وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي: حدثنا محمد ابن أبي عمر العدني: حدثنا سفيان، عن أبي سعدٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ ، قوله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة:26] قال: فتاهوا أربعين سنةً. قال: فهلك موسى وهارون في التّيه، وكل مَن جاوز الأربعين سنة، فلمَّا مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، وهو الذي قيل له: اليوم يوم الجمعة، فهمّوا بافتتاحها، ودنت الشمسُ للغروب، فخشي إن دخلت ليلةُ السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس: إني مأمورٌ، وإنَّك مأمورة. فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم يرَ مثله قط، فقرَّبوه إلى النار فلم تأته، فقال: فيكم الغلول. فدعا رؤوس الأسباط، وهم اثنا عشر رجلًا، فبايعهم، والتصقت يدُ رجلٍ منهم بيده، فقال: الغلول عندك فأخرجه. فأخرج رأس بقرةٍ من ذهبٍ، لها عينان من ياقوت، وأسنان من لؤلؤ، فوضعه مع القُربان، فأتت النارُ فأكلته. وهذا السياق له شاهدٌ في الصَّحيح.
وقد اختار ابنُ جرير أنَّ قوله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ هو العامل في أربعين سنة، وأنَّهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية، لا يهتدون لمقصدٍ.
قال: ثم خرجوا مع موسى ، ففتح بهم بيت المقدس.
ثم احتجَّ على ذلك مَن قال بإجماع علماء أخبار الأوَّلين: أنَّ عوج بن عنق قتله موسى ، قال: فلو كان قتله إياه قبل التِّيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق، فدلّ على أنَّه كان بعد التِّيه.
قال: وأجمعوا على أنَّ بلعام بن باعورا أعان الجبَّارين بالدُّعاء على موسى. قال: وما ذاك إلا بعد التِّيه؛ لأنَّهم كانوا قبل التِّيه لا يخافون من موسى وقومه. هذا استدلاله.
ثم قال: حدثنا أبو كريب: حدثنا ابنُ عطية: حدثنا قيس، عن ابن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسرًا لأهل النِّيل سنةً.
الشيخ: كل هذا مثلما تقدّم من خُرافات بني إسرائيل: عوج بن عنق، كلّ هذا من خُرافات بني إسرائيل، نعم.
الشيخ: كلّ هذا من الخرافات، نعم.
وقوله تعالى: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26] تسلية لموسى عنهم، أي: لا تأسف، ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به، فإنَّهم مُستحقّون ذلك.
وهذه القصّة تضمّنت تقريع اليهود، وبيان فضائحهم، ومُخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مُصابرة الأعداء ومُجالدتهم ومُقاتلتهم، مع أنَّ بين أظهرهم رسول الله ﷺ وكليمه وصفيّه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنَّصر والظّفر بأعدائهم، هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنَّكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون؛ لتقرّ به أعينهم، وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مُقاتلة أهل بلدٍ هي بالنسبة إلى ديار مصر لا تُوازي عشر المعشار في عدّة أهلها وعددهم!
فظهرت قبائح صنيعهم للخاصِّ والعامِّ، وافتضحوا فضيحةً لا يُغطيها الليل، ولا يسترها الذّيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غيِّهم يترددون، وهم البُغضاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، فقبّح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنةً تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضي لهم فيها بتأييد الخلود، وقد فعل وله الحمد في جميع الوجود.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:27-31].
يقول تعالى مُبينًا وخيم عاقبة البغي والحسد والظُّلم في خبر ابني آدم لصلبه -في قول الجمهور-، وهما قابيل وهابيل، كيف عدا أحدُهما على الآخر فقتله؛ بغيًا عليه، وحسدًا له فيما وهبه اللهُ من النِّعمة، وتقبّل القُربان الذي أخلص فيه لله ، ففاز المقتول بوضع الآثام والدُّخول إلى الجنَّة، وخاب القاتلُ ورجع بالصَّفقة الخاسرة في الدَّارين، فقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ أي: اقصص على هؤلاء البُغاة، الحسدة، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم، وهما هابيل وقابيل، فيما ذكره غير واحدٍ من السَّلف والخلف.
