تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا..}

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ۝ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [المائدة:70-71].

يذكر تعالى أنَّه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السَّمع والطَّاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق، واتَّبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدَّموها على الشَّرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردُّوه؛ ولهذا قال تعالى: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ۝ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: وحسبوا أن لا يترتب لهم شرٌّ على ما صنعوا، فترتب، وهو أنَّهم عموا عن الحقِّ، وصمّوا، فلا يسمعون حقًّا، ولا يهتدون إليه، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: مما كانوا فيه، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا أي: بعد ذلك، كَثِيرٌ مِنْهُمْ.

الشيخ: والمقصود من هذا تحذير هذه الأمّة أن تسلك مسلك أولئك الهالكين من اليهود والنَّصارى وغيرهم الذين خالفوا الرسل، وتابعوا الهوى .....، وكذّبوا .....، وقتلوا الأنبياء، كلّ ذلك طاعةً لأهوائهم، فما جاءهم من الحقِّ يُوافق أهواءهم قبلوه، وما لا فلا، وهذه عادة أهل الباطل في الحقيقة: ما اتَّبعوا الحقَّ، وإنما اتَّبعوا أهواءهم، قال -جلَّ وعلا- في أمثالهم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم:23]، كما فعلت اليهود والنَّصارى، هكذا قريش وغيرهم، وهكذا أهل الباطل في كل مكانٍ: إن يتبعون إلا أهواءهم، إن كان الحقُّ في مصلحتهم قبلوه، وإن لم يكن في مصلحتهم ردُّوه.

فلا ينبغي لكل مؤمنٍ، بل لا يجوز لكل مؤمنٍ، بل لكل مَن له أدنى بصيرة أن يتخلّق بهذه الأخلاق الذَّميمة، بل يجب أن يقبل الحقَّ وإن خالف هواه، ويجب أن يردَّ الباطل وإن وافق هواه، فالحقّ فوق الجميع.

هذا هو واجب المكلَّفين جميعًا: أن يخضعوا لدين الله، ويقبلوا ما أمرهم به، وإن خالف أهواءهم، فإذا أمرهم بالزكاة وخالف أهواءهم يُؤدُّوا الزكاة، وإذا أمرهم بالصيام ولم يهووا ذلك يُؤدّوا الصيام، وإذا أمرهم بالحجِّ ولم يهووا الحجَّ يُؤدّوا الحجّ، وهكذا كلّما جاءت الأوامر وجب أن يخضعوا لها، وإن لم تُوافق أهواءهم، فالحقّ فوق ذلك، والحقّ هو الذي به سعادتهم ونجاتهم، وأهواؤهم تختلف وتضطرب، ليست معصومةً.

فالواجب على كل مؤمنٍ أن يتّخذ له طريقًا قويمًا، وهو مُتابعة الحقِّ أينما كان، وكيفما كان، وأن يحذر الباطل أينما كان، وكيفما كان، وأن يكون هدفُه وحرصه ورغبته ومقصده كلّ ذلك: أن يتبع ما يُرضي الله، وأن يقبل ما جاء به رسوله، وأن ينقاد لذلك راغبًا بما عند الله .....

وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أي: مُطَّلعٌ عليهم، وعليمٌ بمَن يستحقّ الهداية ممن يستحقّ الغواية.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ۝ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:72-75].

يقول تعالى حاكمًا بتكفير فرق النَّصارى من الملكية واليعقوبية والنّسطورية، ممن قال منهم: بأنَّ المسيح هو الله! تعالى الله عن قولهم وتنزَّه وتقدَّس علوًّا كبيرًا، هذا وقد تقدّم لهم أنَّ المسيح عبدالله ورسوله، وكان أول كلمةٍ نطق بها وهو صغيرٌ في المهد أن قال: إني عبدالله، ولم يقل: أنا الله، ولا ابن الله، بل: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا إلى أن قال: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:30-36].

وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته، آمرًا لهم بعبادة ربِّه وربهم وحده لا شريكَ له؛ ولهذا قال تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي: فيعبد معه غيره فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ أي: فقد أوجب له النار، وحرَّم عليه الجنة، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50].

وفي الصحيح: أنَّ النبي ﷺ بعث مُناديًا يُنادي في الناس: إنَّ الجنةَ لا يدخلها إلا نفسٌ مُسلمة، وفي لفظٍ: مؤمنة.

