ثم إنَّ المخالفة -كما سنُبينه- تارةً تكون في أصل الحكم، وتارةً في وصفه.
ومجانبة الحائض لم يُخالفوا في أصله، بل خُولفوا في وصفه؛ حيث شرع اللهُ مقاربةَ الحائض في غير محلِّ الأذى، فلما أراد بعضُ الصحابة أن يعتدي في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله، تغيَّر وجهُ رسول الله ﷺ.
وهذا الباب -باب الطَّهارة- كان على اليهود فيه أغلال عظيمة، فابتدع النَّصارى ترك ذلك كله؛ حتى إنهم لا ينجسون شيئًا، بلا شرعٍ من الله، فهدى الله الأمةَ الوسط بما شرعه لها إلى وسطٍ من ذلك، وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضًا مشروعًا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود، وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ.
وعن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة قال: كنتُ وأنا في الجاهلية أظن أنَّ الناس على ضلالةٍ، فإنهم ليسوا على شيءٍ، وهم يعبدون الأوثان. قال: فسمعتُ برجلٍ بمكة يُخبر أخبارًا، فقعدتُ على راحلتي، فقدمتُ عليه، فإذا رسول الله ﷺ مُستخفيًا، جرآء عليه قومه، فتلطفتُ حتى دخلتُ عليه بمكة، فقلتُ له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، فقلتُ: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، فقلتُ: بأي شيءٍ أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوحد الله لا يُشرك به شيء، فقلتُ له: مَن معك على هذا؟ قال: حرٌّ وعبدٌ، قال: ومعه يومئذٍ أبو بكر وبلال، فقلتُ: إني مُتَّبعك، قال: إنَّك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعتَ بي قد ظهرتُ فائتني، قال: فذهبتُ إلى أهلي، وقدم رسولُ الله ﷺ المدينة، وكنتُ في أهلي، فجعلتُ أتخبَّر الأخبار وأسأل الناسَ حين قدم نفرٌ من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلتُ: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سِراع، وقد أراد قومُه قتلَه فلم يستطيعوا ذلك. فقدمتُ المدينة، فدخلتُ عليه، فقلتُ: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: نعم، أنت الذي لقيتني بمكة، قال: فقلتُ: يا نبي الله، أخبرني عمَّا علَّمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة. قال: صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمسُ، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطانٍ، وحينئذٍ يسجد لها الكفَّار، ثم صلِّ، فإنَّ الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقلَّ الظلُّ بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة؛ فإنَّ حينئذٍ تُسجر جهنم، فإذا أقبل الفيءُ فصلِّ، فإنَّ الصلاة مشهودة محضورة، حتى تُصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطانٍ، وحينئذٍ يسجد لها الكفَّار. وذكر الحديثَ، رواه مسلم.
فقد نهى النبيُّ ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب، مُعلِّلًا بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطانٍ، وأنه حينئذٍ يسجد لها الكفَّار.
ومعلوم أنَّ المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أنَّ طلوعها وغروبها بين قرني شيطانٍ، ولا أنَّ الكفار يسجدون لها، ثم إنَّه ﷺ نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسمًا لمادة المشابهة بكل طريقٍ.
الشيخ: والمقصود من هذا أنها مُشابهة للكفار؛ ولهذا نهانا ﷺ عند طلوع الشمس وعند غروبها حتى لا يتشبَّه المؤمنُ بأعداء الله.
س: إذا كانت العلَّةُ مشابهةَ الكفَّار فلم رخَّص في ذوات السَّبب؟
الشيخ: لأنَّ العلة مُنتفية، إذا صلَّى بغير سببٍ جاءت المشابهة، أما إذا صلَّى بعلةٍ فإنَّ العلة تمنع المشابهة، صلَّى لعلة صلاة الجنازة، صلَّى لعلة الطواف بالبيت، لعلة الكسوف، هو صلَّى لأجل هذه العلة، بعيدًا عن مُشابهة الكفَّار.
ويظهر بعض فائدة ذلك: بأنَّ من الصَّابئة المشركين اليوم ممن يُظهر الإسلام ويُعظم الكواكب، ويزعم أنه يُخاطبها بحوائجه، ويسجد لها، وينحر ويذبح.
وقد صنَّف بعضُ المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصَّابئة والبراهمة كتبًا في عبادة الكواكب؛ توسُّلًا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة وغيرها، وهي من السحر الذي كان عليه الكنعانيون الذين ملوكهم النَّماردة الذين بعث اللهُ الخليلَ صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية وإخلاص الدِّين كله لله إلى هؤلاء المشركين.
فإذا كان في هذه الأزمنة مَن يفعل مثل هذا تحقَّقت حكمةُ الشارع صلوات الله وسلامه عليه في النَّهي عن الصلاة في هذه الأوقات؛ سدًّا للذريعة، وكان فيه تنبيه على أنَّ كلَّ ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرًا أو معصيةً بالنية يُنهى المؤمنون عن ظاهره، وإن لم يقصدوا به قصد المشركين؛ سدًّا للذريعة، وحسمًا للمادة.
ومن هذا الباب: أنه ﷺ كان إذا صلَّى إلى عودٍ أو عمودٍ جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولم يصمد له صمدًا.
الشيخ: هذا الحديثُ ضعيف، كأنَّ المؤلف ما تعمَّد رحمه الله، والحديث ضعيف، والصواب أنه إذا صلَّى إلى شيءٍ يجعله أمامه: من ساريةٍ، أو كرسيٍّ يجعله أمامه سترةً، أما حديث يجعله عن حاجبه الأيمن فهو حديث ضعيف، وكأنَّ المؤلف لم يتأمل أسانيده.
س: صلاته إلى مُؤخرة الرَّحْل ألا يدل على معنى الصُّمود؟
الشيخ: هو يجعل النَّاقة أمامه إذا صلَّى، ما هو لأجل هذا، أو إذا كان عودًا منصوبًا أو كرسيًّا موجودًا أو ساريةً، النبي ﷺ قال: فليُصَلِّ إلى سترةٍ، وليَدْنُ منها، ولم يقل: يجعلها عن يمينه أو شماله، تصير أمامه حاجزًا بينه وبين المارة.
الشيخ: لئلا يتوهم أنه سجد له.
وإن لم يقصد الساجدُ ذلك؛ لما فيه من مُشابهة السجود لغير الله، فانظر كيف قطعت الشريعةُ المشابهةَ في الجهات وفي الأوقات، وكما لا يُصلَّى إلى القبلة التي يُصلون إليها، كذلك لا يُصلَّى إلى ما يُصلون له، بل هذا أشدّ فسادًا، فإنَّ القبلة شريعة من الشَّرائع، قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء، أما السجود لغير الله وعبادته فهو مُحرَّم في الدِّين الذي اتَّفقت عليه رسلُ الله، كما قال : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45].
وأيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه رأى رجلًا يتَّكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة، فقال له: لا تجلس هكذا؛ فإنَّ هكذا يجلس الذين يُعذّبون. وفي روايةٍ: تلك صلاة المغضوب عليهم. وفي روايةٍ: نهى رسولُ الله ﷺ أن يجلس الرجلُ في الصلاة وهو معتمد على يده. رواهن أبو داود.
