شرح بلوغ المرام بمكة قراءة الشيخ ناصر الزهراني 2

بَابُ الْأَدَبِ

1452- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1453- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1454- وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ: الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة من جملة الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله ﷺ، المشتملة على جملةٍ من جوامع الكلم التي فيها سعادة العباد في الدنيا والآخرة، وفيها توجيههم إلى أسباب سلامة القلوب، وكمال الأخوة الإيمانية، والبُعد عن أسباب الشرِّ.

يقول ﷺ: حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ يعني: من حقِّه عليه، من حقِّ المسلم على أخيه ستُّ خصالٍ:

إذا لقيتَه فسلم عليه إذا لقيته قل: السلام عليكم، وحقٌّ عليه أن يقول: وعليكم السلام، أنت تبدأ وهو يرد، إذا لقيتَه فسلم عليه وعليه الرد، ومن حقِّك عليه ردّ السلام، كما قال تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86].

إذا لقيتَه فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه إذا دعاك إلى وليمةٍ؛ كرامةً لك: للغداء، للعشاء، لغير ذلك، أجب، ما لم يكن هناك مانع، أما إذا كان هناك مانع من منكراتٍ أو أشياء تُوجب هجره فلا بأس، وإلا فالواجب إجابته، وفي الحديث الآخر: مَن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله.

وإذا استنصحك فانصح له إذا قال: وأيش ترى في هذا؟ يُشاورك، انصحه، لا تغشّه، ولا تخنه، إذا استنصحك في سلعةٍ يريد أن يشتريها وإلا ما يشتريها، بيت ينزله أو ما ينزله، امرأة يتزوجها أو ما يتزوجها، انصحه، لا تغشّه، أعطه الذي ترى أنه هو الأصلح حسب اجتهادك.

وإذا عطس وحمد الله فقل له: يرحمك الله، إذا عطس أخوك المسلمُ وقال: الحمد لله، تقول له: يرحمك الله، من حقه عليك أن تقول له: يرحمك الله، وهو يقول: يهديكم الله ويُصلح بالكم، أنت تقول: يرحمك الله، وهو يقول: يهديكم الله ويُصلح بالكم.

الخامسة: إذا مرض فعده، إذا مرض أخوك تعوده، عيادة المريض من أفضل القربات، أمر بها الرسولُ ﷺ، وهي من حقِّ المسلم على أخيه، وفي عيادة المريض مصالح كثيرة: يستشعر أنك تأثرت بمرضه، وربما دعوتَ له فأجاب الله دعوتك، وربما قضيتَ له حاجة، وربما وصفت له دواءً، فالعيادة فيها مصالح.

السادسة: إذا مات فاتبعه، إذا مات أخوك فاتبع جنازته، صلِّ عليه إذا تيسر، اتبعه إلى المقبرة إذا تيسر، في ذلك مصالح: تدعو لأخيك، وفيها اتِّعاظ لك أيضًا، تذكير لك بالموت، يقول ﷺ: عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكُّوا العاني، عيادة المريض فيها مصالح، وهي من حقِّ المسلم على أخيه، واتباع الجنازة من حقِّه على أخيه.

ويقول ﷺ في الحديث الثاني: انظروا إلى مَن هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم؛ فهو أجدر يعني: أحرى وأحقّ ألا تزدروا نعمةَ الله عليكم.

فالإنسان ما ينظر إلى مَن هو فوقه في الدنيا: ينظر إلى تجار عندهم العمارات، والمجالس الأنيقة، والفرش الأنيقة، يتحسر: لأيش حصل له وأنا ما حصل لي؟! لا، انظر إلى مَن هو دونك؛ حتى تعرف قدر نعمة الله عليك، كل إنسانٍ فوقه أحد وتحته أحد، فلا تنظر إلى مَن فوقك في مجالسهم وزيِّهم وفرشهم وسياراتهم وغير ذلك، ولكن انظر إلى مَن دونك، ناس دونك، أنت فضَّلك الله عليهم في المسكن، وفي اللباس، وفي غير هذا، انظر إلى مَن دونك، إذا كنتَ فقيرًا فهناك مَن هو أفقر منك، وإذا كانت أعور فهناك مَن هو أعمى، أشدّ ضررًا منك، الأعمى أشدّ ضرورة من الأعور، وإذا كنت أعرج فهناك مَن لا يمشي، أشدّ منك ضرورة، إذا كنت أعرج فهناك مَن لا يمشي، مُقْعَد، وإذا كان ما لك إلا يدٌ واحدةٌ مقطوعة لأسبابٍ، فانظر إلى مَن دونك، بعض الناس ما عنده يدان، كل يديه مقطوعة، دونك.

انظروا إلى مَن هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم؛ فهو أجدر يعني: أحرى ألا تزدروا نعمةَ الله عليكم يعني: ألا تستقلّوها وتحتقروها، كل إنسانٍ يريد أن ينظر إلى مَن فوقه في الدنيا: في التجارة والملابس والفرش والمساكن والمراكب، يتعب، لكن إذا نظر إلى مَن دونه عرف قدر نعمة الله عليه، وهذا في أمور الدنيا، أما في أمور الدِّين لا، انظر إلى مَن فوقك في أمور الدِّين، انظر إلى مَن فوقك حتى تتأسَّى بهم، انظر إلى العُبَّاد والصَّالحين وأهل العلم والتقوى، انظر إليهم حتى تتأسَّى بهم في الدِّين، في أمور الدِّين، انظر إلى مَن فوقك تتأسَّى بهم، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148].

فانظر في الدِّين إلى مَن فوقك، لا تنظر للكسالى عن الصلاة، انظر للمُحافظين، وإذا كان هناك مَن يتصدق كثيرًا تأسَّى به في الصَّدقة، أو يحجّ كثيرًا تأسَّى به، أو يعود المرضى تأسَّى به، أو يُكثر من ذكر الله وقراءة القرآن تأسَّى بهؤلاء في الدِّين، تأسَّى بمَن فوقك، وفي الدنيا بمَن دونك.

والحديث الثالث: حديث النَّواس بن سمعان أنه سأل النبيَّ ﷺ عن البرِّ والإثم، قال: يا رسول الله، ما البرُّ والإثم؟ أخبرني عن البرِّ والإثم، قال: البرُّ: حُسن الخلق، والإثم: ما حاك في نفسك وكرهتَ أن يطلع عليه الناس.

المعنى: أن حُسن الخلق من البرِّ، يعني: حُسن الخلق من البر، الصلاة من البر، الصدقة من البر، الحج من البر، بر الوالدين من البر، فقوله: البِرُّ: حُسن الخلق يعني: حُسن الخلق من البرِّ، قال تعالى: ولكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، فحُسن الخلق من البرِّ، والتقوى من البرِّ، وبر الوالدين من البرِّ، والصلاة من البرِّ، والصدقة من البرِّ، وهكذا كونك تُحسن خلقك مع الناس: طليق الوجه، طيب الكلام مع الناس، هذا من البرِّ.

والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطَّلع عليه الناس يعني: ما حاك في نفسك، وشككتَ: هل هو حلال؟ وهل هو طيب؟ فهذا من الإثم، يعني: دعه: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعتبره من الإثم، يعني: دعه، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطَّلع عليه الناس، الأعمال والأقوال التي تشكّ فيها ولا تُحب أن يطَّلع عليها الناس دعها؛ لأنها قد تكون إثمًا، قد تكون معصيةً، فما دمتَ شاكًّا فيها ولا تعرف حلَّها دعها.

وفَّق الله الجميع.

1455- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

1456- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1457- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله.

أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة بيَّن فيها ﷺ جملةً من الآداب الشَّرعية، وهو ﷺ بعثه الله بالدَّعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقالت عائشةُ رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن"، فالله بعثه بالقرآن وبالسنة، وكلاهما يدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.

ومن ذلك هذا الحديث: يقول ﷺ: إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دون الثالث حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يُحزنه.

إذا كان ثلاثة في مجلسٍ لا يتناجى اثنان دون الثالث، يعني: يتسارَّان؛ لأنهما إذا تسارا ظنَّ أنهما يتكلَّمان فيه، واتَّهمهما، وكذلك لا يتكلمان بلغةٍ لا يعقلها، بلغةٍ أجنبيةٍ لا يعقلها؛ لأنَّ هذا مثل التَّسارّ، فإذا كانوا ثلاثةً فلا يتناجى اثنان سرًّا بينهما، أو بلغةٍ لا يفهمها الثالث حتى يختلطوا بالناس.

وهكذا إذا كانوا أربعةً لا يتناجى ثلاثة دون الرابع، وهكذا إذا كانوا خمسةً لا يتناجى أربعة دون الخامس؛ لأنَّ هذا يُحزنه ويتهمه.

فهذا من الآداب الشَّرعية التي بيَّنها الرسولُ ﷺ، وهي واجبة ومُتحتمة؛ لما في ذلك من المصلحة العظيمة للمُتجالسين.

والحديث الثاني يقول ﷺ: لا يُقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا يعني: إذا دخل أحدُكم مع المجلس وفيه جماعةٌ فلا يُقيم أحدَهم ويجلس في مجلسه، لا، ولكن يتفسَّحون حتى يُوجدوا له مكانًا، أما أنه يُقيم واحدًا منهم ويجلس في مكانه، لا؛ لأنَّ هذا ظلم، ويُسبب البغضاء والشَّحناء، لكن إذا وسَّعوا له طيب، أو قام إنسانٌ من اختياره وأكرمه وهو يظنّ أنه غير مُكْرَهٍ على الشيء، قام باختياره على وجهٍ لا إكراهَ فيه فلا بأس أن يقبل كرامته إذا أجلسه في مكانه، أما أن يقول: قم يا فلان، أو قم يا فلان، لا، ما يصلح، ولكن يتفسَّحون ويتوسَّعون للقادم.

