تفسير قوله تعالى تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ..}

وقوله: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95] أي: إذا لم يجد المحرمُ مثل ما قتل من النَّعم، أو لم يكن الصيدُ المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتَّخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وأحد قولي الشَّافعي، والمشهور عن أحمد رحمهم الله؛ لظاهر "أو" بأنها للتَّخيير.

والقول الآخر: أنها على الترتيب، فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيقوم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحماد وإبراهيم.

وقال الشَّافعي: يقوم مثله من النَّعم لو كان موجودًا، ثم يُشترى به طعام فيتصدّق به، فيصرف لكل مسكينٍ مُدٌّ منه عند الشَّافعي ومالك وفُقهاء الحجاز، واختاره ابنُ جرير.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُطعم كل مسكينٍ مُدَّين. وهو قول مجاهد.

وقال أحمد: مُدٌّ من حنطةٍ، أو مُدَّان من غيره، فإن لم يجد أو قلنا بالتَّخيير صام عن إطعام كل مسكينٍ يومًا.

وقال ابنُ جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كل صاعٍ يومًا، كما في جزاء المترفّه بالحلق ونحوه، فإنَّ الشارع أمر كعب بن عُجرة أن يقسم فرقًا بين ستةٍ، أو يصوم ثلاثة أيام، والفرق: ثلاثة آصع.

واختلفوا في مكان هذا الإطعام: فقال الشَّافعي: مكانه الحرم. وهو قول عطاء.

وقال مالك: يُطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد، أو أقرب الأماكن إليه.

وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم، وإن شاء أطعم في غيره.

ذكر أقوال السَّلف في هذا المقام:

قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا يحيى بن المغيرة: حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباسٍ في قول الله تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، قال: إذا أصاب المحرمُ الصيدَ حكم عليه جزاؤه من النَّعم، فإن لم يجد نظر كم ثمنه؟ ثم قوّم ثمنه طعامًا، قال الله تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، قال: إنما أُريد بالطَّعام والصيام أنَّه إذا وجد الطّعام وجد جزاؤه. ورواه ابنُ جرير من طريق جرير.

وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، فإذا قتل المحرمُ شيئًا من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبيًا أو نحوه فعليه شاة تُذبح بمكّة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلًا أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا، فإن لم يجد صام عشرين يومًا، وإن قتل نعامةً أو حمار وحشٍ أو نحوه فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا، فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا.

رواه ابنُ أبي حاتم وابنُ جرير، وزاد: الطَّعام مُدٌّ مُدٌّ، يُشبعهم.

وقال جابر الجعفي: عن عامر الشَّعبي وعطاء ومجاهد: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا قالوا: إنما الطَّعام لمن لا يبلغ الهدي. رواه ابنُ جرير.

وكذا روى ابنُ جريج، عن مجاهد وأسباط، عن السدي: أنها على الترتيب.

وقال عطاء وعكرمة ومجاهد في رواية الضَّحاك وإبراهيم النَّخعي: هي على الخيار. وهي رواية الليث، عن مجاهد، عن ابن عباسٍ، واختار ذلك ابنُ جرير رحمه الله.

وقوله: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95] أي: أوجبنا عليه الكفَّارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة، عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [المائدة:95] أي: في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتَّبع شرع الله، ولم يرتكب المعصية، ثم قال: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة:95] أي: ومَن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشَّرعي إليه فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة:95].

قال ابنُ جريج: قلتُ لعطاء: ما عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ؟ قال: عمَّا كان في الجاهلية. قال: قلتُ: وما وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ؟ قال: ومَن عاد في الإسلام فينتقم اللهُ منه، وعليه مع ذلك الكفَّارة. قال: قلتُ: فهل في العهود من حدٍّ تعلمه؟ قال: لا. قال: قلت: فترى حقًّا على الإمام أن يُعاقبه؟ قال: لا، هو ذنبٌ أذنبه فيما بينه وبين الله ، ولكن يفتدي. رواه ابنُ جرير.

الشيخ: وهذه الآية الكريمة تُوضّح ما يجب على المحرم وما يحرم عليه نحو الصيد، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] صريحٌ بأنَّه ينقل إلى الكعبة لكي يقسم على الفُقراء والمساكين في الحرم.

أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ، فإذا قتل حمامةً أو ظبيًا أو أرنبًا أو غير ذلك حكم عليه بما يستحقّ، وهذا الهدي ينقل إلى الحرم: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ فيُذبح في مكّة للفُقراء، أو يُقوّم ثم يُشترى بالقيمة طعام يُوزّع على المساكين، لكل مسكينٍ نصف صاعٍ.

أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا إذا كان الطعامُ عدل عشرة مساكين يصوم عشرة أيام، وإذا كان عدل عشرين مسكينًا يصوم عشرين يومًا، وهكذا: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ليذوق عاقبةَ أمره الذي تعدّى فيه حدود الله.

وَمَنْ عَادَ يعني: عاد إلى الظلم والجريمة، إلى قتل الصيد: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ فهذا فيه التَّحذير من العودة إلى ما حرَّم الله.

أمَّا مسألة الجاهلية فذلك يعفو الله عنه: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، المهم ما كان في الإسلام.

فالواجب على المسلم أن يتقيد بأمر الله، وأن يستقيم على أمر الله، وأن يُحافظ على حدود الله، يرجو ثوابَ الله، ويخشى عقابه، نعم.

س: كيفية تقويم الصيام -الله يرضى عليك- على حسب عدد المساكين؟

ج: هذا على حسب ما يراه ذوو العدل.

س: إذا كان الطفلُ ذبح حمامةً في الحرم، هل يذبح وليُّه، أو يُعفا عنه؟

ج: الله يقول: مُتَعَمِّدًا، الصواب أنَّ الجاهل والطفل ما عليه شيء.

س: ..............؟

ج: نعم، إما الذَّبح، وإما الإطعام، وإما الصيام، فالصيام في أي مكانٍ.

س: وهي على الترتيب؟

ج: على الخيار، على التَّخيير، نعم.

س: لكن يفرق في الصيام؟

ج: ما فيه شيء لو فرق، الرب أطلق، ما قال: مُتتابعة.

س: ..............؟

ج: يُوزّع على فُقراء الحرم، أما الصيام ففي كل مكانٍ.

س: الوحوش المفترسة قتلها؟

ج: المفترسة ما هي بصيدٍ يا ولدي، الذِّئب ما هو بصيدٍ، والكلب ما هو بصيدٍ، الصيد: الظِّباء، والأرنب، والحمام، وأشباهها.

وقيل: معناه: فينتقم اللهُ منه بالكفَّارة. قاله سعيد بن جبير وعطاء.

ثم الجمهور من السلف والخلف على أنَّه متى قتل المحرمُ الصيدَ وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة، وإن تكرر ما تكرر، سواء الخطأ في ذلك والعمد.

وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ قال: مَن قتل شيئًا من الصيد خطأً وهو مُحرم، يُحكم عليه فيه كلما قتله، فإن قتله عمدًا يُحكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يُقال له: ينتقم اللهُ منك، كما قال الله .

الشيخ: هذا من باب الوعيد مع الكفَّارة، هذا وعيدٌ، فالله جلَّ وعلا حكم بالكفَّارة، وتوعد مَن عاد ولم يُبال، فالعودة في المعاصي أشدّ في الجُرم من المعصية الأولى، نسأل الله العافية.

س: قول عطاء لما سأله: فترى حقًّا على الإمام أن يُعاقبه؟ قال: لا، هو ذنبٌ أذنبه فيما بينه وبين الله ، ولكن يفتدي؟

ج: هذا على كل حالٍ ما فيه إلا العقوبة بالكفَّارة.

س: لو صاد مرتين أو ثلاثًا ألا تكون عليه مرة واحدة؟

ج: لا، كلما فعل عليه كفَّارة، تتكرر الكفَّارة بتكرر الجريمة.

س: ولو فعلها ولم يُكفّر عن الأولى وارتكب الثانية؟

ج: ولو، يُكفّر عن ذا، وعن ذا.

س: الإطعام مُدّان؟

ج: مُدَّان، هذا الصواب: نصف صاعٍ.

س: ابن عباسٍ فرّق بين ما كان خطأً، وبين ما كان عمدًا؟

ج: الصواب إذا كان عمدًا، أمَّا إذا كان خطأً فالله يعفو عنه سبحانه.

س: الجراد؟

ج: الجراد صيدٌ، نعم.

س: قول الجمهور: أنَّ الخطأ والعمد سواء؟

ج: فيه نظر، الله جلَّ وعلا قال: مُتَعَمِّدًا، فالصَّواب التَّمسك بنص القرآن؛ لأنَّ هذا ما هو بحقّ آدمي، هذا حقٌّ لله، ما هو بحقّ آدمي، أما حقّ الآدمي ولو ما هو بمُتعمد، فحقّ الآدمي لو قتل خطأً يلزمه الدّية والكفَّارة، ولو أتلف ماله خطأً لزمته غرامته، أمَّا هذا حقّ الله جلَّ وعلا، الله قال فيه شرطًا: مُتَعَمِّدًا.

