الطالب: إنَّ في الجنة؟
الشيخ: نعم، في الجنة.
الطالب: إنَّ الجنة؟
الشيخ: الذي أتذكر أنه "في الجنة"، لكن يُراجع، الحديث الصحيح: إنَّ في الجنة مئة درجةٍ، ثم هناك درجات فيما بين الدَّرجات، الدَّرجات العامَّة فيها الدَّرجات الأخرى، سبحان الله! ما أعظم شأنه!
الشيخ: بسط الكلام في هذا في "حادي الأرواح" لابن القيم رحمه الله في درجات الجنة.
كَمَا قَالَ غيرُ وَاحِدٍ من السَّلف: ينجون من النَّار بِعَفْو الله ومغفرته، ويدخلون الْجنَّةَ بفضله وَنعمته ومغفرته، ويتقاسمون الْمنَازلَ بأعمالهم.
وعَلى هَذَا حمل غيرُ وَاحِدٍ مَا جَاءَ من إِثْبَات دُخُول الْجنَّة بالأعمال، كَقَوْلِه تَعَالَى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[الزخرف:72]، وَقَوله تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32].
قَالُوا: وَأمَّا نفي دخلوها بالأعمال كَمَا فِي قَوْله: لن يَدْخلَ الْجنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أنتَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وَلَا أنا، فَالْمُرَاد منه نفي أصل الدُّخُول.
الشيخ: أصل الدُّخول برحمة الله، وأسبابه العمل، والقول الثاني: أنَّ الباء للعوض: لا يدخل الجنةَ بعوض أعماله، ولكنَّها برحمة الله، وإنما الأعمال سبب، فالباء باء السَّببية: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني: بسبب، ولكن المعول على رحمة الله وفضله .
الشيخ: نفس الأعمال من فضله، نفس الأعمال، وتوفيقه له، وإعانته له عليها، كلها من فضله ومن رحمته .
فَإِنَّ أعماله وَإِن وَقعت مِنْهُ على الْوَجْه الَّذِي يُحِبُّهُ الله ويرضاه فَهِيَ لَا تُقاوم نعْمَة الله الَّتِي أنْعَمَ بهَا عَلَيْهِ فِي دَار الدُّنْيَا، وَلَا تُعادلها، بل لَو حَاسبه لوقعت أعمالُه كلهَا فِي مُقَابلَة الْيَسِير من نعمه، وَتبقى بَقِيَّةُ النِّعَم مُقتضية لشُكرها، فَلَو عذَّبه فِي هَذِه الْحَالةِ لعذَّبه وَهُوَ غير ظَالِمٍ لَهُ، وَلَو رَحِمَه لكَانَتْ رَحمتُه خيرًا لَهُ من عمله، كَمَا فِي السُّنَن من حَدِيث زيد بن ثَابتٍ وَحُذَيْفَة وَغَيرهمَا مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ أنه قَالَ: أنَّ الله لَو عذَّب أهل سماواته وَأهل أرضه لعذَّبهم وَهُوَ غير ظَالِمٍ لَهُم، وَلَو رَحِمَهم لكَانَتْ رَحمتُه خيرًا لَهُم من أعمالهم.
وَالْمَقْصُود أنَّ حكمته سُبْحَانَهُ اقْتَضَت خلق الْجنَّة دَرَجَات بَعْضهَا فَوق بعضٍ، وعمارتها بِآدَم وَذريته، وَإِنْزَالهمْ فِيهَا بِحَسب أعمالهم، ولازم هَذَا إنزالهم إلى دَار الْعَمَل والمجاهدة.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خلق آدمَ وَذُريته ليستخلفهم فِي الأرض، كَمَا أخبر سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه بقوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، وَقَوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام:165]، وَقَالَ: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الأعراف:129].
فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أن يَنْقُلَهُ وَذُريته من هَذَا الِاسْتِخْلَاف إلى توريثه جنَّة الْخُلد، وَعلم سُبْحَانَهُ بسابق علمه أنه لضَعْفه وقصور نظره قد يخْتَار العاجلَ الخسيسَ على الآجل النَّفيس؛ فَإِنَّ النَّفس مُولعة بحب العاجلة وإيثارها على الآخرة، وَهَذَا من لَوَازِم كَونه خُلق من عجلٍ، وَكَونه خُلق عجولًا، فَعلم سُبْحَانَهُ مَا فِي طَبِيعَته من الضَّعْف والخور، فاقتضت حكمتُه أن أدخله الْجنَّةَ ليعرف النَّعيمَ الَّذِي أُعدَّ لَهُ عيَانًا، فَيكون إليه أشوق، وَعَليهِ أحرص، وَله أشدّ طلبًا، فَإِنَّ محبَّةَ الشَّيْءِ وَطَلَبه والشَّوق إليه من لَوَازِم تصَوره، فَمَن بَاشر طيبَ شَيْءٍ ولذَّته وتذوق بِهِ لم يكد يصبر عَنهُ؛ وَهَذَا لَأنَّ النَّفس ذوَّاقة توَّاقة، فَإِذا ذاقت تاقت؛ وَلِهَذَا إِذا ذاق العَبْدُ طعمَ حلاوة الإيمان، وخالطت بشاشتُه قلبَه رسخ فِيهِ حبُّه، وَلم يُؤثِر عَلَيْهِ شَيْئًا أبدًا.
الشيخ: "لم" بدون واوٍ، هذا الجواب.
الطالب: تصويب الحديث: "إنَّ في الجنَّة"، الحديث موجود في البخاري، يقول سلَّمك الله: قال النبيُّ ﷺ: مَن آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان؛ كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنةَ، جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي وُلِدَ فيها، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نُبشر الناس؟ قال: إنَّ في الجنة مئة درجةٍ ...
الشيخ: هذا المعروف، نعم.
الطالب: جواب الشَّرط أليس "رسخ"؟
الشيخ: فإن أيش؟
الطالب: وَلِهَذَا إِذا ذاق العَبْدُ طعمَ حلاوة الإيمان، وخالطت بشاشتُه قلبَه رسخ فِيهِ حبُّه، وَلم يُؤثِر عَلَيْهِ شَيْئًا أبدًا.
الشيخ: الجواب "رسخ"، طيب، ماشٍ.
وَفِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَرْفُوع: أنَّ الله يسْأَل الْمَلَائِكَةَ فَيَقُول: مَا يسألني عبَادي؟ فَيَقُولُونَ: يَسْأَلُونَك الْجنَّةَ، فَيَقُول: وَهل رأوها؟ فَيَقُولُونَ: لَا يَا ربّ، فَيَقُول: كَيفَ لَو رأوها؟ فَيَقُولُونَ: لَو رأوها لكانوا أَشدَّ لَهَا طلبًا، فاقتضت حكمتُه أن أراها أباهم، وَأَسْكَنَهُ إِيَّاهَا، ثمَّ قصَّ على بنيه قصَّته، فصاروا كَأَنَّهُمْ مُشاهدون لَهَا، حاضرون مَعَ أبيهم، فَاسْتَجَاب مَن خُلِقَ لَهَا وخُلِقَت لَهُ، وسارع إليها، فَلم يُثنه عَنْهَا العاجلة، بل يعدّ نَفسه كأنه فِيهَا ثمَّ سباه الْعَدو، فيراها وَطنه الأول، فَهُوَ دَائِم الحنين إلى وَطنه، وَلَا يقرّ لَهُ قَرَار حَتَّى يرى نَفسه فِيهِ، كَمَا قيل:
نقِّل فُؤَادَك حَيْثُ شِئْتَ من الْهَوَى | مَا الْحبُّ إِلَّا للحبيب الأول |
كم منزلٍ فِي الأرض يألفه الْفَتى | وحنينه أبدًا لأول منزلِ |
ولي من أبياتٍ تلمّ بِهَذَا الْمَعْنى:
وحيَّ على جنَّات عدنٍ فَإِنَّهَا | منازلك الأولى وفيهَا المخيّم |
ولكننا سبي الْعَدو فَهَل ترى | نعود إلى أوطاننا ونسلم |
الشيخ: هذا من قصيدته الميمية رحمه الله: نُسَلَّم، ونُسَلِّم، يعني: نُسَلَّم من الأذى، يصلح "نُسَلَّم" كما هو معروف، الأحسن، و"نُسَلَّم" من السَّلامة، ومعنى "نُسَلِّم" يعني: نُسلِّم على مَن هناك، لكن المقام يقتضي السَّلامة هناك: نُسَلَّم، نعود إلى أوطاننا ونُسَلَّم من شرِّ هذه العاجلة.