تفسير قوله تعالى: {..وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}

ومن عصمة الله لرسوله: حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحُسَّادها ومُعانديها ومُترفيها، مع شدّة العداوة والبغضة، ونصب المحاربة له ليلًا ونهارًا، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقُدرته وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمِّه أبي طالب؛ إذ كان رئيسًا مُطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبةً طبيعيةً لرسول الله ﷺ، لا شرعيَّة، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كُفَّارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدرٌ مُشتركٌ في الكفر هابوه واحترموه، فلمَّا مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذًى يسيرًا.

ثم قيّض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحوّل إلى دارهم، وهي المدينة، فلمَّا صار إليها منعوه من الأحمر والأسود، وكلّما همَّ أحدٌ من المشركين وأهل الكتاب بسوءٍ كاده الله، وردّ كيده عليه، كما كاده اليهود بالسّحر، فحماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواءً لذلك الدَّاء، ولما سمّه اليهود في ذراع تلك الشَّاة بخيبر أعلمه الله به وحماه منه.

ولهذا أشباه كثيرة جدًّا يطول ذكرها، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة:

فقال أبو جعفر ابن جرير: حدثنا الحارث: حدثنا عبدالعزيز: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره، قالوا: كان رسول الله ﷺ إذا نزل منزلًا اختار له أصحابُه شجرةً ظليلةً فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه، ثم قال: مَن يمنعك مني؟ فقال: الله ، فرعدت يد الأعرابي، وسقط السيف منه، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].

الشيخ: هذه رواية غريبة، والمحفوظ في الأحاديث الصَّحيحة أنَّه أخذ السيف فقال: مَن يمنعك مني؟ قال: الله، فسقط السيفُ من يده، فأخذه رسولُ الله فقال: مَن يمنعك مني؟ قال: لا أحد. فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، ولكني أُعاهدك ألا أُقاتلك، ولا أكون مع قومٍ يُقاتلونك. ثم دعا أصحابَه فأخبرهم بما جرى. هذا ثابتٌ في الصَّحيح.

وأمَّا هذه الرِّواية التي فيها: أنَّه ضرب رأسه بالشّجرة فانتثر دماغه، فهذه رواية مُرسلة، في سندها نثر.

س: سحر النبي ﷺ؟

ج: سحره اليهود، وعافاه الله من ذلك، وأنزل المعوذتين، وقال: ما تعوّذ مُتعوّذٌ بمثلهما، يقرأ في يديه، ويمسح على رأسه وصدره، وعافاه الله، وشفاه الله من ذلك.

س: ..............؟

ج: وقع والله أعلم، وقع ما هو أشرّ.

مُداخلة: في تعليق يقول: الحديث عند الطبري، وهو ضعيفٌ؛ لأنه مُرسل، وأيضًا لعبدالعزيز، وهو ابن .....، متروك، وكذَّبه ابنُ معين، وأبو معشر وهو نجيح بن عبدالرحمن السّندي، قال البخاري: مُنكر الحديث.

الشيخ: نعم، نعم.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان: حدثنا زيد بن الحباب: حدثنا موسى بن عبيدة: حدثني زيد بن أسلم، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: لما غزا رسولُ الله ﷺ بني أنمار نزل ذات الرِّقاع بأعلى نخلٍ، فبينا هو جالس على رأس بئرٍ قد دلّى رجليه، فقال غورث بن الحارث -من بني النَّجار-: لأقتلنَّ محمدًا. فقال له أصحابُه: كيف تقتله؟ قال: أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. قال: فأتاه فقال: يا محمد، أعطني سيفك أشيمه. فأعطاه إياه، فرعدت يده حتى سقط السيفُ من يده، فقال رسول الله ﷺ: حال الله بينك وبين ما تُريد، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].

الشيخ: وهذا أيضًا ضعيف، وفي الأحاديث الصَّحيحة ما يكفي ويشفي والحمد لله، من عصمة الله وتأييده له، وحمايته له من شرِّ أعدائه عليه الصلاة والسلام.

س: وجه الضَّعف فيه؟

ج: موسى بن عبيدة ضعيف جدًّا.

وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصَّحيح.

