بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
الحمد لله الذي تتابعت على خلقه نعمه، وترادفت لديهم مِنَنُه، وتكاملت فيهم حججه، بواضح البيان، وبين البرهان، ومحكم آي الفرقان: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].
وصلى الله على سيد الأصفياء وخاتم الأنبياء محمد وآله وسلم كثيرًا.
قال أبو جعفر: ثم أما بعد: ذلكم معاشر حملة الآثار ونقلة سنن الأخبار من المُهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسانٍ من أهل آمل طبرستان، فإنكم سألتُموني تبصيركم سبل الرشاد في القول فيما تنازعت فيه أمةُ نبينا محمدٍ ﷺ من بعد فراقه إياهم، واختلفت فيه بعده من أمر دينهم، مع اجتماع كلمة جميعهم على أنَّ ربَّهم تعالى ذكره واحدٌ، ونبيهم محمدٌ ﷺ صادقٌ، وقبلتهم واحدةٌ.
وقلتم: قد كثرت الأهواء، وتشتت الآراء، وتنابز الناس بالألقاب، وتعادوا فتباغضوا وافترقوا، وقد أمرهم الله تعالى ذكره بالألفة، ونهاهم عن الفُرقة، فقال جلَّ ذكره في مُحكم كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:102- 105].
وقال تعالى ذكره: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13].
وقلتم: هذا كتاب الله المُنزل، وتنزيله المحكم، يأمر بالائتلاف، وينهى عن الاختلاف، وقد خالف ذلك مَن قد علمتم من الأمة؛ فكفر بعضهم بعضًا، وتبرأ بعضٌ من بعضٍ، وكل حزبٍ يُدلي بحجةٍ لما يظهر من اعتقاده؛ فيلعن -على القول بخلافه فيه- مَن خالفه، ولا سيما في زماننا هذا، وبلدتنا هذه، فإنَّ المصدور عن قوله فيهم، والمأخوذ معالم الدين عنه منهم الأجهل، والمقنوع برأيه وعلمه في نوازل الحلال والحرام وشرائع الإسلام عندهم الأسفه الأرذل.
فالمُسترشد منهم حائرٌ، تزيده الليالي والأيام على طول استرشاده إياهم حيرةً، والمُستهدي منهم إلى الحقِّ فيهم تائهٌ، يتردد على كرِّ الدهور باستهدائه إياهم في ظلمةٍ لا يتبين حقًّا من باطلٍ، ولا صوابًا من خطأ.
وسألتُموني إيضاح قصد السبيل، وتبيين هدي الطريق لكم في ذلك بواضحٍ من القول وجيز، وبيّن من البرهان بليغ؛ ليكون ذلك لكم إمامًا في القول فيما اشتجر فيه الماضون تأتمون به، وعمادًا تعتمدون عليه فيما تبتغونه من معرفة صحة القول في الحوادث والنَّوائب فيما يختلف فيه الغابرون.
وإن مسألتكم إياي صادفت مني فيكم تحريًا، ووافقت مني لكم احتسابًا؛ لما صحَّ عندي، وتقرر لديَّ من خصوص عظيم البلاء ببلدكم دون بلاد الناس سواكم من ترؤس الرويبضة فيكم، واستعلاء أعلام الفجرة عليكم، وإعلانهم صريح الكفر جهرةً بينكم، وإصغاء عوامكم لهم، وترك وزعتكم إلحاقهم بنظائرهم بقتلهم ثم صلبهم والتَّمثيل بهم، حتى لقد بلغني عن جماعةٍ منهم أنَّ الأمنية بينكم بلغت بهم، والجرأة عليكم حملتهم على إظهار نوعٍ من الكفر لا يعلم أنه دان به يهوديٌّ، ولا نصرانيٌّ، ولا مجوسيٌّ، ولا وثنيٌّ، ولا زنديقٌ، ولا ثنويٌّ، ولا جنسٌ من أجناس أهل الكفر سواهم، وهو أنَّ أحدهم -فيما ذُكر لي- يخط بيده في التراب اسم الله، ويكتب بيده نحوه على اللوح، أو ينطق بلسانه، ثم يقول: "قولي هذا الذي قلته ربي الذي أعبده، وكتاب هذا الذي كتبته خالقي الذي خلقني".
