا حرج في ذلك، كما عليه العمل الآن في هذه المملكة، وقد درج عليه علماء الدعوة ولم يكن عندهم في ذلك إشكال، وهم من العلماء المعروفين بتعظيم السنة والمحافظة عليها، والدعوة إلى ترك ما خالفها، ولو اصطلح بعض الناس على جعله في الأول دون الآخر، لم يكن في ذلك محذور من حيث المعنى؛ لعدم الاشتباه، ولأن كل واحد منهما يسمى (أذان الفجر)، ولكن العمل بظاهر السنة يقتضي، أن جعله في الأذان الذي ينادى به بعد طلوع الفجر أولى وأوفق؛ للأحاديث الواردة في ذلك عند من تأملها، وعرف أن الإقامة تسمى أذانًا ثانيًا، وأن الأذان يسمى أذانًا أولًا.
وقد جاء في بعض الأحاديث، تسمية الأذان الذي ينادى به يوم الجمعة بعد جلوس الإمام على المنبر بالأذان الأول؛ لأن بعده الإقامة، وهي الأذان الثاني، وقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على أن أذان الصبح يسمى (الأذان الأول)، والإقامة تسمى (الأذان الثاني) كما تقدم.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا للفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يصلح أعمالنا وقلوبنا جميعًا، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من القول عليه بغير علم؛ إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[8]
- أخرجه البخاري برقم: 595 (كتاب الأذان)، باب (الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة).
- أخرجه البخاري برقم 741 (كتاب الأذان) باب إذا ركع دون الصف.
- أخرجه النسائي برقم: 554 (كتاب المواقيت)، باب (من أدرك ركعة من الصلاة)، وابن ماجه برقم: 113 (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها)، باب (ما جاء فيمن أدرك من الجمعة ركعة).
- أخرجه البخاري برقم: 579 (كتاب الأذان)، باب (الدعاء عند النداء).
- أخرجه مسلم برقم: 577 (كتاب الصلاة)، باب (استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه).
- أخرجه البخاري برقم: 591 (كتاب الأذان)، باب (بين كل أذانين صلاة).
- أخرجه البخاري برقم: 586 (كتاب الأذان)، باب (الأذان قبل الفجر).
- رسالة جوابية من سماحته إلى الأخ/ ع. م. ح. من حائل برقم: 35/ 1، في 2/1/1398هـ. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 23/380).