شرح بلوغ المرام بمكة قراءة الشيخ ناصر الزهراني 1

باب الحثِّ على الخشوع في الصَّلاة

243- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

244- وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ -وَصَحَّحَهُ- إِيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ هَلَكَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ.

245- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ.

246- وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

247- وَاتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِهَا فِي قِصَّةِ أَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، وَفِيهِ: فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي عَنْ صَلَاتِي.

248- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعَ إِلَيْهِمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

249- وَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ.

250- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ: فِي الصَّلَاةِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث كلها تتعلق بالخشوع في الصلاة، والحثِّ على الإقبال عليها، والتَّدبر لما يأتي العبد من هذه الصلاة، والعناية بكلِّ ما يجمع القلبَ عليها، ولا يُشوش القلب، ومن ذلك: الالتفات، لما سُئل عنه ﷺ قال: هو اختلاسٌ يختلسه الشيطانُ من صلاة العبد، وفي حديث أنسٍ: إياك والالتفات في الصلاة؛ فإنه هلكة، فإن كان لا بدَّ ففي التَّطوع.

فالالتفات مكروه في الصلاة، ونقص فيها إذا لم يكن هناك سببٌ، أما إذا كان هناك سببٌ فلا بأس، إذا التفت بعنقه للحاجة فلا بأس بهذا، كما ثبت عنه ﷺ أنه قال للصحابة لما صفَّقوا لما نابهم شيءٌ في الصلاة حين تأخَّر عليه الصلاة والسلام في بني عمرو بن عوف، وأصلح بينهم، وأمَّهم الصديقُ، ثم جاء النبيُّ ﷺ والصديق قد كبَّر، وشقَّ الصفوف، وجعل الناسُ يُصفقون حتى التفت الصديقُ فرأى النبيَّ ﷺ، فأشار له النبيُّ ﷺ أن يبقى، فرفع يديه وحمد الله، ثم تأخَّر، وتقدم النبيُّ وصلَّى بالناس، ثم قال ﷺ: إذا ناب أحدَكم شيءٌ في صلاته فليُسبح الرجالُ، ولتُصفق النِّساء، ولم يُنكر على الصديق التفاته للحاجة.

ويُروى عنه عليه السلام أنه التفت إلى الشِّعْب وهو يُصلي، قد كان فيه ناطور، ينظر: هل جاء أم لم يأتِ؟

فالالتفات في الصلاة عند الحاجة بالعنق لا بأس، وعند عدم الحاجة مكروه: هو اختلاسٌ يختلسه الشيطانُ من صلاة العبد.

وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: لا صلاةَ بحضرة الطعام، ولا وهو يُدافعه الأخبثان، وينهى ﷺ أن يبصق أمامه، وعن يمينه؛ فإنَّ الله قبل وجهه، ولكن يبصق عن يساره، أو تحت قدمه، وفي اللفظ الآخر: أو قال هكذا، وبصق في ثوبه وفركه.

فالسنة لمن عرض له البصاقُ ألا يبصق عن يمينه، ولا قدام وجهه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه إذا كان في غير المسجد، أما إذا كان في المسجد فإنه يبصق في منديله أو ثوبه، ولا يبصق في المسجد، ولا عن يمينه، ولا أمامه.

وفي بعض الأيام صلَّى في خميصةٍ كانت لها أعلام، فشُغل بأعلامها، فلما سلَّم أرسل بها إلى أبي جهم وقال: إنَّ ما بها من الأعلام ألهاني عن صلاتي.

فدلَّ على أنه ينبغي على المؤمن ألا يكون عنده شيء يشغله: لا في لباسه، ولا في مُصلاه؛ حتى يكون قلبُه مُقبلًا على الصلاة، لا يشتغل: لا بلباسٍ ولا بغيره، ولا بالتفاتٍ ولا بغيره؛ حتى يكون خاضعًا خاشعًا، قد طرح بصرَه إلى موضع سجوده؛ لأنه في عبادةٍ عظيمةٍ، وهي الصلاة، والله يقول: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1- 2]، يطرح بصرَه في الأرض، ويُقبل على صلاته، ويخشع فيها عند ربِّه، ولا يلتفت، ولا يعبث بشيءٍ، ولا يرفع بصره إلى السَّماء؛ لقوله ﷺ: لينتهينَّ أقوامٌ عن رفع أبصارهم إلى السَّماء، أو لتُخطفَنَّ، وفي اللَّفظ الآخر: أو لا ترجع إليهم.

فلا يجوز رفع البصر إلى السَّماء في الصلاة، بل يخشع ويطرح بصره؛ لأنَّ ذلك أقرب إلى الخشوع وجمع القلب على الله.

وكذلك إذا حضر الطعامُ يبدأ به؛ لأنه لو ذهب وقد حضر الطعامُ تشوش قلبه وتعلق بالطعام إذا كان يحتاج إليه، فإذا قُدم الطعامُ بدأ به قبل الصلاة، ولكن لا يعتاد هذا، لا يجعله عادةً يحطّون له الطعامَ عند وجود الصلاة؛ لأنَّ هذا تعمد للتَّأخر عن الصلاة، لكن لو صادف أنه قُدم الطعامُ وحضرت الصلاةُ فإنه يُقدم الطعام، لو قُدم للضيوف ثم أذَّن يبدؤون بالطعام، وما أشبه ذلك.

كذلك إذا كان يُدافعه الأخبثان: البول أو الغائط، يبدأ بذلك؛ حتى يتخلص منهما؛ لأنه إذا صلَّى وهو يُدافعهما لم يضبط صلاته، ولم يخشع فيها، فإنه يبدأ بقضاء الحاجة، ثم يتوضأ ويتوجه إلى صلاته؛ حتى يأتيها بقلبٍ خاشعٍ.

كذلك حديث: التَّثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدُكم فليكظم ما استطاع.

السنة إذا تثاءب الإنسانُ، والتَّثاؤب معروف، هذه القوة التي تغلب الإنسان حتى يفتح فاه، يُقال لها: التَّثاؤب، فإذا غلب على الإنسان فليكظم ما استطاع، وليضع يده على فيه، ولا يقول: هاه! فإنَّ الشيطان يدخل في فيه، ولكن يكظم ما استطاع، ويضع يده على فيه عند التَّثاؤب إذا عرض له في الصلاة، أو في خارج الصَّلاة.

س: بعض الأمور المعينة على الخشوع في الصَّلاة؟

ج: الإقبال على الصلاة، وتذكر أنه بين يدي الله؛ حتى يخشع، يذكر أنه قائم بين يدي الله، وأنَّ الله حقٌّ بالإجلال والتَّعظيم من التَّشاغل بالوسواس، يستحضر عظمةَ الله، وأنه بين يديه، وأنَّ هذه العبادة عظيمة: الفريضة أو النافلة، والفريضة أعظم، يستحضر عظمةَ الله، وأنه قام بين يديه: كيف يشتغل بغير ذلك؟ حتى يجمع قلبَه على الله، وعلى هذه العبادة.

