قاعدة مهمة: الجراح تارةً تكون في مفصل، فيجب فيه القصاص بالإجماع: كقطع اليد والرِّجل والكفّ والقدم، ونحو ذلك، وأمَّا إذا لم تكن الجراح في مفصل، بل في عظم، فقال مالك -رحمه الله: فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها؛ لأنَّه مخوف خطر.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيءٍ من العظام إلا في السنِّ.
وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شيءٍ من العظام مطلقًا.
وهو مرويٌّ عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وبه يقول عطاء، والشَّعبي، والحسن البصري، والزهري، وإبراهيم النّخعي، وعمر بن عبدالعزيز، وإليه ذهب سفيان الثوري، والليث بن سعد، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
وقد احتجَّ أبو حنيفة -رحمه الله- بحديث الربيع بنت النّضر على مذهبه: أنَّه لا قصاصَ في عظمٍ إلا في السنِّ، وحديث الربيع لا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّه ورد بلفظ: "كسرت ثنية جارية"، وجائزٌ أن تكون سقطت من غير كسرٍ، فيجب القصاص والحالة هذه بالإجماع.
وتمموا الدّلالة مما رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر ابن عياش، عن دهشم بن قران، عن نمران بن جارية، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي: أنَّ رجلًا ضرب رجلًا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها، فاستعدى النبي ﷺ فأمر له بالدّية، فقال: يا رسول الله، أريد القصاص. فقال: خذ الدّية، بارك الله لك فيها، ولم يقضِ له بالقصاص.
وقال الشيخ أبو عمر ابن عبدالبر: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد، ودهشم بن قران العكلي ضعيف، أعرابي، ليس حديثُه مما يُحتجّ به، ونمران بن جارية ضعيف، أعرابي أيضًا، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصَّحابة.
ثم قالوا: لا يجوز أن يقتصّ من الجراحة حتى تندمل جراحه -المجني عليه-، فإن اقتصّ منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه فلا شيء له.
والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رجلًا طعن رجلًا بقرنٍ في ركبته، فجاء إلى النبي ﷺ فقال: أقدني، فقال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده، فقال: يا رسول الله، عرجت، فقال: قد نهيتُك فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك، ثم نهى رسولُ الله ﷺ أن يقتصّ من جرحٍ حتى يبرأ صاحبه. تفرد به أحمد.
الطالب: .............
الشيخ: الصواب في هذا مثلما قال -جلَّ وعلا: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45] الذي نصَّ عليه الربُّ -جلَّ وعلا: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة:45] إلى آخره، هذا أمرٌ واردٌ، وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ما سوى ذلك، حيث أمكن القصاص وجب القصاص، وإلا فالدية، فهذا يرجع إلى حال الحكام القُضاة، إذا أمكن بقول أهل الخبرة القصاص اقتصّ للجرح، وإلا فالدّية مثلما قال ﷺ لأنس بن النَّضر: يا أنس، كتاب الله القصاص، حيث أمكن القصاص وجب القصاص، وإلا فالدّية حينئذٍ، والتَّعزير لمن تعمّد ظلم أخيه.
.............
س: يكون الصواب أنَّه لا قصاصَ حتى البُرء؟
ج: حتى البرء، نعم؛ لأنَّه قد يسري ويموت، فيصبر حتى يندمل الجرح، ثم يكون القصاص.
س: قول مالك -رحمه الله تعالى: فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها؟
ج: نعم، هو مثلما تقدّم الحكم على كتاب الله، كتاب الله القصاص، حيث أمكن القصاص وجب.
[مسألة]: فلو اقتصّ المجني عليه من الجاني فمات من القصاص، فلا شيء عليه عند مالك والشَّافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة والتَّابعين وغيرهم.
وقال أبو حنيفة: تجب الدّية في مال المقتصّ.
وقال عامر الشَّعبي، وعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، والحارث العكلي، وابن أبي ليلى، وحماد ابن أبي سليمان، والزهري، والثوري: تجب الدِّية على عاقلة المقتصّ له.
وقال ابنُ مسعود، وإبراهيم النّخعي، والحكم بن عيينة، وعثمان البستي: يسقط عن المقتصّ له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله.
الشيخ: والصواب الأول: أنَّه لا شيء عليه؛ لأنَّه أخذ حقَّه، وكونه أصابته الرجل هذا أمره إلى الله، فإذا ..... بالقصاص بالرجل أو باليد أو بغيرهما، ثم مات المقتصّ منه، فلا شيء؛ لأنَّه أخذ بحقٍّ، نعم.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يقول: فمَن عفا وتصدّق عليه فهو كفَّارة للمطلوب، وأجر للطالب.