س: كيفية هذه الجلسة؟
الشيخ: يتَّكئ على يده اليسرى، يعني: وهو جالس يحطّ يديه على فخذيه أو ركبتيه حال جلوسه في التَّشهد.
س: خاصٌّ بالصلاة فقط؟
الشيخ: نعم، في الصَّلاة.
ففي هذا الحديث النَّهي عن هذه الجلسة، مُعلِّلًا بأنها جلسة المعذَّبين، وهذه مبالغة في مجانبة هديهم.
وأيضًا فروى البخاري: عن مسروق، عن عائشةَ أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إنَّ اليهود تفعله. ورواه أيضًا من حديث أبي هريرة، قال: نهى عن الخصر في الصلاة. وفي لفظٍ: نهى أن يُصلي الرجلُ مُخْتَصِرًا. قال: وقال هشام وأبو هلال: عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: نهى النبيُّ ﷺ. وهكذا رواه مسلم في "صحيحه": نهى رسولُ الله ﷺ.
وعن زياد بن صبيح قال: صليتُ إلى جنب ابن عمر، فوضعتُ يدي على خاصرتي، فلمَّا صلَّى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسولُ الله ﷺ ينهى عنه. رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي.
وأيضًا عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال: اشتكى رسولُ الله ﷺ، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناسَ تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلَّم قال: إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتمُّوا بأئمَّتكم؛ إن صلَّى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلَّى قاعدًا فصلوا قعودًا. رواه مسلم، وأبو داود من حديث اللَّيث، عن أبي الزبير، عن جابرٍ.
ورواه أبو داود وغيرُه من حديث الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ قال: ركب رسولُ الله ﷺ فرسًا بالمدينة فصرعه على جذم نخلةٍ، فانقطعت قدمه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مشربةٍ لعائشة يُسبح جالسًا. قال: فقمنا خلفه، فسكت عنا، ثم أتيناه مرةً أخرى نعوده، فصلَّى المكتوبة جالسًا، فقمنا خلفه، فأشار إلينا فقعدنا. قال: فلما قضى الصلاة قال: إذا صلَّى الإمامُ جالسًا فصلّوا جلوسًا، وإذا صلَّى الإمامُ قائمًا فصلّوا قيامًا، ولا تفعلوا كما يفعل أهلُ فارس بعُظمائها.
وأظن في غير رواية أبي داود: ولا تُعظِّموني كما يُعظم الأعاجمُ بعضُها بعضًا.
ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأنَّ قيام المأمومين مع قعود الإمام يُشبه فعل فارس والروم بعُظمائهم في قيامهم وهم قعود.
ومعلوم أنَّ المأموم إنما نوى أن يقوم لله، لا لإمامه، وهذا تشديد عظيم في النَّهي عن القيام للرجل القاعد، ونهى أيضًا عمَّا يُشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك؛ ولهذا نهى عن السُّجود لله بين يدي الرجل، وعن الصلاة إلى ما قد عُبد من دون الله: كالنار ونحوها.
وفي هذا الحديث أيضًا نهى عمَّا يُشبه فعل فارس والروم، وإن كانت نيتنا غير نيتهم؛ لقوله: فلا تفعلوا، فهل بعد هذا في النَّهي عن مُشابهتهم في مجرد الصورة غاية؟
ثم هذا الحديث سواء كان مُحكمًا في قعود الإمام أو منسوخًا فإنَّ الحجَّة منه قائمة؛ لأنَّ نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة، وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها، مثل: كون القيام فرضًا في الصلاة، فلا يسقط الفرضُ بمجرد المشابهة الصورية، وهذا محل اجتهادٍ، وأما المشابهة الصورية إذا لم تسقط فرضًا كانت تلك العلَّة التي علل بها رسولُ الله ﷺ سليمةً عن معارضٍ أو نسخٍ؛ لأنَّ القيام في الصلاة ليس بمشابهةٍ في الحقيقة، فلا يكون محذورًا، فالحكم إذا علل بعلةٍ ثم نُسخ مع بقاء العلَّة فلا بدَّ من أن يكون غيرها ترجَّح عليها وقت النَّاسخ، أو ضعف تأثيرها، أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا مُحال.
هذا كله لو كان الحكمُ هنا منسوخًا، فكيف والصحيح أنَّ هذا الحديث مُحكَم؛ قد عمل به غيرُ واحدٍ من الصحابة بعد وفاة رسول الله ﷺ، مع كونهم علموا صلاته في مرضه؟
وقد استفاض عنه ﷺ الأمر به استفاضةً صحيحةً صريحةً، يمتنع معها أن يكون حديثُ المرض ناسخًا له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع: إما بجواز الأمرين؛ إذ فعل القيام لا يُنافي فعل القعود، وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعدًا، والصلاة التي ابتدأها الإمامُ قائمًا؛ لعدم دخول هذه الصلاة في قوله: وإذا صلَّى قاعدًا؛ ولعدم المفسدة التي علل بها؛ ولأنَّ بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام، ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع.
الشيخ: المقصود أنه ﷺ نهى عن الصلاة قائمًا والإمام جالس، وهذا هو الأفضل، والسنة الثابتة في الأحاديث، وفي آخر حياته أقرَّهم وصلّوا خلفه قيامًا، فدلَّ على الجواز، وأنهم إذا صلّوا خلفه قيامًا فلا حرج؛ لأنَّ التَّشبه حينئذٍ بعيد؛ لأنهم إنما قاموا لله، ولأداء هذه العبادة العظيمة، وإن صلوا جلوسًا كما جاء في الأحاديث الأخرى فلا حرج، ولكن إذا صلّوا قيامًا فلا حرج أيضًا؛ لأنه يُؤخذ بالآخر فالآخر من فعله ﷺ .....
س: القصاص بالحسنات والسيئات؟
الشيخ: فيما بينهم بالحسنات والسيئات، نعم.
س: موضع الحوض قبل الصراط أم بعده؟
الشيخ: الحوض قبل الصراط، في العرصات -عرصات يوم القيامة- قبل الصِّراط.
س: بعض أهل العلم يُورد إشكالًا، يقول: كيف يصبّ فيه ميزابان من الجنَّة؟
الشيخ: نعم، وهو في عرصات القيامة يصبّ في الحوض، هذا من السَّماء.
س: يُصلح الله بين المؤمنين يوم القيامة؟
الشيخ: المؤمن يدخل الجنةَ من أول وهلةٍ، لكن إذا كانت له ذنوب وسيئات قد يخلو الله به ويُعرفه بذنوبه، ثم يغفرها له جلَّ وعلا، هذا من فضله جلَّ وعلا، أما مَن كانت له سيئات كبائر فهذا تحت المشيئة: إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذَّبه بها، ثم بعد التَّطهير والتَّمحيص يُخرجه الله من النار إلى الجنة.
فالناس أقسام: مَن كان سليمًا، مَن مات على توبةٍ وإيمانٍ وصدقٍ هذا يدخل الجنةَ من أول وهلةٍ، أما مَن كان له معاصٍ وسيئات فتحت المشيئة: إن شاء اللهُ غفر له؛ لأعمالٍ صالحةٍ، أو بشفاعة شُفعاء، وإن شاء عذَّبه على قدر المعاصي التي مات عليها، ثم بعد التَّعذيب يُخرجه الله من النار إلى الجنة، كما جاءت به النصوص عن النبي ﷺ.