س: هل يلتفت الإنسانُ في الصلاة إلى شماله لكي يبصق؟

ج: يلتفت يسيرًا بعنقه.

س: إذا بدأت في الصلاة، وكان معي ابني الصغير، وخفتُ أن يشغل الناسَ في خشوعهم، هل يجوز لي قطع الصلاة لكي أُمسك الابن؟

ج: الأصل في هذا وجوب إتمام الصلاة إذا شرع فيها –الفريضة- فإذا تيسر أنه يُسكته بشيءٍ ولا يقطع الصلاةَ، أما إذا أشغله بصياحٍ كثيرٍ ولم يتمكن من ذلك؛ فلا بأس بقطع الصلاة للضَّرورة؛ لئلا يُؤذي الناس، وهو أيضًا لا يضبط صلاته، والذي مثل هذا لا يُؤتى به إلى المساجد، الصِّغار الواجب تركهم في البيوت وعدم الإتيان بهم، إلا إذا كان قد بلغ سبعًا، وإلا يتركه عند أهله، فإذا شوَّش عليه في الصلاة بالصياح الشَّديد الذي يشغله ويشغل مَن حوله فلا بأس حينئذٍ أن يقطعها ويُودِّيه، ثم يحضر الصلاة، وإن أمكن تسكيته أو إشغاله بشيءٍ حتى يُكمل صلاته فعل.

 

بَابُ الْمَسَاجِدِ

251- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَ إِرْسَالَهُ.

252- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وَزَادَ مُسْلِمُ: وَالنَّصَارَى.

253- وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَفِيهِ: أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ.

254- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْلًا، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ... الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

255- وَعَنْهُ : أَنَّ عُمَرَ مَرَّ بِحَسَّانَ يُنْشِدُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الخمسة كلها تتعلق بالمساجد، المساجد شأنها عظيم، وهي بيوت الله في الأرض، ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: خير بقاع الأرض المساجد، وشرُّها الأسواق، فالمساجد هي خير البقاع، وأفضل البقاع، وقد أمر رسولُ الله ﷺ أن تُبنى المساجد، وأن تُنظف، وأن تُطيب في الدُّور، يعني: في الحارات التي يتجمع فيها الناس.

كانت العربُ تُسمي الحارة الكبيرة التي فيها الجمع الكبير: دارًا، ومن هذا: دور الأنصار، دور الأنصار يعني: حارات الأنصار، ومحلّ اجتماعهم، كل محلٍّ فيه جماعة بيوت يُقال لها: دار، فإذا تجمع ناسٌ في البلد، كل حارةٍ كبيرةٍ يكون فيها مسجد يُصلي فيه أهلها إذا اتَّسعت؛ حتى لا يتزاحموا، ولا يشقّ بعضُهم على بعضٍ، وحتى لا يتعب منهم بعيد الدار.

فالمقصود بالدور هي الحارات المتباعدة، الحارات التي يتجمع في كل حارةٍ جمٌّ كبيرٌ يستحق أن يُبنى فيه مسجد، فإذا كانت البلدُ واسعةً، وفيها حارات واسعة، بُني فيها المساجد بقدر الحاجة؛ لاتساع البلد.

وهذه المساجد يُشرع تنظيفها، وأن تُطيب، وأن تُنزه من الدَّنس والقذر، قد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه أمر بتنظيف المساجد، وكانت امرأةٌ تقمُّ المسجدَ، فلما ماتت قال: دلوني على قبرها، فصلَّى على قبرها، وكانت تقمُّ المسجد، وقال: عُرضت عليَّ أجور أمتي، حتى القذاة يُخرجها الرجلُ من المسجد.

فالمسجد له حُرمة كبيرة، فيجب تنظيفه من القذر والبصاق ونحو ذلك، ويجب أن يعمر بطاعة الله: بالصَّلوات، يجب على أهل البلد أن يُصلوا في المساجد، ويجتمعوا في المساجد، ويُشرع لهم تطييبها وتنظيفها.

ولا يجوز بناء المساجد على القبور، وقد ذمَّ الرسولُ ﷺ اليهودَ والنَّصارى بذلك، فقال: لعن الله اليهود والنصارى؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال: كان إذا مات فيهم الرجلُ الصالحُ يعني: النصارى بنوا على قبره مسجدًا، أولئك شرار الخلق عند الله، وقال ﷺ: ألا وإنَّ مَن كان قبلكم يتَّخذون قبورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك، وما ذاك إلا لأنَّ ذلك وسيلة للشرك؛ فإنه إذا بُني على القبور مساجد صار ذلك من أسباب الغلو في القبور والأموات، ودعائهم، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، وهذا هو الشرك الأكبر.

فالبناء على القبور من أسباب الغلو فيها، ومن أسباب عبادة أهلها من دون الله؛ ولهذا زجر النبيُّ عن هذا عليه الصلاة والسلام، ولعن مَن فعل ذلك، فالواجب الحذر من عمل اليهود والنصارى.

وقد نهى الرسولُ عن بناء القبور، وعن تجصيصها، لا يُبنى عليها، ولا تُجصص، ولا يُكتب عليها، كل هذا يُسبب الغلو؛ ولهذا نهى رسولُ الله ﷺ أن يُبنى على القبر، أو يُجصص، أو يُكتب عليه، كل هذا سدًّا لذريعة الشِّرك، وحمايةً للمسلمين من عادة الكفرة من اليهود والنصارى.

ويجوز ربطُ الأسير في المسجد عند الحاجة، لا بأس أن يُربط الأسيرُ من الكفرة؛ حتى يرى الناسَ ويستفيد، لعله يهتدي، وقد ربط النبيُّ ﷺ ثمامةَ بن أثال من بني حنيفة، وكان كافرًا، صادفته خيلُ النبي ﷺ فأسروه في بعض مغازيهم، وجيء به إلى النبيِّ ﷺ أسيرًا، وهو من سادات بني حنيفة، ومن كبارهم، فربطه النبيُّ في المسجد يرى الناسَ ويُشاهد المصلين، وهو من كبار بني حنيفة في نجدٍ، وكان يمرّ عليه النبيُّ ﷺ وهو أسير فيقول له: ما عندك يا ثمامة؟ فيقول له ثمامة: "إن تقتل تقتل ذا دمٍ". يعني: ذا دم عظيم عند قومه، "وإن تُنعم تُنعم على شاكرٍ، وإن تُرد المالَ فسَلْ تُعطه".