ويزعم أنَّ علَّته في صحة القول بذلك أنَّ أبا زرعة وأبا حاتم الرَّازيين قالا: "الاسم هو المُسمَّى".
فلا هو يعقل الاسم، ولا يعرف المُسمَّى، ولا هو يدري ما مراد القائل: الاسم هو المُسمَّى، ولا مراد القائل: الاسم غير المُسمَّى، ولا مراد القائل: لا هو المُسمَّى، ولا غير المُسمَّى. بلادة وعمى.
فسبحان الله! لقد عظمت مزلة هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم، الزاعمين أنَّهم يعملون ربهم بأيديهم، ويُحدثونه بألسنتهم كلما شاءوا، ويُفنونه بعد إحداثهموه كلما أحبوا، لقد خابوا وخسروا، وضلوا بفريتهم هذه على الله ضلالًا بعيدًا، وقالوا على الله قولًا عظيمًا.
وغير بديع -رحمكم الله- أن يُصغى إلى مثل هذا العظيم من الكفر العجيب، فيتقبله مَن كان قد أخذ عن آبائه الدينونة بنبوة السندي الرشنيق، ويقبل منهم عنه تحليل الزنا، وإباحة فروج النساء بغير نكاحٍ ولا شراء، ومَن كان داينًا بإمامة مَن رأى أن المآثم تزول عن الزاني بامرأة رجلٍ بإحلال زوجها له ذلك.
وإنَّ بلدةً وُجد فيها أشكال مَن ذكرنا على جهله وعمى قلبه اتباعًا، وسلم فيها من سفك دمه جهارًا، لحريٌّ أن تكون الأقلام عن أهلها مرفوعةً، وأن يكون الإثمُ عنهم موضوعًا، وجديرون أن يتركوا في طغيانهم يعمهون، وفي دُجى الظلماء يترددون، غير أني تحريتُ بياني ما بينتُ، وإيضاحي ما أوضحتُ في كتابي هذا لذوي الأفهام والألباب منكم؛ ليكون ذلك ذكرى لمَن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
فليدبر كل مَن قرأ -منكم ومن سائر الناس غيركم- كتابي هذا بإشعار نفسه نصحها، وطلبه حضّها، وتركه تقليد الرؤوس الجهال، ودُعاة الضَّلال؛ فإني لم آل نفسي فيه وإياكم والمسلمين نصحًا، فإلى الله أرغب في حسن التوفيق، وإصابة القول في توحيده وعدله وشرائع دينه، والعون على ما يقرب من محابه، إنه سميعٌ قريب، وصلَّى الله على محمدٍ النبي وسلم تسليمًا.
القول في المعاني التي تُدرك حقائق المعلومات من أمور الدِّين، وما يسع الجهل به منه، وما لا يسع ذلك فيه، وما يُعذر بالخطأ فيه المُجتهد الطالب، وما لا يُعذر بذلك فيه.
اعلموا -رحمكم الله- أنَّ كلَّ معلومٍ للخلق من أمر الدين والدنيا أن تخرج من أحد معنيين:
(أ) من أن يكون إما معلومًا لهم بإدراك حواسهم إياه.
(ب) وإما معلومًا لهم بالاستدلال عليه بما أدركته حواسهم.
ثم لن يعدو جميع أمور الدين –الذي امتحن اللهُ به عباده- معنيين:
أحدهما: توحيد الله وعدله.
والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلالٍ وحرامٍ وأقضيةٍ وأحكامٍ.
(أ) فأما توحيده وعدله فمُدركةٌ حقيقة علمه استدلالًا بما أدركته الحواس.
(ب) وأما شرائعه فمُدركةٌ حقيقة علم بعضها حسًّا بالسمع، وعلم بعضها استدلالًا بما أدركته حاسة السمع.
ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه منه استدلالًا على وجهين:
أحدهما: معذورٌ فيه بالخطأ والمُخطئ، ومأجورٌ فيه على الاجتهاد والفحص والطلب، كما قال رسولُ الله ﷺ: مَن اجتهد فأصاب فله أجران، ومَن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ.