ويقول ﷺ في الحديث الثالث: إذا أكل أحدُكم طعامًا فلا يمسح يدَه حتى يلعقها أو يُلعقها إذا أكل طعامًا وفي يده بقية من آثار الطعام، فلا يمسحها بمنديلٍ، ولا يغسلها بالماء حتى يَلعقها أو يُلعقها غيرَه، حتى يُؤخذ ما فيها من الطعام، يلعقها هو بلسانه، أو يُلعقها ولده أو زوجته أو خادمه؛ حتى لا يبقى فيها شيء، ثم يغسلها بالماء، أو يمسحها بالمنديل، ما دام فيها طعام لا يغسلها ولا يمسحها بالمنديل، ولكن يَلعقها أو يُلعقها غيرَه من ولدٍ أو زوجةٍ أو خادمٍ أو غيرهم ممن يرى أنه يُناسب أن يلعقها، وبعد ذلك يغسلها إن شاء، أو يمسحها بالمنديل، هذا من الآداب الشَّرعية.

وفَّق الله الجميع.

1458- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لِيُسَلِّم الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَالرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي.

1459- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ.

1460- وَعَنْ أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقيْتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1461- وعن عليٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالآداب الشرعية، فإنَّ الله جلَّ وعلا بعث محمدًا ﷺ بالآداب الشَّرعية والأخلاق المرضية، والأعمال التي بها السَّعادة والنَّجاة في الدنيا والآخرة، فهو سبحانه بعثه بالدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والترهيب من سيئ الأخلاق وسيئ الأعمال.

ومن مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال قوله ﷺ: ليُسلم الصغيرُ على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، هذه من الآداب الشرعية: إذا تقابلت الطَّائفتان فالصغير يبدأ بالسلام، هذا هو الأفضل؛ لأنَّ الحقَّ للكبير، ليبدأ الصغيرُ بالسلام على الكبير، وإن بدأ الكبيرُ حاز الفضل.

ليُسلم الصغيرُ على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليلُ على الكثير إذا تقابل اثنان: صغير وكبير، فالأفضل أن يبدأ الصغيرُ، يقول: السلام عليكم، والكبير يقول: وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا مرَّ إنسانٌ على قاعدٍ فالأفضل أنَّ المار هو الذي يبدأ يقول: السلام عليكم، على القاعدين، وإن بدأه القاعدون غلبوه، وصار الفضلُ لهم.

وهكذا إذا تقابل اثنان وثلاثة يبدأ الاثنان بالسلام على الكثير، ثلاثة وأربعة يبدأ الثلاثة بالسلام، خمسة وعشرة يبدأ الخمسةُ بالسلام، القليل يبدؤون بالسلام.

وإذا كان راكبٌ وماشٍ، راكبٌ على مطيةٍ أو سيارةٍ، وماشٍ، فالراكب يبدأ بالسلام، يقول: السلام عليكم، على الماشي، هذا هو الأفضل، وإن سلَّم الماشي وبدأ على الراكب حاز الفضل.

ويقول ﷺ: لا تبدؤوا اليهودَ ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتُم أحدَهم في طريقٍ فاضطروه إلى أضيقه، من الآداب الشَّرعية ألا يُبدأ الكافرُ بالسلام: اليهود والنصارى وغيرهم لا يُبدؤون بالسلام، لكن إذا بدأوا يرد عليهم، يقول ﷺ: إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم، إذا بدأوا نردّ عليهم، ولكن لا نبدأهم.

وإذا قابلونا في الطريق نضطرهم إلى أضيقه، يكون وسطُ الطريق للمسلم، وحافاته لهم، المسلم يأخذ وسط الطريق، وهذا لإظهار فضل الإسلام، وإعلاء كلمة الإسلام على ضده.

وإذا كانوا جماعةً يُجزئ عنهم أن يُسلم أحدُهم، وإذا كان المسَلَّمُ عليهم جماعة أجزأ أن يردَّ أحدُهم؛ لحديث عليٍّ: يُجزئ عن الجماعة أن يُسلِّم أحدُهم، وعن الجماعة إذا سُلِّم عليهم أن يردَّ أحدُهم، وهذا أيضًا من تيسير الإسلام، وإن سلَّموا كلهم وردُّوا كلهم فهو أفضل وأطيب، لكن إذا سلَّم واحدٌ منهم إذا مرُّوا أجزأ، وإذا ردَّ واحدٌ من الجماعة وسلَّم عليهم أجزأ، وإن سلَّموا جميعًا وردُّوا جميعًا كان ذلك أفضل وأتم وأحسن في الأجر وأعظم في الأجر، وهكذا إذا دخل على المجلس يُسلم عليهم، وإذا ردَّ أحدُهم حصل المطلوب، وإن ردُّوا جميعًا كان أفضل.

والحديث الأخير يقول ﷺ: إذا عطس أحدُكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه: يرحمك الله، فإذا قال له أخوه: يرحمك الله، فليقل له: يهديكم الله ويُصلح بالكم.

هذا السنة: إذا عطس الإنسانُ يقول: الحمد لله، أو الحمد لله ربِّ العالمين، أو الحمد لله على كل حالٍ، وإذا سمعه أخوه يحمد الله يقول له: "يرحمك الله"، كل مَن سمعه يقول: "يرحمك الله"، ثم هو يقول: "يهديكم الله ويُصلح بالكم".

هذه الآداب الشَّرعية: العاطس يحمد الله، ثم يقول له مَن سمعه: يرحمك الله، ثم هو يقول: يهديكم الله ويُصلح بالكم. وإذا كان العاطسُ كافرًا وحمد الله يُقال له: يهديكم الله، كما كان اليهودُ يتعاطسون عند النبيِّ ﷺ، وإذا حمدوا الله يقول لهم: يهديكم الله.

وفَّق الله الجميع.

1462- وَعَنْ عليٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1463- وَعَنْ عليٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ، وَلْتَكُن الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ، وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ. أخرجه مسلمٌ إلى قوله: "بالشمال"، وأخرج باقيه مالك والترمذي وأبو داود.

1464- وَعَنْ عليٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَلْيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة فيها بيان جملةٍ من الآداب الشَّرعية في الشُّرب والانتعال، وقد سبق أنه ﷺ بعثه اللهُ بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وبالآداب الشرعية في كل شيءٍ، في الحديث يقول ﷺ: إنما بُعثتُ لأُتمم صالح الأخلاق.

ومن ذلك أنه ﷺ قال: لا يشربنَّ أحدُكم قائمًا، ثم شرب قائمًا، ويسَّر اللهُ الإذنَ في ذلك، فالشرب قائمًا لا بأس به، ولكن القعود أفضل؛ ولهذا ثبت عنه ﷺ أنه شرب قائمًا في زمزم وفي غيرها، فنهى أولًا، ثم شرب قائمًا، فدلَّ على الجواز، وأنَّ شربه قائمًا لا بأس به، ولكن شربه وهو جالس أفضل، فإنه أهنى وأمرى.

وفي الحديث الثاني يقول ﷺ: إذا انتعل أحدُكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليُمنى أولهما تُنعل، وآخرهما تُنزع.

هذا أدب التَّنعل، إذا لبس النَّعلين أو الخفَّين أو السَّراويل أو القمص ونحوها كل شيءٍ له يمين ويسار، فإنه يبدأ باليمين في اللبس، يُدخل يده في الكم الأيمن قبل الأيسر، وهكذا رجله في الكم الأيمن في السَّراويل قبل الأيسر، وفي النعل كذلك، وفي الخفِّ كذلك، وإذا أراد النَّزع يبدأ بالشِّمال، ينزع الشمال أولًا ثم اليمنى بعد ذلك.

هذه هي الآداب الشرعية: البدء باليمنى في اللبس، والبدء باليسرى بالنزع في كل شيءٍ له يمين وشمال: كالقميص والسَّراويل والنَّعلين والخفَّين.

وفي الحديث الثالث: النَّهي عن المشي في نعلٍ واحدةٍ، لا ينبغي للإنسان أن يمشي في نعلٍ واحدةٍ، ولا في خفٍّ واحدةٍ، بل إما أن ينعلهما جميعًا، أو يخلعهما جميعًا، لا يمشي في نعلٍ واحدةٍ، جاء في بعض الروايات أنها مشية الشيطان.

فالحاصل أنه لا يجوز أن يمشي في خفٍّ واحدٍ ونعلٍ واحدةٍ، بل إما أن ينعل رجليه جميعًا، وإما أن يخلعهما جميعًا.

وفَّق الله الجميع.

1465- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1466- وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1467- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلْ، وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ، وَتَصَدَّقْ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالآداب الشرعية أيضًا في الأكل والشُّرب واللباس والصَّدقة، فالواجب على المؤمن أن يتأدَّب بالآداب الشرعية، وأن يحذر ما يُخالفها؛ لأنَّ الله بعث رسولَه ﷺ ليتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، فما من خيرٍ إلا دلَّ عليه، وما من شرٍّ إلا حذَّر منه، يقول ﷺ: ما بعث اللهُ من نبيٍّ إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، ويُنذرهم شرَّ ما يعلمه لهم، ونبينا ﷺ هو أكمل الأنبياء بلاغًا، وهو خاتمهم عليهم الصلاة والسلام جميعًا.

يقول ﷺ: مَن جرَّ ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، وجرّ الثوب منكر، ولو كان لغير الخيلاء؛ لأنه إسراف وتعريض الثوب للأوساخ والنَّجاسة، فلا يجوز؛ ولهذا قال ﷺ: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار رواه البخاري في "الصحيح"، وقال ﷺ: ثلاثٌ لا يُكلِّمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة أخرجه مسلم في "الصحيح" من حديث أبي ذرٍّ .