هذه كلماته: "إن تقتل تقتل ذا دمٍ" يعني: ذا دم عظيم عند قومه، "وإن تُنعم تُنعم على شاكرٍ، وإن تُرد المال" يعني: فداءً للأسر "فسَلْ منه ما تُريد تُعطى".

فلما رأى النبيُّ كلامه هذا العظيم ثلاث مرات يمرُّ عليه، فقال في الثالثة: أطلقوا ثمامة؛ لأنه أخذ من قوله: "إن تُنعم تُنعم على شاكرٍ" أنه سيُسلم، فأطلقوا ثمامةَ ولم يأخذوا منه شيئًا، فذهب إلى بئرٍ حول المسجد واغتسل، ثم جاء وشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وأسلم .

فدلَّ ذلك على أنه لا بأس أن يأسر الأسير في المسجد؛ ليرى الناسَ، يرى المصلين، ويسمع القُراء، لعله يهتدي، كما فعل مع ثمامة.

وهكذا لما جاء وفدُ ثقيف قبل أن يُسلموا من الطائف أنزلهم في المسجد، مسجده ﷺ، وكان يُؤتى إليهم بضيافتهم في المسجد، حتى هداهم الله وأسلموا وبايعوا على الإسلام، وشرح الله صدورَهم للحقِّ، فلا بأس أن ينزل الضيفُ في المسجد وإن كان كافرًا؛ لعله يُسلم، ولا بأس أن يربط أسيرًا في المسجد إذا رأى وليُّ الأمر ذلك للمصلحة الشَّرعية.

وفَّق الله الجميع.

كذلك إنشاد الشعر يجوز؛ لقصة حسان، كان يُنشده في المسجد، وهو شاعر النبيِّ ﷺ، فلحظ إليه عمرُ يومًا كالمنكِر عليه، فقال له حسان: "قد كنتُ أنشد وفيه مَن هو خيرٌ منك" يعني: الرسول ﷺ، يعني: فأقرني، فدلَّ ذلك على أنه لا بأس بإنشاد الأشعار في المسجد إذا كانت في صالح الإسلام والمسلمين، إذا كانت في الرد على الكفار ودعوتهم إلى الإسلام، فإنَّ شعر حسان كان يُنافح عن النبيِّ ﷺ، ويدعو إلى الإسلام، ويُبين صفات النبيِّ ﷺ وما أعطاه الله من الصِّفات الحميدة والمعجزات العظيمة، وكان يقول له النبي: اللهم أيِّده بروح القدس، يدعو لحسان أن يُؤيد، ويقول له: اهجهم يعني: الكفار فوالذي نفسي بيده إنه لأشدّ عليهم من وقع النبل يعني: من الرصاص الذي يقع عليهم، يعني: هجوك للمُشركين وبيان مثالبهم وعيوبهم ودعوتهم إلى الإسلام هذا لا بأس.

فالأشعار الطَّيبة التي في الدَّعوة إلى الإسلام والردّ على الكفار، وفي الدَّعوة إلى الخير لا بأس أن تُنشد في المسجد، أما الأشعار الماجنة الخبيثة لا، لا خيرَ فيها، لا يجوز إنشادها: لا في المسجد، ولا في غيره، لكن هذه الأشعار الطيبة التي هي الدَّعوة إلى الإسلام، والردّ على الكفار، والترغيب في دين الله، وبيان محاسن الإسلام، هذه الأشعار التي يقولها حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة وغيرهم من شعار النبي ﷺ، ومن شعار المسلمين.

ومثل: نونية ابن القيم في بيان عقيدة السَّلف الصالح وما هم عليه من الخير، ونونية القحطاني، وأشباه الأشعار التي في العقائد الشرعية والأعمال الشرعية، وفي بيان الحديث، أو الفقه الإسلامي، أو الردّ على الكفار، كل هذه أشعار طيبة لا بأس بإنشادها في المسجد؛ لأنها تنفع المسلمين، كما تُتلى في المسجد الأحاديث والفقه والدَّعوة إلى الله، وبيان ما شرعه الله من الأحكام للعباد، كل هذا يُتلى في المسجد لمنفعة المسلمين.

256- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

257- وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

258- وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَا يُسْتَقَادُ فِيهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.

259- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

260- وَعَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ ... الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الخمسة تتعلق بأحكامٍ متعددةٍ في المساجد: منها نشد الضَّوال في المسجد، كونه ينشد الضَّالة يقول: مَن رأى كذا؟ مَن رأى بعيري؟ مَن رأى كذا؟ فنشد الضَّوال في المسجد لا يصلح؛ لأنَّ المساجد لم تُبن لهذا؛ ولهذا قال ﷺ: مَن سمع رجلًا ينشد ضالةً في المسجد فليقل: لا ردَّها الله عليك يعني: عقوبةً، من باب الزَّجر والتَّحذير.

فلا يجوز للناس أن ينشدوا الضَّوال في المسجد: مَن شاف بعيري؟ مَن شاف ناقتي؟ مَن شاف كتابي؟ مَن شاف بشتي؟ لا، يصيح عند الباب خارج المسجد، لا ينشدها في المسجد، لكن إذا كانت له حاجة يكون عند باب المسجد من خارجه: مَن شاف البعير؟ مَن شاف كتابي؟ مَن شاف بشتي؟ مَن رأى كذا؟ عند الباب، لا يُنادي في المسجد.

وهكذا البيع والشِّراء لا يجوز في المساجد، لم تُبن لهذا؛ ولهذا قال ﷺ: مَن رأيتَه يبيع أو يبتاع في المسجد يبيع أو يبتاع يعني: أو يشتري، فقولوا: لا أربحَ الله تجارتَك.

فالبيع والشِّراء لا يصلح في المساجد؛ لأنها لم تُبن للبيع والشِّراء ونشد الضَّوال، ولكن بُنيت لعبادة الله، لا يصلح فيها شيء من هذا، إنما بُنيت للتَّسبيح والتَّكبير وقراءة القرآن وتعليم العلم وإقامة الصلاة، ما بُنيت للبيع والشِّراء ونشد الضَّوال.

وهكذا إقامة الحدود: لا تُقام فيها الحدود، لا جلد، ولا غيره، لا تُقام الحدود: كجلد القذف، أو جلد الزاني البكر، ولا يُستقاد فيها -القود أن يُقتل فيها الإنسان- لأنها لم تُبن لهذا؛ ولأنه إذا جُلد في المسجد أو أُقيد في المسجد قد تخرج منه نجاسة: قد يبول، قد يسيل منه دم يُقذر المسجد، فلا تُقام الحدود في المساجد، ولا يُستقاد فيها.