وذلك الخطأ فيما كانت الأدلةُ على الصحيح من القول فيه مُختلفةً غير مُؤتلفةٍ، والأصول في الدلالة عليه مُفترقةً غير متفقةٍ.
وإن كان لا يخلو من دليلٍ على الصحيح من القول فيه يميز بينه وبين السقيم منه، غير أنه يغمض بعضه غموضًا يخفى على كثيرٍ من طلابه، ويلتبس على كثيرٍ من بغاته.
والآخر منهما غير معذورٍ بالخطأ فيه مكلفٌ، قد بلغ حدَّ الأمر والنَّهي، ومُكفرٌ بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلةُ الدالة على صحَّته متَّفقةً غير مفترقةٍ، ومُؤتلفةً غير مُختلفةٍ، وهي مع ذلك ظاهرةٌ للحواس.
وأما ما أدركت حقيقة علمه منه حسًّا، فغير لازمٍ فرضه أحدًا إلا بعد وقوعه تحت حسِّه، فأما وهو واقعٌ تحت حسِّه فلا سبيلَ له إلى العلم به، وإذا لم تكن له إلى العلم به سبيلٌ لم يجز تكليفه فرض العمل به، مع ارتفاع العلم به؛ وذلك أنه مَن لم ينتهِ إليه الخبر بأنَّ الله تعالى ذكره بعث رسولًا يأمر الناس بإقامة خمس صلواتٍ كل يومٍ وليلةٍ؛ لم يجز أن يكون مُعذَّبًا على تركه إقامة الصَّلوات الخمس؛ لأنَّ ذلك من الأمر الذي لا يُدرك إلا بالسماع، ومَن لم يسمع ذلك ولم يبلغه؛ فلم تلزمه الحُجَّة به، وإنما يلزم فرضه مَن ثبتت عليه به الحُجَّة.
الشيخ: ولهذا يقول العلماء في أهل الفترة: هم الذين ما بلغتهم الحُجَّة، يُمتحنون يوم القيامة؛ فمَن أجاب دخل الجنة، ومَن عصى دخل النار، وأما مَن بلغته الحُجَّة: قال الله، وقال رسوله؛ لزمه الحقّ، مَن سمع أخبار الله ورسوله في الصلاة وفي الزكاة والصيام والحج وغير ذلك وجب عليه، وأخذ به إذا ضيعه.
أما مَن كان في جهات بعيدة لم يسمع القرآن ولا السنة، ولم يبلغه شيء؛ فهذا من أهل الفترة، ويُسمَّى: صاحب فترة، ويُمتحن يوم القيامة، ويُؤمر ويُنهى يوم القيامة، فإن أجاب دخل الجنةَ، وإن عصى دخل النار.
س: مَن لم تبلغه الحُجَّة متصور في زماننا؟
ج: نعم متصور؛ قد يكون في بعض الجهات: في الشرق أو الغرب، ليس عنده إذاعة، ولا عنده دعاة، قد يكون الحكم مناطًا بالوجود، فإذا وجد مَن لم تبلغه الدَّعوة فهذا حكمه، يقول جلَّ وعلا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فإذا كان في جهةٍ من الجهات: في الغرب أو في الشرق أو في الشمال أو في الجنوب، ما سمع قرآنًا ولا سنةً، ولا سمع الدُّعاة إلى الله؛ فهو من جنس البهائم، ممن يُمتحن يوم القيامة.
س: ما الفائدة من أخذ العهد عليهم في ظهر أبيهم آدم؟
ج: هذا يعني على آدم، لا يُؤاخذ به الإنسان، أُخذ هذا العهد على آدم نفسه، أما الإنسان فيُؤخذ بالرسل التي جاءته.
س: قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] ما المراد به؟
ج: هذا في الأصلاب، ولا يُؤاخذ به إلا إذا جاءته الرسل.
س: إذا كان في أطراف الدنيا وسمع بالإسلام سماعًا مُشوشًا أو مغلوطًا لم يتميز له؟
ج: ما تقوم عليه الحُجَّة حتى تبلغه الآيات أو النصوص من الرسول ﷺ، حتى يسمع ما يطمئن إليه، يكون مُطمئنًّا ويثبت عنده.
فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمَن كان في قلبه من أهل التَّكليف لوجود الأدلة متفقةً في الدلالة عليه، غير مُختلفةٍ، ظاهرةً للحسِّ غير خفيةٍ: فتوحيد الله تعالى ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله.
وذلك أنَّ كلَّ مَن بلغ حدَّ التَّكليف من أهل الصحة والسلامة فلن يعدم دليلًا دالًّا، وبرهانًا واضحًا يدله على وحدانية ربِّه جلَّ ثناؤه، ويُوضح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر اللهُ جلَّ ذكره أحدًا كان بالصفة التي وصفت بالجهل وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه تعالى ذكره، والخلاف عليه بعد العلم به وبربوبيته في أحكام الدنيا وعذاب الآخرة.
الشيخ: مثلما قال ﷺ: فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه، فهو يُولد على الفطرة، فإذا نشأ على الفطرة والعلم وتوحيد الله والإيمان بالله وما جاءت به الرسل فهذا ناجٍ، أما إذا بُلِيَ بمن يُهوده أو يُنصره أو يُمجسه أو يُوقعه في الشرك لجهله وما عنده أدلة؛ صار من أهل الفترة، نسأل الله العافية.
س: هل يدل كلام المؤلف على أنه جعل الحجية في بلوغ التَّوحيد هو الحسّ؟
ج: لا، لا يكفي ذلك، هذا كلام مجمل.
الشيخ: يعني بعد بلوغ الحُجَّة، أما الذي ما بلغته الحُجَّة فهو من أهل الفترة، يُمتحن يوم القيامة كما جاءت به النصوص، أما هؤلاء اتبعوا الهوى، واتبعوا ما عليه أسلافهم، قلَّدوا: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، ما اجتهدوا، ولا تعلموا النصوص عندهم قد قلَّدوا غيرهم، ويحسبون أنهم مُصيبون، فهؤلاء هم الذين يُعذَّبون؛ لأنهم تركوا النصوص واتَّبعوا الهوى.
فسوى جلَّ ثناؤه بين هذا العامل في غير ما يُرضيه على حسبانه أنه في عمله عاملٌ بما يُرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المُعاندين له، الجاحدين ربوبيته، مع علمهم بأنه ربّهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب؛ وذلك لما وصفنا من استواء حال المُجتهد المُخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله، وحال المُعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المُتَّفقة غير المُفترقة لحواسهما، فلما استويا في قطع الله جلَّ وعزَّ عذرهما بما أظهر لحواسهما من الأدلة والحُجج؛ وجبت التَّسوية بينهما في العذاب والعقاب.
وخالف حكم ذلك حكم الجهل بالشَّرائع؛ لما وصفت من أنَّ مَن لم يقطع الله عذره بحجةٍ أقامها عليه بفريضةٍ ألزمه إياها من شرائع الدِّين، فلا سبيلَ له إلى العلم بوجوب فرضها؛ إذ لا دلالةَ على وجوب فرضها، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن مأمورًا، وإذا لم يكن مأمورًا لم يكن بترك العمل لله عاصيًا، ولا لأمر ربه مُخالفًا، فيستحق عقابه؛ لأنَّ الطاعة والمعصية إنما تكون باتباع الأمر ومُخالفته.
فإن قال لنا قائلٌ: فإنك قد تستدل بالمحسوس من أحكام الشَّرائع بعد وقوعه تحت الحسِّ على نظائره التي لم تقع تحت الحسِّ، ويحكم له بحكم نظيره، ويُفرق فيه بين المُجتهد المُخطئ، وبين المُعاند فيه بعد العلم بحقيقته؛ فتجعل المُجتهد المُخطئ مأجورًا باجتهاده، والإثم عنه زائلًا بخطئه، وقد سويت بين حكم المجتهد المُخطئ في توحيد الله وأسمائه وصفاته وعدله، والمُعاند في ذلك بعد العلم به.