فالمسبل ممنوع، وليس له الإسبال: لا في سراويله، ولا في إزاره، ولا في قميصه، ولا في بشته، والحدّ الكعب؛ ولهذا يقول ﷺ: ما أسفل من الكعبين من الإزار يعني، وهكذا القميص وغيره فهو في النار، وإذا جرَّه للخُيلاء صار الذنبُ أعظم، إذا أسبل للخُيلاء صار الإثمُ أكبر، صار إسبالٌ وكِبْرٌ جميعًا.

وفي الحديث الثاني: حديث ابن عمر رضي الله عنهما بيَّن الآداب الشَّرعية في الأكل والشرب، يقول ﷺ: إذا أكل أحدُكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه؛ فإنَّ الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله.

فالواجب الحذر من مُشابهة عدو الله، فإذا أكلت فكُلْ باليمين، وإذا شربت فاشرب باليمين، واحذر الشرب بالشمال، والأكل بالشمال؛ لأنَّ ذلك تشبُّه بالشيطان.

وفي الصحيح أنَّ رجلًا أكل عند النبي ﷺ بشماله، فقال له: كُلْ بيمينك، فقال: لا أستطيع، فقال له النبيُّ: لا استطعتَ، فما رفعها إلى فيه بعد ذلك، ما منعه إلا الكبر. دعا عليه النبيُّ ﷺ أنه لا يستطيع؛ لأنه تكبر في عدم الأكل باليمين، قال: لا أستطيع، يكذب، إنما منعه الكبرُ، فقال له النبيُّ: لا استطعت، دعا عليه بأنه لا يستطيع فعلًا، فأُجيبت الدَّعوة وشُلَّت يده ولم يستطع بعد ذلك [رفعها] بسبب عصيانه وتكبره.

فهذا فيه الحذر من المعاصي، وأنَّ عاقبتها وخيمة، وعقوبة الدنيا أسهل من عقوبة الآخرة.

ويقول ﷺ في الحديث الثالث: كل، واشرب، والبس، وتصدَّق في غير سرفٍ ولا مخيلةٍ.

إنسانٌ يأكل بغير تكبرٍ ولا إسرافٍ، يشرب من غير تكبرٍ ولا إسرافٍ، وسط، ويتصدق من غير إسرافٍ؛ حتى يُبقي لنفسه وأولاده وأهله ما يسدّ حاجتهم، يتحرى الصَّدقة، فلا إسرافَ ولا تقتيرَ، بل يُنفق ويُوفي، يُنفق من ماله، ويُنفق لحاجته وأهله.

وهكذا في اللباس وسط: لا إسرافَ، ولا تقتير، فيتشبَّه بالفقراء، لكن وسط، يكون لباسه وسطًا، لا يتطلب مُشابهة مَن هو أعلى منه، والمفاخرة، والخُيلاء، ولا ينزل إلى مَن دونه، ولكن وسط، يقول النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح: لا تنظروا إلى مَن هو فوقكم، وانظروا إلى مَن هو أسفل منكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمةَ الله عليكم، في أمور الدنيا ينظر إلى مَن دونه، وفي أمور الآخرة ينظر إلى مَن هو أعلى منه؛ حتى يتأسَّى به في الخير، ويكون في أموره متوسطًا.

وفَّق الله الجميع، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.

بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ

1468- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1469- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ. يَعْنِي: قَاطِعَ رَحِمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1470- وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ. وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1471- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث فيها الحثُّ على برِّ الوالدين وصلة الأرحام، وأنَّ ذلك من أهم الواجبات، ومن أفضل القربات، يجب على المسلمين فيما بينهم أن يعتنوا ببرِّ الوالدين: الأب والأم، والجدّ والجدة، وصلة الأرحام الأقارب من الآباء والأمهات، والأعمام والعمَّات، والإخوة والأخوات وأولادهم، هم الأقارب، فصلتهم وبرُّهم من أهم الواجبات، ومن أفضل القربات، ومن أسباب بسط الرزق وسعته، ومن أسباب طول العمر والنَّسء في الأجل، ومن أسباب رضا الله جلَّ وعلا، والقربة لديه.

يقول ﷺ: مَن أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أجله، فليصل رحمَه، فصلة الرحم من أسباب بسط الرزق، ومن أسباب البركة في العمر وطوله، وكل شيءٍ له أسباب، والله جلَّ وعلا قدَّر الأشياء والآجال وأسبابها.

فجديرٌ بالمؤمن أن يحرص على صلة أرحامه، وصلة أقاربه، والإحسان إليهم، ومن أعظم الصلة: دعوتهم إلى الله، وتعليمهم الخير، وتفقيههم في الدِّين، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والإحسان إليهم بالمال، ومُواساتهم، كل هذا من الصلة، قال رجلٌ: يا رسول الله، مَن أبرُّ؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب.

فالواجب على المؤمن أن يعتني بوالديه، وأن يُحسن صُحبتهما، وأن يبرَّهما ويجتهد في توجيه الخير إليهما، وتعليمهما إذا كانا جاهلين، وتفقيههما، وأمرهما بالمعروف، ونهيهما عن المنكر بالكلام الطيب، وبالأسلوب الحسن، وإذا كانا كافرين بالنَّصيحة والتَّوجيه، والصحبة الطيبة، يدعو لهما بالهداية والتوفيق، مع عدم المحبَّة، لا يُحبّهما إذا كانا كافرين، لكن يدعوهما إلى الله، ويُحسن صُحبتهما، كما قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].

ويقول ﷺ: لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحمٍ، والله يقول في كتابه العظيم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22- 23]، هذا وعيدٌ عظيمٌ، يدل على أنَّ قطيعةَ الرحم من الكبائر التي يستحق صاحبُها اللَّعنة؛ ولهذا يقول ﷺ: لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحمٍ.

فالواجب على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله في أرحامه وقراباته بالصلة، والإحسان، والتعليم، والتوجيه، والنَّصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى غير هذا من وجوه الخير.

ويقول ﷺ: إنَّ الله حرَّم عليكم عقوقَ الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.

الله حرَّم على عباده عقوق الأمهات والآباء كذلك، يجب برُّهما، والحذر من عقوقهما، فعقوقهما من أكبر الكبائر، وعقوق الأم أكبر وأشدّ؛ لأنَّ حقَّها أعظم، يقول النبيُّ ﷺ: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، ثم قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان مُتَّكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور متَّفق على صحَّته.

بيَّن أنَّ عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وقرنه بالشِّرك، ثم شهادة الزور، شهادة الكذب، نسأل الله العافية.

ويقول ﷺ: رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين، فرضاهما من أسباب رضا الله، وإسخاطهما من أسباب سخط الله، فالواجب الإحسان إليهما، وإرضاؤهما في المعروف، والحذر من إسخاطهما بغير حقٍّ، وعقوقهما بغير حقٍّ.

أما وأد البنات فمعناه: قتل البنات، كانوا في الجاهلية يقتلون البنات، قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ۝ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8- 9]، كان أهلُ الجاهلية بعضهم يئد البنت، تارةً يقول: أخشى عارها! وتارةً من أجل الفقر، قال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151].

ومنعًا وهاتِ معناها الحرص على الدنيا، يمنع الواجب، وحريص على طلب الدنيا بغير حقٍّ.

الواجب على المؤمن أن يُؤدي الحقَّ، وألا يطلب ما ليس له؛ ولهذا حرَّم علينا منعًا وهاتِ، منع الواجب، وطلب ما ليس له، وهو معنى "هاتِ"، هذا الشَّحيح الذي يبخل بالواجب، ويطلب ما لا يحل له: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16].

كذلك "قيل وقال" ما ينبغي للإنسان أن يكون كثير الكلام، كثير الهدر؛ لأنه يقع في الكذب، ويقع فيما لا ينبغي إذا كثر كلامه، وفي الحديث: بئس مطية الرجل: زعموا؛ ولهذا كره "قيل وقال"، وفي اللفظ الآخر: يسخط لكم قيل وقال.

فالواجب على المؤمن أن يزن كلامه، وألا يتكلم إلا بكلامٍ مضبوطٍ، وأن يحذر الهذرَ والكلام الذي ما له ثمرة؛ فإنَّ هذا قد يجرّه إلى الباطل والكذب.

كذلك كثرة السؤال: لا يسأل إلا عن حاجةٍ، يقول النبيُّ ﷺ: مَن سأل الناسَ أموالهم تكثُّرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقلَّ أو ليستكثر رواه مسلم.

وقال ﷺ: إنَّ المسألة لا تحلُّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجل تحمَّل حمالةً للإصلاح بين الناس، فحلَّت له المسألةُ حتى يُصيبها ثم يُمسك، أو لحاجته وحاجة أهله. الثاني: رجل أصابته فاقةٌ حاجة، حلَّت له المسألةُ حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ حتى يُصيب ما يسدّ حاجته. والثالث: رجلٌ أصابته فاقةٌ وقد كان معروفًا بالخير والغنى، فإذا شهد له ثلاثةٌ أنه أصابته حاجةٌ شديدةٌ حلَّت له المسألة، وما سواهنَّ من المسألة سُحْتٌ، يأكله صاحبه سحتًا.

ويحتمل أيضًا أنَّ المراد بكثرة السؤال عن العلم؛ فإنَّ كثرة السؤال قد تُوقع في الغلط، فلا ينبغي أن يُحرج السائلُ المسؤولَ، ينبغي أن يسأل عن المهمات في العلم، ولا يُكثر السؤال والأُغلوطات حتى يُوقع المسؤول في أغلاطٍ، بل ينبغي أن يسأل عمَّا أهمَّه، ويتحرى الأهم فالأهم في الأوقات المناسبة.