أما كون المريض يبقى في المسجد لمصلحةٍ فلا بأس، كونه يبقى في المسجد: إما لأنه ليس له مكانٌ يكون فيه، أو لأنَّ ولي الأمر أراده قريبًا منه، أو لأسبابٍ أخرى فلا بأس؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ أن يكون سعدٌ في المسجد، لما أُصيب يوم الخندق جعله في المسجد ليعوده من قريبٍ، جعل له خيمةً في المسجد -في ضاحية المسجد- ليعوده من قريبٍ، لا بأس بكونه مريضًا يبقى في المسجد، كما كان أهلُ السلف صحيحهم ومريضهم في المسجد، فإذا جلس الفقيرُ في المسجد: في حجرةٍ في المسجد، أو في خيمةٍ في صحراء المسجد، فلا حرج في ذلك للمصلحة، إذا كانت هناك أسباب تقتضي ذلك.

والحديث الأخير -حديث عائشة- يدل على فوائد:

منها جواز اللعب في المسجد بالسلاح؛ لأنَّ الرسول أقرَّ الحبشةَ يلعبون بالسلاح -بحرابهم- ولأنَّ هذا من أمر الجهاد، كونه يعمل بالسلاح: بالحراب والرماح في المسجد ليتمرَّنوا على الحرب والجهاد فلا بأس.

وكونه تنظر إليهم النساء أو غير النساء فلا بأس، والنبي كان أقرَّ عائشةَ على أن تنظر إليهم من بعيدٍ، من ورائه، من عند كتفه تنظر إليهم وهم يلعبون، دلَّ على جواز نظر المرأة إلى اللاعبين أو جماعة المجتمعين لأسبابٍ أخرى، فلا بأس، إنما يحرم النَّظر إذا كان يخشى فتنةً: كالنظر إلى الرجال لقصد الفتنة، أو نظر المعين، أما نظر عموم الناس في الطُّرقات ما يضرّ، كونها تنظر إلى عموم الناس في الطُّرقات حتى تعرف طريقها، أو جماعة يتسابقون نظرت إليهم من طريقٍ مستورةٍ فلا بأس، كما نظرت عائشةُ إلى الحبشة من وراء النبيِّ ﷺ من طريق كتفه، يسترها من الناس عليه الصلاة والسلام، لا حرج في ذلك.

وفَّق الله الجميع.

 

بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ

267- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَلِابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ: حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا.

268- وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بن رافع عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ: حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا.

وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: فَأَقِمْ صُلْبَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ.

وَلِلنَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ: إِنَّهَا لَنْ تَتِمَّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ اللَّهَ، وَيَحْمَدَهُ، وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَفِيهَا: فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ، وَإِلَّا فَاحْمَدِ اللَّهَ، وَكَبِّرْهُ، وهَلِّلْهُ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللَّهُ.

وَلِابْنِ حِبَّانَ: ثُمَّ بِمَا شِئْتَ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذا الحديث العظيم في بيان صفة الصلاة، وقد أوضح النبيُّ ﷺ في هذا الحديث بيان صفة الصلاة من أولها إلى آخرها، وكان سببُ هذا أنَّ أعرابيًّا -يعني: بدويًّا- دخل المسجدَ والنبي جالس، فصلَّى ونقر صلاته، فلم يتم ركوعها ولا سجودها، فجاء وسلَّم على النبي ﷺ، فردَّ ، ثم قال: يا عبدالله، ارجع فصلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ، فرجع وصلَّى كما صلَّى؛ ينقرها، ثم جاء فسلَّم على النبيِّ ﷺ، فردَّ عليه النبيُّ السلامَ وقال: ارجع فصلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ، فرجع فصلَّى كما صلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبي ﷺ، فردَّ عليه وقال: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تُصلِّ، حتى فعلها ثلاثًا، ثم قال: والذي بعثك بالحقِّ نبيًّا، لا أُحسن غير هذا، فعلمني.

يقول: هذه صلاتي، هذا الذي عندي، هذا اجتهادي، علِّمني، والنبي كرر عليه الرجوع لعله ينتبه، ولينتبه غيره أيضًا من الحاضرين، كرر عليه: ارجع، ارجع؛ لينتبه لأخطائه، وليعلم الناس أسباب أخطائه، فلما قال الأعرابيُّ: يا رسول الله، ما أُحسن غيرها. يعني: هذه صلاتي، فقال له النبيُّ ﷺ: إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوءَ، كأنه ﷺ ظهر له من حاله وجهله أنه لا يُحسِن الوضوء أيضًا، فنبهه على الوضوء، فقال: إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء يعني: توضأ وضوءًا كاملًا: غسل وجهه ويديه، ومسح رأسه وأذنيه، وغسل رجليه.

ثم استقبل القبلةَ فكبِّر هكذا المصلي يستقبل القبلة بعد ذلك، ثم يُكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، وفي اللفظ الآخر: ثم اقرأ بأمِّ القرآن وبما شاء الله، إذا كبَّر يقرأ بأمِّ القرآن، هذا يدل على أنَّ الاستفتاح ما هو بواجبٍ، سنة، كونه يستفتح مستحبّ، كونه يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك"، أو يأتي بغيرها من الاستفتاحات مثل: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد"، هذا استفتاح ثانٍ أيضًا، لكن مستحبُ إذا كبَّر تكبيرة الإحرام يستفتح، هذا أفضل، يقول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، يُسمَّى: استفتاحًا قبل أن يقرأ، وإن شاء استفتح بالنوع الثاني: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوبُ الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد"، كان يأتي بهذا النبيُّ قبل أن يقرأ في الركعة الأولى.

وبعد هذا الاستفتاح يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ثم يقرأ الفاتحة، أم القرآن، وهي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:2- 3]، هي أم القرآن، وهي أعظم سورةٍ في القرآن، وهي أفضل سورةٍ في القرآن، وهي ركن الصلاة.

ثم بعدها يقرأ ما يسَّر الله له من الآيات، أو سورةً أخرى؛ ولهذا قال: اقرأ بأمِّ القرآن، ثم بما شاء الله يعني: ما تيسر من القرآن بعد الفاتحة، فإن لم يكن عنده علمٌ بالفاتحة سبَّح الله وحمده وكبَّره وهلله، العاجز الذي ما يضبط الفاتحةَ، عاجز، يأتي بالتَّسبيح بعد هذا: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" بدلًا منها، و"لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ لما يأتي من حديث عبدالله ابن أبي أوفى: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن أتلو من القرآن شيئًا، فعلِّمني. قال: إذا قمتَ إلى الصلاة فقل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إذا كان ما يُجيد الفاتحةَ، ولا يعرف الفاتحةَ يأتي بهذا، إذا كبَّر التكبيرة الأولى يقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم يقرأ، لكن الواجبَ عليه أن يتعلم الفاتحةَ.