س: في قول الله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ منكم هنا؟

ج: من المسلمين.

س: وولي الأمر الذي يقدر؟

ج: ولي الأمر، ونائبه المحكمة.

س: لو فعل محظورًا من محظورات الإحرام وهو مُتعمد يأثم بذلك؟

ج: عليه التوبة، نعم، عليه التوبة والرجوع إلى الله والإنابة، نعم.

وقال ابنُ جرير: حدثنا عمرو بن علي: حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي، جميعًا عن هشام -هو ابن حسان-، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ فيمَن أصاب صيدًا يحكم عليه ثم عاد، قال: لا يحكم عليه، ينتقم الله منه.

وهكذا قال شريح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النَّخعي، رواهنَّ ابنُ جرير، ثم اختار القول الأول.

الشيخ: وهو الصواب: أنَّ عليه الكفَّارة كلما تكرر مع الوعيد، نسأل الله العافية.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن زيد ابن أبي المعلى، عن الحسن البصري: أنَّ رجلًا أصاب صيدًا فتجوز عنه، ثم عاد فأصاب صيدًا آخر، فنزلت نارٌ من السَّماء فأحرقته، فهو قوله: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ.

وقال ابنُ جرير في قوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يقول عزَّ ذكره: والله منيعٌ في سلطانه، لا يقهره قاهرٌ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ولا من عقوبة مَن أراد عقوبته مانعٌ؛ لأنَّ الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزَّة والمنعة.

وقوله: ذُو انْتِقَامٍ يعني: أنَّه ذو مُعاقبةٍ لمن عصاه على معصيته إياه.

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۝ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۝ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [المائدة:96-99].

قال ابنُ أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في روايةٍ عنه، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وغيرهم، في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ يعني: ما يصطاد منه طريًّا، وَطَعَامُهُ ما يتزود منه مليحًا يابسًا.

وقال ابنُ عباسٍ في الرواية المشهورة عنه: صيده: ما أُخذ منه حيًّا، وطعامه: ما لفظه ميتًا.

وهكذا رُوي عن أبي بكر الصّديق، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عمرو، وأبي أيوب الأنصاري ، وعكرمة، وأبي سلمة ابن عبدالرحمن، وإبراهيم النَّخعي، والحسن البصري.

قال سفيان بن عيينة: عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن أبي بكر الصّديق أنَّه قال: طعامه: كلّ ما فيه. رواه ابنُ جرير وابنُ أبي حاتم.

وقال ابنُ جرير: حدثنا ابنُ حميد: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماكٍ قال: حدثت عن ابن عباسٍ قال: خطب أبو بكر الناس فقال: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ، وطعامه ما قذف.

قال: وحدثنا يعقوب: حدثنا ابنُ علية، عن سليمان التَّيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباسٍ في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ قال: طعامه ما قذف.

وقال عكرمة: عن ابن عباسٍ قال: طعامه ما لفظ من ميتةٍ. ورواه ابنُ جرير أيضًا.

وقال سعيد بن المسيب: طعامه ما لفظه حيًّا، أو حسر عنه فمات. رواه ابنُ أبي حاتم.

وقال ابنُ جرير: حدثنا ابنُ بشار: حدثنا عبدالوهاب: حدثنا أيوب، عن نافع: أنَّ عبدالرحمن ابن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال: إنَّ البحر قد قذف حيتانًا كثيرةً ميتةً، أفنأكلها؟ فقال: لا تأكلوها. فلمَّا رجع عبدُالله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورةَ المائدة، فأتى هذه الآية: وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، فقال: اذهب فقل له: فليأكله، فإنَّه طعامه.

وهكذا اختار ابنُ جرير: أنَّ المراد بطعامه ما مات فيه. وقد رُوي في ذلك خبرٌ، وإنَّ بعضهم يرويه موقوفًا.

الشيخ: وهذا هو الصواب: أنَّ صيده ما صيد منه حيًّا، وطعامه ما يقذفه ميتًا: كالحيتان، فالله أباح للعباد صيد البحر حيًّا وميتًا، فكله صيد؛ ولهذا لما جاءت السريةُ إلى البحر -التي بعثها النبي ﷺ مع أبي عبيدة- وجدوا صيدًا عظيمًا كبيرًا قد لفظه البحرُ، فأكلوا منه شهرًا من عظمه، حتى جمع أبو عبيدة اثنا عشر رجلًا وجلسوا في قحف عينه من كبره!