أما إضاعة المال فذلك لا يجوز، كونه يضيع المال في اللعب: في القمار، في الملاهي، في الحرام، فلا يجوز الإسراف، المال له قيمة، له شأن، فلا تجوز إضاعته: لا في الإسراف، ولا في التَّبذير، ولا فيما حرَّم الله، بل يجب أن يحفظ المال حتى يُصرف في مصارفه الشَّرعية والمباحة، أما التَّبذير فلا يجوز، قال تعالى: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرا [الإسراء:26]، وهكذا الإسراف، ولكن يصون المال ويحفظه حتى يُنفق في وجهه فيما أباح الله.

رزق الله الجميع التَّوفيق والهداية.

1472- وَعَنْ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَوْ لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1473- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1474- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مِنَ الْكَبَائِرِ: شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة في أحكامٍ متعددةٍ:

في الحديث الأول يقول ﷺ: لا يؤمن عبدٌ حتى يُحبَّ لجاره -أو قال: لأخيه- ما يُحبُّ لنفسه، هذا من الواجبات: أن المؤمن يُحبُّ لأخيه في الله ولجاره المسلم ما يُحبُّ لنفسه، قال النبيُّ ﷺ: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره، ومَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.

فالمؤمن يحذر أذى جاره، ولا يُؤذيه بقولٍ ولا فعلٍ؛ ولهذا من كمال الإيمان وتمام الإيمان: أن يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه من الخير: لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه.

فأنت يا عبدالله عليك أن تحفظ لسانك: إما أن تقول خيرًا أو تصمت، وهكذا عليك أن تُحبَّ في الله، وتبغض في الله، وأن تُكرم إخوانك وجيرانك ولا تُؤذيهم: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤذِ جاره، وفي اللفظ الآخر: فليُكرم جاره، فليُحْسِن إلى جاره.

فالواجب الإحسان إلى الجار وإكرامه، وكفّ الأذى عنه، حتى ولو كان كافرًا يكفّ الأذى عنه، لا يظلم، فالمؤمن يُكرَم ويُحْسَن إليه، والكافر يُكفُّ الأذى عنه ويُحْسَن إليه إذا لم يكن حربيًّا، إذا صار صاحب ذمَّةٍ يُحْسِن إليه، دعوة له إلى الخير، كما قال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8].

ومَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، فالمؤمن هكذا: يُحب لإخوانه في الله ولجيرانه ما يُحبُّ لنفسه، ويبتعد عن إيذائهم، من تمام الإيمان، ومن موجبات الإيمان: إكرام الجار، ومحبَّة الخير لأخيك المسلم، وأن تقول خيرًا أو تصمت عمَّا سواه.

ويقول عليه الصلاة والسلام لما سُئل: أيُّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تُزاني بحليلة جارك، وأنزل الله في هذا قوله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا الآية [الفرقان:68- 70]، هذه الكبائر الثلاث خطرها عظيم، وأعظمها الشرك، فهو أعظم الذنوب: أن يعبد مع الله غيره، يجعل له ندًّا يدعوه مع الله، يستغيث به، سواء [كان] ميتًا، أو شجرًا، أو حجرًا، أو مَلَكًا، أو جنيًّا، أو غير ذلك، مثل الذين يدعون الأموات، ويستغيثون بالأموات، قد اتَّخذوهم أندادًا، وهكذا مَن دعا الجنَّ، أو الأصنام، أو الملائكة، أو الأنبياء، قد اتَّخذهم أندادًا، والله يقول: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، ويقول جلَّ وعلا: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، ويقول سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] على سبيل الذَّمِّ لها، ثم قال في آخرها: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار [البقرة:167].

فالواجب إخلاص العبادة لله وحده: في دعائك، وخوفك، ورجائك، وذبحك، ونذرك، وغير ذلك، كله لله وحده: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، هذا حقُّ الله، وهو الذي يُدعا، ويُرجا، ويُستغاث به، ويُنذر له، ويُذبح له، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي يعني: ذبحي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162- 163].

وما يفعله المشركون عند الأنداد: من دعاء الميت، أو الاستغاثة بالميت، أو طلب الغوث، أو النصر، هذا الشرك الأكبر، سواء كان عند قبر النبي، أو قبر البدوي، أو الحسين، أو الشيخ عبدالقادر الجيلاني، أو غيرهم، أو يطلب من الملائكة، أو من الجنِّ، أو من الأصنام، أو من الأشجار، كما فعل المشركون مع اللَّات والعزى ومناة، كل هذا شرك أكبر.

ومن أسباب ذلك ومن وسائله: البناء على القبور، واتِّخاذ المساجد عليها، هذا من وسائل الشرك: البناء على القبر، أو اتِّخاذ قبَّة عليه أو مسجد، هذا من أسباب الشرك، ومن وسائل الشرك، فالواجب على أهل الإسلام الحذر من ذلك.

أما قتل الأولاد فهذا جريمة عظمى، كل نفسٍ معصومة، قتلها جريمة عظيمة، فلا يجوز قتل نفسٍ بغير حقٍّ، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، حتى الولد لا يجوز قتله: لا صغير، ولا كبير، لا يقتل ولده، ولا جاره، ولا غيرهما إلا بحقٍّ، هذا من أعظم الجرائم، ومن أكبر الكبائر: قتل النفس بغير حقٍّ، والزنا كذلك من أكبر الكبائر، قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32].

فالواجب الحذر من ذلك، والتوبة إلى الله من كلِّ ما يقع من العبد، وتوعدهم الله بالعذاب والخلد، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68- 69]، هذا جزاؤه، جزاء المشرك والقاتل والزاني العذاب والخلد في العذاب، لكن الخلود خلودان: خلود المشرك خلودٌ لا نهايةَ له، أبد الآباد، كما قال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]. أما خلود القاتل والزاني فخلود مُؤقَّت له نهاية، إذا كان لم يستحلّ ذلك يكون خلودًا مُؤقَّتًا، له أمد ينتهي إليه، ثم يُخرجه الله من النار إلى الجنة، إذا كان مات على التوحيد والإٍسلام فخلود مُؤقَّت، لكن مَن استحلَّ القتل بغير حقٍّ، أو استحلَّ الزنا كفر، نسأل الله العافية.

ويقول ﷺ: من الكبائر: شتم الرجل والديه، من كبائر الذنوب العظيمة، قيل: يا رسول الله، وهل يسبّ الرجلُ والديه؟ قال: نعم، يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسُبّ أمه فيسُبّ أمه، يعني: التَّسبب في سبِّهم سبٌّ لهم، الذي يتسبب في ذلك سابٌّ لوالديه.

فالواجب الحذر من سبِّ الناس، فإنه متى سبَّ والديهم سبُّوا والديك، فكنت مُتسببًا في ذلك، والذي يُباشر لعن والديه هذا قد أتى ذنبًا عظيمًا، وجريمةً عظيمةً، نسأل الله العافية، فالواجب الحذر من ذلك، وأن تُكرم والديك، وتُحسن إليهم، تبرُّهم، هذا هو الواجب على المسلم، أما سبُّهم وذمُّهم فهذا من كبائر الذنوب، نسأل الله العافية والسَّلامة.

وفَّق الله الجميع.

1475- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1476- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1477- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ.

1478- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ. أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالحثِّ على فعل الخير، والبرِّ، والصلة مع إخوانه وأقاربه وجُلسائه وجميع الناس، فالله جلَّ وعلا يُحب من عباده أن يُحسنوا؛ لأنَّ الإحسان يترتب عليه خيرا الدنيا والآخرة، حتى مع الكفار إذا لم يكونوا حربًا لنا، قال جلَّ وعلا: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]؛ ولأنَّ الإحسان إليهم من أسباب إسلامهم ودخولهم في الدِّين، إذا كانوا أهل أمانٍ، أو أهل ذمَّةٍ، ليس بيننا وبينهم حربٌ، فالبرُّ فيهم، والإحسان إليهم، والمعروف معهم في خير كثير، ودعوة إلى الله .

يقول ﷺ في حديث أبي أيوب: لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، يلتقيان، فيُعرض هذا، ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام متفق على صحَّته.

والمعنى أن ليس للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، قد تقع شحناء بين الناس، شحناء وخصومة: قد يتعدَّى بعضُ الناس على بعضٍ، لكن أباح الله الهجر ثلاثة أيام فأقلّ؛ لما يقع من الشَّحناء بين الناس: إما لمالٍ، أو غيره، وليس لأحدٍ أن يزيد على الثلاث، لما كانت النفوسُ قد يشقّ عليها الرضا قبل الثلاث، فأباح الله الثلاث رحمةً منه.

فإذا كان بينك وبين أخيك شحناء أو خصومة أو دعوى فأغضبك، فلك الهجر ثلاثة أيام فأقلّ، وليس لك الزيادة، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام أفضلهما وأعظمهما أجرًا الذي يبدأ بالسلام.

أما إذا كان الهجرُ لله من أجل البدع أو المعاصي، فهذا ما له حدّ إلا التوبة، إذا كان هجره لأجل بدعته أو لمعاصيه الظاهرة فهذا ما يتحدد بثلاثٍ، يُهجر حتى يتوب ولو بعد سنةٍ أو سنتين، والنبي ﷺ هجر كعبَ بن مالك وصاحبيه خمسين ليلةً بسبب تخلفهم عن الغزو بغير عذرٍ شرعيٍّ، هُجروا خمسين ليلةً.

فالهجر إذا كان لله بسبب المعاصي الظاهرة أو البدع فهذا ما يتحدد إلا بالتوبة، متى تاب تاب الله عليه وزال الهجر، أما إذا كان في حقِّ الآدمي بينك وبينه خصومة: في بيتٍ، في أرضٍ، في دَينٍ، في غير هذا من أمور الدنيا، فلك الهجر ثلاثة أيام فأقلّ، وليس لك الزيادة على الثلاث.