الواجب على المؤمن أن يتعلم الفاتحةَ؛ حتى يأتي بها في كل ركعةٍ، سواء كان إمامًا أو مُنفردًا يتعلم.

ثم بعد القراءة -بعد الفاتحة وما يسَّر الله بعدها- يركع، يُكبر ويركع في الهواء، يُسوي ظهره، يجعل رأسَه حيال ظهره ويقول: "سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، وهو راكع، ويضع يديه على ركبتيه، يعتمد على ركبتيه، ويُسوي ظهره، يجعل رأسه حيال ظهره ويقول: "سبحان ربي الأعلى"، يُكررها ثلاثًا وأكثر، ويُستحب أن يقول مع هذا: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، سبُّوح قدوس ربّ الملائكة والروح"، والواجب "سبحان ربي العظيم" مرة، هذا الواجب، لكن تكرارها أفضل.

كذلك يقول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، هذا أيضًا مستحبّ، كذلك "سبوح قدوس ربّ الملائكة والروح" مستحبّ أيضًا في الركوع والسجود.

ثم يرفع من الركوع قائلًا -إن كان مُنفردًا أو إمامًا- "سمع الله لمن حمده"، أما المأموم فيقول: "ربنا ولك الحمد"، أو "اللهم ربنا لك الحمد" عند الرفع من الركوع، ثم يُكمل يقول: "حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السَّماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد" للإمام والمنفرد والمأموم، كلهم يقول هذا، لكن الإمام يقول: "سمع الله لمن حمده"، وهكذا المنفرد، ثم بعدها يقول: "ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السَّماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد"، والمأموم يقول مثل ذلك، لكن المأموم يقول: "ربنا"، ما يقول: "سمع الله لمن حمده"، المأموم يقول بعد رفع الإمام يقول: "ربنا ولك الحمد"، أو "اللهم ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد".

ثم يُكبر ساجدًا، الإمامُ والمنفردُ والمأمومُ بعد هذا يُكبر ساجدًا على سبعة أعضاء: على وجهه -جبهته وأنفه- وكفَّيه وركبتيه وأطراف قدميه. هذه السبعة، يسجد على جبهته وأنفه، هذا واحد، وعلى كفَّيه، هذه ثلاثة، وركبتيه، خمسة، وأطراف قدميه، سبعة، على سبعة أعضاء كما كان النبيُّ يسجد ويأمر بهذا عليه الصلاة والسلام.

ويقول: "سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى" في سجوده، ويدعو ربَّه في السجود، يقول النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجد، فأكثروا الدُّعاء، ويقول ﷺ: أما الركوع فعظِّموا فيه الربّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدُّعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم، ويقول في السُّجود: "سبحان ربي الأعلى"، يدعو، يُكثر من الدعاء، أما في الركوع فيقول: "سبحان ربي العظيم" كما تقدم، وفي السُّجود يُكثر من الدُّعاء؛ لأنه حريٌّ بالإجابة في السُّجود.

ثم ينهض، يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى بين السَّجدتين، يطمئن حتى يرجع كل فقارٍ إلى مكانه، يطمئن، لا يعجل، يُكبر لسجود الثانية ويطمئن في السُّجود على سبعة أعضاء، يطمئن ويقول: "سبحان ربي الأعلى" يُكررها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا مع الدُّعاء، ثم يأتي بالركعة الثانية، وهكذا كما علَّم النبيُّ أصحابَه عليه الصلاة والسلام.

ومن المهم أن يعتني بالطُّمأنينة، بعض الناس ينقر الصلاة نقرًا، وهذا يُبطل الصلاة، والواجب على كل مؤمنٍ أن يطمئن ولا يعجل في صلاته، يطمئن في الفريضة والنَّافلة، يقرأ بطُمأنينةٍ، ويركع بطُمأنينةٍ، ويرفع ويطمئن وهو واقف، لا يعجل، وإذا سجد يطمئن حتى يرجع كل فقارٍ إلى مكانه، وإذا سجد جلس بين السَّجدتين يطمئن ولا يعجل، وهكذا في السجود الثاني لا يعجل، يكون مطمئنًّا لا يعجل، خاشعًا لربه في جميع حالات الصلاة، لا يعجل فيها، يُصلي بخشوعٍ وهدوءٍ وطُمأنينةٍ.

وفَّق الله الجميع.

س: كيف نُوفق بين قوله: ثم يُكبر الله تعالى ويحمده ويُثني عليه وبين قوله: لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأم الكتاب؟

ج: العاجز يكفيه التَّسبيح إذا عجز ما استطاع أن يأتي بالفاتحة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، بعض الناس يعجز، بعض العامة يعجز أن يحفظ، وإذا عجز يُسبح، يقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله" بدلها إذا عجز.

س: رجل أتى والإمام يقرأ في الصلاة الجهرية، فهل يقول دعاء الاستفتاح أم لا؟

ج: لا، يُنصت، يُكبر ويُنصت، إذا كان جاء والإمامُ يقرأ يُكبر ويُنصت، لا يأتي بدعاء الاستفتاح ولا شيء، ولكن يقرأ الفاتحةَ، لا يُخلي الفاتحة، يقرأها والإمام يقرأ، يقرأها ثم يُنصت، يقرأ الفاتحة.

س: ما حكم فرقعة الأصابع بين الأذان والإقامة؟

ج: فرقعة الأصابع مكروهة إلا من حاجةٍ، إن كانت لها حاجة وإلا فمكروهة.

س: إمام جماعةٍ في صلاة الظهر كبَّر للركوع بصوتٍ مُنخفضٍ، ثم أعاد التكبير بصوتٍ مرتفعٍ، فهل عليه سجود سهوٍ لأنه زاد في التَّكبير؟

ج: ما عليه سجود سهوٍ؛ لأنه أتى ..... في غير موضعه، لو سجد لا بأس، لكن السنة له أن يرفع الصوتَ حتى يُسمع مَن وراءه، رفع الصوت في التكبيرات كلها، وعند "سمع الله لمن حمده"؛ حتى يُسمع الناس، حتى ينتبهوا يرفع صوته ولا يُكرر، يرفع صوته ويكفي، لكن لو كبَّر تكبيرًا مُنخفضًا وظنَّ أنه ما أسمع الناس وكبَّر ثانيةً حتى يُسمع الناس لا حرج، ما في بأس.

 

261- وَعَنْهَا: أَنَّ وَلِيدَةً سَوْدَاءَ كَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي ... الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

262- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

263- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

264- وَعَنِ ابْنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

265- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى الْقَذَاة يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

266- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُم الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الستة كلها تتعلق بشؤون المساجد، فالمساجد هي بيوت الله في الأرض، كما قال النبي ﷺ: أحبُّ البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها، فالمساجد هي بيوت الله كما قال جلَّ وعلا: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۝ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:36- 37].