س: ...............؟
الشيخ: الصراط منصوب، شيء منصوب، جسر منصوب، ما هو بوادٍ.
س: حوض النبي ﷺ خاصٌّ بالمؤمنين من أمة النبي؟
الشيخ: نعم، أمة النبي، المؤمنون من أمته.
وأيضًا فعن عبادة بن الصامت قال: كان رسولُ الله ﷺ إذا اتَّبع جنازةً لم يقعد حتى تُوضع في اللَّحد، فعرض له حبرٌ فقال: هكذا نصنع يا محمد، قال: فجلس رسولُ الله ﷺ وقال: خالفوهم. رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وقال: بشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث.
قلتُ: قد اختلف العلماءُ في القيام للجنازة إذا مرَّت، ومعها إذا شُيِّعت، وأحاديث الأمر بذلك كثيرة مُستفيضة، ومَن اعتقد نسخَها أو نسخَ القيام للمارة فعمدتُه حديث عليٍّ وحديث عبادة هذا.
وإن كان القولُ بهما ممكنًا؛ لأنَّ المشيع يقوم لها حتى تُوضع عن أعناق الرجال، لا في اللَّحد، فهذا الحديث إما أن يُقال به؛ جمعًا بينه وبين غيره، أو ناسخًا لغيره، وقد علل المخالفة، ومَن لا يقول به يُضعفه، وذلك لا يقدح في الاستشهاد والاعتضاد به على جنس المخالفة.
الشيخ: الصواب أنَّ الأمر للسنية، وأنَّ جلوسه لبيان عدم الوجوب، فالسنة إذا رُئِيت الجنازة أن يقوم الإنسانُ، وإذا تبعها ألا يجلس حتى تُوضع في الأرض، هذا المحفوظ بدل اللَّحد، فإذا وُضعت في الأرض جلسوا، هذا هو السنة.
وقد روى البخاري عن عبدالرحمن بن القاسم: أنَّ القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة، ولا يقوم لها، ويُخبر عن عائشة قالت: كان أهلُ الجاهلية يقومون لها، يقولون إذا رأوها: كنت في أهلك ما كنت. مرتين، فقد استدلَّ مَن كره القيامَ بأنه كان من فعل الجاهلية، وليس الغرضُ هنا الكلام في عين هذه المسألة.
وأيضًا عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: اللَّحد لنا، والشّقُّ لغيرنا رواه أهلُ السنن الأربعة.
وعن جرير بن عبدالله قال: قال رسولُ الله ﷺ: اللَّحد لنا، والشّقُّ لغيرنا رواه أحمد وابن ماجه.
وفي روايةٍ لأحمد: والشّقُّ لأهل الكتاب، وهو مروي من طرقٍ فيها لين، لكن يصدق بعضُها بعضًا.
وفيه التَّنبيه على مُخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر.
الشيخ: والشَّاهد في قوله: اللحدُ لنا، والشّقُّ لغيرنا، وأنا نُخالفهم حتى في دفن الميت، يعني: ينبغي لنا أن نُخالف المشركين في كل شيءٍ، ومن ذلك القبر؛ يكون اللَّحدُ للمسلمين، والشّقُّ لغيرهم، فالسنة هو اللَّحد.
س: ما الشّق؟
الشيخ: الشقّ في وسط القبر، يعني: مثل الساقية، والسنة اللَّحد في جنبه القبلي.
وأيضًا عن عبدالله بن مسعودٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: ليس منا مَن ضرب الخدودَ، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية. متفق عليه.
ودعوى الجاهلية: ندب الميت، وتكون دعوى الجاهلية في العصبية.
الشيخ: المقصود أنَّ الواجبَ الحذر من أعمال الجاهلية، فالندب للميت والنياحة من أعمال الجاهلية، والتَّعصب بالباطل من أعمال الجاهلية، التعصب لبعضهم البعض من أعمال الجاهلية، والمؤمن لا يتعصب للباطل، بل يقول الحقَّ، ويكون مع الحقِّ، وإذا مات الميتُ فالواجب الصبر والاحتساب، وعدم شقِّ الجيوب، وعدم النِّياحة.
س: الشقّ منهي عنه؟
الشيخ: ظاهر الحديث أنه لا ينبغي، وأنه ليس لنا، وقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ أبا طلحة كان يلحد، وكان شخصٌ آخر يشقّ في المدينة في حياة النبيِّ ﷺ، فاحتجَّ بهذا بعضُ الناس على الجواز.
وحديث: اللحد لنا، والشّقُّ لغيرنا فيه ضعف مثلما قال المؤلفُ، ولكن يشدّ بعضُه بعضًا، وسعد قال: الحدوا لي لحدًا، وانصبوا عليَّ نصبًا، كما صُنع برسول الله ﷺ. فإنهم لحدوا له عليه الصلاة والسلام، فالأفضل والسنة اللَّحد؛ لأنَّ روايات الشّقّ فيها بعض الضعف اليسير، فالذي ينبغي ترك ذلك.
س: نبش القبر؟
الشيخ: لا، لا ينبش إلا لعلةٍ، إذا كان لعلةٍ لا بأس، إذا كان دُفن معه شيء: دُفن معه مال يُنبش لأخذ المال، دُفن في أرضٍ مغصوبةٍ يُنبش، يُنقل إلى المقبرة، ما يُخالف إذا كان نبشًا لأمرٍ شرعيٍّ.
ومنه قوله فيما رواه أحمد عن أُبي بن كعبٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن تعزَّى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا.
وأيضًا عن أبي مالك الأشعري : أنَّ النبي ﷺ قال: أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النَّائحة إذا لم تَتُبْ قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قطرانٍ، ودرع من جربٍ رواه مسلم.
ذمَّ في الحديث مَن دعا بدعوى الجاهلية، وأخبر أنَّ بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناسُ كلهم؛ ذمًّا لمن لم يتركه، وهذا كله يقتضي أنَّ ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذمٌّ لها.
الشيخ: وهذا لا شكَّ أنه شاهد، كل هذا يدل على أنَّ هذا من الجاهلية؛ لذلك ذكر من أعمالهم: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. فدلَّ ذلك على أنَّ أمور الجاهلية الواجب تركها، والتَّخلق بالأخلاق الإسلامية، كما قال الله في القرآن: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ [الأحزاب:33]، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، هذا كله يدل على أنَّ أعمال الكفرة ينبغي تجنبها وعدم التَّخلق بها.
س: .............؟
الشيخ: إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك: امصص بظر أبيك. فإذا دعت الحاجةُ إلى ذلك نعم.
س: ..............؟
الشيخ: يعني كلامه طيب، كلام ليس فيه الفحش والكلام الرديء، مثلما قال الله جلَّ وعلا: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، فتجنب الفحش في العظة والتَّذكير هو الذي ينبغي ومخاطبة الناس، لكن إذا كان في بعض الأحيان من باب الزَّجر إذا تعدَّى الحدود وفعل ما لا ينبغي، إذا كان من باب الزجر: امصص بظر أبيك. وما أشبه ذلك إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك.
