تفسير قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا..}

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ۝ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ۝ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة:82-86].

قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: نزلت هذه الآيات في النَّجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم جعفرُ بن أبي طالب بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم.

وهذا القول فيه نظر؛ لأنَّ هذه الآية مدنية، وقصّة جعفر مع النَّجاشي قبل الهجرة.

وقال سعيدُ بن جبير والسّدي وغيرهما: نزلت في وفدٍ بعثهم النَّجاشي إلى النبي ﷺ ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته، فلمَّا رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النَّجاشي فأخبروه.

قال السدي: فهاجر النَّجاشي، فمات بالطَّريق. وهذا من إفراد السّدي، فإنَّ النَّجاشي مات وهو ملك الحبشة، وصلَّى عليه النبيُّ ﷺ يوم مات، وأخبر به أصحابه، وأخبر أنَّه مات بأرض الحبشة.

ثم اختُلف في عدّة هذا الوفد، فقيل: اثنا عشر: سبعة قساوسة، وخمسة رهابين. وقيل: بالعكس. وقيل: خمسون. وقيل: بضع وستون. وقيل: سبعون رجلًا. فالله أعلم.

الشيخ: الأقرب في هذا -والله أعلم- العموم، وأنَّ النصارى أقرب إلى الحقِّ من اليهود؛ لأنَّ داء اليهود الحسد والبغي وجحد الحقّ؛ تكبُّرًا وتعاظُمًا وحسدًا وبغيًا، أمَّا داء النَّصارى الغالب عليهم داؤهم هو الجهل؛ ولهذا هم أقرب إلى الخير والهدى من اليهود، والواقع شاهدٌ بذلك؛ فإنَّ النصارى في جميع الأوقات لا تزال تجد منهم مَن يُسلم ويُبادر إلى الإسلام في كل وقتٍ، الفئام من النَّصارى في كل وقتٍ يُسلمون، يدخلون في دين الإسلام.

وقد أسلم على يدي منهم الجمُّ الغفير في الجامعة الإسلامية، وفي الرياض، وأسلم على يد كثيرٍ من العلماء الجمُّ الغفير في كل زمانٍ، من قديم الدَّهر ومن حديثه، فالنَّصارى أقرب إلى الخير؛ لأنَّهم عندهم رقّة، وعندهم جهل كبير بالحقِّ، فإذا بيّن لهم الحقّ ووضح لهم الحقّ أسلم الكثيرُ منهم، ودخلوا في دين الله.

أمَّا اليهود فداؤهم العناد والتَّكبر والحسد والبغي؛ فلهذا يندر أن يُسلم منهم أحدٌ، من أقلّ القليل، بل من أندر النادر مَن يُسلم من اليهود، لا في عهد النبي ﷺ ولا بعده؛ ولهذا قال -جلَّ وعلا-: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى عامّ، ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ يعني: من النصارى قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، علماء وعُبَّاد، إذا سمعوا الحقَّ أذعنوا له، وقبلوا به، ولم يستكبروا؛ ولهذا كثر منهم المسلمون جدًّا في كل زمانٍ، وفي كل مكانٍ.

فينبغي لأهل العلم والإيمان العناية بهم: بدعوتهم، وتوجيههم إلى الخير؛ لأنَّهم قريبو الإسلام، فدعوتهم إلى الله وإرشادهم وتوجيههم من أهم المهمات. نعم.

وقال عطاء بن أبي رباح: هم قومٌ من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مُهاجرة الحبشة من المسلمين.

الشيخ: وهذا مما يدلّ على قُربهم من الخير أيضًا، فإنَّ النَّجاشي أسلم لما سمع القرآن من جعفر ، أسلم وهو رئيسهم، وصلَّى عليه النبي ﷺ لما توفي، وأخبر أصحابه ..... فصلّوا عليه -رحمه الله.

وقال قتادة: هم قومٌ كانوا على دين عيسى ابن مريم، فلمَّا رأوا المسلمين وسمعوا القرآنَ أسلموا ولم يتلعثموا.

واختار ابنُ جرير أنَّ هذه الآيات نزلت في صفة أقوامٍ بهذه المثابة، سواء كانوا من الحبشة أو غيرها.

فقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ما ذاك إلا لأنَّ كفرَ اليهود كفرُ عنادٍ وجحودٍ، ومُباهتةٍ للحقِّ، وغمطٍ للناس، وتنقّصٍ بحملة العلم؛ ولهذا قتلوا كثيرًا من الأنبياء، حتى همُّوا بقتل رسول الله ﷺ غير مرَّةٍ، وسمّوه، وسحروه، وألَّبوا عليه أشباههم من المشركين، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

قال الحافظ أبو بكر ابن مردويه عند تفسير هذه الآية: حدثنا أحمد بن محمد بن السري: حدثنا محمد بن علي بن حبيب الرّقي: حدثنا علي بن سعيد العلاف: حدثنا أبو النَّضر، عن الأشجعي، عن سفيان، عن يحيى بن عبدالله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: ما خلا يهودي بمسلمٍ قطّ إلا همَّ بقتله.