وأمر ﷺ أن تُنظف المساجد، وأن تُطيب، فهي بيوت الله، يُشرع تطييبها وتنظيفها؛ ولهذا يقول ﷺ: عُرضت عليَّ أجور أمتي، حتى القذاة يُخرجها الرجلُ من المسجد.

وكانت امرأةٌ تقمُّ المسجد، ليس لها مأوى، فضرب لها النبيُّ خيمةً في المسجد -خباء- ولما ماتت وهي تقمّ المسجد ولم يُخبروه، كانت ليلًا، وصلّوا عليها ليلًا ولم يُخبروه ﷺ، قال: دلوني على قبرها، فدلوه على قبرها، وصلَّى عليها وهي كانت تقمّ المسجد -تُنَظِّف المسجد-.

والمساجد مع كونها بيوت الله ومُعظمة، لكن لا يجوز التَّباهي فيها، والزخرفة التي لا حاجةَ إليها، تُبنى بالجصِّ، وعدم الزخرفة؛ ولهذا يقول ﷺ: لا تقوم الساعةُ حتى يتباهى الناسُ في المساجد في بنائها وتشييدها وزخرفتها ونحو ذلك، والمقصود عمارتها بطاعة الله: بالصلاة والقراءة والعكوف ونحو ذلك، ما هو بالتَّشييد الذي لا حاجةَ إليه؛ ولهذا في حديث ابن عباسٍ: ما أُمِرْتُ بتشييد المساجد يعني: كونها يُعمل فيها ما لا حاجةَ إليه من التَّكلف، المهم ضبطها وبنايتها بنايةً قويةً ثابتةً لا خطرَ فيها، ولا تُشرع المباهاة فيها والزخارف.

ويقول ﷺ: إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلا يجلس حتى يُصلي ركعتين، من حقِّ المسجد إذا دخله الإنسانُ ألا يجلس حتى يُصلي ركعتين، وفي اللفظ الآخر: فليركع ركعتين قبل أن يجلس، وهذا يعمّ أوقات النَّهي وغير أوقات النَّهي، حتى ولو دخل بعد العصر، أو بعد الفجر؛ لأنَّ هذه من ذوات الأسباب، مثل: صلاة الكسوف، لو كسفت الشمسُ بعد العصر شرع له الصلاة؛ لأنها من ذوات الأسباب، وهكذا صلاة الجنائز، إذا حضرت جنازةٌ بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر صُلِّي عليها، من ذوات الأسباب.

ولا يجوز البصاق في المسجد، المسجد لا يُتفل فيه: لا في جدرانه، ولا في أرضه، المسجد مُحترم، فلا يجوز البصاق فيه، ولا التَّمخط فيه، ولا إراقة المياه فيه والأذى، ولا الأوساخ، يجب تنظيفه وتطهيره؛ ولهذا سمَّى النبيُّ ﷺ البصاقَ في المسجد: خطيئةً، قال: البصاق في المسجد خطيئة، وكفَّارتها دفنها، إذا كانت في رملٍ أو ترابٍ ودُفنت زال المحذور، أما إذا كان لها أثر تُزال، تُشال وتُنقل وتُلقى خارجًا، أما إذا كان لا أثرَ لها ودُفنت بتراب المسجد ذهب أثرها، لكن لا يجوز البصاق فيه، لكن متى وُجدت أُزيلت بالتراب، أو دُفنت، إلا أن يكون لها جرمٌ وأثرٌ تُنقل وتُلقى من خارجٍ، كما يُلقى العود والعظم وكل شيءٍ فيه أذى يُنقل من المسجد، حتى القذاة تُخرج من المسجد، ويبقى نظيفًا للمصلين والقُراء والعاكفين.

وفَّق الله الجميع.

269- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

270- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي للذي فطر السَّماوات والأرض ... إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ ... إِلَى آخِرِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذان الحديثان الصَّحيحان: من حديث أبي حميدٍ السَّاعدي الأنصاري، ومن حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ الهاشمي رضي الله عنهما جميعًا، في الأول بيان صفة صلاة النبي ﷺ من أولها إلى آخرها، أبو حميدٍ الأنصاري ممن روى صفةَ صلاة النبي ﷺ من أولها إلى آخرها، وقد رواها جماعةٌ من أصحاب النبي ﷺ، منهم أبو حميدٍ.

كان ﷺ إذا كبَّر أول ما يُكبر يرفع يديه حيال منكبيه قائلًا: الله أكبر، أول ما يُحرم يرفع يديه: اليمنى حيال المنكب الأيمن، واليسرى حيال المنكب الأيسر، مادًّا يديه، مادًّا أصابعه، ويقول: الله أكبر، وفي بعض الأحيان يرفعهما حيال أذنيه في حديث أبي مالك ابن الحويرث، تارةً وتارةً، تارةً حيال منكبيه، وتارةً حيال أذنيه، ثم يُكبر، ثم يضع يمينه على شماله على صدره، ويقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقى الثوبُ الأبيضُ من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد، وهذا يُسمَّى: دعاء الاستفتاح، سأله أبو هريرة عنه قال: يا رسول الله، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد متَّفق على صحته.

وفي بعض الأحيان يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك بدلًا من اللهم باعد بيني وبين خطاياي يعني: بعد التكبيرة الأولى، ويُسمَّى هذا: دعاء الاستفتاح، وهو سنة، مستحب، وليس بلازمٍ، مستحب، مَن فعله فله أجره، ومَن ترك فلا شيء عليه.

ثم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويُسمي ويقرأ الفاتحة، كما جاءت النصوص بذلك، يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم"، ثم يقرأ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة].

هكذا كان يفعل عليه الصلاة والسلام، وفي بعض الأحيان يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه"، تارةً كذا، وتارةً كذا، تارة يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وتارة يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه"، ثم يُسمي يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ثم يقرأ الفاتحة.

همزه: الشيطان، همز الشيطان. ونفخه: الكبر، ونفثه: الشّعر.

وكان يُرتل القراءة، يُرتلها عليه الصلاة والسلام؛ يقف عند رؤوس الآي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:2- 7]، هكذا يقف على رؤوس الآي كما روت أم سلمة.

ويداه على صدره: اليمنى على اليسرى على صدره حال وقوفه، ثم يقرأ ما تيسر بعد الفاتحة، يقرأ بعض السور، أو بعض الآيات؛ لأنَّ الله يقول: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20]، والنبي يقول: ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن يعني: بعد الفاتحة، ويُطيل في الركعة الأولى أكثر من الثانية غالبًا، غالبًا تكون الأولى أطول من الثانية، وربما تساوتا، أو تقاربتا.