س: ..............؟
ج: لا، ما ينبغي، ينبغي استعمال الحقِّ والكلام الطَّيب.
ومعلوم أنَّ إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذَّم، وهذا كقوله : وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33]، فإنَّ في ذلك ذمًّا للتَّبرج، وذمًّا لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مُشابهتهم في الجملة.
ومنه قوله لأبي ذرٍّ لما عيَّر رجلًا بأمه: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، فإنه ذمٌّ لذلك الخلق، ولأخلاق الجاهلية التي لم يجئ بها الإسلام.
الشيخ: وذلك لأنَّ أبا ذرٍّ قال لبعض الناس: يا ابن السَّوداء، فقال له النبيُّ ﷺ: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، أعيَّرتَه بأمِّه؟!.
ومنه قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:26]، فإنَّ إضافة الحمية إلى الجاهلية اقتضى ذمَّها، فما كان من أخلاقهم وأفعالهم فهو كذلك.
ومن هذا ما رواه البخاري في "صحيحه" عن عبيدالله ابن أبي يزيد: أنه سمع ابن عباسٍ قال: "ثلاثُ خلالٍ من خلال الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة". ونسيتُ الثالثة، قال سفيان: ويقولون: إنها الاستسقاء بالأنواء.
وروى مسلم في "صحيحه" عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطَّعن في النَّسب، والنِّياحة على الميت.
فقوله: هما بهم كفر أي: هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس، فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا، من أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل مَن قامت به شعبة من شعب الكفر يصير كافرًا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل مَن قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا حتى يقوم به أصلُ الإيمان، وفرق بين الكفر المعرف باللام، كما في قوله ﷺ: ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة، وبين كفر منكر في الإثبات.
وفرقٌ أيضًا بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر أو مؤمن. وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده، كما في قوله: لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضُكم رقابَ بعضٍ.
فقوله: يضرب بعضُكم رقابَ بعضٍ تفسير الكفَّار في هذا الموضع، وهؤلاء يُسمون كفَّارًا تسميةً مقيدةً، ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل: كافر ومؤمن. كما أنَّ قوله تعالى: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] سمّى المني: ماءً تسميةً مقيدةً، ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة:6].
ومن هذا الباب ما أخرجاه في "الصحيحين" عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبدالله قال: غزونا مع رسول الله ﷺ، وقد ثاب معه ناسٌ من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجلٌ لعَّابٌ، فكسع أنصاريًّا، فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبيُّ ﷺ فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟! ثم قال: ما شأنهم؟ فأُخبر بكسعة المهاجري للأنصاري، قال: فقال النبيُّ ﷺ: دعوها فإنها خبيثة.
وقال عبدالله بن أُبي بن سلول: أَوَقَدْ تداعوا علينا؟! لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ. قال عمر: ألا تقتل يا نبي الله هذا الخبيث؟ لعبدالله، فقال النبي ﷺ: لا يتحدث الناسُ أنه كان يقتل أصحابَه.
ورواه مسلمٌ من حديث أبي الزبير، عن جابرٍ قال: اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجرُ: يا للمهاجرين! ونادى الأنصاري: يا للأنصار! فخرج رسولُ الله ﷺ فقال: ما هذا؟ أدعوى الجاهلية؟! قالوا: لا يا رسول الله، إلا أنَّ غلامين اقتتلا، فكسع أحدُهما الآخر، فقال: لا بأس، ولينصر الرجلُ أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره.
الشيخ: والمعنى: لا يكن التَّعصب للأنصار والمهاجرين، أو قبيلتهما، ولكن المظلوم يُنْصَر، والظالم يُرْدَع، سواء كان من قبيلة الفاعل، أو من غير قبيلته؛ ولهذا قال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! يا للأنصار! يا للمهاجرين! مع أنهما اسمان عظيمان شريفان، ولكن نهى عن التَّعصب لإحدى الطائفتين.
والواجب على المؤمنين أن يكونوا شيئًا واحدًا، المظلوم يُنْصَر، والظالم يُمْنَع، من أي طائفةٍ، ومن أي جهةٍ.
فهذان الاسمان: "المهاجرون" و"الأنصار" اسمان شرعيَّان، جاء بهما الكتابُ والسنةُ، وسمَّاهما اللهُ بهما، كما سمَّانا المسلمين من قبل، وانتساب الرجل إلى المهاجرين أو الأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يُقصد به التَّعريف فقط: كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه أو المحرم: كالانتساب إلى ما يُفضي إلى بدعةٍ أو معصيةٍ أخرى.
ثم مع هذا لما دعا كلٌّ منهما طائفةً مُنتصرًا بها أنكر النبيُّ ﷺ ذلك، وسماها: دعوى الجاهلية، حتى قيل له: إنَّ الدَّاعي بها إنما هما غلامان، لم يصدر ذلك من الجماعة، فأمر بمنع الظالم، وإعانة المظلوم؛ ليُبين النبيُّ ﷺ أنَّ المحذور إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقًا فعل أهل الجاهلية، فأما نصرها بالحقِّ من غير عدوانٍ فحسنٌ واجبٌ أو مُستحبٌّ.
ومثل هذا ما روى أبو داود وابنُ ماجه عن واثلة بن الأسقع قال: قلتُ: يا رسول الله، ما العصبية؟ قال: أن تُعين قومك على الظُّلم.
الشيخ: هذه العصبية: أن تُعين قومَك على الظلم، التَّعصب: إعانة القوم على الظلم، وإعانة أخيه على الظلم، وتعصبه على الظلم، يجب أن يُنصف، يُعين أخاه على الحقِّ، وقومه على الحقِّ، أما أن يُعينهم على الباطل فهذا من دين الجاهلية.
الشيخ: يعني: إذا دافع عنهم بالحقِّ، دافع عن إخوانه بالحقِّ فهذا مأجور.
وروى أيضًا عن جبير بن مطعم: أنَّ رسول الله ﷺ قال: ليس منا مَن دعا إلى عصبيةٍ، وليس منا مَن قاتل على عصبيةٍ، وليس منا مَن مات على عصبيَّةٍ.
وروى أيضًا عن ابن مسعودٍ، عن النبي ﷺ قال: مَن نصر قومَه على غير الحقِّ فهو كالبعير الذي ردي، فهو ينزع بذنبه.
فإذا كان هذا التَّداعي في هذه الأسماء وهذا الانتساب الذي يُحبه الله ورسوله، فكيف بالتَّعصب مطلقًا، والتَّداعي للنَّسب والإضافات التي هي: إما مباحة، أو مكروهة؟!
وذلك أنَّ الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره، ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عبدالرحمن ابن أبي عقبة، عن أبي عقبة -وكان مولى من أهل فارس- قال: شهدتُ مع رسول الله ﷺ أُحُدًا، فضربتُ رجلًا من المشركين، فقلتُ: خُذْهَا وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إليَّ فقال: هلا قلتَ: خذها مني وأنا الغلام الأنصاري؟
حضَّه رسولُ الله ﷺ على الانتساب إلى الأنصار، وإن كان بالولاء، وكان إظهار هذا أحبَّ إليه من الانتساب إلى فارس بالصراحة، وهي نسبة حقٍّ، ليست مُحرَّمةً.