وقال أبو بكر ابن مردويه: حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم: حدثنا محمد بن عبدالوهاب: حدثنا آدم: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كنا إذا صحبنا رسول الله ﷺ في سفرٍ تركنا له أعظم شجرةٍ وأظلّها، فينزل تحتها، فنزل ذات يومٍ تحت شجرةٍ، وعلَّق سيفَه فيها، فجاء رجلٌ فأخذه، فقال: يا محمد، مَن يمنعك مني؟ فقال رسولُ الله ﷺ: الله يمنعني منك، ضع السيف، فوضعه، فأنزل الله : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.

وكذا رواه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" عن عبدالله بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن المؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة: سمعتُ أبا إسرائيل –يعني: الجشمي-: سمعتُ جعدة -هو ابن خالد بن الصّمة الجشمي -، قال: سمعتُ النبي ﷺ ورأى رجلًا سمينًا، فجعل النبي ﷺ يُومئ إلى بطنه بيده ويقول: لو كان هذا في غير هذا لكان خيرًا لك. قال: وأُتي النبي ﷺ برجلٍ، فقيل: هذا أراد أن يقتلك. فقال له النبي ﷺ: لم تُرع، ولو أردتَ ذلك لم يُسلطك الله عليَّ.

س: سند الحديث؟

ج: في سنده نظر، والأحاديث الصَّحيحة كافية، والمؤلف -الله يعفو عنه- لو اكتفى بالأحاديث الصَّحيحة كان خيرًا وأوفى، أعد سنده.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة: سمعتُ أبا إسرائيل –يعني: الجشمي.

الشيخ: انظر في "التقريب": أبا إسرائيل الجشمي.

مُداخلة: قال الهيثمي في "المجمع": رجاله رجال الصحيح غير أبا إسرائيل الجشمي، وهو ثقة.

الشيخ: و"التقريب"؟

مداخلة: في تعليق يقول: الحديث ضعيف؛ لجهالة أبي إسرائيل، إذ لم يروِ عنه إلا شعبة، ولم يُوثّقه مُعتبر كما في "تهذيب التهذيب".

الشيخ: انظر "التقريب".

س: ما معنى كلمة: لو كان هذا في غير هذا؟

ج: يعني: كثرة الأكل.

الشيخ: أبو إسرائيل في الكنى، في أول الكنى، الغالب على شيوخ شعبة الثقة، الغالب على شيوخه رحمه الله، يختار شعبة، ينتقي.

الطالب: أبو إسرائيل الجشمي -بضم الجيم وفتح المعجمة- اسمه: شعيب، مقبول، من الثالثة. النسائي في "عمل اليوم والليلة".

الطالب: أبو إسرائيل الجشمي، عن مولاه، واسمه: شعيب ..... الجشمي، وعنه شعبة بن الحجاج، وثَّقه ابنُ حبان.

الشيخ: وثَّقه ابنُ حبان، يكون مقبولًا، لكن الأحاديث الصَّحيحة كافية، يكون حسنًا لغيره.

وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة:67] أي: بلّغ أنت والله هو الذي يهدي مَن يشاء، ويُضلّ مَن يشاء، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، وقال: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد:40].

الشيخ: حماه الله وعصمه حتى بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ثم توفاه الله عليه الصلاة والسلام، وقد أحاط به أعداء كثيرون في مكة، وفي المدينة، ثم صانه الله من شرهم، وهكذا يوم أحد عافاه الله من شرِّ ما وقع، وهكذا يوم الأحزاب، وهكذا يوم خيبر، كل ذلك من حماية الله له حتى يُبلّغ الرسالة، حتى يتمّ أمر الله، ولما بلّغ الرسالة وأدَّى الأمانة اختاره إلى جواره عليه الصلاة والسلام.

س: المقبول تُقبل روايته على الإطلاق؟

ج: المقبول معناه أنَّه لا بدَّ أن يكون له مَن يعضده، لا بدَّ من سندٍ آخر مثله، أو خير منه، هذه قاعدة.

س: على هذا ما يكون الحديثُ ضعيفًا؟

ج: يكون ضعيفًا إذا انفرد ولم يرد له شاهد.

س: هل له شاهد هذا؟

ج: شواهده كثيرة.

س: مَن قال أنَّ توثيق ابن حبان يختلف أحيانًا؟

ج: توثيق ابن حبان فيه ضعف؛ ولهذا يصير مَن وثّق مقبولًا إذا عضده غيره؛ لأنَّه يتساهل رحمه الله، لكن كون شُعبة روى عنه هذا يقوي أمره.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة:68-69].