وقوله: بِالْحَقِّ أي: على الجلية والأمر الذي لا لبسَ فيه ولا كذب، ولا وهم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، كقوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62]، وقوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]، وقال: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ [مريم:34].
وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحدٍ من السَّلف والخلف: أنَّ الله تعالى شرع لآدم أن يُزوّج بناته من بنيه؛ لضرورة الحال، ولكن قالوا: كان يُولد له في كل بطنٍ ذكر وأنثى، فكان يُزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أختُ هابيل دميمةً، وأختُ قابيل وضيئةً، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدمُ ذلك، إلا أن يُقرِّبا قربانًا، فمَن تُقبّل منه فهي له، فتُقبّل من هابيل، ولم يُتقبّل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصَّه الله في كتابه.
ذكر أقوال المفسّرين هاهنا:
قال السدي: فيما ذكر عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النبي ﷺ: أنَّه كان لا يُولد لآدم مولودٌ إلا وُلد معه جارية، فكان يُزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويُزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى وُلد له ابنان يُقال لهما: هابيل وقابيل، وكان قابيلُ صاحب زرعٍ، وكان هابيلُ صاحب ضرعٍ، وكان قابيلُ أكبرهما، وكان له أختٌ أحسن من أخت هابيل، وإنَّ هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال: هي أختي، وُلدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحقّ أن أتزوج بها، فأمره أبوه أن يُزوجها هابيل، فأبى، وأنَّهما قرَّبا قربانًا إلى الله أيّهما أحقّ بالجارية.
وكان آدمُ قد غاب عنهما، أتى مكّة ينظر إليها، قال الله : هل تعلم أنَّ لي بيتًا في الأرض؟ قال: اللهم لا. قال: إنَّ لي بيتًا في مكّة، فَأْتِهِ. فقال آدمُ للسَّماء: احفظي ولدي بالأمانة. فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرّك. فلمَّا انطلق آدمُ قرَّبا قربانًا، وكان قابيلُ يفخر عليه، فقال: أنا أحقّ بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصيّ والدي. فلمَّا قرَّبا قرَّب هابيلُ جذعةً سمينةً، وقرَّب قابيلُ حزمةَ سنبلٍ، فوجد فيها سنبلةً عظيمةً، ففركها وأكلها، فنزلت النارُ فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنَّك حتى لا تنكح أختي. فقال هابيلُ: إنما يتقبّل الله من المتقين. رواه ابنُ جرير.
وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا الحسن بن محمد بن الصباح: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج: أخبرني ابنُ خيثم قال: أقبلتُ مع سعيد بن جبير، فحدَّثني عن ابن عباسٍ، قال: نُهي أن تنكح المرأةُ أخاها توأمها، وأمر أن ينكحها غيرُه من إخوتها، وكان يُولد له في كل بطنٍ رجلٌ وامرأةٌ، فبينما هم كذلك إذ وُلد له امرأة وضيئة، وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدَّميمة: أنكحني أختك، وأنكحك أختي. فقال: لا، أنا أحقّ بأختي. فقرَّبا قربانًا، فتُقبل من صاحب الكبش، ولم يُتقبل من صاحب الزرع، فقتله. إسنادٌ جيدٌ.
الشيخ: الله -جلَّ وعلا- أخبرنا عن ابني آدم، والعبرة حاصلة، فإنَّه أخبر عنهما وعمَّا وقع من الظلم والعدوان، وجاء في الحديث الصحيح: ما قُتلت نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول قسطٌ من دمها يعني: قابيل؛ لأنَّه أول مَن سنَّ القتل.