ويُشبه والله أعلم أن يكون من حكمة ذلك: أنَّ النفس تُحامي عن الجهة التي تنتسب إليها، فإذا كان ذلك لله كان خيرًا للمرء.
فقد دلَّت هذه الأحاديث على أنَّ إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمَّه، والنَّهي عنه، وذلك يقتضي المنع من أمور الجاهلية مطلقًا، وهو المطلوب في هذا الكتاب.
ومثل هذا ما روى سعيد بن أبي سعيدٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ الله قد أذهب عنكم عبيةَ الجاهلية وفخرها بالآباء: مؤمن تقي، أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من ترابٍ، ليدعنَّ رجالٌ فخرهم بأقوامٍ، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكوننَّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النَّتن رواه أبو داود وغيره، وهو صحيح.
فأضاف العبية والفخر إلى الجاهلية يذمّها بذلك.
الشيخ: وهذا هو الذي ينبغي للمؤمن، فإنَّ عبية الجاهلية وتفاخرها بالآباء هذا مما يذمّ به المؤمن، فالمؤمن يفخر بدينه وتقواه لله، وإيمانه بالله، وانتسابه للدِّين؛ حتى لا يتأسَّى بالجاهلية.
وذلك يقتضي ذمَّها بكونها مُضافة إلى الجاهلية، وذلك يقتضي ذمّ الأمور المضافة إلى الجاهلية.
ومثله ما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي قيس زياد بن رباح، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: مَن خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهليةً، ومَن قاتل تحت رايةٍ عميةٍ يغضب لعصبيةٍ، أو يدعو إلى عصبيةٍ، أو ينصر عصبيةً فقُتل فقتله جاهلية، ومَن خرج على أمتي يضرب برّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مُؤمنها، ولا يفي لذي عهدٍ عهده؛ فليس مني، ولستُ منه.
ذكر ﷺ في هذا الحديث الأقسام الثلاثة التي يعقد لها الفقهاء باب قتال أهل القبلة من البغاة والعداة وأهل العصبية.
فالقسم الأول: الخارجون عن طاعة السلطان، فنهى عن نفس الخروج عن الطاعة والجماعة، وبيَّن أنه إن مات ولا طاعةَ عليه مات ميتةً جاهليةً، فإنَّ أهل الجاهلية من العرب ونحوهم لم يكونوا يُطيعون أميرًا عامًّا على ما هو معروف من سيرتهم.
ثم ذكر الذي يُقاتل تعصبًا لقومه، أو أهل بلده، ونحو ذلك، وسمَّى الراية: عمية؛ لأنه الأمر الأعمى الذي لا يُدرى وجهه، فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علمٍ بجواز قتال هذا.
وجعل قِتلةَ المقتول قتلةً جاهليةً، سواء غضب بقلبه، أو دعا بلسانه، أو ضرب بيده، وقد فسَّر ذلك فيما رواه مسلم أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يدري القاتلُ في أي شيءٍ قَتَلَ، ولا يدري المقتولُ على أي شيءٍ قُتِلَ، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج، القاتل والمقتول في النار.
والقسم الثالث: الخوارج على الأمة: إما من العداة الذين غرضهم الأموال: كقطاع الطريق ونحوهم، أو غرضهم الرياسة: كمَن يقتل أهل المصر الذين هم تحت حكم غيره مطلقًا، وإن لم يكونوا مقاتلة، أو من الخارجين عن السنة الذين يستحلون دماء أهل القبلة مطلقًا: كالحرورية الذين قتلهم عليٌّ .
ثم إنه ﷺ سمَّى الميتة والقتلة: ميتةً جاهليةً، وقتلةً جاهليةً، على وجه الذم لها، والنَّهي عنها، وإلا لم يكن قد زجر عن ذلك.
فعُلم أنه كان قد قرر عند أصحابه أنَّ ما أُضيف إلى الجاهلية من ميتةٍ أو قتلةٍ ونحو ذلك فهو مذموم، منهي عنه، وذلك يقتضي ذمّ كل ما كان من أمور الجاهلية، وهو المطلوب.
ومن هذا ما أخرجاه في "الصحيحين" عن المعرور بن سويد قال: رأيتُ أبا ذرٍّ عليه حلَّة، وعلى غلامه مثلها، فسألتُه عن ذلك، فذكر أنه سابَّ رجلًا على عهد رسول الله ﷺ فعيَّره بأمه، فأتى الرجلُ النبيَّ ﷺ فذكر ذلك له، فقال له النبيُّ ﷺ: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، وفي روايةٍ قلت: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم، هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمَن كان أخوه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا تُكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتُموهم فأعينوهم عليه.
ففي هذا الحديث أنَّ كلَّ ما كان من الجاهلية فهو مذموم؛ لأنَّ قوله: فيك جاهلية ذمّ لتلك الخصلة، فلولا أنَّ هذا الوصف يقتضي ذمّ ما اشتمل عليه لما حصل به المقصود.
وفيه أنَّ التَّعيير بالأنساب من أخلاق الجاهلية.
وفيه أنَّ الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة: بجاهلية، وبيهودية، ونصرانية، ولا يُوجب ذلك كفره، ولا فسقه.
الشيخ: وهذا مثلما تقدم، مثلما قال ﷺ، الإنسان قد يكون عنده علمٌ وفضلٌ، ولكن تقع منه زلَّة؛ ولهذا قال النبيُّ لأبي ذرٍّ: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، لما قال لغلامه: يا ابن السَّوداء. قال: أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، فلا يقال: يا ابن السوداء، أو يا ابن الزانية، أو يا ابن الخبيثة، أو يا ابن كذا، إذا كان صالحًا في نفسه لا ما يضرّه فساد أمه ولا فساد أبيه.
الشيخ: وهذا يُفيد الحذر من هذه الخصال التي تُسمَّى: خصال الجاهلية، يجب الحذر منها، فإنَّ سفك الدِّماء بغير حقٍ، والإلحاد في حرم الله، وإظهار سنة الجاهلية كلها شرّ، وهو من أبغض الناس إلى الله جلَّ وعلا، "أبغض الناس" يعني: من أبغض الناس إلى الله جلَّ وعلا هؤلاء الثلاثة: مَن ألحد بحرم الله بالمعاصي، ومَن ابتغى في الإسلام سنةَ الجاهلية؛ يدعو إليها وينشرها، ومَن يُريد ويطلب دم أخيه بغير حقٍّ؛ لهوى، أو حزازات في النفوس، أو عداوة، أو أشياء أخرى لا تُبيح دمه.
س: المؤلف نسب الحديثَ إلى "صحيح مسلم"، وهو في البخاري؟
الشيخ: المعروف في "صحيح البخاري".
أخبر ﷺ أنَّ أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة، وذلك لأنَّ الفساد إما في الدِّين، وإما في الدنيا، فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحقِّ؛ ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدِّين الذي هو الكفر.
وأما فساد الدِّين فنوعان: نوع يتعلق بالعمل، ونوع يتعلق بمحلِّ العمل.