المقصود أنَّ ما لفظه البحر من الصيود الميتة حلال للعباد، فطعامه حلٌّ لنا حيًّا وميتًا من سائر الحيوانات.

س: كل ما في البحر حلال؟

ج: هذا هو الصواب، وقال بعضُهم: يُستثنى من ذلك ما يُشبه حيوان البرِّ من الكلاب ونحوها، والسَّنانير، فيُستثنى، وقال بعضهم: ما كان حلًّا في البرِّ أحلّ في البحر. وظاهر القرآن أنَّ صيد البحر كلّه حلال.

س: بارك الله فيكم، في ..... تمتلئ ساحات الحرم بالجراد، فيصعب دخول الحرم إلا بقتل هذا الجراد المملوء بالأرض؟

ج: هذا للضَّرورة، إذا جاءت الضَّرورة لا حرج إن شاء الله.

حدثنا هناد بن السّري قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو: حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ قال: طعامه ما لفظه ميتًا. ثم قال: وقد وقف بعضُهم هذا الحديث على أبي هريرة: حدثنا هناد: حدثنا ابنُ أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ قال: طعامه ما لفظه ميتًا.

وقوله: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ أي: منفعةً وقوتًا لكم أيّها المخاطبون، وللسيارة وهم جمع سيار.

قال عكرمة: لمن كان بحضرة البحر والسّفر.

وقال غيره: الطَّري منه لمن يصطاده من حاضرة البحر، وطعامه ما مات فيه، أو اصطيد منه وملح وقدد؛ زادًا للمُسافرين والنَّائين عن البحر.

وقد رُوي نحوه عن ابن عباسٍ، ومجاهد، والسدي، وغيرهم.

وقد استدلّ الجمهور على حلّ ميتته بهذه الآية الكريمة، وبما رواه الإمام مالك بن أنس، عن ابن وهب وابن كيسان، عن جابر بن عبدالله قال: بعث رسولُ الله ﷺ بعثًا قبل السَّاحل، فأمَّر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح، وهم ثلاثمئة، وأنا فيهم. قال: فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كلّه، فكان مزودي تمر. قال: فكان يقوتنا كل يومٍ قليلًا قليلًا حتى فني، فلم يكن يُصيبنا إلا تمرة تمرة. فقال: فقد وجدنا فقدها حين فنيت. قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنُصبا، ثم أمر براحلةٍ فرحلت ومرَّت تحتهما، فلم تُصبهما. وهذا الحديث مخرجٌ في "الصحيحين"، وله طرقٌ عن جابر.

الشيخ: وهذا آية عظيمة، "مثل الظرب" مثل الكثيب، مثل الجبل العظيم، حتى أكلوا منه وشبعوا مدةً طويلةً، في روايةٍ: أنها ثمانية عشر يومًا، وفي روايةٍ: شهرًا، وهم يأكلون منه من عِظمه، وهم ثلاثمئة، وهذا من آيات الله جلَّ وعلا، وفي البحر عجائب وغرائب، والله أكبر.

س: كلب البحر وخنزير البحر يجوز أكله؟

ج: هذا فيه خلافٌ بين العلماء: فمنهم مَن أباحه، ومنهم مَن حرَّمه. مَن أباحه لعموم آيات صيد البحر، ومَن حرَّمه قال: ما في البحر من جنس البرّ، ما كان حرامًا في البرِّ حرم في البحر: كالكلب، والهر، والخنزير، وأشباه ذلك.

س: والراجح -عفا الله عنك؟

ج: محل نظرٍ، لكن ظاهر القرآن التَّعميم: الحلّ كلّه.

س: وما كان يعيش في البرِّ والبحر؟

ج: تبع البرّ، ما دام يعيش في البرِّ والبحر فحكمه حكم البرِّ.

وفي "صحيح مسلم" من رواية أبي الزبير، عن جابر: فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضَّخم، فأتيناه، فإذا بدابَّةٍ يُقال لها: العنبر. قال: قال أبو عبيدة: ميتة. ثم قال: لا، نحن رسل رسول الله ﷺ، وقد اضطررتم، فكلوا. قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمئة حتى سمنّا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدّهن، ويقتطع منه الفدر كالثور. قال: ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلًا فأقعدهم في وقب عينيه.

الشيخ: ثلاثة عشر في وقب عينه، الله أكبر! من سعتها وعظمتها، الله أكبر! هذا من آيات الله، نعم.

وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعيرٍ معنا، فمرَّ من تحته، وتزودنا من لحمه وشائق، فلمَّا قدمنا المدينة أتينا رسول الله ﷺ، فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزقٌ أخرجه الله لكم، هل معكم من لحمه شيءٌ فتُطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله ﷺ منه، فأكله.

وفي بعض روايات مسلم: أنهم كانوا مع النبي ﷺ حين وجدوا هذه السّمكة، فقال بعضُهم: هي واقعة أخرى. وقال بعضُهم: بل هي قضية واحدة، ولكن كانوا أولًا مع النبي ﷺ، ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة، فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة، والله أعلم.

وقال مالك: عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة -من آل ابن الأزرق-: أنَّ المغيرة ابن أبي بردة -وهو من بني عبد الدار- أخبره أنَّه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجلٌ رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسولُ الله ﷺ: هو الطَّهور ماؤه، الحِلّ ميتته.

وقد روى هذا الحديث الإمامان: الشَّافعي وأحمد بن حنبل، وأهل السنن الأربع، وصححه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم، وقد رُوي عن جماعةٍ من الصحابة، عن النبي ﷺ، بنحوه.

الشيخ: وهذا يُوافق ظاهر .....: هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته، ماؤه وإن كان مالحًا فهو طاهر، يتوضأ منه الناس، ولا بأس أن يُصفّى ويُنقّى من الماء الحلو، وهو الحِلّ ميتته، نعم.

س: إذا أنتن هذا الذي ألقاه البحر؟

ج: الأقرب -والله أعلم- أنَّه لا يُؤكل، النبي ﷺ قال لمن صاد صيدًا: كُلْهُ مالم يُنتن، نعم؛ لأنَّه يضرّ، إذا أنتن يضرّ، نعم.

مُداخلة: يا شيخ، هذا ..... يقول في حديث الاستسقاء: اللهم على الآكام والظِّراب والأودية، والظِّراب: الجبال الصِّغار، واحدها: ظرب، بوزن كتف، وقد يجمع ..... على أظرب، ومنه حديث أبي بكرة : أين أهلك يا مسعود؟ قال: بهذه الأظرب ..... الخاشعة المنقبضة. وفي حديث عائشة: رأيتُ كأني على ظربٍ.

الشيخ: قوله: كتف معناه ظرب، وزن ظرب.

تابع المداخلة: ويُصغّر على ظريب، ومنه حديث أبي أمامة في ذكر الدَّجال: حتى ينزل على الظَّريب الأحمر.

الشيخ: ماشٍ، نعم، يكفي، يكفي.

س: إذا أنتن لا يُؤكل؟

ج: الأقرب -والله أعلم- أنَّه لا يُؤكل؛ لأنَّه يضرّ حينئذٍ، فالنبي ﷺ قال في صيد البرِّ: كله ما لم يُنتن.

س: من باب الكراهة يعني، أو التَّحريم؟

ج: ظاهر الحديث المنع، جاء في الحديث أنَّ ما يكون في البرِّ يكون في البحر؛ لأنَّ العِلّة النّتن.

س: يجعلون نوعًا من السَّمك الآن حتى تخرج رائحته ثم يُؤكل؟

ج: ظاهر الحديث المنع مما يُنتن؛ لأنَّه يضرّ، إذا أنتن تغير لحمه، وتغير حاله.

س: إذا صار نتنًا بعد أن عُولج وقدد وملح؟

ج: هذا انتهى.

س: يجوز؟

ج: لا حرج إن شاء الله.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من طرقٍ، عن حماد بن سلمة: حدثنا أبو المهزم -هو يزيد بن سفيان-: سمعتُ أبا هريرة يقول: كنا مع رسول الله ﷺ في حجٍّ أو عمرةٍ، فاستقبلنا جرادٌ، فجعلنا نضربهنَّ بعصينا وسياطنا، فنقتلهنَّ، فسقط في أيدينا، فقلنا: ما نصنع ونحن مُحرمون؟ فسألنا رسول الله ﷺ فقال: لا بأس بصيد البحر.

الشيخ: الصواب أنَّ هذا الحديث ضعيف، وأنَّ الجراد من صيد البرِّ، ما هو من صيد البحر، وأبو المهزم ليس بثقةٍ، نعم.

أبو المهزم ضعيف، والله أعلم.

الشيخ: مثلما قال المؤلفُ: أبو المهزم ضعيف، والجراد من صيد البرِّ، ليس من صيد البحر.

س: سماع عكرمة من أبي بكر؟

ج: ما أدركه.