ويقول ﷺ: كل معروفٍ صدقة، ويقول: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ.

كل معروفٍ صدقة تحيته: كونك تُسلم عليه صدقة، كونك تُهدي له هديةً صدقة، كونك تُساعده في الخير صدقة، تذبّ عن عرضه صدقة، كل معروفٍ صدقة هذا كلمة عامَّة، من جوامع الكلم، كل معروفٍ يقع بينك وبين إخوانك وجيرانك وقرابتك فهو صدقة.

وفي هذا الحديث -حديث أبي ذرٍّ- التأكيد في ذلك، قال: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ يعني: منبسط.

وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: إنكم لا تسعون الناسَ بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحُسن الخلق.

وتقدم قوله ﷺ: البِرُّ حُسن الخلق، فالمشروع للمؤمنين فيما بينهم حُسن الخلق، والكلام الطيب، وبسط الوجه، ولا يجوز الاكفهرار، والتَّعبس من غير علةٍ: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ يعني: مُنبسط.

كثير من الناس طبيعته التَّعبس والاكفهرار، وهذا غلط، ما ينبغي مع إخوانه ومع جُلسائه، ينبغي أن يكون باسط الوجه، لين العريكة، طيب الكلام مع إخوانه، إلا من علةٍ.

ويقول ﷺ في حديث أبي ذرٍّ: إذا طبختَ مرقةً فأكثر ماءَها وتعاهد جيرانك يعني: إذا طبخت لحمًا لأجل مرقه فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك، إذا كان الجيرانُ فُقراء يُكثر ماءها حتى يُعطيهم منها، ولو أنها مرقة، الجارّ الفقير كل شيءٍ ينفعه، ولو يُعطيه كأسًا من المرق، أو كأسين من المرق، بلحمٍ أو بدون لحمٍ، كله ينفعه: إذا طبختَ مرقةً فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك، هكذا يُعطيهم من اللَّبن إذا كان عنده لبن، يُعطيهم تمرًا ولو قليل إذا كانوا فُقراء، لا يحقر شيئًا ولو تمرات قليلة، ولو كأس من المرق، أو كأس من اللبن.

هكذا السنة بين المسلمين: التعاون والتَّهادي والمساعدة ولو بالقليل، يقول ﷺ في الحديث الصحيح: ما من عبدٍ يتصدق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا تقبَّلها الله بيمينه، فيُربيها لصاحبها كما يُربي أحدُكم فلوَّه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل، ويقول ﷺ: اتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ.

فالوصية لإخواني المستمعين، الوصية حُسن الخلق، وطيب الكلام، والصَّدقة ولو بالقليل، هذا هو المشروع للمؤمن مع أهله، مع جيرانه، مع جُلسائه، طيب الكلام، والمؤانسة، والصَّدقة على الفقير ولو بالقليل، هذا هو المشروع، إلا مَن أظهر المعاصي يُهجر، مَن أظهر المعاصي يستحقّ الهجر.

وفَّق الله الجميع.

1479- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1480- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1481- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة فيها الحثُّ على تفريج كرب المسلمين، والتيسير عليهم، والدلالة على الخير، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإرشاد الناس إلى الخير، كل هذا فيه الخير العظيم، والأجر الكبير.

يقول ﷺ: مَن نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرب الدنيا، نفَّس اللهُ عنه كربةً من كُرب يوم القيامة، هذا فيه فضل عظيم، نفَّس عنه بصدقةٍ، بهديةٍ، بقضاء دَينه، بإنقاذه من ظالمٍ ظلمه، بعلاج مرضه، إلى غير هذا، أنواع التنفيس كثيرة مما أباح الله وشرع .

ومَن يسَّر على مُعْسِرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة بأن أنظره، أو وضع عنه، في الحديث الآخر يقول ﷺ: مَن أنظر مُعْسِرًا أو وضع له أظلَّه الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة.

الستر ستران: ستر عورة الدنيا، وستر العورة الدِّينية، فإذا ستر عورته بالملابس فله هذا الأجر؛ ستره الله في الدنيا، إذا كان فقيرًا مُحتاجًا للستر. وهكذا لو زلَّت قدمه في معصيةٍ لم يُجاهر بها، وستر عليه، له هذا الأجر، ولم يفضحه، وستر عليه، ونصحه له هذا الأجر العظيم؛ لأنَّ عورة الدِّين أعظم من عورة الدنيا.

والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه، فالإنسان إذا زلَّت قدمه في أمرٍ لم يُجاهر، وليس من المجاهرين، ولكن عثر على شيءٍ من حاله، وعرف شيئًا من حاله يستر عليه، وينصحه، ويُوجهه إلى الخير، ولا يفضحه.

ثم أتى ﷺ بكلمةٍ جامعةٍ من جوامع الكلم، فقال: والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه هذا عامّ، يعمّ أنواع العون: عون الدِّين، وعون الدنيا، أعانه في أمور دينه: في المحافظة على الصلاة، في أداء الزكاة، في صوم رمضان، في حجِّ البيت، في الجهاد، في غير هذا، في طلب العلم. أو في أمور الدنيا: في قضاء دَينه، في النَّفقة على أهل بيته، ونحو ذلك مما هو إعانة على أمور الدنيا.

وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته متفق عليه من حديث ابن عمر.

وهذا عامّ أيضًا، والله جلَّ وعلا يقول: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر]، التواصي بالحقِّ: بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والتناصح، والتعاون على طلب العلم، على نصر المظلوم، على عيادة المريض، على نشر الحقِّ، على إنكار البدع، كل هذا داخلٌ في التعاون على البرِّ والتقوى، وداخل في التَّواصي بالحقِّ والصبر عليه.

يقول ﷺ: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله فضل عظيم: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله أخرجه مسلم في "الصحيح" من حديث أبي مسعودٍ الأنصاري .

إذا قلت له السنن الرواتب: صلِّ، يُشرع لك أن تُصلِّي قبل الظهر أربعًا، وبعدها ثنتين راتبةً، وإن صلَّيت بعدها أربعًا فهو أفضل، وأفضل قبل العصر أربعًا، تُرشده إلى سنة المغرب، سنة العشاء، سنة الفجر، فلك مثل أجر فاعله، أرشدته إلى صلة الرحم لك مثل أجره، أرشدته إلى برِّ الوالدين لك مثل أجره، أرشدته إلى اتِّباع الجنائز وعيادة المريض لك مثل أجره، أرشدته إلى صلة الرحم لك مثل أجره، أرشدته إلى الرِّفق بالمدين المعسِر وإنظاره لك مثل أجره.

وهكذا مَن دلَّ على خيرٍ نكرة في سياق الشرط، تعمّ كل خيرٍ: فله مثل أجر فاعله، مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله.

وفي حديث عليٍّ : لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النَّعَم متفق عليه.

وفي الحديث الآخر: مَن دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه، لا ينقص من آثامهم شيئًا.

فالواجب على المؤمن الحرص على أداء ما أوجب الله، وعلى ترك ما حرَّم الله، ويُشرع له المنافسة في الخيرات، والمسارعة في الخيرات، والدلالة عليها، والإعانة عليها.

والحديث الثالث حديث ابن عمر: يقول ﷺ: مَن سألكم بالله فأعطوه، ومَن استعاذكم بالله فأعيذوه، ومَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تروا أنَّكم قد كافأتُموه.

هذا الحديث من جوامع الكلم، والمعنى أنه يُعطى إذا كان له حقٌّ في المسألة: مَن سأل بالله فأعطوه، أما إذا سأل ما لا حقَّ له فيه فلا يُعطى: كأن يسأل من الزكاة، وهو ليس من أهلها، لا يُعطى، أو سأل شيئًا لا يُناسب إعطاؤه إياه، لا، إذا سأل بالله: إذا كانت مسألتُه في محلِّها.

ويقول ﷺ: إنَّ المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثةٍ .. الحديث، فإذا كانت المسألة محلها ذو حاجةٍ: سأل من الزكاة صدقةً وهو ذو حاجةٍ يُعطى، سأل أن يُجار من الظلم، يُعان على إجارته من الظلم، وما أشبه ذلك مما يكون له حقٌّ فيه، أما إذا سأل شيئًا لا حقَّ له فيه فالأدلة الأخرى تمنع من ذلك.

هكذا إذا استعاذ بالله من شيءٍ لا يلزمه فأعيذوه، لكن إذا استعاذ قال: أعيذوني، لا تطلبوا الدَّين الذي عليَّ، أعيذوني، لا تأمروني بالصلاة، لا تأمروني بالزكاة! لا يُعاذ، فالمعنى: إذا استعاذ بالله من شيءٍ يصلح أن يُعاذ منه، ما هو بلازمٍ له، أو ظلم له يُعاذ، أما إذا استعاذ بالله في شيءٍ يلزمه فهو غير داخلٍ في الحديث، فالنبي ﷺ يُفَسَّر كلامه بما يُوافق كلامه الآخر؛ لأنَّ النصوص يُفَسِّر بعضُها بعضًا، ويشرح بعضُها بعضًا، فإذا استعاذ من شيءٍ لا يلزمه، له حقٌّ في الإعاذة منه يُعاذ.

يُروى عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ عثمان أراد أن يُلزمه بالقضاء، فاستعاذ بالله من ذلك، وقال: إني لا أستطيع، فأعاذه عثمان وترك توليته القضاء.

وهكذا لو دُعي للإمارة، أو دُعي إلى شيءٍ يخشى منه، فاستعاذ بالله، يُعاذ؛ لأنه هو أعلم بنفسه: قد يكون ما يستطيع القيام بالمهمة.