فأما المتعلق بالعمل: فهو ابتغاء سنة الجاهلية.
وأما ما يتعلق بمحل العمل: فالإلحاد في الحرم؛ لأنَّ أعظم محال العمل الحرم، وانتهاك حُرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حُرمة المحل الزماني؛ ولهذا حرم من تناول المباحات، ومن الصيد والنبات في البلد الحرام ما لم يحرم مثله في الشهر الحرام؛ ولهذا كان الصحيحُ أنَّ حُرمة القتال في البلد الحرام باقية، كما دلَّت عليه النصوص الصَّحيحة، بخلاف الشهر الحرام؛ فلهذا والله أعلم ذكر ﷺ الإلحاد في الحرم وابتغاء سنة جاهلية.
والمقصود أنَّ من هؤلاء الثلاثة مَن ابتغى في الإسلام سنةً جاهليةً.
الشيخ: هذا الشاهد، الشاهد قوله: مَن سنَّ في الإسلام سنةً جاهليةً؛ لأنَّ كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم"، فقوله: مُبتغٍ في الإسلام سنةً جاهليةً شاهد لهذا، وأنَّ الواجب على المسلمين أن يحذروا إيجاد سنن الجاهلية في الصراط المستقيم في الإسلام، بل يجب التَّمسك بالإسلام، والحذر من أعمال الجاهلية التي حرَّمها الله جلَّ وعلا، والمسلمون عليهم أن يسلكوا الطريقَ القويم، وأن يُوضحوا للناس صراط الله المستقيم، وأن يُحذروهم من طريق المغضوب عليهم والضَّالين.
فسواء قيل: مُتَّبع أو مُبْتغ، فإنَّ الابتغاء هو الطلب والإرادة، فكل مَن أراد في الإسلام أن يعمل بشيءٍ من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث.
والسنة الجاهلية: كل عادةٍ كانوا عليها، فإنَّ السنة هي العادة، وهي الطريق التي تتكرر لنوع الناس مما يعدونه عبادةً، أو لا يعدونه عبادةً.
الشيخ: سنة الجاهلية: طريقة الجاهلية وأعمال الجاهلية، ما قد سنّوه وسلكوه، سنن الجاهلية هي: طرائق الجاهلية وأعمال الجاهلية، ومن هذا التَّعصب للآباء والأمهات والقبائل والوطن على وجهٍ يُخالف الشرعَ، فهذا من سنة الجاهلية.
قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [آل عمران:137]، وقال النبيُّ ﷺ: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم، والاتِّباع هو الاقتفاء والاستنان، فمَن عمل بشيءٍ من سُننهم فقد اتَّبع سنةً جاهليةً، وهذا نصٌّ عام يُوجب تحريم متابعة كل شيءٍ من سُنن الجاهلية: في أعيادهم وغير أعيادهم، ولفظ الجاهلية قد يكون اسمًا للحال، وهو الغالب في الكتاب والسنة، وقد يكون اسمًا لذي الحال.
فمن الأول قول النبيِّ ﷺ لأبي ذرٍّ : إنك امرؤٌ فيك جاهلية.
وقول عمر: إني نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف ليلةً.
وقول عائشة: كان النكاحُ في الجاهلية على أربعة أنحاء.
وقولهم: يا رسول الله، كنا في جاهليةٍ وشرٍّ. أي في حال جاهليةٍ، أو طريقةٍ جاهليةٍ، أو عادةٍ جاهليةٍ، ونحو ذلك.
فإنَّ الجاهلية وإن كانت في الأصل صفةً، لكنه غلب عليه الاستعمال حتى صار اسمًا، ومعناه قريب من معنى المصدر.
وأما الثاني فتقول: طائفة جاهلية، وشاعر جاهلي، وذلك نسبةً إلى الجهل الذي هو عدم العلم، أو عدم اتِّباع العلم.
الشيخ: يعني أنها قد تُنسب إلى زمن الجاهلية قبل مبعث النبيِّ ﷺ، وقد يُنسب الشخصُ إلى ما اتَّصف به من أعمال الجاهلية، وتخلق به، وصار وصفًا له: إنك امرؤ فيك جاهلية؛ لأنه سبَّه بأمه، قال: يا ابن السَّوداء. وكان العربُ في جاهليتهم يسبّون الإنسانَ بأمه وأبيه ونحو ذلك.
فإنَّ مَن لم يعلم الحقَّ فهو جاهل جهلًا بسيطًا، فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلًا مُركَّبًا، فإن قال خلاف الحقِّ عالمًا بالحقِّ، أو غير عالمٍ فهو جاهل أيضًا، كما قال تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، وقال النبيُّ ﷺ: إذا كان أحدُكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل.
ومن هذا قول بعض شُعراء العرب:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
وهذا كثيرٌ، وكذلك مَن عمل بخلاف الحقِّ فهو جاهل، وإن علم أنه مخالف للحقِّ، كما قال سبحانه: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، قال أصحابُ محمدٍ ﷺ: كل مَن عمل سوءًا فهو جاهل.
وسبب ذلك أنَّ العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يُخالفه من قولٍ أو فعلٍ، فمتى صدر خلافه فلا بدَّ من غفلة القلب عنه، أو ضعفه في القلب بمقاومة ما يُعارضه.
الشيخ: ولهذا قالوا: مَن عصى الله فهو جاهل؛ لأنَّ جهله بعظمة الله أوقعه في المعصية، وإذا تاب الله عليه: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]؛ لأنَّ طبيعة الإنسان الجهل إلا مَن وفَّقه الله وعلَّمه، ولجهله أقدم على المعصية وترك الواجب، فإذا تاب تاب الله عليه.
وتلك أحوال تُناقِض حقيقةَ العلم فيصير جهلًا بهذا الاعتبار.
ومن هنا تعرف دخول الأعمال في مُستحق الإيمان حقيقةً لا مجازًا، وإن لم يكن كل مَن ترك شيئًا من الأعمال كافرًا، ولا خارجًا عن أصل مُسمَّى الإيمان، وكذلك اسم العقل ونحو ذلك من الأسماء.
ولهذا يُسمي الله تعالى أصحاب هذه الأحوال: موتى، وعميًا، وصُمًّا، وبُكْمًا، وضالين، وجاهلين، ويصفهم بأنهم لا يعقلون، ولا يسمعون.
ويصف المؤمنين بأولي الألباب، وأُولي النُّهى، وأنهم مهتدون، وأنَّ لهم نورًا، وأنهم يسمعون ويعقلون.
فإذا تبين ذلك فالناس قبل مبعث الرسول ﷺ كانوا في حال جاهليةٍ منسوبةٍ إلى الجهل، فإنَّ ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهلٌ، وإنما يفعله جاهلٌ.
وكذلك كل ما يُخالف ما جاءت به المرسلون من يهوديةٍ ونصرانيةٍ فهي جاهلية، وتلك كانت الجاهلية العامَّة، فأما بعد مبعث الرسول ﷺ قد تكون في مصرٍ دون مصرٍ، كما هي في دار الكفار، وقد تكون في شخصٍ دون شخصٍ: كالرجل قبل أن يُسلم، فإنه في جاهليةٍ وإن كان في دار الإسلام.
