قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة:100-102].
يقول تعالى لرسوله ﷺ: قُلْ يا محمد لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ أي: يا أيّها الإنسان كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يعني: أنَّ القليل الحلال النافع خيرٌ من الكثير الحرام الضَّار، كما جاء في الحديث: ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى.
وقال أبو القاسم البغوي في "معجمه": حدثنا أحمد بن زهير: حدثنا الحوطي: حدثنا محمد بن شعيب: حدثنا معان بن رفاعة، عن أبي عبدالملك علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة: أنَّ ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يرزقني مالًا. فقال النبي ﷺ: قليلٌ تُؤدِّي شُكره خيرٌ من كثيرٍ لا تُطيقه.
الشيخ: المقصود من هذا الحثّ على الطيب وإن قلَّ، يقول جلَّ وعلا: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ الكسب الطيب الحلال وإن قلَّ خيرٌ من الكثير الذي ليس بطريق الحلال.
وفيه الحثّ على كسب الحلال، المؤمن ينبغي له أن يحرص على كسب الحلال في مأكله ومشربه وملبسه وغير ذلك، وإن كان قليلًا فهو أبرك وأطيب وأحسن من الكثير الخبيث الذي جاء من كسبٍ غير صالحٍ.
والواجب على كل مؤمنٍ أن يتَّقي الله، وأولو الألباب هم أولو العقول الصَّحيحة السَّليمة، فالواجب على كل مؤمنٍ أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله في مكسبه، وفي أعماله كلّها، حتى لا يأتي إلا ما يُرضي الله ويُقرّب لديه، أو ما أباح الله، وحتى يحذر ما حرَّم الله عليه مما يضرّه في دينه ودُنياه من قولٍ أو عملٍ، نعم.
س: حديث ثعلبة بن حاطب؟
ج: الحديث صحيحٌ، نعم.
س: هذا خاصٌّ بالكسب أو عامّ؟
ج: عامّ، حتى الأعمال، عمل قليل خالص لله من: صلوات، أو صدقات، خيرٌ من كثيرٍ فيه رياء أو سمعة، أو من كسبٍ خبيثٍ، نعم.
س: .............؟
ج: سنده ضعيف، نعم.
س: ما صحّة الحديث: ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى؟
ج: ما أعرف حاله، ذكره المؤلف هكذا مُرسلًا، لم يذكر سنده.
مداخلة: عندي حاشية قصيرة ..... يقول هنا: ورواه ابن عبدالبر في "الاستيعاب" ..... من طريق معاذ بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن .....، وبإسناده علي بن يزيد الألهاني، وهو متروك ..... بيّن فيها نكارة هذه القصّة، وتوسّع في ذلك.
الشيخ: المقصود أنَّ السند ضعيف .....، نعم، علي بن يزيد من الضُّعفاء المعروفين.
س: معان بن رفاعة؟
ج: معان ضعيف كذلك، فيه ضعف، انظر "التقريب": معان بن رفاعة.
فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ أي: يا ذوي العقول الصَّحيحة المستقيمة، وتجنَّبوا الحرام ودعوه، واقنعوا بالحلال واكتفوا به، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ هذا تأديبٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهيٌ لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدةَ لهم في السؤال والتَّنقيب عنها؛ لأنها إن أُظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشقَّ عليهم سماعها، كما جاء في الحديث: أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا يبلغني أحدٌ عن أحدٍ شيئًا، إني أُحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصَّدر.
وقال البخاري: حدثنا منذر بن الوليد بن عبدالرحمن الجارودي: حدثنا أبي: حدثنا شعبة، عن موسى بن أنس، عن أنس بن مالك قال: خطب رسولُ الله ﷺ خطبةً ما سمعتُ مثلها قطّ، وقال فيها: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، قال: فغطى أصحابُ رسول الله ﷺ وجوههم، لهم حنين.
الشيخ: "لهم خنين" بالخاء، من البكاء يعني.
قارئ المتن: ذكر أنَّه يُروى بالخاء وبالحاء.
الشيخ: المعروف بالخاء، نعم.
فقال رجلٌ: مَن أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ. رواه النَّضر وروح بن عبادة، عن شعبة.
وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنَّسائي، من طرقٍ عن شعبة بن الحجاج، به.
الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ المؤمن يسأل عمَّا يهمّه من أمور دينه ومصالحه، أما الشيء الذي قد يسأل عنه ولو أُبدي لأساءه ..... فلا يسأل عنه، فيبتعد عن الأشياء التي تُؤذيه وتضرّه، ويحمد ربَّه على العافية، ولا يسأل عمَّا لو أُبدي له لأساءه .....، لا في عهد النبوة، ولا بعدها، ولكن يسأل عمَّا يهمّه، عمَّا أوجب الله عليه، وما حرَّم الله عليه، وما أشكل عليه: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، فالمؤمن يسأل الله العافية، ولا يسأل عن أشياء قد تضرّه لو أُبديت له، ولكن يسأل ربَّه العافية، وما أشكل عليه مما أمره الله به أو مما نهاه الله عنه يستفصل حتى يعرف ما أوجب الله، وما حرَّم الله.
س: حديث سليم الصَّدر؟
ج: يعني: ما في نفسه شيء على أحدٍ منهم، "سليم الصدر" يعني: طيب الصدر، طيب النفس، ليس بنفسه على أحدٍ منهم شيء.
س: إسناده؟
ج: صحيحٌ، في الصَّحيح.
الطالب: معان -بضم أوله وتخفيف المهملة- بن رفاعة، السلامي -بتخفيف اللام- الشامي، لين الحديث، كثير الإرسال، من السابعة، مات بعد الخمسين. (ق).
الشيخ: نعم، ماشٍ.
وقال ابنُ جرير: حدثنا بشر: حدثنا يزيد: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية، قال: فحدثنا أنَّ أنس بن مالك، حدَّثه: أنَّ رسول الله ﷺ سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يومٍ، فصعد المنبر، فقال: لا تسألوني اليوم عن شيءٍ إلا بيّنتُه لكم، فأشفق أصحابُ رسول الله ﷺ أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلتُ لا ألتفتُ يمينًا ولا شمالًا إلا وجدتُ كلًّا لافًّا رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجلٌ كان يُلاحى فيُدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبيّ الله، مَن أبي؟ قال: أبوك حذافة.
قال: ثم قام عمر -أو قال: فأنشأ عمر- فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا، عائذًا بالله -أو قال: أعوذ بالله- من شرِّ الفتن.
قال: وقال رسولُ الله ﷺ: لم أرَ في الخير والشَّر كاليوم قطّ، صُورت لي الجنة والنار حتى رأيتُهما دون الحائط. أخرجاه من طريق سعيد.
ورواه معمر، عن الزهري، عن أنسٍ بنحو ذلك، أو قريبًا منه.
قال الزهري: فقالت أمُّ عبدالله بن حُذافة: ما رأيتُ ولدًا أعقّ منك قطّ، أكنتَ تأمن أن تكون أمُّك قد قارفت ما قارف أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس؟! فقال: والله لو ألحقني بعبدٍ أسود للحقته.
وقال ابنُ جرير أيضًا: حدثنا الحارث: حدثنا عبدالعزيز: حدثنا قيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: خرج رسولُ الله ﷺ وهو غضبان، محمارٌّ وجهه، حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجلٌ فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام آخر فقال: مَن أبي؟ فقال: أبوك حُذافة، فقام عمرُ بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ ﷺ نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، إنا يا رسول الله حديثو عهدٍ بجاهليةٍ وشركٍ، والله أعلم مَن آباؤنا. قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية، إسناده جيد.
وقد ذكر هذه القصة مُرسلة غير واحدٍ من السلف، منهم: أسباط، عن السدي أنَّه قال في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ قال: غضب رسولُ الله ﷺ يومًا من الأيام، فقام خطيبًا، فقال: سلوني، فإنَّكم لا تسألوني عن شيءٍ إلا أنبأتُكم به، فقام إليه رجلٌ من قريش من بني سهم، يُقال له: عبدالله بن حذافة، وكان يُطعن فيه، فقال: يا رسول الله، مَن أبي؟ فقال: أبوك فلان، فدعاه لأبيه، فقام إليه عمرُ بن الخطاب، فقبّل رجله وقال: يا رسول الله، رضينا بالله ربًّا، وبك نبيًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعفُ عنا عفا الله عنك. فلم يزل به حتى رضي، فيومئذٍ قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر.
ثم قال البخاري: حدثنا الفضل بن سهل: حدثنا أبو النَّضر: حدثنا أبو خيثمة: حدثنا أبو الجويرية، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كان قومٌ يسألون رسول الله ﷺ استهزاءً، فيقول الرجل: مَن أبي؟ ويقول الرجل تضلّ ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ حتى فرغ من الآية كلِّها. تفرد به البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وردان الأسدي: حدثنا علي بن عبدالأعلى، عن أبيه، عن أبي البختري -وهو سعيد بن فيروز-، عن عليٍّ قال: لما نزلت هذه الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عامٍ؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عامٍ؟ فسكت، قال: ثم قالوا: أفي كل عامٍ؟ فقال: لا، ولو قلتُ: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية.