ثم عند الركوع يرفع يديه حتى يُحاذي منكبيه أو أذنيه، مادًّا أصابعه، ويقول: "الله أكبر"، عند الركوع يرفع يديه حيال منكبيه أو حيال أذنيه ويقول: "الله أكبر"، ثم يضعهما على ركبتيه، ويمد ظهره، ويهصر ظهره، ويجعل رأسه حيال ظهره، كما قال أبو حميدٍ، هذا هو الأفضل في الركوع: يكون رأسه حين ركوعه حيال ظهره، مستويًا مع ظهره، يقول: "سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم"، والأفضل أن يُكررها ثلاثًا، ويقول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، سبوح قدوس ربّ الملائكة والروح"، كل هذا مُستحبّ، وإن كرر قوله "سبحان ربي العظيم" خمس مرات، أو سبع مرات، كله طيب، كله حسن، ربما كررها ثلاثًا، وربما كررها خمسًا، وربما كررها سبعًا عليه الصلاة والسلام، وربما كررها عشرًا كما قال أنس.

فالمقصود أنه يقول في الركوع: "سبحان ربي العظيم" يُكررها ثلاثًا أو أكثر في الفرض والنَّفل، ويقول مع ذلك: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، هذا هو الأفضل: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح"، وربما قال: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة".

ثم يرفع رأسه، ويرفع يديه أيضًا، مادًّا أصابعه، وتكون حيال منكبيه، يرفعهما حيال منكبيه، أو حيال فروع أذنيه، قائلًا: "سمع الله لمن حمده"، هذا الإمام، وهكذا المنفرد: يرفع يديه حيال منكبيه أو حيال أذنيه عند رفعه من الركوع، ويقول عند ذلك: "سمع الله لمن حمده" إذا كان إمامًا أو مُنفردًا، أما إن كان مأمومًا فيقول: "ربنا ولك الحمد" عند الرفع، يرفع يديه ويقول عند الرفع: "ربنا ولك الحمد"، أو "اللهم ربنا لك الحمد"، كل هذا ثابت عنه عليه الصلاة السلام، ثم يُكمل: "حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد"، يقوله الإمامُ والمأمومُ والمنفردُ حال انتصابه، ينتصب بعد الركوع حتى يرجع كل فقارٍ إلى مكانه، ينتصب ويطمئن حتى يعود كل فقارٍ إلى مكانه بعد الركوع، وإن زاد: "أهل الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبدُ، وكلنا لك عبدٌ، لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ" هذا حسن، يفعله النبيُّ بعض الأحيان عليه الصلاة والسلام.

بعد الرفع من الركوع إذا استوى يقول: "ربنا ولك الحمد"، الإمام والمأموم يقول: "ربنا ولك الحمد" عند الرفع، الإمام عند الرفع يقول: "سمع الله لمن حمده"، والمنفرد كذلك، وبعدما يستوي قائمًا يقول: "ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد"، والمأموم يقول مثل ذلك، لكن المأموم عند الرفع يقول: "ربنا ولك الحمد"، ما يقول: "سمع الله لمن حمده"، المأموم يقول: "ربنا ولك الحمد"، أو "اللهم ربنا لك الحمد".

وإذا زاد بعد قوله: "ملء ما شئتَ من شيءٍ بعد" إذا زاد بعدها: "أهل الثناء والمجد" يعني: أخصّ أهل الثناء والمجد، أو أهل الثناء والمجد يعني: أنت أهل الثناء والمجدّ. "أحقّ ما قال العبدُ، وكلنا لك عبدٌ، لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ"، الجدّ: الغنى، "ولا ينفع ذا الجدّ" يعني: ذا الغنى، منك غناه، كل الناس فقراء إلى الله، لا يُغنيهم غناهم عن الله، ولا ينفعهم غناهم عن الله، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

فمعنى "ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ" يعني: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، بل الجميع فقراء إليك يا ربنا.

ثم بعد ذلك يخرُّ ساجدًا، ولا يرفع يديه، يخرُّ ساجدًا مُرخيًا يديه، لا يرفعهما عند سجوده، ويسجد على الأرض على السبعة الأعضاء: على جبهته وأنفه، وعلى كفَّيه، وركبتيه، وأطراف قدميه، هذا السجود، يقول ﷺ: أُمِرْتُ أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة -وأشار إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين، هكذا كان يفعل، إذا سجد في الفرض والنَّفل يضع جبهته على الأرض على المصلَّى: الجبهة والأنف والكفَّين والركبتين وأطراف القدمين، ويعتمد على بطون أصابع رجليه، ينصب رجليه ويعتمد على بطون الأصابع حال سجوده، ويطمئن حتى يرجع كل فقارٍ إلى مكانه في سجوده، لا يعجل، يطمئن، ويقول: "سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى" ثلاث مرات أو أكثر: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، يدعو، يُستحبّ له الدعاء في سجوده، يقول النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح: أما الركوع فعظِّموا فيه الربّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدُّعاء، فقمنٌ أن يُستجاب لكم، "فقمن" يعني: حريّ أن يُستجاب لكم.

ويقول ﷺ: أقرب ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء، فيُستحب الدعاء في السجود.

ومن دعائه ﷺ في السجود: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقّه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسرّه، يُستحب الدعاء في السجود: "اللهم اغفر لي وارحمني، اللهم أصلح قلبي وعملي، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، وما أشبه ذلك من الدَّعوات الطيبة.

ثم يرفع مُكبِّرًا، ولا يرفع يديه، يُكبر غير رافعٍ يديه، ويجلس بين السَّجدتين على رجله اليسرى، هذا الأفضل، وينصب اليمنى ويقول: "ربي اغفر لي، ربي اغفر لي، اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، واجبرني، وارزقني، وعافني"، ويكون جلوسه على رجله اليسرى إذا تيسر، إذا استطاع يفرشها ويجلس عليها، وينصب اليمنى بين السَّجدتين ويطمئن، ولا يعجل، ويقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي، اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، واجبرني، وارزقني، وعافني"، ثم يسجد الثانية، يُكبر ويسجد الثانية من دون رفع يدين، يُكبر ويسجد للثانية، ويقول فيها مثلما قال في السُّجود الأول: "سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى"، ويدعو فيها في سجوده مثلما دعا في السجود الأول: "اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، واجبرني، وارزقني، وعافني، اللهم أصلح قلبي وعملي، اللهم يا مُقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مُصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك"، يدعو بدعوات طيبةٍ.

ويطمئن في سجوده على سبعة أعضاء: جبهته وأنفه وكفَّيه وركبتيه وأطراف قدميه، هذا السجود، ويرفع بطنه عن فخذيه، لا يلصق بطنه بفخذيه، بل يرفع بطنه عن فخذيه، يُفرج بين يديه، لا يلصق، يُفرج بين يديه، لا يلصق عضديه في جنبيه، لا، يُفرج بين عضديه وجنبيه، هذا هو السنة: يُفرج بين بطنه ورجليه، يرفع بطنه عن فخذيه حال السجود.