فأمَّا في زمان مُطلق فلا جاهليةَ بعد مبعث محمدٍ ﷺ، فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحقِّ إلى قيام السَّاعة.
والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين، وفي كثيرٍ من الأشخاص المسلمين، كما قال ﷺ: أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية، وقال لأبي ذرٍّ: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، ونحو ذلك.
فقوله في هذا الحديث: ومُبْتَغٍ الإسلام سنَّةً جاهليةً يندرج فيه كل جاهليةٍ مطلقةٍ أو مقيدةٍ، يهودية، أو نصرانية، أو مجوسية، أو صابئة، أو وثنية، أو مُركَّبة من ذلك، أو بعضه، أو مُنتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية، فإنها جميعها -مُبتدعها ومنسوخها- صارت جاهليةً بمبعث محمدٍ ﷺ، وإن كان لفظُ الجاهلية لا يُقال غالبًا إلا على حال العرب التي كانوا عليها، فإنَّ المعنى واحد.
وفي "الصحيحين" عن نافع، عن ابن عمر: أنَّ الناس نزلوا مع رسول الله ﷺ على الحجر -أرض ثمود- فاستقوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسولُ الله ﷺ أن يُهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها النَّاقة.
ورواه البخاريُّ من حديث عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئارها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم النبيُّ ﷺ أن يطرحوا ذلك العجين، ويُهريقوا ذلك الماء.
وفي حديث جابرٍ، عن النبيِّ ﷺ أنه قال لما مرَّ بالحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم؛ أن يُصيبَكم ما أصابهم.
فنهى رسولُ الله ﷺ عن الدُّخول إلى أماكن المعذَّبين إلا مع البكاء، خشية أن يُصيب الداخل ما أصابهم، ونهى عن الانتفاع بمياههم، حتى أمرهم مع حاجتهم في تلك الغزوة -وهي أشدّ غزوةٍ كانت على المسلمين- أن يعلفوا النَّواضح بعجين مائهم.
س: الحامل هل لها أن تُسقط الحمل قبل أربعة أشهر؟
الشيخ: إذا كان لعلةٍ؛ قرر الأطباءُ أنَّ عليها مضرةً بينةً لا بأس، إذا قرر الأطباءُ الموثقون -اثنان أو ثلاثة من الثقات- أنه يضرّها ذلك، وأنَّ عليها خطرًا من ذلك لا بأس، وإلا فالواجب عدم ذلك بعدما يُجاوز الأربعين، يعني في الطور الثاني وبعده، أما في الطور الأول أسهل إذا كانت فيه مصلحة: كمسألة العزل، الطور الأول إذا كان في مصلحةٍ شرعيةٍ لا بأس، أما في الطور الثاني أو الثالث فيحرم، وبعد الشهر الخامس يحرم أشدّ؛ لأنه صار جنينًا.
س: الثاني والثالث يكون بعد الشهر الرابع؟
الشيخ: الطور الثاني والثالث في الشهر الثاني والثالث والرابع؛ لأنَّ الطور الأول أربعون، والطور الثاني أربعون، والطور الثالث أربعون، الجميع أربعة أشهر، مئة وعشرون يومًا بعدما يُنفخ فيه الروح.
س: لكن لغير ضرورةٍ لا يجوز؟
الشيخ: لا يجوز نعم.
س: يقال: جهل بسيط، أو جهل يسير؟
الشيخ: الجهل البسيط الذي ما هو بمركب، جهل أصلي، أما الجهل المركَّب عندهم الذي ما درى، ولا درى أنه ما درى، جاهل، ومع هذا لا يعلم أنه جاهل، قد لبس عليه.
س: هل يُقال في الأشاعرة والمعتزلة أنهم جهميَّة؟
الشيخ: يُقال: مبتدعة، الجهمية ينفون الصِّفات والأسماء جميعًا، فيقال في الأشاعرة ونحوهم: عندهم بدعة.
س: ..............؟
الشيخ: نعم، إذا كانوا مُوحدين فهم من الفرقة الناجية، وهم على خطرٍ إن كانت لهم معصية.
س: ..............؟
الشيخ: إن كانت بدعته تُكفره لا يترحم عليه، وإن كانت بدعته ما تُكفره يترحم عليه، مَن حكم بكفره لا يترحم عليه.
س: ...............؟
الشيخ: محل نظرٍ.
وكذلك أيضًا رُوي عنه ﷺ أنه نهى عن الصلاة في أماكن العذاب.
فروى أبو داود: عن سليمان بن داود: أخبرنا ابن وهب: حدَّثني ابنُ لهيعة ويحيى بن أزهر، عن عمار بن سعد المرادي، عن أبي صالح الغفاري: أنَّ عليًّا مرَّ ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذنُ يُؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذنَ فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: إنَّ حبي النبي ﷺ نهاني أن أُصلي في المقبرة، ونهاني أن أُصلي في أرض بابل؛ فإنها ملعونة.
ورواه أيضًا عن أحمد بن صالح: حدَّثنا ابن وهبٍ أيضًا: أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة، عن الحجاج بن شداد، عن أبي صالح الغفاري، عن عليٍّ بمعناه ولفظه: "فلما خرج منها" مكان "برز".
وقد روى الإمامُ أحمد في رواية ابنه عبدالله بإسنادٍ أوضح من هذا عن عليٍّ نحوًا من هذا: أنه كره الصلاةَ بأرض بابل، أو أرض الخسف، أو نحو ذلك.
وكره الإمامُ أحمد الصلاةَ في هذه الأمكنة اتِّباعًا لعليٍّ ، وقوله: "نهاني أن أُصلي في أرض بابل؛ فإنها ملعونة" يقتضي أن لا يُصلي في أرضٍ ملعونةٍ.
والحديث المشهور في الحجر يُوافق هذا، فإنه إذا كان قد نهى عن الدُّخول إلى أرض العذاب دخل في ذلك الصلاة وغيرها.
الشيخ: لأنَّ الرسول قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين؛ أن يُصيبكم ما أصابهم في أرض ثمود، نسأل الله العافية.
ويُوافق ذلك قوله سبحانه عن مسجد الضِّرار: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة:108]، فإنه كان من أمكنة العذاب، قال سبحانه: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة:109].
وقد رُوي أنه لما هُدم خرج منه دخان، وهذا كما أنه ندب إلى الصلاة في أمكنة الرحمة: كالمساجد الثلاثة، ومسجد قباء، فكذلك نهي عن الصلاة في أماكن العذاب.
فأما أماكن الكفر والمعاصي التي لم يكن فيها عذابٌ إذا جُعلت مكانًا للإيمان أو الطاعة فهذا حسن، كما أمر النبيُّ ﷺ أهلَ الطائف أن يجعلوا المسجدَ مكان طواغيتهم.
الشيخ: "طاغيتهم" بالإفراد، اللات يعني.
وأمر أهل اليمامة أن يتَّخذوا المسجدَ مكان بيعةٍ كانت عندهم.
وكان مسجده ﷺ مقبرةً، فجعله ﷺ مسجدًا بعد نبش القبور.