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من طريق منصور بن وردان، به، وقال الترمذي: غريبٌ من هذا الوجه، وسمعتُ البخاري يقول: أبو البختري لم يُدرك عليًّا.
وقال ابنُ جرير: حدثنا أبو كُريب: حدثنا عبدالرحيم بن سليمان، عن إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ الله كتب عليكم الحجّ، فقال رجلٌ: أفي كل عامٍ يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: مَن السائل؟ فقال: فلان، فقال: والذي نفسي بيده، لو قلتُ: نعم لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتُموه، ولو تركتُموه لكفرتم، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ حتى ختم الآية.
ثم رواه ابنُ جرير من طريق الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، وقال: فقام محصن الأسدي. وفي روايةٍ من هذه الطَّريق: عكاشة بن محصن. وهو أشبه، وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيفٌ.
س: ولو تركتُموه لكفرتم .....؟
ج: فيه خلافٌ بين العلماء، والمعروف أنَّه ليس من الكفر الأكبر، بل من الكفر الأصغر، ترك الزكاة والصيام والحجّ كفرٌ أصغر، أما ترك الصَّلاة فكفرٌ أكبر.
س: وعلى أي شيءٍ يُحمل هذا .....؟
ج: هذا لو صحَّ مثل: لا ترجعوا بعدي كُفَّارًا يضرب بعضُكم رقابَ بعضٍ، كفر أصغر.
س: .............؟
ج: لا بأسَ به، من عادة السَّلف المصافحة، يُروى عن بعض الوفود أنهم قبَّلوا رجل النبي ﷺ، وقبَّلوا ركبته ويده، ولكن الأكثر من الصحابة المصافحة، كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، نعم.
س: هو يسأل عن تقبيل الرِّجْل؟
ج: نعم، أجبنا، نعم، وتركها أحسن، وهذا إنما في بعض الروايات، ولا يُقاس على النبي غيره اللهم صلِّ عليه وسلم، كان الصحابة إذا تلاقوا تصافحوا، يقول أنسٌ : كان الصحابةُ إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفرٍ تعانقوا.
س: مقدمة "صحيح البخاري": أنَّ مسلمًا كان يُقبل قدمي الإمام البخاري؟
ج: ولو، ولو، ليس هو الأفضل، الأفضل الترك؛ بُعدًا عن الغلو .....
س: في هذا الحديث: أنَّ عمر قبّل رجل النبي ﷺ؟
ج: هذا مرسل، أقول: مرسل.
س: في حالةٍ خاصَّةٍ، في حال الغضب؟
ج: هذا النبي لا يُقاس على غيره، كما فعل بعضُ الوفود.
س: إذا قبّل والديه؟
ج: يُقبّل الرأس، بين العينين، أو الرأس، هذا هو الأفضل.
س: الآثار الواردة عن بعض الصحابة .....؟
ج: تركها أولى، يجوز عند جمعٍ من أهل العلم، لكن تركها أولى، المصافحة أولى، نعم، والمعانقة عند القدوم من السفر هذا طيّب.
س: تقبيل رأس .....؟
ج: ما في شيء، لا حرج، تقول فاطمة: كان النبي إذا دخل عليَّ قمتُ فقبّلتُه، وأخذتُ بيده. وكانت هي إذا دخلت عليه قام إليها وقبَّلها وأخذ بيدها رضي الله عنها.
وقال ابنُ جرير أيضًا: حدثني زكريا بن يحيى بن أبان: حدثنا أبو زيد عبدالرحمن ابن أبي الغمر: حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى، عن صفوان بن عمرو: حدثني سليم بن عامر قال: سمعتُ أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسولُ الله ﷺ في الناس، فقال: كُتب عليكم الحجّ، فقام رجلٌ من الأعراب فقال: أفي كل عامٍ؟ قال: فغلق كلام رسول الله ﷺ، وأسكت، وأغضب واستغضب، ومكث طويلًا، ثم تكلّم فقال: مَن السائل؟ فقال الأعرابي: أنا ذا، فقال: ويحك! ماذا يُؤمنك أن أقول: نعم؟ والله لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم، ألا إنَّه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمّة الحرج، والله لو أني أحللتُ لكم جميع ما في الأرض، وحرمتُ عليكم منها موضع خُفٍّ، لوقعتم فيه، قال: فأنزل الله عند ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ إلى آخر الآية. في إسناده ضعفٌ.
وظاهر الآية النَّهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخصُ ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها، وما أحسن الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد حيث قال: حدثنا حجاج قال: سمعتُ إسرائيل بن يونس، عن الوليد ابن أبي هاشم مولى الهمداني، عن زيد بن زائد، عن عبدالله بن مسعودٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ لأصحابه: لا يبلغني أحدٌ عن أحدٍ شيئًا، فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر الحديث.
وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث إسرائيل، قال أبو داود: عن الوليد. وقال الترمذي: عن إسرائيل، عن السدي، عن الوليد ابن أبي هاشم، به. ثم قال الترمذي: غريبٌ من هذا الوجه.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أي: وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نُهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله ﷺ تُبين لكم، وذلك على الله يسير.
ثم قال: عَفَا اللَّهُ عَنْهَا أي: عمَّا كان منكم قبل ذلك، وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
وقيل: المراد بقوله: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أي: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سُؤالكم تشديدٌ أو تضييقٌ، وقد ورد في الحديث: أعظم المسلمين جُرْمًا مَن سأل عن شيءٍ لم يحرم، فحرم من أجل مسألته، ولكن إذا نزل القرآنُ بها مجملةً فسألتم عن بيانها حينئذٍ بينت لكم؛ لاحتياجكم إليها، عَفَا اللَّهُ عَنْهَا أي: ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها.
وفي الصحيح عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: ذروني ما تركتُكم، فإنما أهلك مَن كان قبلكم كثرةُ سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم.
وفي الحديث الصَّحيح أيضًا: إنَّ الله تعالى فرض فرائض فلا تُضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم، غير نسيانٍ، فلا تسألوا عنها.
ثم قال تعالى: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ أي: قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم فأُجيبوا عنها، ثم لم يُؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي: بسببها، أي: بينت لهم فلم ينتفعوا بها؛ لأنَّهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد.
وقال العوفي: عن ابن عباسٍ في: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية: أنَّ رسول الله ﷺ أذّن في الناس فقال: يا قوم، كُتب عليكم الحجّ، فقام رجلٌ من بني أسد فقال: يا رسول الله، أفي كل عامٍ؟ فأغضب رسول الله ﷺ غضبًا شديدًا، فقال: والذي نفسي بيده، لو قلتُ: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتُكم، وإذا أمرتكم بشيءٍ فافعلوا، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فانتهوا عنه، فأنزل هذه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت عنه النَّصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآنُ فيها بتغليظٍ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآنُ فإنَّكم لا تسألون عن شيءٍ إلا وجدتم بيانه. رواه ابنُ جرير.
وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ قال: لما نزلت آيةُ الحجِّ نادى النبيُّ ﷺ في الناس فقال: يا أيها الناس، إنَّ الله قد كتب عليكم الحجَّ فحجّوا، فقالوا: يا رسول الله، أعامًا واحدًا، أم كل عامٍ؟ فقال: لا، بل عامًا واحدًا، ولو قلتُ: كل عامٍ لوجبت، ولو وجبت لكفرتم.
ثم قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إلى قوله: ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ. رواه ابنُ جرير.
وقال خصيف: عن مجاهد، عن ابن عباسٍ: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ قال: هي البحيرة والوصيلة والسَّائبة والحام، ألا ترى أنَّه قال بعدها: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة:103]، ولا كذا، ولا كذا؟
قال: وأما عكرمة فقال: إنَّهم كانوا يسألونه عن الآيات، فنُهوا عن ذلك، ثم قال: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ. رواه ابنُ جرير.
يعني عكرمة رحمه الله: أنَّ المراد من هذا النَّهي عن سؤال وقوع الآيات، كما سألت قريش أن يُجري لهم أنهارًا، وأن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وغير ذلك، وكما سألت اليهودُ أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، وقد قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111].
الشيخ: وهذا معنى الآية، فالآيات في المعنى الأول: السؤال عمَّا أشكل على الإنسان.
والمعنى الثاني: سؤال الآيات الدالة على صدق الرسالة والنبوة.
وهم منهيون عن هذا وهذا؛ فإنَّ رسالته ﷺ من أوضح الأشياء، وقامت عليها المعجزات، فلا حاجةَ إلى السؤال.
وأما السؤال عمَّا لم يحرم فهذا مُتكلّف، وإنما يسأل الإنسان عمَّا أشكل عليه مما أوجب عليه: مما أُمر به، أو نُهي عنه، حتى يكون على بصيرةٍ، على بينةٍ.
أما الشيء الذي لم يُؤمر به، ولم يُنْهَ عنه، فالسؤال عنه قد يضرّ؛ ولهذا أدّبوا على ..... من ربهم : لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
س: ما صحّة حديث: إنَّ الله فرض عليكم ..؟
ج: لا بأس به، نعم.
.............
س: بالنسبة لحديث: وسكت عن أشياء؟
ج: رحمة لكم، غير نسيان.
س: هل تثبت صفة السكوت لله؟
ج: يتكلم، وإذا شاء يسكت، متى يشاء سبحانه، نعم، جلَّ وعلا.