الشيخ: وهذا نادى به في يوم عرفة، يوم النَّحر، كما أمر المنادي أن يُنادي يوم النَّحر في حجّة الوداع، منهم: علي، وأبو هريرة، وغيرهم، يُنادون في الناس بأربعٍ: "لا يطوف بالبيت عُريان، ولا يحجّ بعد هذا العام مُشرك، ولا يدخل الجنةَ إلا نفس مؤمنة، ومَن كان له عند رسول الله عهدٌ فهو إلى عهده، ومَن ليس له عهدٌ فله مدّته أربعة أشهر".

المقصود أنَّهم نادوا في الناس في حجّة الوداع بين الأمم المجتمعة: أنَّه لا يدخل الجنةَ إلا نفسٌ مؤمنة، الذين آمنوا بالله ورسوله، وانقادوا لشرع الله، أما الجنة فقد حرَّمها الله على الكافرين ..... لأهل الإيمان والاستقامة.

فجديرٌ بكل مُكلَّفٍ أن يأخذ بأسباب النَّجاة، وأن يحذر أن يكون مع الهالكين، وأسباب النَّجاة في كتاب الله وسُنَّة رسوله قد بيَّنها ربنا سبحانه في كتابه العظيم، وسنة رسوله الأمين، وهي توحيده، والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، هذه هي أسباب النَّجاة: أن يخصّ الله بالعبادة، وأن يُؤمن به، وبرسله، وبكتبه، وبالملائكة، وبالجنة، والنار، والحساب، والجزاء، وغير هذا، وأن ينقاد لشرعه: فاعلًا المأمور، تاركًا المحظور، عن إخلاصٍ وصدقٍ، يرجو ثوابَ الله، ويخشى عقابه، هذا طريق السَّعادة، هذا طريق الجنة: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50]، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20].

وهذه الدار هي دار العمل، خلق اللهُ فيها العباد ليعملوا، وجعل لهم دارين مُنتهاهم إليهما، منتهى هذا العالم الجنة والنار، فمَن تابع الرسل فإلى الجنة، ومَن خالف الرسل فإلى النار.

فالجدير والواجب على كل مؤمنٍ أن يتبصّر، وأن يتعلم ويتفقّه في الدِّين؛ حتى يعلم ما أوجب اللهُ عليه فيفعله، وحتى يعلم ما حرّم اللهُ عليه فيجتنبه، وحتى يعرف محابّ الله فيُسارع إليها، هكذا ذو العقل السَّليم، هكذا مَن يُريد النَّجاة، مَن يُريد السَّعادة في ليله ونهاره، في سرِّه وجهره، في جميع أحواله، يبحث عن أسباب رضا الله: يتفقّه، ويتبصّر، ويُسارع إلى أسباب النَّجاة، ويحذر دائمًا أسباب الهلاك، ويُوصي إخوانه بذلك، وينصح لإخوانه بهذا الأمر أينما كان، فالمؤمن لا تجده أبدًا إلا ناصحًا لله ولعباده أينما كان: في الشّدة والرَّخاء، في السفر والإقامة، في الصحّة والمرض، يُريد وجه الله والدَّار الآخرة، نعم.

............

س: كيف نفهم قول النبي ﷺ: إذا وجدتَ شُحًّا مُطاعًا، وهوًى مُتَّبَعًا، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه؛ فعليك بخاصّة نفسك؟ هل هذا يكون في وقتٍ معينٍ لا يُؤمر فيه بالمعروف، ولا يُنهى فيه عن المنكر؟

ج: نعم، عندك في آخر الزمان، أو في أي مكانٍ كان إذا وجد شُحًّا مُطاعًا، وهوًى مُتَّبَعًا، ودنيا مُؤثرة، ما يسمع لقوله، ولا يلتفت إليه، ولا ينتفع بقوله، عليه بنفسه، وأمَّا إذا كان يجد مَن يقبل النَّصيحة، ويجد مَن يتأثر، فلينصح، نعم.

س: الصَّحيح في الملكيَّة؟

ج: الملكية نسبة إلى المَلِك، الملكية والنّسطورية واليعقوبية: طوائف النَّصارى، نعم.