والله -جلَّ وعلا- يبتلي عباده بالسّراء والضّراء، والخير والشر، فابتلاهما بهذا، ابتلى ابني آدم بكون أخت هذا أحسن من أخت هذا، كما جاء في القصّة، فامتنع أخو الجميلة أن يُزوج أخاه هابيل أخته، فجرى ما جرى من الفتنة؛ ابتلاءً وامتحانًا؛ ليُبين الله لعباده أنَّ الواجب هو الصَّبر والرِّضا بشرع الله، والسير على ما أمر الله به، والحذر من مُخالفة الأوامر، هذا هو الواجب على جميع المكلَّفين، وأنَّ اتباع الهوى وسيلة للهلاك والشَّر، فإنَّ أحد بني آدم لما تبع هواه وقتل أخاه صارت العاقبةُ وخيمةً على الجميع.
وكان الناسُ ذاك الوقت قليلين، ما فيه إلا آدم وبنوه؛ فلهذا شرع اللهُ تزويج أخت هذا من أخي هذا، وهذا من أخت هذا؛ حتى يكثر النَّسل، فلمَّا كثر النَّسل حرَّم الله الأخوات، كما قال تعالى في سورة النساء: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23].
المقصود أنَّ الشَّريعة السَّابقة فيها تسهيلٌ وتيسيرٌ لقِلّة بني آدم، فلمَّا كثر الناسُ شرع الله شريعة محمدٍ ﷺ التي هي أكمل الشَّرائع، وفيها: تحريم نكاح الأخت، وتحريم نكاح العمّة والخالة؛ لما بين الأقارب من الصّلة العظيمة، واستقرَّت الشريعةُ على ما جاء به محمدٌ ﷺ من تحريم الأمّهات، والبنات، والأخوات، والعمّات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، وأباح اللهُ بنات العمّ، وبنات الخال؛ توسعةً من الله ، وقصّ علينا قصّة ابني آدم؛ لنحذر الظُّلم والعاقبة الوخيمة، وأنَّ الواجب على الأقارب العدل، والصَّبر، وصِلة الرحم، والحذر من طاعة الهوى، فإنَّ طاعة الهوى مُهلكة، من الأقارب وغيرهم، نسأل الله العافية.
س: هذه الآثار من تزويج ابني آدم من أخواتهم فيها أثرٌ مرفوعٌ إلى النبي ﷺ؟
ج: قصص القرآن كافٍ ..... بني إسرائيل مثلما قال ﷺ: حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، إلا أن يعلم من الشَّرع كذب شيءٍ، أو صدق شيءٍ، نعم.
س: هل يُؤخذ منه مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً .....؟
ج: مثلما أخبر النبي ﷺ، نعم.
س: مَن سنَّ شرًّا هل الإثم ..... يتحمّله التَّابع كليةً أو بعضه؟
ج: مَن دعا إلى هدًى كان له مثل أجور أتباعه، ومَن دعا إلى شرٍّ كان عليه مثل آثام أتباعه إلى يوم القيامة، نسأل الله العافية.
س: ..............؟
ج: قسطٌ من دمها؛ لأنَّه أول مَن سنَّ القتل، أول مَن سنَّ قتل الظُّلم والعدوان.
الشيخ: لكنَّه من أخبار بني إسرائيل، فلا يُصدّق، ولا يُكذّب، فابن عباسٍ ينقل عن بني إسرائيل، نعم.
س: يدلّ على أنَّ قابيل لم يتب؟
ج: هذا ظاهر الحال، ظلم وتعدّى فعُوقِب، نسأل الله العافية.
س: الأثر الذي ذكره أبو حاتم صحيحٌ أم ضعيفٌ؟
ج: أي أثرٍ؟
الطالب: حدَّثنا أبي: حدثنا محمد ابن أبي عمر العدني: حدَّثنا سفيان، عن أبي سعدٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ.
الشيخ: أبو سعد الظاهر أنَّه أبو سعد البقّال، وهو فيه ضعف، من أخبار بني إسرائيل، ما لها قيمة، مثلما قال ﷺ: حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، من باب العِبَر والاتِّعاظ.