يقول تعالى: قُلْ يا محمد يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ أي: من الدِّين حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أي: حتى تُؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها، ومما فيها الأمر باتباع محمدٍ ﷺ، والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته؛ ولهذا قال ليث ابن أبي سليم: عن مجاهد: في قوله: أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: القرآن العظيم.

وقوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا تقدّم تفسيره، فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أي: فلا تحزن عليهم، ولا يهيدنَّك ذلك منهم.

الشيخ: والأصل في هذا التَّكبر والحسد، فما زادهم إلا بلاء، نسأل الله العافية؛ لأنَّ داءهم الحسد والبغي والكفر على بصيرةٍ؛ فلهذا قال فيهم جلَّ وعلا: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، نسأل الله العافية، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]، والله المستعان، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهم المسلمون، وَالَّذِينَ هَادُوا وهم حملة التوراة، وَالصَّابِئُونَ لما طال الفصلُ حسن العطف بالرفع: وَالصَّابِئُونَ طائفة بين النصارى والمجوس ليس لهم دينٌ. قاله مجاهد، وعنه: بين اليهود والمجوس.

وقال سعيد بن جبير: بين اليهود والنَّصارى.

وعن الحسن والحكم: إنهم كالمجوس.

وقال قتادة: هم قومٌ يعبدون الملائكة، ويُصلون إلى غير القبلة، ويقرؤون الزبور.

وقال وهب بن منبه: هم قومٌ يعرفون الله وحده، وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يُحدثوا كفرًا.

وقال ابنُ وهب: أخبرني ابنُ أبي الزناد، عن أبيه قال: الصَّابئون هم قومٌ مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يُؤمنون بالنّبيين كلِّهم، ويصومون كل سنةٍ ثلاثين يومًا، ويُصلون إلى اليمن كل يومٍ خمس صلوات. وقيل غير ذلك.

الشيخ: والخلاصة أنهم طائفة من المشركين، مثلما أنَّ اليهود طائفة، والنصارى طائفة، والمجوس طائفة، وغيرهم، سواء كانوا يعبدون الأوثان، أو يعبدون الكواكب، أو غير ذلك، مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر دخل الجنة، مَن آمن منهم، أو من اليهود، أو من النصارى، أو من المجوس، أو من غيرهم، مَن دخل في دين الله الذي جاء به رسولُه ﷺ فهو المهتدي، وهو النَّاجي، والله أكبر.

س: لماذا قال هنا: وَالصَّابِئُونَ، وفي البقرة قال: وَالصَّابِئِينَ [البقرة:62]، والاثنان على العطف؟

ج: النَّصب ظاهر، والرفع على المعنى .....، وهو الابتداء، وهو الَّذِينَ في محل رفع قبل دخول "إن" .....، أو معناه: والصابئون كذلك. والأظهر في القراءة النَّصب؛ عطفًا على إِنَّ الَّذِينَ كما في سورة البقرة، وهنا أشكل على القراءة، ولعله مثلما قال المؤلف: لما طال الفصلُ رفعت: وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كذلك يعني، والأمر سهل.

وأما النَّصارى فمعروفون، وهم حملة الإنجيل، والمقصود أنَّ كل فرقةٍ آمنت بالله واليوم الآخر، وهو الميعاد والجزاء يوم الدِّين، وعملت عملًا صالحًا، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون مُوافقًا للشَّريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثَّقلين، فمَن اتَّصف بذلك فلا خوفٌ عليهم فيما يستقبلونه، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم، ولا هم يحزنون.

الشيخ: هذه قاعدة في جميع الأديان، جميع مَن على وجه الأرض من الجنِّ والإنس: مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا دخل الجنة؛ لأنَّه خرج من دينه الباطل إلى دين محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فمَن كان بعد بعث محمدٍ ﷺ رجع عن دينه، وترك دينه، وتابع محمدًا ﷺ، فله الجنة والسَّعادة.

س: قول ابن وهب أنَّ الصابئين يؤمنون بالنبيين كلّهم، ويصومون كل سنةٍ ثلاثين يومًا؟

ج: كل هذه أخبار ما عليها دليل، هذه أخبار مُرسلة ما يُعوّل عليها.

س: توجد لهم بقايا؟

ج: الله أعلم.

وقد تقدّم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته.