اقتضاء الصراط المستقيم 1

وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [التوبة:69]، وهذا هو المقصود هنا من هذه الآية، وهو أنَّ الله قد أخبر أنَّ في هذه الأمة مَن استمتع بخلاقه، كما استمتعت الأممُ قبلهم، وخاض كالذي خاضوا، وذمَّهم على ذلك، وتوعَّدهم على ذلك، ثم حضَّهم على الاعتبار بمَن قبلهم فقال: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الآية [التوبة:70].

وقد قدمنا أنَّ طاعة الله ورسوله في وصف المؤمنين بإزاء ما وصف به هؤلاء من مُشابهة القرون المتقدمة، وذم مَن يفعل ذلك، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين بعد هذه الآية دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين.

الشيخ: وهذا هو الواجب على المؤمن: أن يكون على طريقة الحقِّ، وأن يستقيم على الهدى ويتبع المؤمنين، وأن يحذر الأمم الضَّالة، وأن يحذر خوضهم بالباطل؛ ولهذا ذمَّهم قال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69]، فالواجب الحذر من أخلاق الضَّالين وبغضهم وجدالهم بغير حقٍّ، وأن يستقيم على الحقِّ، ويحذر ما عليه أهل الباطل من سائر الأمم.

ثم هذا الذي دلَّ عليه الكتابُ من مُشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدِّين، وذمّ مَن يفعل ذلك، دلَّت عليه أيضًا سنة رسول الله ﷺ، وتأول الآية على ذلك أصحابه .

فعن أبي هريرة ، عن النبيِّ ﷺ قال: لتأخذن كما أخذت الأممُ من قبلكم، ذراعًا بذراعٍ، وشبرًا بشبرٍ، وباعًا بباعٍ، حتى لو أنَّ أحدًا من أولئك دخل حُجر ضبٍّ لدخلتُموه، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتُم: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً الآية [التوبة:69]، قالوا: يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟.

الشيخ: وهذا هو الواقع: اتِّباع الناس لمن قبلهم إلا مَن رحم الله، شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ: فارس والروم وغيرهم من أعداء الله.

فالواجب الحذر من التَّشبه بهم، والسير على منهاجهم الباطل، وأن يأخذ المؤمنُ بما قاله الله ورسوله، وأن يستقيم على ما قاله الله ورسوله، وألا يغترَّ بأحوال الماضين، أو الحاضرين من أهل الشرك والضَّلالة، فالرسول حذَّر منهم قال: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، وهذا الخبر من باب التَّحذير، ولما قيل: فارس والروم؟ قال: فمَن الناس إلا أولئك؟ وفي اللفظ الآخر: اليهود والنصارى؟ قال: فمَن الناس إلا أولئك؟، فالمقصود الكفرة: كفارس المجوس والروم من النصارى أو اليهود، وغيرهم من الشيوعيين والملاحدة الذين لا يُقرون بشيءٍ من الأديان.

فهذا وقع في الناس؛ اتَّبع ناسٌ هؤلاء، وناس هؤلاء، وناس هؤلاء، ولم ينجُ من هذا الباطل إلا القليل، كما قال : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وقال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، فلا ينبغي للعاقل أن يغترَّ بالكثرة، وأن ينظر في الدليل، وأن ينظر في الصِّفات والأخلاق، فإن كانت موافقةً للشرع أخذ بها، وإلا تركها.

وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم.

وعن ابن مسعودٍ أنه قال: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتًا وهديًا؛ تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري: أتعبدون العجلَ أم لا؟

وعن حُذيفة بن اليمان قال: المنافقون الذين منكم اليوم شرٌّ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ، قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه.

وأما السنة فجاءت بالإخبار بمُشابهتهم في الدنيا.