وهكذا مَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه هذا من أخلاق المؤمنين، ومن كمال الإيمان: يُكافأ صاحبُ المعروف على معروفه، إذا كان مثله يقبل المكافأة، فإذا أهدى إليك هديةً، ومثله يقبل تُهديه، تُعطيه مثلها أو أكثر. أعانك على خيرٍ، تجتهد في إعانته على الخير، أو مُقابلته إذا كان يقبل، إذا كان يرضا بذلك. قضى عنك دَينًا تُعطيه مقابل ذلك إذا كان يقبل، وهكذا. فإن لم تجد فالدُّعاء، إذا لم تستطع المكافأة فالدُّعاء حتى تروا، وفي روايةٍ: حتى تعلموا أنَّكم قد كافأتُموه، يُدعا له: جزاه الله خيرًا، ضاعف الله مثوبته، جزاك الله خيرًا، أحسن الله إليك، تدعو له، في حديث أسامة: مَن صُنِعَ إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء، لكن الثناء غير المكافأة.

وفَّق الله الجميع.

كِتَابُ الْحَجِّ

بَابُ فَضْلِهِ وَبَيَانِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ

708- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

709- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ.

710- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ.

711- عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث كلها تتعلق بالحجِّ، والحج فريضة فرضها الله على عباده في العمر مرةً على الرجل والمرأة، في العمر مرة واحدة مع الاستطاعة، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].

وفي هذا يقول ﷺ: العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فهذا فيه فضل العمرة والحجِّ، وأنَّ العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينهما، ففيه دلالة على شرعية تكرار العمرة، العمرة واجبة مرة في العمر، كالحجِّ مرة في العمر، ولكن إذا كررها في كل شهرٍ مرةً، في كل شهرين مرة، أكثر، أقلّ، كله طيب، تكرارها فيه خير عظيم، وفضل كبير، وليس في ذلك حدٌّ محدودٌ.

والحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة، المبرور: الذي برّ صاحبه فلم يكن مُصرًّا على صغيرةٍ ولا كبيرةٍ؛ ولهذا في اللفظ الآخر: مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه، فالذي لم يرفث ولم يفسق هو الذي حجّه مبرور، لم يأتِ الرَّفث، وهو القال السيئ، والعمل السيئ، ومن ذلك: الجماع في الحجِّ؛ فإنه يُبطله قبل التَّحلل الأول.

والفسوق: جميع المعاصي، فإذا حجَّ ولم يأتِ رفثًا ولا فسوقًا، بل حجَّ على توبةٍ، وعلى تركٍ للذنوب، فحجه مبرور، وليس له جزاءٌ إلا الجنة.

والحديث الثاني حديث عائشة: أنها سألت قالت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهادٌ لا قتالَ فيه: الحجُّ والعمرة، عليهن جهاد، لكن ليس فيه قتال، وهو الحجّ والعمرة.

فعلى المرأة مع الاستطاعة الحجّ مرة في العمرة، والعمرة مرة في العمر.

وأصله في البخاري: أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهادَ أفضل الأعمال، أفلا نُجاهد؟ قال: لكن جهاد لا قتالَ فيه: الحجّ والعمرة، فدلَّ ذلك على أنَّ الحجَّ والعمرة فرضٌ على الجميع -على الرجال والنساء- مع الاستطاعة مرة في العمر: الحجّ مرة في العمر، والعمرة مرة في العمر، والتَّكرار فيه خير عظيم، تكرار ذلك فيه خير عظيم، وفضل كبير، لكن مع كثرة الحجاج والزِّحام إذا رأى عدم التَّكرار لمقصد التَّنفيس والتيسير على المسلمين، والمشاركة في التوسعة لهم، فيُرجا له في هذا خير.

والحديث الثالث: يُروى عن النبي أنه سُئل عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: لا، وأن تعتمر خيرٌ لك، ورُوي خلاف ذلك: الحجُّ والعمرة فريضتان، وكلاهما ضعيف، هذان اللَّفظان ضعيفان.

ويُروى عن جابرٍ موقوفًا عنه أنها ليست بواجبةٍ، والصواب أنها واجبة، العمرة واجبة في العمر مرة، فرض كالحجِّ، لكن في العمر مرة، والتَّكرار مستحبّ.

وفَّق الله الجميع.

س: ...............؟

ج: العمرة والحجّ مستحب للجميع، التكرار مستحبّ، إذا استطاعا ذلك مستحب، إلا إذا كانت هناك زحمة شديدة، ورأيا ترك ذلك؛ فلا بأس من أجل المشقة العظيمة، والتوسعة على المسلمين، وإذا تصدَّق بالنَّفقة على الفقراء والمحاويج، أو في وجوهٍ أخرى من الخير فحسنٌ، وإلا فالحجّ والعمرة مشروعان دائمًا، ولو كرر مئة مرة.

712- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ إِرْسَالُهُ.

713- وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

714- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

715- وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مَنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذان الحديثان -حديث أنسٍ وابن عمر- وما جاء في معناهما في تفسير السَّبيل في قوله جلَّ وعلا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، السَّبيل: الزاد والراحلة. الزاد الذي يُوصله إلى مكة، ويردّه منها، ويقوم بحمايته وقت الإقامة، والراحلة التي يركب عليها، هذا هو السبيل، يعني: ما يُوصله إلى مكة، ويردّه إلى بلاده، هذا هو السَّبيل: من النقود التي يستطيع أن يُدرك بها طعامه وشرابه ودابته، أو سيارته، أو طائرته، هذا هو السبيل، فإذا كان الإنسانُ يستطيع أن يصل مكة عن طريق الإبل، أو السيارات، أو الطائرة، وعنده مال يكفيه لذلك ذهابًا وإيابًا، ويقوم بحاجته وقت الإقامة في مكة من الحجِّ؛ فإنه يلزمه الحجُّ، وإلا فليس عليه؛ لقوله جلَّ وعلا: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].

فالمريض الذي لا يُرجا برؤه ليس عليه حجٌّ من جهة بدنه، ولكن إذا كان من جهة المال، أو يُحجّ عنه، والكبير في السن الذي يعجز عن السفر للحجِّ؛ لعدم ثبوته على الراحلة، أو السيارة، أو الطائرة، يُحجُّ عنه، كما في حديث ابن عباسٍ في قصة الخثعمية، وهكذا الميت يُحجُّ عنه.

والحاصل أنَّ السبيل هو أنه يستطيع الذَّهاب إلى مكة والرجوع بنفسه وماله، سواء كان المركوبُ دابةً، أو سيارةً، أو قطارًا، أو طائرةً، أو غير ذلك، متى استطاع الذَّهاب إلى مكة والرجوع وجب عليه الحجُّ، وإذا كان لا يستطيع بنفسه لكبر سنِّه، أو مرضٍ لا يُرجا برؤه؛ يُحجُّ عنه، يحجُّ عنه غيرُه، كما في قصة الخثعمية، قالت: يا رسول الله، إنَّ أبي شيخ كبير لا يثبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: حُجِّي عن أبيك، وجاءه رجلٌ قال: يا رسول الله، إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحجَّ ولا الظعن، أفأحج عنه وأعتمر؟ قال: حُجَّ عن أبيك واعتمر.

وفي حديث ابن عباسٍ الدلالة على أنَّ الصبي الصغير له حَجّ نافلةٍ، إذا حجَّ به أبوه أو أمه فلا بأس؛ لقول المرأة: يا رسول الله، ألهذا حجٌّ؟ وهو صغير، قال: نعم، ولكِ أجرٌ، فإذا حُجَّ بالصغير الذي لم يبلغ فله حجٌّ شرعيٌّ نافلة، ومتى بلغ وجب عليه الحجُّ.

وهكذا العبدُ المملوك له حجٌّ، لكن نافلة، فإذا عتق وجب عليه الحجُّ إذا استطاع؛ لقوله ﷺ: أيما صبيٍّ حَجَّ ثم بلغ الحنثَ فعليه أن يحجَّ حجةً أخرى، وأيما عبدٍ حجَّ ثم أعتق فعليه أن يحجَّ حجةً أخرى.

وفَّق الله الجميع.

 

717- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.

718- وَعَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَخْطُبُ يَقُولُ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

719- وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ.

720- وَعَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، الْحَجُّ مَرَّةٌ، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ.

721- وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الأربعة في أحكامٍ متعددةٍ:

الحديث الأول: يقول ﷺ: أيما صبيٍّ حَجَّ ثم بلغ الحنثَ فعليه أن يحجَّ حجةً أخرى، وأيما عبدٍ حجَّ ثم أعتق فعليه أن يحجَّ حجَّةً أخرى.

هذا الحديث رُوي موقوفًا ومرفوعًا، وهو بحكم الرفع؛ لأنه لا يُقال من جهة الرأي، فالصبي إذا حجَّ قبل البلوغ عليه أن يحجَّ حجةً أخرى، تكون حجَّتُه نافلةً، وهكذا المملوك إذا حجَّ قبل أن يعتق فحجّه نافلة، فإذا أعتق يحجّ حجَّ الفريضة، هذا هو المشروع في حقِّ الجميع.

والحديث الثاني: يقول ﷺ: لا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ؛ فإنَّ الشيطان ثالثهما، ولا تُسافر المرأةُ إلا مع ذي محرمٍ، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، إني اكتُتبتُ في غزوة كذا وكذا، وإنَّ امرأتي خرجت حاجةً؟ فقال النبيُّ: انطلق فحُجَّ مع امرأتك.

هذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يُلاحظ أهله، وألا يذهبوا إلا بمحرمٍ، ولا يُسافروا إلا بمحرمٍ؛ ولهذا قال له ﷺ: اترك الغزوَ واذهب وحجَّ مع امرأتك؛ لعظم الأمر، فليس للمرأة أن تُسافر إلا مع ذي محرمٍ: لا للحجِّ، ولا لغيره؛ لأنها عورة وفتنة وخطر، فليس لها أن تُسافر إلا مع ذي محرمٍ: لا للسفر، ولا لغيره.