فإذا كانت الشريعةُ قد جاءت بالنَّهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حلَّ بهم فيه العذاب، فكيف بمُشاركتهم في الأعمال التي يعملونها؟
فإنه إذا قيل: هذا العمل الذي يعملونه لو تجرد عن مُشابهتهم لم يكن مُحرَّمًا، ونحن لا نقصد التَّشبه بهم فيه، فنفس الدخول إلى المكان ليس بمعصيةٍ لو تجرد عن كونه أثرهم، ونحن لا نقصد التَّشبه بهم، بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار؛ فإنَّ جميع ما يعملونه مما ليس من أعمال المسلمين السابقين: إما كفر، وإما معصية، وإما شعار كفر، أو معصية، وإما مظنة للكفر والمعصية، وإما أن يخاف أن يجرّ إلى معصيةٍ.
وما أحسب أحدًا يُنازع في جميع هذا، ولئن نازع فيه فلا يُمكنه أن يُنازع في أنَّ المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية، وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان.
ألا ترى أنَّ متابعة النبيين والصّديقين والشُّهداء والصَّالحين في أعمالهم أنفع وأولى من مُتابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم؟
وأيضًا ما هو صريح في الدلالة ما روى أبو داود في "سننه": حدثنا عثمان ابن أبي شيبة: حدثنا أبو النضر -يعني: هاشم بن القاسم- حدَّثنا عبدُالرحمن بن ثابت: حدَّثنا حسان بن عطية، عن أبي مُنيب الجرشي، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم.
وهذا إسناد جيد؛ فإنَّ ابن أبي شيبة وأبا النضر وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء، من رجال "الصَّحيحين"، وهم أجلّ من أن يُحتاج إلى أن يُقال: هم من رجال "الصحيحين".
وأما عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان فقال يحيى بن معين وأبو زرعة وأحمد بن عبدالله: ليس به بأس.
وقال عبدالرحمن بن إبراهيم دحيم: هو ثقة. وقال أبو حاتم: هو مستقيم الحديث.
وأما أبو منيب الجرشي فقال: فيه أحمد بن عبدالله العجلي، هو ثقة، وما علمتُ أحدًا ذكره بسوءٍ، وقد سمع منه حسان بن عطية، وقد احتجَّ الإمامُ أحمد وغيرُه بهذا الحديث.
وهذا الحديث أقلّ أحواله أن يقتضي تحريم التَّشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبّه بهم، كما في قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
وهو نظير ما سنذكره عن عبدالله بن عمرو، أنه قال: مَن بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبَّه بهم حتى يموت حُشر معهم يوم القيامة.
فقد يُحمل هذا على التَّشبه المطلق، فإنه يُوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يُحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصيةً أو شعارًا لها كان حكمه كذلك.
وبكل حالٍ يقتضي تحريم التَّشبه بعلة كونه تشبهًا، والتَّشبه يعمّ مَن فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر، ومَن تبع غيره في فعلٍ لغرضٍ له في ذلك، إذا كان أصلُ الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير.
فأما مَن فعل الشيء واتَّفق أنَّ الغير فعله أيضًا ولم يأخذه أحدُهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبُّهًا نظر، لكن قد يُنهى عن هذا؛ لئلا يكون ذريعةً إلى التَّشبه، ولما فيه من المخالفة، كما أمر بصبغ اللِّحَى وإحفاء الشَّوارب، مع أنَّ قوله ﷺ: غيِّروا الشَّيب، ولا تشبّهوا باليهود دليل على أنَّ التَّشبه بهم يحصل بغير قصدٍ منا، ولا فعل، بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية.
وقد رُوي في هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ ﷺ أنه نهى عن التَّشبه بالأعاجم وقال: مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، ذكره القاضي أبو يعلى.
وبهذا احتجَّ غير واحدٍ من العلماء على كراهة أشياء من زيِّ غير المسلمين، قال محمد ابن أبي حرب: سُئل أحمد عن نعلٍ سندي يخرج فيه، فكرهه للرجل والمرأة، وقال: إن كان للكنيف والوضوء، وأكره الصرار. وقال: هو من زيِّ العجم.
وقد سُئل سعيد بن عامر عنه فقال: سنة نبينا أحبّ إلينا من سنة باكهن.
وقال في رواية المروذي وقد سأله عن النَّعل السندي فقال: أما أنا فلا أستعملها، ولكن إن كان للطين أو المخرج فأرجو، وأما مَن أراد الزينةَ فلا. ورأى على باب المخرج نعلًا سنديًّا فقال: يتشبه بأولاد الملوك.
وقال حربُ الكرماني: قلتُ لأحمد: فهذه النِّعال الغِلاظ؟ قال: هذه السندية. قال: إذا كان للوضوء أو للكنيف أو لموضع ضرورةٍ فلا بأس. وكأنه كره أن يمشي فيها في الأزقة، قيل: فالنعل من الخشب. قال: لا بأس بها أيضًا إذا كان موضع ضرورةٍ.
قال حرب: حدَّثنا أحمد بن نصر: حدَّثنا حبان بن موسى قال: سُئل ابن المبارك عن هذه النِّعال الكرمانية فلم تُعجبه وقال: أما في هذه غنية عن تلك؟
وروى الخلال عن أحمد بن إبراهيم الدَّورقي قال: سألتُ سعيد بن عامر عن لباس النعال السبتية فقال: زيّ نبينا أحبّ إلينا من زيّ باكهن ملك الهند، ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة.
سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علمًا ودينًا، من شيوخ الإمام أحمد.
قال يحيى بن سعيدٍ القطان وذُكر عنده سعيد بن عامر فقال: هو شيخ المصر منذ أربعين سنة.
وقال أبو مسعود ابن الفرات: ما رأيتُ بالبصرة مثل سعيد بن عامر.
وقال الميموني: رأيتُ أبا عبدالله عمامته تحت ذقنه، ويكره غير ذلك، وقال: العربُ عمائمها تحت أذقانها.
وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد: يكره أن لا تكون العمامةُ تحت الحنك كراهيةً شديدةً. وقال: إنما يتعمم بمثل ذلك اليهودُ والنصارى والمجوس.
ولهذا أيضًا كره أحمدُ لباس أشياء كانت شعار الظلمة في وقته، من السَّواد ونحوه، وكره هو وغيره تغميض العين في الصلاة وقال: هو من فعل اليهود.
وقد روى أبو حفص العكبري بإسناده عن بلال ابن أبي حدرد قال: قال رسولُ الله ﷺ: تمعددوا، واخشوشنوا، وانتعلوا، وامشوا حُفاةً.
س: لبس البنطلون؟
الشيخ: كل ما كان من لبس الكفَّار لا يجوز التَّشبه بهم، البنطلون وغيره: مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، ما كان من خصائصهم يُترك.
س: ...............؟
الشيخ: لا، غلط.
س: ...............؟
الشيخ: ما يجوز السفر إلى بلاد الكفار، إلا إنسان يدعو إلى الله، ويُعلم الناس، ويأمن على دينه، ويُعلم الناس الخير.
س: ظهوره في بعض البلاد الإسلامية: البنطلون؟
الشيخ: إذا كان من لبس الكفَّار لا يلبسه، يلبس لباس قومه، لباس بلده.
س: .............؟
الشيخ: نعم، إذا اشترك المسلمون زالت الكراهة، نعم.