الشيخ: والمقصود من هذا الحذر، فالمنافقون في عهد النبيِّ يُسرون نفاقهم، وهؤلاء المنافقون بعد النبيِّ ﷺ -مثلما قال حُذيفة- يُعلنون ويجرون الناسَ إلى الباطل، ويُزينون لهم الباطل باسم الدِّين، كله من نفاقهم وضلالهم، فالواجب الحذر؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، ويقول سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، فليس المرد إلى قول فلانٍ أو فلانٍ، أو رأي فلانٍ أو فلانٍ، لا، المرد عند تنازع الناس إلى ما قاله الله ورسوله، وما شرعه الله وبيَّنه في كتابه، أو بيَّنه رسولُه ﷺ.

وذمّ ذلك، والنَّهي عن ذلك، وكذلك في الدِّين.

فأما الأول الذي هو الاستمتاع بالخلاقِ: ففي "الصحيحين" عن عمرو بن عوف: أنَّ رسول الله ﷺ بعث أبا عبيدة ابن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسولُ الله ﷺ هو صالَح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمالٍ من البحرين، فسمعت الأنصارُ بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله ﷺ، فلما صلَّى رسولُ الله ﷺ انصرف، فتعرَّضوا له، فتبسَّم رسولُ الله ﷺ حين رآهم، ثم قال: أظنّكم سمعتُم أنَّ أبا عبيدة قدم بشيءٍ من البحرين، فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال: أبشروا وأملِّوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم، كما بُسطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم.

الشيخ: الله أكبر! هذا الذي خافه النبيُّ، خاف الفتنةَ بالدنيا؛ ولهذا قال: أبشروا بما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، لكن فتنة المال، وفتنة الوظائف، وفتنة السمعة، وطلب العلو في الأرض، أما الفقر ما هو بالخطر، الخطر في المباحات، وفي كثرة الدنيا، والتوسع فيها حتى تشغله عن طاعة الله، وعن حقِّ الله.

فقد أخبر ﷺ أنه لا يخاف فتنةَ الفقر، وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها وإهلاكها، وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية.

وفي "الصحيحين" عن عقبة بن عامر: أنَّ النبي ﷺ خرج يومًا، فصلَّى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم.

الشيخ: يعني: سابق لكم، الفرط: السابق الذي يسبق قومه إلى المنزل، ويُهيئ لهم الطعام والمنزل، يقول: أنا أمامك، يعني: إلى الجنة عليه الصلاة والسلام، أمام أمته، وهو فرط أمته إلى الجنة، وسابقهم إلى الجنة، يعني: فاستقيموا على الحقِّ حتى تلحقوا بي.

إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيتُ مفاتيح خزائن الأرض -أو مفاتيح الأرض- وإني والله ما أخاف عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها.

الشيخ: خاف على الصَّحابة التنافس، ما خاف عليهم الشِّرك؛ لأنَّ الله قد أعطاهم الإيمان والبصيرة، وأعطاهم الهدى، فخاف عليهم من التَّنافس عليه الصلاة والسلام.

وفي روايةٍ: ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك مَن كان قبلكم.

قال عقبة: فكان آخر ما رأيتُ رسول الله ﷺ على المنبر.

وفي "صحيح مسلم" عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، عن رسول الله ﷺ قال: إذا فُتحت عليكم خزائنُ فارس والروم أيّ قومٍ أنتم؟ قال عبدالرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله ، فقال رسول الله ﷺ: تنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، أو تتباغضون، أو غير ذلك، ثم تنطلقون إلى مساكين المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعضٍ.