فما الفصل بينك وبين مَن عارضك في ذلك فسوَّى بين المُجتهد المُخطئ والمُعاند بعد العلم، حيث فرَّقت بينهما، وفرَّق حيث سوَّيتَ؟!
قيل: الفرق بيني وبينه أنَّ من قيلي وقيل كل مُوحِّدٍ: أنَّ كل محسوسٍ أدركته حاسة خلقٍ في الدنيا فدليلٌ لكل مُستدلٍّ على وحدانية الله وأسمائه وصفاته وعدله، وكل دالٍّ على ذلك فهو في الدلالة عليه متفقٌ غير مُفترق، ومُؤتلفٌ غير مُختلف.
وإنَّ من قيلي وقيل كل قائلٍ بالاجتهاد في الحكم على الأصول: أنه ليست الأصول كلها متَّفقةً في الدلالة على كل فرعٍ؛ وذلك أنَّ الحُجَّة قد ثبتت على أن واطئًا لو وطئ نهارًا في شهر رمضان امرأته في حالٍ يلزمه فيها فرض الكفِّ عن ذلك؛ أن عليه كفارةً بحكم رسول الله ﷺ، وذلك حكمٌ من الله تعالى ذكره على لسان نبيه ﷺ فيمَن وطئ امرأته في حالٍ حرامٌ عليه وطؤها، وقد يلزمه في حالٍ أخرى يحرم عليه فيها وطؤها، فلا يلزمه ذلك الحكم، بل يلزمه غيره؛ وذلك لو وطئها مُعتكفًا.
حاشية: وذلك لو وطئها مُعتكفًا وهو غير صائمٍ، وإلا لصار حكمه حكم الواطئ في نهار رمضان، أما لو وطئها في ليل رمضان وهو مُعتكف -إذ الاعتكاف أكثر ما يكون فيه- أو وطئها في صوم نافلةٍ وهو معتكف؛ فتغير الحكم بتغير الحال، مع بقاء نفس الحكم في الجميع.
أو حائضًا أو مُطلَّقةً تطليقةً واحدةً قبل الرَّجعة، وفي أحوالٍ سواها نظائر لها، فقد اختلفت أحكامُ الفرج الموطوء في الأحوال المنهي فيها الواطئ عن وطئه، مع اتفاق أحواله كلها في أنه منهيٌّ في جميعها عن وطئه.
وليست كذلك الأدلة على وحدانية الله جلَّ جلاله وأسمائه وصفاته وعدله، بل هي كلها مُؤتلفةٌ غير مُختلفةٍ، ليس منها شيءٌ إلا وهو في ذلك دالٌّ على مثل الذي دلَّت عليه الأشياء كلها؛ ألا ترى أنَّ السماء ليست بأبين في الدلالة من الأرض، ولا الأرض من الجبال، ولا الجبال من البهائم، ولا شيء من المحسوسات وإن كبر وعظم بأدلّ على ذلك من شيءٍ فيها وإن صغر ولطف؟ فلذلك افترق القولُ في حكم الخطأ في التوحيد، وحكم الخطأ في شرائع الدِّين وفرائضه.
ولولا قصدنا في كتابنا هذا الاختصار والإيجاز فيما قصدنا البيان عنه لاستقصينا القول في ذلك، وأطنبنا في الدلالة على صحَّة ما قلنا فيه، وفيما بينا من ذلك مُكتفًى لمَن وفق لفهمه.
الشيخ: هذا واضح في أنَّ أدلة التوحيد ظاهرة ومفطور عليها العباد: ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه، فمَن تأمَّل الفطرة هداه الله إلى الحقِّ والتوحيد والإيمان، بخلاف الشَّرائع؛ فإنها لا بدَّ فيها من أدلةٍ: من صلاةٍ وزكاةٍ وصومٍ وحجٍّ وغير ذلك، لا بدَّ فيها من أدلة تفصيليةٍ، لا بدَّ فيها من الدليل، فإذا لم يبلغه الدليلُ فهو معذور.
