الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الآية الكريمة فيها حث الأمة على المجيء إليه إذا ظلموا أنفسهم بشيء من المعاصي أو وقعوا فيما هو أكبر من ذلك من الشرك أن يجيئوا إليه تائبين نادمين حتى يستغفر لهم عليه الصلاة والسلام، وهذا المراد به في حياته ﷺ وهو يدعو المنافقين وغيرهم إلى أن يأتوا إليه ليعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله ويطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يسأل الله أن يقبل توبتهم وأن يصلح أحوالهم، ولهذا قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64]، طاعة الرسل بإذن الله، من أذن الله وأراد هدايته اهتدى، ومن لم يرد الله هدايته لم يهتد، فالأمر بيده ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، ثم قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ يعني: النبي عليه الصلاة والسلام فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ يعني: تائبين نادمين لا بمجرد القول، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ يعني: دعا لهم بالمغفرة لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فهو حث للعباد على أن يأتوا إلى النبي ﷺ ليعلنوا عنده توبتهم وليسأل الله لهم، وليس المراد بعد وفاته ﷺ كما يظنه بعض الجهال! لا، بعد موته لا يؤتى لهذا الغرض وإنما يؤتى للسلام عليه لمن كان في المدينة، أو وصل إليها من خارجها لقصد الصلاة في المسجد والقراءة فيه ونحو ذلك، فإذا أتى المسجد سلم على النبي ﷺ وعلى صاحبيه، لكن لا يشد الرحل من أجل زيارة القبر فقط بل من أجل المسجد وتكون الزيارة للقبر الشريف وقبري الصديق و عمر تابعة لزيارة المسجد؛ لقوله ﷺ: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى، فالقبور لا يشد لها الرحال، ولكن متى وصل إلى المسجد وفي نيته السلام على الرسول ﷺ وعلى صاحبيه أو ليس في نيته ذلك فإنه يشرع له أن يسلم على النبي ﷺ وأن يسلم على صاحبيه رضي الله عنهما، لكن لا يشد الرحل لأجل زيارة القبر فقط للحديث السابق.
وأما يتعلق بالاستغفار والتوبة فهذا يكون في حياته لا بعد وفاته، والدليل على هذا أن الصحابة وأرضاهم لم يفعلوا ذلك وهم أعلم الناس بالنبي ﷺ وأفقه الناس، ولأنه ﷺ لا يملك ذلك بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كما قال عليه الصلاة والسلام: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صلى عليه تعرض صلاته عليه، عليه الصلاة والسلام، هذا شيء خاص فيما يتعلق بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام، قال: من صلى علي صلى الله عليه بها عشرًا، وقال عليه الصلاة والسلام: أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي، قيل: يا رسول الله! وكيف تعرض عليك وقد أرمت-يعني: بليت-؟! قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
فهذا خاص بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام، وفي اللفظ الآخر: إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام فهذا شيء خاص بالصلاة والسلام عليه عليه الصلاة والسلام أنه يبلغ ذلك، وأما أن يأتي من ظلم نفسه ليتوب عند القبر وليستغفر عند القبر فهذا لا أصل له بل هو منكر ولا يجوز، وهو وسيلة إلى الشرك، وسيلة إلى أن يأتي فيسأله الشفاعة ويسأله شفاء المريض أو كذا أو كذا، أو يسأله أن يدعو له وهذا لا يجوز؛ لأن هذا ليس من خصائصه عليه الصلاة والسلام بعد وفاته ولا من خصائص غيره، فكل من مات لا يدعى ولا يطلب منه الشفاعة لا النبي ولا غيره عليه الصلاة والسلام، وإنما الشفاعة تطلب من النبي في حياته ﷺ، يقول الرجل: يا رسول الله! اشفع لي أن يغفر الله لي؟ اشفع لي أن يشفي الله مريضي، أن يرد غائبي، أن يعطني كذا وكذا.
وهكذا يوم القيامة بعد البعث والنشور؛ لأنهم أحياء فإن المؤمنين يأتون آدم ليشفع لهم حتى يقضى بينهم ويعتذر، ويحيلهم إلى نوح فيعتذر نوح ثم يحيلهم نوح إلى إبراهيم فيعتذر، ثم يحليهم إبراهيم إلى موسى فيعتذر، ثم يحيلهم موسى إلى عيسى فيعتذر عليهم الصلاة والسلام، ثم يحيلهم عيسى عليه الصلاة والسلام إلى محمد ﷺ فيقول: أنا لها، فيتقدم ويسجد تحت العرش عليه الصلاة والسلام ويحمد ربه بمحامد عظيمة، ثم يشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم.
وهكذا يشفع في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة؛ لأنه حي قائم موجود، أما في البرزخ بعد وفاته ﷺ فلا يسأل الشفاعة ولا يسأل أن يستغفر للناس، ولا يسأل شفاء المريض ولا رد الغائب، ولا غير ذلك من الأمور، وهكذا بقية الأموات لا يسألون شيئًا من هذه الأمور، بل يدعى لهم ويستغفر لهم إذا كانوا مسلمين. نعم.
كذلك قوله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] الآية على ظاهرها، يعني لا يجوز للمسلمين أن يخرجوا عن شريعة الله بل يجب عليهم أن يحكموا شرع الله في كل شيء، فيما يتعلق بالعبادات، وفيما يتعلق بالمعاملات وفي جميع الشئون، لأن الله يقول : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، ويقول : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] ويقول سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] .
هذا عام في جميع الشئون، ولهذا قال سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ يعني: المسلمون، حَتَّى يُحَكِّمُوكَ يعني: محمد ﷺ، يعني يحكموا سنته بعد وفاته، يحكموه في حياته ﷺ وبعد وفاته يكون التحكيم لسنته مع القرآن العظيم، حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ يعني: فيما تنازعوا فيه، هذا هو الواجب عليهم أن يحكموا القرآن الكريم والرسول ﷺ في حياته، وبعد وفاته سنته التي هي شرح القرآن وهي تفسير القرآن والدالة على معانيه، حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] يعني: يجب أن تنشرح صدورهم وأن لا يبقى في صدورهم حرج من حكمه عليه الصلاة والسلام؛ لأن حكمه هو الحق الذي لا ريب فيه، فالواجب التسليم له وانشراح الصدر بذلك وعدم الحرج، بل يسلم المؤمن لذلك تسليمًا كاملًا راضيًا بحكم الله مطمئنًا إليه.
هذا هو الواجب على جميع المسلمين فيما شجر بينهم من الدعاوى والخصومات سواء كانت متعلقة بالعبادات أو بالأموال أو بالأنكحة أو بالطلاق أو بغيرها من شئونهم. نعم.
المقدم: جزاكم الله خيرًا. الإيمان هنا شيخ عبدالعزيز فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، الإيمان هل هو الكامل، يعني كمال الإيمان أو الإيمان مطلقًا؟
الشيخ: أصل الإيمان بالنسبة إلى تحكيم الشريعة والرضا بها والإيمان بأنها الحكم بين الناس فلابد من هذا، فمن زعم أن هناك شيئًا يحكم بغير ذلك وأنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى سوالف الآباء والأجداد، أو إلى القوانين الوضعية التي وضعها الرجال سواء كانت شرقية أو غربية، من زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتفٍ عنه، كفر أكبر، فإذا رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه ولكن لو حكم كان أفضل وإلا لا يجب تحكيمه أو يرى أن القانون أفضل، أو يرى أن القانون مساوٍ لحكم الله، كل هذا ردة عن الإسلام، وهي ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أن يقول: إن الشرع أفضل ولكن لا مانع من تحكيم غير الشرع، هذا ردة أيضًا ولو قال: إن الشرع أفضل.
الثانية: أن يقول: الشرع والقانون سواء ولا فرق ، هذا ردة أيضًا.
والحال الثالثة: أن يقول: القانون أفضل وأولى من الشرع، وهذا أردأ الثلاثة وأقبحها وهو كفر أيضًا وردة عن الإسلام.