وتقدّم في أول سورة النِّساء عند قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] حديثُ يزيد بن بابنوس، عن عائشة: "الدَّواوين ثلاثة"، فذكر منها ديوانًا لا يغفره الله، وهو الشِّرك بالله، قال الله تعالى: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، والحديث في "مسند أحمد"؛ ولهذا قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنَّه قال لبني إسرائيل: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72] أي: وما له عند الله ناصر، ولا مُعين، ولا مُنقذ مما هو فيه.

الشيخ: ..... بأمر الله هو الذي عليه كتاب الله: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17]، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.

فقد أوضح سبحانه وبيّن أكمل إيضاح، وأكمل بيان: أنَّ المشرك من أهل النار، وأنَّه لا يُغفر له، وأنَّ الجنة عليه حرام.

فالواجب على كل مُكلَّفٍ أن يحذر ذلك، وأن يكون في غايةٍ من العناية بالإخلاص لله في جميع أعماله، لعله ينجو، نعم.

مُداخلة: في حاشية على حديث عائشة، يقول: إسناده حسنٌ لأجل صدقة بن موسى؛ فيه كلامٌ من قِبَل حفظه. وكذا قال الهيثمي، إلا أنَّه عزا طريقه للجمهور، ونقل توثيقه عن البعض، وصححه الحاكم، ووافقه الذَّهبي.

الشيخ: نعم.

وقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، قال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا علي بن الحسن الهسنجاني.

الشيخ: انظر في "التقريب": علي بن الحسن الهسنجاني.

حدثنا سعيد بن الحكم ابن أبي مريم: حدثنا الفضل: حدَّثني أبو صخر في قول الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ قال: هو قول اليهود: عزيرٌ ابن الله. وقول النَّصارى: المسيح ابن الله. فجعلوا الله ثالث ثلاثة.

وهذا قولٌ غريبٌ في تفسير الآية: أنَّ المراد بذلك طائفتا اليهود والنَّصارى، والصَّحيح أنها أُنزلت في النَّصارى خاصَّةً. قاله مجاهد وغير واحدٍ.

الشيخ: وهذا هو المعروف؛ لأنَّهم جعلوا الآلهة ثلاثًا: عيسى، وأمّه، والربّ ، نسأل الله العافية.

ثم اختلفوا في ذلك: فقيل: المراد بذلك كفَّارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة: وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن! تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.

قال ابنُ جرير وغيره: والطَّوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنّسطورية تقول بهذه الأقانيم، وهم مُختلفون فيها اختلافًا مُتباينًا، ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقةٍ منهم تُكفّر الأخرى، والحقّ أنَّ الثلاثة كافرة.

وقال السّدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمّه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثةٍ بهذا الاعتبار.

قال السّدي: وهي كقوله تعالى في آخر السورة: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ [المائدة:116]. وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم.

الشيخ: وهو المتعين؛ لأنَّه نصّ القرآن هو المتعين، نسأل الله العافية، عيسى وأمّه والله، يكونوا ثلاثةً، نسأل الله العافية، وهذا من أقبح الكفر، وأضلّ الضَّلال، نسأل الله العافية.

س: فقط هم يقولون: باسم الأب والابن والروح القدس، يعني: يقولون: إنَّ روح القدس جبريل ؟

ج: نصّ القرآن: إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، نعم.

قال الله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ أي: ليس مُتعددًا، بل هو وحده لا شريكَ له إله جميع الكائنات، وسائر الموجودات.

ثم قال تعالى مُتوعدًا لهم ومُتهددًا: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ أي: من هذا الافتراء والكذب، لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: في الآخرة، من الأغلال والنَّكال.

ثم قال: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا من كرمه تعالى وجوده ولُطفه ورحمته بخلقه، مع هذا الذَّنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل مَن تاب إليه تاب عليه.

الشيخ: وهذا من فضله وإحسانه، وهي دعوة لهم ولغيرهم: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، بابه مفتوحٌ للتوبة للكافر ولغير الكافر، فالواجب على مَن وقع فيما حرَّم الله أن يُبادر بالتوبة، والله هو التَّواب الكريم، وهو الرحمن الرحيم، سواء كان كافرًا أو عاصيًا، الواجب أن يُبادر: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال -جلَّ وعلا-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، وقال النبي ﷺ: التائب من الذَّنب كمَن لا ذنبَ له. نعم.

س: حديث: التَّائب من الذَّنب كمَن لا ذنبَ له صحيح؟

ج: صحيحٌ، نعم.

............