ثم رواه عن محمد بن أحمد بن إسحاق اليشكري: حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي: حدثنا فرج بن عبيد: حدثنا عبَّاد بن العوام، عن يحيى بن عبدالله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: ما خلا يهودي بمسلمٍ إلا حدَّث نفسَه بقتله. وهذا حديثٌ غريبٌ جدًّا.

مُداخلة: عندنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري.

الشيخ: حطّ عليه نسخة: "اليشكري"، نسخة: "العسكري"، وأنت حطّ نسخة؛ لأنَّ هذا مُتأخّر: محمد بن أحمد، انظر في "التقريب"، أو في "التعجيل": محمد بن أحمد بن إسحاق.

وعلى كل حالٍ، الأقرب -والله أعلم- عدم صحّته، لكن هو الظنّ بهم، اليهود هو الظنّ بهم، كون اليهودي إذا خلا بالمسلم همَّ بقتله، هو الظنّ بهم من شدّة عداوتهم -قاتلهم الله.

س: الأقرب في الحديث المذكور صحّته؟

ج: الأقرب عدم صحّته.

س: في الوقت الحاضر استوت عداوةُ اليهود مع النَّصارى؟

ج: لا، ما استوت، الله يُكذِّب هذا القول: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، فالنَّصارى أقرب، وأنت تُشاهد الآن في المملكة وغير المملكة، وفي أمريكا، وفي فرنسا، وفي ألمانيا، وفي كل مكانٍ المسلمون كثيرٌ، المسلمون منهم كثيرٌ.

وقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أي: الذين زعموا أنَّهم نصارى، من أتباع المسيح، وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودّة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرّقة والرّأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً [الحديد:27]، وفي كتابهم: "مَن ضربك على خدِّك الأيمن فأدر له خدَّك الأيسر"، وليس القتال مشروعًا في ملَّتهم؛ ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ أي: يوجد فيهم القسيسون، وهم خُطباؤهم وعُلماؤهم، واحدهم: قسيس، وقسّ أيضًا.

الشيخ: انظر "القاموس" ضبطه: قَس، أو قُس، أو قِس، باب السين، فصل القاف.

مُداخلة: سبق أن قُرئ عليكم في استفسارٍ ضبطه بالفتح.

الشيخ: يمكن، ما هو ببعيدٍ، عندكم؟

الطالب: راجعته فيما سبق.

الشيخ: نعم، زود خيرًا، انظر "القاموس".

وقد يُجمع على قسوس، والرُّهبان جمع راهب، وهو العابد، مُشتقٌّ من الرهبة، وهي الخوف، كراكب ورُكبان، وفرسان.

قال ابنُ جرير: وقد يكون الرُّهبان واحدًا، وجمعه رهابين، مثل: قُربان وقرابين، وجُردان وجرادين، وقد يُجمع على رهابنة، ومن الدليل على أنَّه يكون عند العرب واحدًا قول الشاعر:

لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل

وقال الحافظُ أبو بكر البزار: حدثنا بشر بن آدم: حدثنا نصير ابن أبي الأشعث: حدَّثني الصّلت الدّهان، عن جاثمة بن رئاب قال: سألتُ سلمان عن قول الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا فقال: دع القسيسين في البيع والخرب، أقرأني رسولُ الله ﷺ: ذلك بأنَّ منهم صديقين ورُهبانًا.

وكذا رواه ابنُ مردويه من طريق يحيى بن عبدالحميد الحمّاني، عن نضير بن زياد الطَّائي، عن صلت الدّهان، عن جاثمة بن رئاب، عن سلمان، به.

وقال ابنُ أبي حاتم: ذكره أبي: حدثنا يحيى بن عبدالحميد الحمّاني: حدثنا نضير بن زياد الطَّائي: حدثنا صلت الدّهان، عن جاثمة بن رئاب قال: سمعتُ سلمان وسُئل عن قوله: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا فقال: هم الرهبان الذين هم في الصَّوامع والخرب، فدعوهم فيها. قال سلمان: وقرأت على النبي ﷺ: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ، فأقرأني: ذلك بأنَّ منهم صديقين ورُهبانًا.

فقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تضمّن وصفهم بأنَّ فيهم العلم والعبادة والتَّواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحقِّ واتِّباعه والإنصاف فقال: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أي: مما عندهم من البشارة ببعثة محمدٍ ﷺ، يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي: مع مَن يشهد بصحّة هذا ويُؤمن به.

وقد روى النَّسائي عن عمرو بن علي الفلاس، عن عمر بن علي بن مقدم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النَّجاشي وفي أصحابه: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ.

س: تسميته بالمسيح؟

ج: الله أعلم، قيل: لأنَّه إذا مسح على مريضٍ أبرأه الله. وقيل: لأنَّه يمسح الأرض في آخر الزمان إذا نزل. فنُسبوا إليه، ولكن إذا قيل: النَّصارى، أحسن.

س: المرأة إذا ماتت وهي مُحرمة هل يُغطّى وجهها؟

ج: يُغطّى وجهها نعم، المنهي عنه النِّقاب فقط، أما التَّغطية فما تُخالف، نعم.