أما الذي يرى أن الواجب تحكيم الشرع وأنه لا يجوز تحكيم القوانين ولكنه حكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ضد المحكوم عليه أو لرشوة أو ما أشبه ذلك من الأسباب، وهو يعلم أنه ظالم ومخطئ ومخالف للشرع، فهذا يكون نفي الإيمان في حقه نفي الإيمان الواجب لا أصل الإيمان؛ لأنه مؤمن، مسلم بأن حكم الله هو حق، وأنه عاصٍ بعمله ولكنه حمله حب المال حتى حكم بغير ما أنزل الله بسبب الرشوة أو بسبب العداوة بينه وبين المحكوم عليه، أو لمحبة المحكوم له وقرابته ونحو ذلك، فيكون هذا منكرًا عظيمًا وكبيرة عظيمة ونوعًا من الكفر لكنه مثل ما قال ابن عباس: «كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق»، وهكذا قال مجاهد وجماعة، قالوا: إن الحكم في هذا كفر أصغر وفسق أصغر وظلم أصغر؛ لأنه مؤمن بحكم الله ومقتنع به يعلم أنه الحق وأن ما حكم به حكم باطل، وأنه عاصٍ لله فلهذا صار بذلك ناقص الإيمان ضعيف الإيمان قد نفي الإيمان عنه نفيًا للإيمان الواجب الكامل لا نفيًا لأصله الذي يجعله مرتدًا، وهذا هو الحق الذي عليه جمهور أهل العلم وهو الذي لا ريب فيه أنه معتمد. نعم.
المقدم: بارك الله فيكم، الواقع شيخ عبد العزيز هذه القضية لها أهميتها ولاسيما عند المسلم الذي يحس بأن لأخيه المسلم عليه حقًا، يبدو لي أنه في حاجة إلى مزيد من الطرح وفي حاجة إلى مزيد من البحث ولاسيما أن هناك أناسًا يعتقدون أنهم من المؤمنين ويعتقدون أنهم من المسلمين، والشريعة لا تجد طريقها في التحكيم بينهم؟
الشيخ: هذا لاشك إنه من المنكرات العظيمة وهذا وقعت فيه دول كثيرة الآن منتسبة للإسلام، فهي بهذا العمل إذا كانت ترى أن حكم القانون أفضل وأولى، أو أنه مساوٍ لحكم الله، أو أنه يجوز الحكم به فهذا كفر أكبر ردة عن الإسلام نعوذ بالله بإجماع المسلمين لا نزاع في هذا، وإنما الكلام فيما إذا كانوا يعلمون أنهم مخطئون وأنهم عاصون بهذا الأمر ولكن فعلوه لهوى أو لإرضاء بعض الشعب، أو لأسباب أخرى فعلوه لا يعتقدون حل ما فعلوا بل يعلمون أنهم عاصون فيما فعلوا ولكن فعلوه كما يفعل القاضي الذي أخذ الرشوة، أو حكم لقريبه على غير قريبه وهو يعلم أنه عاصي وأنه مخالف لحكم الله، فإنه لا يرتد بذلك بل يكون عاصيًا، وقد أتى كفرًا دون كفر وظلمًا دون ظلم وفسقًا دون فسق، وهذا معنى كلام السلف في هذا كـابن عباس وغيره. نعم.
المقدم: بارك الله فيكم، كيف يرى سماحة الشيخ إثارة هذا الموضوع فترة بعد أخرى، ولاسيما أنه هناك أناسًا قد لا يعلمون بهذا التفصيل؟
الشيخ: إثارته مهمة جدًا لينتبه العالم الإسلامي لهذا الأمر، ولينتبه الحكام نسأل الله لنا ولهم الهداية. نعم.
المقدم: جزاكم الله خيرًا.
طلب الاستغفار من النبي عليه الصلاة والسلام بعد موته
السؤال: مع مطلع هذه الحلقة نعود إلى رسالة الأخ أحمد الحوري من دمشق، أخونا عرضنا بعضًا من أسئلته في حلقة مضت، وفي هذه الحلقة له مجموعة من الأسئلة يقول: قال تعالى في كتابه العزيز: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:64-65]، والسؤال هو: إن بعض المسلمين يأخذون بهذه الآية أنه لا حرج على المسلم أن يذهب ويشد الرحل إلى قبر الرسول ﷺ يسأله أن يستغفر له رسول الله ﷺ وهو في قبره، فهل هذا العمل صحيح كما قال تعالى، وهل معنى جَاءُوكَ باللغة أنه جاءوك في حياتك أم في موتك، وهل يرتد المسلم عن الإسلام إذا لم يحكم سنة رسول الله ﷺ؟ وهل التشاجر هنا على الدنيا أم على الدين؟