أما كونه يجهل توحيد الله وعبادته والإخلاص له فهذا هو محل النظر؛ لأنَّ الله فطر العباد على الإيمان بالله، وأنه ربهم وخالقهم، وأنه رازقهم، وأنهم مخلوقون، فهم مفطورون على هذا، إلا إذا بُلي بمن يُهوده أو يُنصره من أبيه وأمه وغيرهما، كما قال ﷺ: ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه.
فإذا رزقه الله السلامة منهم عاش على الفطرة، وعاش على التوحيد، وهذا قد يكون نادرًا؛ فإنَّ الغالب أن الإنسان إذا كُلف يُبتلى بمجتمعه الذي يقوده إلى الشرِّ: من أبيه وأمه وغيرهما، فلو قُدر وفُرض أن إنسانًا عاش على الفطرة، بلغ وعرف التوحيد كما قال المؤلفُ، وهُدي له، لكن في الغالب أنه لا يعيش لوحده، متى كُلف يُبتلى بمَن يقوده إلى النار: يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو غير ذلك؛ فلهذا يضله عن سبيل الفطرة، والفطر دليلها عنده لأنه عاش عليها، فإذا بُلي بمَن يقوده عنها ويُضله عنها هلك وصار مع مَن قاده، بخلاف الأدلة التَّفصيلية التي جاءت بها النصوص؛ فهذه واضحة: على الصلاة، على الزكاة، على الصيام، على الحج.
وبهذا يُعلم أنه لا بدَّ من الدليل، وأنَّ مَن مات على الجهل والفطرة فلا شيء عليه، بل يُمتحن يوم القيامة، الله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فإنه متى بلغ فلا بدَّ أن يجد مَن يُضله عن السَّبيل، فهو لا يعيش لوحده، يعيش مع جماعته وأهل بلده من الضَّالين والكافرين فيقودونه إلى النار، فإذا كان عاش على الجاهلية والفطرة فهو وجماعته كلهم إلى الله جلَّ وعلا، يمتحنهم يوم القيامة؛ لخفاء الأدلة عليهم.
وفَّق الله الجميع.
س: حديث أبي ذرٍّ في أطيط العرش تختارون تحسينه؟
ج: يئط لثقل الملك عليه؛ لكثرتهم وثقلهم فيئط مع قوته، الشيء قد يكون قويًّا عظيمًا، لكن يئط من شدة الثِّقَل الذي عليه، ومع هذا لا خطر لذلك؛ لقوة السماء، الله أمسكها جلَّ وعلا.
س: في الحكم عليه تختارون تحسينه: حديث أبي ذرٍّ في الأطيط؟
ج: ما أعلم فيه علَّةً، أقول: لا أعلم فيه علَّةً، ما أتذكر فيه علَّةً.
الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلفُ واضح؛ فإنَّ الله فطر العباد على الإيمان به ومحبَّته، وأنه رب العالمين، فمَن لم يُؤمن بربه، ولم يعرف بأنه ربُّ العالمين، وأنه الخلَّاق العليم، ويخضع لعبادته؛ استحقَّ أن يُقتل، إلا أن يكون من أهل الجزية: اليهود والنصارى والمجوس، فإنه يُترك وتُحقن دماؤهم بالجزية.
أما هذا فليس له عهد، فإذا كان لا عهدَ له، وقد بلغ الحلم ولم يُؤمن بالله ورسوله وجب قتله، أما قبل الحلم لا؛ لأنه صغير لا يُقتل، لكن يُقتل بعدما يبلغ الحلم ويُصرّ على ما هو كفر بالله وضلال، هذا يستحق القتل، سواء كان عربيًّا أو أعجميًّا أو غيرهما من جميع أفراد العالم، إلا إذا كان له عهد وذمَّة، أو لم تبلغه الحُجَّة وتُقام عليه الحُجَّة: كأهل الفترة، يُعلَّمون: قال الله، وقال الرسول، يُعلَّمون حتى تزول عنهم الجهالة.