والحديث الثالث: يقول ﷺ في الحديث الصحيح لما سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: مَن شبرمة؟ قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال: حججتَ عن نفسك؟ قال: لا، قال: حُجَّ عن نفسك ثم حُجَّ عن شبرمة.

يُروى مرفوعًا وموقوفًا، والصواب أنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا يُقال من جهة الرأي، فليس للإنسان أن يحجَّ عن غيره إلا بعد أن يحجَّ عن نفسه، لا ينوب عن غيره إلا بعد أن يحجَّ عن نفسه؛ لهذا الحديث، ولأنَّ الواجب أن يبدأ بنفسه ما أوجب الله عليه قبل غيره، وهذا إنما يكون عمَّن عجز: كالشيخ الكبير العاجز، والمريض العاجز الذي لا يُرجا برؤه يحجّ عنه، أما الذي يقدر لا يحجّ عنه: إما [أن] يحجّ عن المريض العاجز الذي لا يُرجا برؤه، أو الهرم العاجز عن الحجِّ يحجّ عنه؛ لقوله ﷺ لما سأله رجلٌ قال: يا رسول الله، إنَّ أبي شيخ كبير لا يثبت على الراحلة، أفأحجّ عنه وأعتمر؟ قال: حجَّ عن أبيك واعتمر، وسألته امرأةٌ كما تقدم عن أبيها الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الحجَّ ولا الظعن، قالت: أحج عنه؟ قال: حُجِّي عن أبيك، قالت: يا رسول الله، أحج عن أبي؟ قال: حُجِّي عن أبيك؛ لكبر سنه وعجزه.

والحديث الرابع: يقول ﷺ: إنَّ الله فرض عليكم الحجَّ فحُجُّوا، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فالله فرض الحجَّ على الناس، فالواجب عليهم أن يحجّوا، مَن استطاع وجب عليه الحجّ.

ويقول ﷺ: بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت، فحجّ البيت ركنٌ من أركان الإسلام الخمسة، لا بدَّ منه مرة في العمر إذا استطاع السَّبيل إليه، قيل: يا رسول الله، أفي كل عامٍ؟ قال: لو قلتُها لوجبت، الحجُّ مرة يعني: في العمر فما زاد فهو تطوع.

هذا الحجّ مرة في العمر، أما صيام رمضان فكل سنة، والزكاة كل سنة، والصلوات الخمس في أوقاتها، أما الحجّ فإنه مرة في العمر؛ فضلًا من الله؛ لأنَّ هناك كُلفةً، فمن رحمة الله أن جعله مرةً في العمر من سائر أقطار الدنيا، ولو من أقصى الدنيا، عليه أن يحجَّ، ولكنها مرة في العمر إذا استطاع السبيل إلى ذلك، وهذا من فضل الله وتيسيره: أن جعل ذلك مرة في العمر.

وفَّق الله الجميع.

 

بَابُ الْمَوَاقِيتِ

722- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ: الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

723- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

724- وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، إِلَّا أَنَّ رَاوِيَهُ شَكَّ فِي رَفْعِهِ.

725- وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ.

726- وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: فهذه الأحاديث كلها تتعلق بالمواقيت: مواقيت الحج والعمرة، المواقيت قسمان: زمانية، ومكانية. والمراد هنا مواقيت الحجِّ المكانية.

دلَّ حديثُ ابن عباسٍ رضي الله عنهما على أنَّ الرسولَ ﷺ وقَّت للناس في حجِّهم وعمرهم مواقيت مكانية، فوقَّت لأهل المدينة: ذا الحُليفة، مكان معروف في طرف المدينة يُسمَّى الآن: أبيار علي، أحرم منها عليه الصلاة والسلام في عمره، وفي حجَّته من ذي الحُليفة، فعلى مَن أراد الحجَّ أو العمرة من المدينة أن يُحرم منها، وهكذا مَن توجَّه إلى الحجِّ من طريق المدينة يُحرم من ذي الحليفة.

ولأهل الشام: الجُحفة، وهي قرية خربة يقوم مقامها رابغ الآن، يُحرم الناسُ من رابغ، وهذا الميقات لأهل الشام ومَن جاء من طريقهم من المغرب وغيرهم، ومصر وغيرها، مَن جاء من طريق البحر يُحرم من الُجحفة: أهل المغرب ومصر والشام ومَن جاء من طريقهم يُحرم من الُجحفة، من رابغ.

ولأهل نجدٍ: قرن المنازل، يُسميه الناس اليوم: السيل، في المغاسل، وهو قرن المنازل، فمَن جاء من طريق الشرق من نجدٍ، أو من الطائف، أو من غيرها من هذا الطريق -من طريق السيل- أحرم منه، وهو يوم وليلة عن مكة.

ولأهل اليمن: يلملم، ميقات أهل اليمن المعروف، وهو من جنس السيل عن مكة يوم وليلة.

وجاء في حديث عائشة: أن النبي وقَّت لأهل العراق ذات عرق، وجاء في حديث جابرٍ كذلك أنه وقَّت لأهل العراق ذات عرقٍ، وقد وقَّته أيضًا عمر ، لم يعلم بأنَّ الرسول وقَّته، فوقَّته لهم، فوافق اجتهاده السنة، وكان مُوفَّقًا لموافقة السنة، فوقَّت لأهل العراق ذات عرقٍ، وهي قريبة من قرن المنازل، فإنَّ أهل العراق شكوا إلى عمر أنها جورٌ عن طريقهم، يعني: قرن المنازل، فوقَّت لهم ذات عرقٍ.

وهذه المواقيت الثلاثة: قرن المنازل، وذات عرق، ويلملم، كلها يوم وليلة عن مكة، وأبعد المواقيت ذي الحُليفة، ثم الجُحفة، أما الثلاثة فهي مُتقاربة.

فعلى مَن أراد الحجَّ أو العمرة من هذه الطرق أن يُحرم منها: مَن جاء من طريق المدينة وجب أن يُحرم من ميقات المدينة بحجٍّ أو عمرةٍ، ومَن جاء من طريق الشام أو المغرب أو نحو ذلك من ساحل البحر أحرم من الجُحفة -من رابغ- ومَن جاء من طريق اليمن أحرم من يلملم، ومَن جاء من طريق الشرق أحرم من قرن المنازل، ومَن جاء من العراق أحرم من ذات عرقٍ.

قال الرسول ﷺ: هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحجَّ أو العمرة، هذه المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غيرهم ممن أراد الحجَّ أو أراد العمرة، مَن أراد الحجَّ أو أراد العمرة يُحرم من هذه المواقيت، وهذا واجبٌ عليه، ليس له تجاوزها إلا بإحرامٍ، إذا كان قاصدًا الحجَّ أو العمرة ليس له التَّجاوز، بل يجب عليه أن يُحرم من هذه المواقيت التي يمرّ عليها: فمَن جاء من طريق المدينة أحرم من ذي الحُليفة، ومَن جاء من طريق الشام أو مصر أو المغرب -من طريق الساحل- أحرم من الجُحفة -من رابغ- ومَن جاء من طريق العراق من ذات عرقٍ، ومَن جاء من طريق نجدٍ والشرق أحرم من قرن المنازل، ومَن جاء من اليمن أحرم من يلملم، وهذا واجبٌ عليه؛ لقوله ﷺ: هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحجَّ أو العمرة.

فلو أنَّ شخصًا من الشام، أو من اليمن جاء من طريق نجدٍ؛ وجب عليه الإحرام من قرن المنازل، وهكذا لو كان شاميٌّ ذهب إلى اليمن وجاء من طريق اليمن أحرم من ميقات اليمن، وهكذا: هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحجَّ أو العمرة.

أما مَن مرَّ عليها ولم يُرد حجًّا ولا عمرةً، جاء للتِّجارة، قصد مكة للتِّجارة، أو ليزور قريبًا له، أو صاحبًا له، أو لأسبابٍ أخرى، ما نوى حجًّا ولا عمرةً؛ ما يلزمه الإحرامُ، هذا هو الصواب، إنما يلزم الإحرام مَن أراد الحجَّ أو العمرة، هذا مَن يلزمه، أما مَن جاء إلى مكة لغرضٍ آخر -من تجارةٍ أو غيرها- فإنه لا يلزمه الإحرام.

"ومَن كان دون ذلك" مَن كان منزله دون هذه المواقيت "فمهله من حيث أنشأ" يُحرم من مكانه، فالذي منزله دون ذي الحُليفة يُحرم من مكانه، دون الجُحفة يُحرم من مكانه، دون قرن المنازل -كأهل أم السلم أو جدة- يُحرمون من مكانهم، وهكذا مَن كان دون يلملم يُحرم من مكانه، مَن كان دون ذات عرقٍ يُحرم من مكانه، مَن كان أقرب إلى مكة منها أحرم من مكانه.

"ومَن كان دون ذلك فمهله" يعني: إهلاله "من حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة" يُهلون من مكانهم، حتى مَن أراد الحجَّ من أهل مكة يُحرم من مكة، من بيته، من منزله، إلا إذا أراد العمرةَ؛ فإنَّ الذي عليه أهلُ العلم أن يخرج إلى الحلِّ؛ كما أمر النبيُّ عائشةَ أن تخرج إلى الحلِّ لما أرادت العمرة، فإذا أراد العمرة وهو في مكة فإنه يخرج إلى الحلِّ: التَّنعيم، أو الجعرانة، أو عرفات، أو غيرها من الحلِّ يُحرم منه، أما الحجّ لا، يُحرم من مكة، من منزله، مَن أراد الحجَّ من أهل مكة يُحرم من منزله، وهكذا المقيمون في مكة الذين أدّوا العمرةَ وأقاموا في مكة يُحرمون من منازلهم ومُخيماتهم، وهكذا مَن جاءها لغرضٍ آخر، ثم أقام بها، ثم أراد الحجَّ يُحرم من منزله بالحجِّ؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: حتى أهل مكةَ من مكة.