وفي "الصحيحين" عن أبي سعيدٍ قال: جلس رسولُ الله ﷺ على المنبر وجلسنا حوله، فقال: إنَّ مما أخاف عليكم بعدي: ما يُفتح من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجلٌ: أَوَيَأتي الخيرُ بالشرِّ يا رسول الله؟ فسكت عنه رسولُ الله ﷺ، فقيل: ما شأنك تُكلم رسول الله ولا يُكلمك؟ قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرحضاء، وقال: أين هذا السَّائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخيرُ بالشَّر. وفي روايةٍ: فقال: أين السائل آنفًا؟ أَوَخَير هو؟ -ثلاثًا- إنَّ الخير لا يأتي إلا بالخير، وإنَّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا، أو يلمّ، إلا آكلة الخضر؛ فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت، ثم رتعت، وإنَّ هذا المال خضر حلو، ونِعم صاحب المسلم هو، لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، أو كما قال رسولُ الله ﷺ: وإنه مَن يأخذه بغير حقِّه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شاهدًا يوم القيامة.

وروى مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيدٍ ، عن النبيِّ ﷺ قال: إنَّ الدنيا حلوة خضرة، وإنَّ الله سبحانه مُستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؟ فاتَّقوا الدنيا، واتَّقوا النساء؛ فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النِّساء.

الشيخ: علَّمهم أنه لا يأتي الخيرُ بالشَّر، الخير يأتي بالخير، والطاعة تأتي بالطاعة، والهدى يأتي بالهدى، والعلم النافع يأتي بالخير، ولكن هل المال خير؟ خطر المال فتنة: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، فالمال فتنة قد يضلّ به، وقد يهتدي به، يُمتحن: فإن صرفه في طاعة الله واتَّقى فيه ربه صار خيرًا له، وإن استعان بالمال على معاصي الله، وعلى ظلم عباد الله، صار شرًّا له.

ونعم المال الطيب للرجل الصالح، نعم المال الصالح للرجل الصالح الذي يُعطي منه الفقير والمسكين وابن السبيل، ويُنفقه في وجوه البرِّ، ويستعين به على طاعة الله، أما إذا كان استعان به على معاصي الله صار شرًّا في حقِّه؛ ولهذا قال ﷺ: إنَّ الدنيا حلوة خضرة، الناس يرونها خضرة حلوة، ويستحلونها، محبَّة المال معروفة والشَّهوات: وإنَّ الله مُستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؟ فاتَّقوا الدنيا، واتَّقوا النِّساء يعني: اتَّقوا فتنة الدنيا بالتَّحاسد، أو الاستعانة بها على معاصي الله، أو صرفها في القتال على الباطل، أو صرفها في قطيعة الرحم، أو غير هذا.

فاتَّقوا الدنيا، واتَّقوا النِّساء؛ فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النِّساء يعني: اتَّقوا طاعة النساء، أو الشغل بالنساء، أو الفتنة بالنساء من جهة الفواحش والزنا، أو من جهة طاعتهن في محارم الله، المقصود: اتَّقوا النساء فيما يضرّ.

فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء يُروى أنَّ بني إسرائيل في بعض أيامهم ابتُلوا بالنِّساء، ودخل في جيوشهم جماعةٌ من النِّساء المزينات، فوقعوا في الفاحشة، فهلك منهم سبعون ألفًا في يومٍ واحدٍ.

المقصود أنَّ الفتنة عظيمة، قد تكون بفتنة الزنا والفواحش، وقد تكون بفتنٍ أخرى يُزينها النساء، والغالب فتنة الفواحش: فتنة الزنا والفاحشة، وعدم الاقتصار على النكاح الشرعي.

فالواجب على المؤمن أن يتَّقي الله في المال، وفي النساء، فلا يستحلّ من النساء إلا ما أباح الله بالنكاح الشرعي والملك الشرعي، والله المستعان، وهكذا الحذر من ظلمهنَّ والتَّعدي عليهن.

فحذر رسولُ الله ﷺ فتنة النساء، مُعلِّلًا بأنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.

وهذا نظير ما سنذكره من حديث معاوية عنه ﷺ أنه قال: إنما هلك بنو إسرائيل حين اتَّخذ هذه نساؤهم يعني: وصل الشعر.

الشيخ: كبّة الشعر، يعني: كبّة الشعر، وصل الشعر.

وكثير من مُشابهات أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها إنما يدعو إليها النِّساء.