الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
تكميلًا لسؤال مَن سأل عن الحجاب والسّفور:
تقدم أنَّ الواجب هو التَّحجب والبُعد عن أسباب الفتنة على النساء غير القواعد، وتقدمت الأدلةُ في هذا الأمر، وأنَّ مَن أجاز للمرأة التي ليست من القواعد السفور فقد غلط، سواء حسن قصده أو ساء قصده، ومَن اجتهد في هذا فله أجر الاجتهاد، وإن فاته أجر الصواب.
وقد تعلَّق المُبيحون للسُّفور بأحاديث جاء فيها بعضُ سفور النساء، وظنوا أنَّ هذا بعد الحجاب، وليس الأمر كذلك، بل الأحاديث التي فيها السفور إنما كان قبل الحجاب، بعدما نزل الحجابُ تقيدت المؤمنات بذلك وتحجبن.
ومما تعلَّقوا به أيضًا حديث الخثعمية التي قالت للرسول ﷺ في يوم النحر في ليلة مزدلفة ليلة النحر: "إنَّ فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحجّ عنه؟ قال: حُجِّي عن أبيك، وكانت تُخاطب النبيَّ ﷺ وهو على الراحلة، وردفه الفضل بن العباس، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبيُّ ﷺ يصرف وجه الفضل إلى الشقِّ الآخر، قالوا: هذا دليلٌ على أنها كانت سافرةً، وهذا بعد الحجاب، وفي آخر حياة النبي ﷺ.
والجواب عن هذا: المنع، ليس هناك دليلٌ على أنها سافرة، فمجرد نظره إليها ونظرها إليه لا يتضمن السفور، ولا يستلزم السفور، فقد تنظر إليه من وراء الحجاب، وينظر إليها من وراء الحجاب، هذا أمرٌ واقعٌ، فينظر إلى قدّها وقامتها، وإلى ما يسمع من صوتها، وإلى غير ذلك، فلا يلزم من هذا أن تكون سافرةً.
ثم لو فُرض أنها سافرة لكان هذا حجّة لمَن قال: يجوز السفور في الحجِّ خاصةً؛ لقوله ﷺ: ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين، فنهاها أن تنتقب وهي محرمة في الحج والعمرة، فلو قُدر أنَّ هذه سافرة لكان هذا يتعلق بحال الإحرام، مع أن الصواب في حال الإحرام أنها لا تُسفر أيضًا، وأن عليها الحجاب حتى في حال الإحرام، وأن قوله ﷺ: لا تنتقب يعني: لا تلبس النِّقاب، وهو شيء يُصنع للوجه، ويُستر به الوجه، وفيه نقب للعين أو للعينين، هذا نُهيت المرأةُ أن تلبسه، كما نُهيت عن لبس القفازين، وهما غشاءان يكونان في اليدين، وهي نُهيت عن هذا وقت الإحرام في الحج والعمرة: لا تلبس القفازين، ولا تلبس النقاب الذي هو مصنوعٌ للوجه.
أما أنها تُرخي خمارها أو جلباها على وجهها فهي غير ممنوعةٍ من هذا، ويحصل به الستر، ولهذا في حديث عائشة في حجّة الوداع قالت: "كنا مع النبي ﷺ، فإذا دنا منا الرجالُ سدلت إحدانا جلبابها من فوق رأسها على وجهها، فإذا بعدوا كشفنا"، وبينت أنهم كانوا يحتجبون ويخبؤون الوجوه حتى في حجّة الوداع، فدلَّ ذلك على أنَّ الوجه يُستر بعد الحجاب ويخمر، ولو في الحجِّ والعمرة.
فعُلم بهذا أنَّ حديث الخثعمية لا حجَّة فيه لأصحاب السُّفور والقائلين بالسُّفور.
ويتعلَّقون أيضًا بحديثٍ رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخلتْ عليَّ أسماء بنت أبي بكر" يعني: أختها رضي الله عن الجميع، زوجة الزبير، قالت: "وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها النبيُّ ﷺ وقال: يا أسماء، إنَّ المرأة إذا بلغت المَحِيضَ لم يصلح أن يُرى منها سوى هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه"، قالوا: فهذا دليلٌ على أنَّ المرأة تكشف وجهها وكفّيها للرجال الأجانب؛ لقوله ﷺ لأسماء: إنَّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها سوى هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه.
والجواب: أنَّ هذا ضعيفُ الإسناد، منكر المتن، لا حجَّة فيه، أما نكارة المتن فلأنه لا يليق بأسماء وهي من خواصِّ المُهاجرات ومن خواص المؤمنات أن تكون بهذه المثابة، وأن تلبس ثيابًا رقاقًا عند الرسول ﷺ زوج أختها! لا يليق بها مع إيمانها وتقواها.
أما من جهة الإسناد فهو ضعيفٌ عند أهل العلم لثلاث عللٍ في الإسناد، علل ثلاث تدل على ضعفه وعدم صحَّته:
إحداها: أنه من رواية سعيد بن بشير، وهو ضعيفٌ لا يُحتج به.
الثانية: أنه من رواية خالد بن بن دُرَيْك عن عائشة، ولم يسمع منها، فهو منقطع.
الثالثة: أنه من رواية قتادة عن خالد بالعنعنة، وقتادة مدلس، وإذا عنعن لا تُقبل روايته، ولا يُحتج بها في غير "الصحيحين".
فهذه ثلاث عللٍ في هذا الحديث، مع نكارة متنه.
ولو فُرض أنه صحيحٌ لكان هذا قبل الحجاب، فإنَّ قبل الحجاب لا بأس للمرأة أن تكشف وجهها وكفّيها عند الرجال، ثم نُسخ ذلك، ومُنع ذلك بعد الحجاب؛ لأنه ليس في الحديث صراحة بأنَّ هذا كان بعد الحجاب، فيحتمل أنه قبل الحجاب لو صحَّ.
فعُلم بهذا أنه لا حجَّة فيه؛ لضعفه ونكارة متنه، ولأنه ليس صريحًا في أنه بعد الحجاب، فلم تبقَ في أيدي هؤلاء المُدَّعين لسفور المرأة، وأنه لا بأس به، لم تبقَ في أيديهم حجَّة تُعارض الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب الحجاب للمرأة بعد نزول آية الحجاب، وأنه الحق، ثم ما يُعلم عند أهل العلم والبصيرة ما في كشف الوجه من الفتنة وأسباب الخطر، فهذا المعنى الذي نزلت من أجله آيةُ الحجاب موجودٌ في كشف الوجه وإبرازه، فإن كشف وجوه الجميلات من النساء فتنة عظيمة، ومن حكمة الله أن حرَّم ذلك، وسدَّ الباب، وقطع دابر هذا الشر؛ لما جاء به الكتاب العزيز والسنة المُطهرة.
وأما القواعد من النساء -وهن العجائز- فأمرهن آخر، قال تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، فإذا كن بهذه المثابة: عجوز لا ترجو النكاح ولا تبرج بزينةٍ، فلا حرج عليها أن تكشف؛ لأنها ليست محلًّا للفتنة؛ لكونها عجوزًا غير متبرجةٍ بالزينة، ولا ترجو النكاح، ثم قال بعد ذلك: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]، فبيَّن سبحانه أن تحجبهنَّ واستعفافهنَّ خيرٌ لهن ولو كن عجائز، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]، فإذا كان استعفاف العجائز خيرًا لهن فكيف بحال الشابات ومَن في حكم الشابات؟!
فالخطر واضح، والحكمة واضحة في المنع، والله جلَّ وعلا ولي التوفيق.