وفَّق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه.

 

بَابُ وُجُوهِ الْإِحْرَامِ وَصِفَتِهِ

727- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺبِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْم النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

بَابُ الْإِحْرَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ

728- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

729- وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.

730- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

731- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

732- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث في بيان أنساك الإحرام وما يُشرع للمُحرم وما يُمنع منه:

حديث عائشة رضي الله عنها بيَّنت وجوهَ الإحرام، وأنَّ الرسول ﷺ لما أتى الميقات قال للناس: مَن شاء أن يُهلَّ بالحجِّ فليهلّ بالحجِّ، ومَن شاء أن يُهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ فليهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ، ومَن شاء أن يُهلَّ بعمرةٍ أهلَّ بعمرةٍ، هذا في حجة الوداع، السنة الأخيرة من هجرته عليه الصلاة والسلام، فإنه مكث في المدينة تسع سنين لم يحجّ، ثم حجَّ في السنة العاشرة حجة الوداع، ثم عاش بعدها نحو ثلاثة أشهر وتُوفي عليه الصلاة والسلام.

خرج من المدينة مُتجردًا، لبس إزاره ورداءه وأهلَّ من ذي الحُليفة، واغتسل عليه الصلاة والسلام، وأهلَّ من ذي الحُليفة، وهي يُسمونها الآن: أبيار علي، وهي ميقات أهل المدينة، وخيَّر الناس فقال: مَن شاء أن يُهلَّ بالحجِّ فليفعل، ومَن شاء أن يُهلَّ بعمرةٍ فليفعل، ومَن شاء أن يُهلَّ بهما فليفعل، قالت: وأهلَّ رسولُ الله ﷺ بالحجِّ، وهكذا قال جابر وجماعة.

وقال أنسٌ وابن عمر وجماعة أنه أهلَّ بهما جميعًا، بالحجِّ والعمرة جميعًا، ومَن أثبت مُقدم على النَّافي، فالصواب أنه أهلَّ بهما جميعًا: بالحجِّ والعمرة جميعًا كما في "الصحيحين" عن أنسٍ وعن ابن عمر: أن الرسول أهلَّ بالحجِّ والعمرة جميعًا.

وكان قد ساق الهدي، وأهلَّ أزواجُه ﷺ بالعمرة، وأهلَّ بعضُ الناس بالحجِّ، وكان أوجب في المسجد، لما صلَّى في المسجد ثم أوجب لما ركب الدابةَ بعد صلاته في المسجد عليه الصلاة والسلام.

وكان هذا يوم السبت بعد صلاة الظهر لخمسٍ بقيت من ذي القعدة، ثم لم يزل يُلبي حتى وصل مكة وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك، والصحابة حوله منهم مَن يُلبي، ومنهم مَن يُكبر، ولم يُنكر على أحدٍ منهم عليه الصلاة والسلام.

وكان ابنُ عمر يُلبي بهذه التَّلبية ويقول: "لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركتَ وتعاليت".

وكان أنسٌ يقول: "لبيك حقًّا حقًّا، تعبُّدًا ورقًّا".

وجاء في بعض الروايات أنه ﷺ قال: لبيك اللهم لبيك، لبيك إله الحقِّ لبيك.

والأفضل في التَّلبية ما ثبت في "الصحيحين": لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريكَ لك، وهكذا روى جابر أيضًا .

فلما وصل إلى مكة أمرهم أن يجعلوها عمرةً، أمر الناس أن يجعلوا إحرامَهم عمرةً، إلا مَن كان معه الهدي، وقال للناس: لولا أني معي الهدي لأحللتُ، وأمرهم أن يجعلوها عمرةً، فتمتَّعوا إلا مَن كان معه الهدي، والبقية تمتعوا: كأزواجه ﷺ وغيرهم، طافوا وسعوا وقصَّروا وحلوا، وحلَّت لهم الأزواج والطيب وكل شيءٍ، إلا الرسول ﷺ ومَن معه هدي كالرسول ﷺ وطلحة والزبير وجماعة كان معهم هدي؛ فبقوا على إحرامهم حتى حلّوا يوم النحر.

فعُلم بهذا أنَّ السنة والأفضل للمُحرم أن يجعلها عمرةً، إلا مَن كان معه الهدي، هذا هو الأفضل، فيطوف ويسعى ويقصر ويحلّ، ثم يُلبي بالحجِّ يوم الثامن كما فعل الرسولُ ﷺ وأصحابُه، فإنه أمرهم أن يُهلُّوا بالحجِّ يوم الثامن، وتوجَّهوا إلى منى يوم الثامن قبل الظهر، وصلوا بمنى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والمغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين بغير جمعٍ، قصرًا من دون جمعٍ، ثم صلوا الفجر في وقتها ثنتين مع سُنتها الراتبة، هكذا فعل ﷺ، وفعل أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

وأما قول عائشة: "مَن أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ فقد بقوا حتى أحلّوا يوم النحر" هذا محمول على مَن كان معه الهدي، أما مَن ليس معه الهدي فقد حلّوا، هي أجملت رضي الله عنها، لكن الصحابةَ الآخرين فصَّلوا؛ فالذين ليس معهم هديٌ حلّوا، ما بقوا على إحرامهم، حلوا وطافوا وسعوا وقصَّروا وحلّوا، كما ذكر ابنُ عمر وأنس وغيرهما، والذين قد ساقوا الهدي مع النبي ﷺ هؤلاء بقوا حتى حلّوا يوم النحر، فكلام عائشة فيه إجمال تُفسره الأحاديث الأخرى.

وحديث ابن عمر: "ما أهلَّ إلا عند المسجد" هذا معناه أنه أهلَّ في المسجد، لما صلَّى في المسجد أهلَّ عند المسجد لما ركب راحلته عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، أهلَّ من عند المسجد بعدما فرغ من الصلاة -صلاة الظهر- عليه الصلاة والسلام.

والحديث الآخر يدل على أنَّ السنة رفع الصَّوت بالتلبية: إنَّ الله أمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال. هذا يدل على أنَّ السنة رفع الصوت بالتلبية، كان النبيُّ يرفع صوتَه حتى سمعه الناسُ.

فالسنة للحجاج رفع الصوت: "لبيك اللهم لبيك"، يُسمعون مَن حولهم حتى يُذكر بعضُهم بعضًا، ويتأسَّى بعضُهم ببعضٍ، إلا النساء يكون صوتهن مُنخفضًا بقدر ما تسمعه جليساتها ومَن حولها؛ لأنَّ صوتها قد يُفتتن به، فالأفضل لها عدم رفع الصوت، وأما الرجال فالسنة رفع الصوت بالتلبية.

وفي حديث زيدٍ أن النبي تجرد لإهلاله واغتسل، وجاء من حديث ابن عمر ما يُؤيد ذلك: أنَّ من السنة الغسل عند الإحرام، وهو الأفضل: يتجرد ويغتسل، ثم يلبس الإزار والرداء ويُحرم في الحجِّ والعمرة، هذا هو الأفضل، وإن كانت حائضًا أو نفساء تغتسل أيضًا للنَّظافة وتُحرم وهي حائض أو نفساء، لا بأس؛ النبي أمر عائشةَ أن تغتسل لما أرادت أن تُحرم بالحجِّ مع عمرتها، وأمر أسماء بنت عميس أن تغتسل في الميقات لما ولدت محمد بن أبي بكر، أمرها أن تغتسل وتُلبي، وهذا الغسل غسل نظافةٍ؛ لأنها لا زالت في النِّفاس، وهكذا غسل عائشة وهي حائض، فالغسل مستحبٌّ عند الإحرام، حتى ولو كانت حائضًا أو نُفساء، من باب النَّظافة.

والحديث الرابع حديث ابن عمر: فيه أنه ﷺ قال: لا يلبس المحرمُ القميصَ، ولا العمامة، ولا البرانس كلها ممنوعة؛ لأنَّ العمامة تستر الرأس، والقميص يستر البدن، فلا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويلات، ولا البرانس.

والبرانس: ثياب تأتي من المغرب، رؤوسها متَّصلة بها، لها رؤوس متصلة بالبدن، تُوضع على الرأس، تُسمَّى: البرنس.

ولا الخفاف كذلك، والخفُّ: ما يستر القدمين مع الكعبين، يُقال له: خفٌّ.

فالمحرم لا يلبس هذه كلها، لكن مَن لم يجد نعلين لبس الخفَّين، ومَن لم يجد إزارًا لبس السَّراويل، كما بيَّن ﷺ في خطبة عرفات، قال في الخطبة: مَن لم يلبس إزارًا فليلبس السَّراويل، ومَن لم يجد نعلين فليلبس الخفَّين، ولم يأمرهم بالقطع، فدلَّ على أنَّ القطع منسوخٌ، قطع الخفِّ منسوخ؛ لأنه قال في حجة الوداع يوم عرفة: مَن لم يجد نعلين فليلبس الخفَّين، ولم يأمرهم بقطعهما، فدلَّ على أن قطعهما في حديث ابن عمر منسوخ عند عدم وجود النَّعلين.

كذلك لا يلبس المحرمُ -الرجل والمرأة- شيئًا مسَّه الزعفران والورس؛ لأنها طيب، فالملابس التي فيها زعفران أو طيب أو ورس أو غيره من الأطياب لا يلبسها، يلبس ملابس ليس فيها طيبٌ، لكن يتطيب في بدنه، يتطيب في لحيته، في رأسه، لا بأس؛ تطيب النبيُّ عند إحرامه في رأسه، أما الثياب لا تُطيب، المحرم لا يُطيب ثيابه.

وفَّق الله الجميع.