ثم يُكبر ويرفع للركعة الثانية، وإن جلس جلسة الاستراحة قليلًا بعد الركعة الأولى في السجود الثاني، إذا جلس قليلًا فمُستحبٌّ، ثم يرفع ليقوم للركعة الثانية.

هذا هو صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، وهكذا في التشهد الأول: يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى، ويأتي بالتشهد الأول، ويُصلي على النبي، ثم ينهض للركعة الثالثة مُكبِّرًا رافعًا يديه، فإذا قام من التَّشهد الأول يرفع يديه أفضل عند قيامه من التشهد الأول قائلًا: "الله أكبر"، عند قيامه من التشهد الأول في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، هذا هو الأفضل؛ لفعله عليه الصلاة والسلام.

وفي الركعة الثالثة والرابعة يقرأ الفاتحة فقط، هذا هو الأفضل: يقرأ الفاتحة، ثم يركع في الثالثة والرابعة، وإن قرأ زيادةً في الثالثة والرابعة في الظهر بعض الأحيان فلا بأس؛ كان النبي يفعله بعض الأحيان في الظهر في الثالثة والرابعة، في الظهر بعض الأحيان، أما في الثالثة والرابعة في العصر، والثالثة في المغرب، والثالثة والرابعة في العشاء فالفاتحة تكفي، وإن قرأ في الثالثة من المغرب زيادةً فقد ثبت عن الصديق أنه كان يقرأ في الثالثة من المغرب بعد الفاتحة: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، ثبت هذا عن الصديق ، كان يقرأها في الثالثة من المغرب بعد الفاتحة: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.

وفَّق الله الجميع، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.

275- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

276- وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ.

277- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَكِنْ قَالَ: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ.

278- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

279- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: لَا تَجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ.

وَفِي أُخْرَى لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ: لَعَلَّكُمْ تقرؤون خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا.

280- وَعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الصَّحيحة في بيان صفة صلاة النبي ﷺ، وما ينبغي للمؤمن في الصلاة، سبق في هذا الباب أحاديث: منها حديث أبي حميدٍ الساعدي : أنه ﷺ كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه وكبَّر، ثم يأتي بالاستفتاح، ثم يقرأ، وإذا أراد الركوع رفع يديه وكبَّر، وهكذا إذا رفع من الركوع رفع يديه، وكان يجعلها حيال أذنيه.

وهكذا جاء في حديث ابن عمر هنا، حديث ابن عمر يقول : كان النبي ﷺ إذا كبَّر في الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع كذلك، وإذا رفع كذلك، هذا هو السنة، السنة للمُصلي في الفرض والنَّفل عند الإحرام: يرفع يديه حيال منكبيه، وعند الركوع كذلك يرفعهما حيال منكبيه، وعند الرفع من الركوع يرفعهما حيال منكبيه، وربما رفعهما ﷺ إلى ما يُحاذي أذنيه -فروع أذنيه- في بعض الأحيان، كما في حديث مالك بن الحويرث.

فالسنة أن تُرفع الأيدي عند الركوع وعند الإحرام والركوع والرفع منه إلى ما يُحاذي الأذنين، أو إلى فروع أذنيه تارةً، وتارةً إلى حذو منكبيه، وتارةً يرفعهما إلى فروع أذنيه، وهكذا جاء في الرواية الأخرى عند البخاري: أنه إذا قام من التَّشهد الأول يرفعهما أيضًا، إذا قام من التَّشهد الأول للثالثة يُكبر ويرفع يديه في هذا الموضع الرابع.

فالمواضع أربعة، كلها تُرفع فيها الأيدي: عند الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول إلى الثالثة، يرفعهما حيال منكبيه، وفي بعض الأحيان إلى حيال أذنيه عليه الصلاة والسَّلام.

وحديث عُبادة يدل على أنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، فيجب على المؤمن أن يقرأ بفاتحة الكتاب، وحديث وائل يدل على أنه يضع يديه على صدره حال وقوفه، إذا حطّهما وضعهما على صدره: اليمنى على اليسرى على صدره حال وقوفه قبل الركوع وبعده، هذا هو الأفضل: يضعهما على صدره حال وقوفه قبل الركوع وبعده.

والسنة لمن قرأ الفاتحةَ أن يبدأ بالتَّعوذ والبسملة، يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم"، ثم يقرأ الفاتحة، وإن قال: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم" كذلك كله سنة، تارةً يقول ﷺ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتارة يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه، ونفثه كله سنة، قال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، ثم يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ثم يقرأ "الحمد"، وهذه السورة لا بدّ منها؛ لقوله ﷺ: لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وفي اللفظ الآخر: لا تُجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وقال لأصحابه : لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها.

فعلى المأموم والإمام والمنفرد أن يقرأ الفاتحةَ، لكنها في حقِّ الإمام والمنفرد ركن لا بدَّ منه، في حقِّ الإمام والمنفرد لا بدَّ منها، ركن، لا تصحّ الصلاة إلا بها، أما المأموم فهي واجبة في حقِّه، لو جاء والإمام راكع أجزأه الركوع، وسقطت عنه الفاتحة، إذا جاء والإمام راكع، وهكذا لو نسيها المأموم أو جهلها أجزأته صلاته، لكن في حقِّ الإمام والمنفرد لا بدَّ منها، لا تسقط عن الإمام، ولا المنفرد، لا سهوًا، ولا عمدًا، ولا جهلًا.

وهذه السورة هي أم الكتاب، وهي أعظم السور، هي أم الكتاب، وهي أعظم سورةٍ في كتاب الله: الفاتحة، والسنة ألا يجهر بالتَّعوذ والتسمية، الإمام في الجهرية -كالمغرب والعشاء والفجر والجمعة- يُسمِّي سرًّا، ويتعوذ سرًّا، ثم يجهر بالفاتحة في الأولى والثانية من المغرب والعشاء، وفي الفجر، وفي صلاة الجمعة، وصلاة الاستسقاء والكسوف يجهر، وفي الثالثة من المغرب والثالثة والرابعة من العشاء يُسِرُّ، وفي صلاة الظهر يُسِرُّ، وفي العصر يُسِرُّ؛ تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكن لا مانع من إسماع المأمومين بعض الأحيان، كونه في السرية يُسمعهم بعض الآيات حتى يعلموا قراءته، لا بأس أن يرفع صوته قليلًا في بعض الآيات في السرية حتى تُعلم قراءته.

وفَّق الله الجميع.