وقال سفيان الثوري: عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ كفَّارة للجارح، وأجر المجروح على الله . رواه ابنُ أبي حاتم، ثم قال: ورُوي عن خيثمة بن عبدالرحمن ومجاهد وإبراهيم -في أحد قوليه- وعامر الشَّعبي وجابر بن زيد نحو ذلك.
[الوجه الثاني]: ثم قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا حماد بن زاذان: حدثنا حرمي –يعني: ابن عمارة: حدثنا شعبة، عن عمارة –يعني: ابن أبي حفصة-، عن رجلٍ، عن جابر بن عبدالله في قول الله : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ قال: للمجروح.
وروى عن الحسن البصري وإبراهيم النّخعي -في أحد قوليه- وأبي إسحاق الهمداني نحو ذلك.
وروى ابنُ جرير عن عامر الشَّعبي وقتادة مثله.
الشيخ: وهذا هو ظاهر السياق: مَن عفا وتصدّق فهو أجرٌ له؛ لأنَّه مُحسنٌ، فله أجره، وكفَّارة لسيئاته لإحسانه، نعم.
مُداخلة: أحسن الله إليك، يقول: فهو كفَّارة للمطلوب وأجر للطالب؟
الشيخ: لعله –يعني- طالب العفو، الذي طلب العفو؛ لأنَّه كفَّارة لمن اعتُدي عليه، وهذا على كل حالٍ محل نظرٍ، ...... السياق كفَّارة له، يعني: صاحب الحقّ، السياق فيه.
س: أليس كفَّارةً للجاني وأجرًا للمجني عليه؟
ج: لمن تصدّق به، تصدّق بالجرح يعني: عفا، هذا المراد: عفا وأصلح المجني عليه، هذا المراد، فهو كفَّارة له؛ لأنَّه مُحسنٌ .....
.............
الطالب: علّق عليه يقول: في مخطوطة الأزهر: الهيثم بن العريان، وهو خطأ، والمثبت عن "تفسير الطبري" و"التهذيب"، واسمه: الهيثم بن الأسود النّخعي، البوشنجي .....
الشيخ: "التقريب".
الطالب: الهيثم بن الأسود النّخعي، المذحجي -بفتح الميم والمهملة، بينهما مُعجمة، ثم جيم- أبو العريان -بضم المهملة، وسكون الراء، بعدها تحتانية- الكوفي، شاعر.
الشيخ: ابن أبي العريان.
قال: رأيت عبدالله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيهًا بالموالي، فسألتُه عن قول الله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، قال: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدّق به.
وهكذا رواه سفيان الثوري، عن قيس بن مسلم.
وكذا رواه ابنُ جرير من طريق سفيان وشُعبة.
وقال ابنُ مردويه: حدَّثني محمد بن علي: حدثنا عبدالرحيم بن محمد المجاشعي: حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري: حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي: حدثنا معلى –يعني: ابن هلال- أنَّه سمع أبان بن ثعلب، عن العريان بن الهيثم بن الأسود، عن عبدالله بن عمرو. وعن أبان بن ثعلب، عن الشَّعبي، عن رجلٍ من الأنصار، عن النبي ﷺ في قوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، قال: هو الذي تُكسر سنّه، أو تُقطع يده، أو يُقطع الشَّيء منه، أو يُجرح في بدنه، فيعفو عن ذلك، قال: فيحطّ عنه قدر خطاياه، فإن كان ربع الدّية فربع خطاياه، وإن كان الثلث فثلث خطاياه، وإن كانت الدّية حُطّت عنه خطاياه كذلك.
ثم قال ابنُ جرير: حدثنا زكريا بن يحيى ابن أبي زائدة: حدثنا ابن فضيل، عن يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال: دفع رجلٌ من قريش رجلًا من الأنصار، فاندقّت ثنيّته، فرفعه الأنصاري إلى معاوية، فلمَّا ألحَّ عليه الرجل، قال: شأنك وصاحبك. قال: وأبو الدَّرداء عند معاوية، فقال أبو الدَّرداء: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلمٍ يُصاب بشيءٍ من جسده فيهبه إلا رفعه اللهُ به درجةً، وحطّ عنه به خطيئة، فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله ﷺ؟ فقال: سمعته أُذناي، ووعاه قلبي. فخلَّى سبيل القُرشي، فقال معاوية: مروا له بمالٍ. هكذا رواه ابنُ جرير.
ورواه الإمام أحمد فقال: حدثنا وكيع: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي السّفر، قال: كسر رجلٌ من قريشٍ سنَّ رجلٍ من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال معاوية: إنا سنُرضيه. فألح الأنصاري، فقال معاوية: شأنك بصاحبك. وأبو الدَّرداء جالس، فقال أبو الدَّرداء: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلمٍ يُصاب بشيءٍ من جسده فيتصدّق به إلا رفعه الله به درجةً، وحطّ به عنه خطيئةً، فقال الأنصاري: فإني قد عفوتُ.
وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك، وابن ماجه من حديث وكيع، كلاهما عن يونس ابن أبي إسحاق، به، ثم قال الترمذي: غريبٌ من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السّفر سماعًا من أبي الدَّرداء.
الشيخ: الآية كافية في هذا .....، نعم: ما من عبدٍ يُصاب بمصيبةٍ من همٍّ، ولا غمٍّ، ولا نصبٍ، ولا وصبٍ، ولا أذًى، حتى الشّوكة إلا كفَّر اللهُ بها من خطاياه، لكن الآية نصٌّ في الموضوع: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ نصٌّ في هذا الموضوع بعينه، نعم.
س: في الحديث الذي رواه الترمذي لما قال: كسر رجلٌ من قريشٍ سنَّ رجلٍ من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال القرشي: إنَّ هذا دقَّ سني. أليس القائلُ الأنصاري؟
ج: السياق في الأنصاري: فقال الأنصاري. نعم.
وقال ابنُ مردويه: حدَّثنا دعلج بن أحمد: حدثنا محمد بن علي بن زيد: حدثنا سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن عدي بن ثابت: أنَّ رجلًا أهتم فمه رجلٌ على عهد معاوية ، فأُعطي ديةً، فأبى إلا أن يقتصّ، فأُعطي ديتين، فأبى، فأُعطي ثلاثًا، فأبى، فحدّث رجلٌ من أصحاب رسول الله ﷺ أنَّ رسول الله ﷺ قال: مَن تصدّق بدمٍ فما دونه، فهو كفَّارة له من يوم وُلِدَ إلى يوم يموت.
وقال الإمامُ أحمد: حدَّثنا شريح بن النعمان: حدثنا هشيم، عن المغيرة، عن الشَّعبي: أنَّ عُبادة بن الصامت قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ما من رجلٍ يُجرح من جسده جراحة فيتصدّق بها، إلا كفَّر الله عنه مثل ما تصدّق به.
ورواه النَّسائي عن علي بن حجر، عن جرير بن عبدالحميد.
ورواه ابنُ جرير عن محمود بن خداش، عن هشيم، كلاهما عن المغيرة، به.
وقال الإمامُ أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن مجالد، عن عامر، عن المحرر ابن أبي هريرة، عن رجلٍ من أصحاب النبي ﷺ قال: مَن أُصيب بشيءٍ من جسده فتركه لله كان كفَّارةً له.
وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] قد تقدّم عن طاوس وعطاء أنَّهما قالا: كفرٌ دون كفرٍ، وظلمٌ دون ظلمٍ، وفسقٌ دون فسقٍ.
س: هذا هو الصواب يا شيخ: فسقٌ دون فسقٍ؟
ج: نعم إذا لم يستحلّ.
س: الصواب أنَّ التَّكفير جزئي أو كلي؟
ج: الظاهر العموم، مثلما في أحاديث كثيرة، ومنها: ما أصاب العبد من همٍّ، ولا غمٍّ، ولا نصبٍ ..... إلا كفَّر الله به من خطاياه، والربّ -جلَّ وعلا- قال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الظاهر العموم، وهذا من باب الوعد، وأحاديث الوعد وأحاديث الرجاء مُقيدة بأحاديث الوعيد، فلا ينبغي للعبد أن يغترّ، وينبغي له أن يحذر دائمًا، يرجو ربَّه ويحذر، مثلما في الحديث: الصلوات كفَّارات، والصَّدقة كفَّارة، وغير ذلك، لكن مُقيدة: ما لم يُصرّ على الكبائر، نسأل الله السلامة، إذا كانت الصلاةُ التي هي عمود الإسلام إنما تكون سببًا للمغفرة إذا لم يُصرّ، كما قال النبي ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفَّارات لما بينهنَّ إذا اجتنب الكبائر، نعم، هذا وعدٌ له بهذا الخير، والله -جلَّ وعلا- هو الجواد الكريم، لكن ليحذر أن يتّكل، نعم.
............
هذه قاعدة: المعروف أنَّ جميع النصوص التي فيها الوعد بالمغفرة، والوعد بالجنة، ونحو ذلك مُقيدة بالنصوص الأخرى التي فيها عدم الإصرار على الكبائر، وإلا فهو على خطرٍ، ومن هذا قوله ﷺ: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فسّر المبرور بقوله: مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمّه، وهكذا ما جاء في الصَّلوات كفَّارة، والوضوء كفَّارة، وما أشبه ذلك.