فإن قال قائلٌ: فإذا كان الوقتُ الذي تلزمه الفرائض هو الوقت الذي ألزمته الكفر إن لم يكن عارفًا بصانعه بأسمائه وصفاته التي ذكرت، فمتى لزمه فرض النظر والفكر في مدبره وصانعه حتى كان مُستحقًّا اسم الكفر في الحال التي وُصفت، والحكم عليه بحكم أهله؟
قيل له: لم يلزمه فرض شيءٍ من الأشياء قبل الحدِّ الذي وصفت، غير أنه مع بلوغه حدث التَّمييز بين ما له فيه الحظّ، وعليه فيه البخس: أن يخليه داعي الرحمن وداعي الشيطان من الدّعاء، هذا إلى معرفة الرحمن وطاعته، وهذا إلى اتباع الشيطان وخُطواته؛ كما قال الله تعالى ذكره: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]، وذلك قد يكون في حال بلوغ الصبي سبع سنين أو ثمان سنين، فإذا عرض له الدَّاعيان اللَّذان وصفت في تلك الحال فهو ممهلٌ بعد ذلك من الوقت السنين، وربما كان ذلك قدر عشر سنين، وربما كان ثمانية، وربما كان أقلّ وأكثر.
وأقل ما يكون ستّ سنين، وفي قدر ذلك من المهل، وفي أقل منه ما يتذكر مَن هو متذكرٌ، ويعتبر مَن هو مُعتبرٌ، ولن يُهلك اللهُ جلَّ ذكره إلا هالكًا.
الشيخ: الصواب هو سبع سنين، وقال بعضهم: خمس أو ست، ولكن الصواب السبع، في الغالب يفهم الجواب ويُحسن، وإذا صار قبل سبع يفهم ويعقل أُمر بما يلزم ويُعلم، ولكن غالب الناس إنما يفهم ويعقل العقل الذي يستطيع أن يُؤمر به لسبع سنين، كما في الحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ، وقد يعقل وهو ابن ست سنين وخمس، كما قال المؤلف: وقد يتحمل الحديثَ وهو ابن خمسٍ أو ست سنين، ويسمعه ويحفظه ويرويه إذا كبر، لكن الغالب أنَّ ابن السبع وابن الثَّمان هو الذي يستطيع أن يحفظ ويفهم، وأما قبل السبع فالغالب أنه لا يضبط الأشياء؛ ولهذا من رحمة الله أنه لا يُؤمر إلا إذا بلغ سبعًا، ولكن لو عقل قبل السبع وفهم الحمد لله، هذا خير زائد.
س: هل الأمر مناط بالتَّمييز؟
ج: نعم، التَّمييز سبع سنين، هذا وصف أغلبي للتَّمييز، وقد يكون ابن سبع وابن ثمانٍ ولا يفهم، بعض الناس كذا، وبعض الناس نابغة، صغير ابن أربع أو خمس سنين وهو يفهم، الأكثر من الناس أهل السبع؛ ولهذا احتجَّ العلماء بمَن حفظ: كمحمود بن الربيع عقل مجَّةً مجَّها النبيُّ ﷺ في فمه وهو ابن أربع سنين أو خمس سنين، عقلها وضبطها ورواها بعد الكبر، وكثير من الصِّغار يحفظون أشياء وقعت لهم وهم في الخمس والستّ سنين، ويحفظونها ويروونها بعد كبرهم، وإذا كان ما يعقل فحكمه حكم السَّفيه والمعتوه والأبله، فهو غير عاقلٍ.
س: هل تعلَّم أحد الصحابة الصغار لغةَ قومٍ آخرين؟
ج: هو زيد بن ثابت، تعلم بأمر النبي ﷺ حتى يكتب للنبي ﷺ، وتعلم اللغة ليس بسهلٍ، وقد يتعلمها الإنسانُ في مدةٍ قصيرةٍ.
مُداخلة: ابن جرير رحمه الله أمَّ الناس في الصلاة وهو ابن ثمان سنين؟
ج: لا، الصواب سبع كما جاء بالنص، لكن إذا كان ما يعقل مثل: المجنون إذا كان ما يعقل ما في فائدة، لكن إذا كان يعقل وبلغ السبع يُؤمر، أما إذا كان ما يعقل؛ بعض الناس يكون غير عاقلٍ، أبله، مثل: المجنون، مثلًا يُسمَّى: معتوهًا، هذا ما يُكلَّف حتى يحضر عقله.