تسيير العبد وتخييره

السؤال:

يقول هذا السائل: قرأت في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي بأن الإنسان خلق ملزمًا بأعماله، سواءً كانت خيرًا أم شرًا وليس له الاختيار، واستدل بقوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[الإنسان:30] واستدل بحديث النبي ﷺ الذي يقول: بأنه يكتب على كل إنسان، وهو في بطن أمه يكتب عمله شقي أو سعيد.

وقرأت في بعض الكتب بأن الإنسان مخير في أعماله؛ بدليل قول الله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ[فصلت:40] فأنا الآن في حيرة، أفيدونا سماحة الشيخ في ذلك، فأنا أريد أن أعرف الجواب الصحيح؟

الجواب:

أهل السنة والجماعة على أن العبد مخير ومسير لا يخرج عن قدر الله، والله أعطاه سبحانه العقل يتصرف، يأكل ويشرب، ويعمل ويأمر وينهى، يسافر ويقيم له أعمال كما قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ۝ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[التكوير:28-29] جعل لهم مشيئة، قال: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ[المدثر:55] قال: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[البقرة:110]، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[النور:30].

فالعباد لهم أفعال: يأمرون وينهون، يسافرون ويقيمون، يصلون، ينامون، يعادون ويحبون، لهم أعمال، لكنهم لا يخرجون عن قدر الله، الله قدر الأشياء ، قدر الأشياء في سابق علمه، لا يخرجون عن قدر الله، لكن ليسوا مجبورين، بل هم مختارون لهم اختيار، ولهم عمل، ولهذا خاطبهم الله وأمرهم ونهاهم، وأخبر عن أعمالهم أنه خبير بأعمالهم: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الحجر:92-93]، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[النور:30] اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم لأهل بدر إلى غير ذلك.

فالواجب على المؤمن أن يعرف هذا، فأهل السنة والجماعة يقولون: العبد مختار، له فعل وله اختيار، وله إرادة وله عمل، لكنه لا يخرج عن قدر الله، ثبت في الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض، بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء وكذا قدر أعمال العبد في بطن أمه بعد مضي الشهر الرابع يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ما يخرج عن قدر الله، لكن له أعمال، وله تصرفات لا يخرج بها عن قدر الله، فهو يسافر، يصلي، يصوم، يزني، يسرق، يعق، يقطع الرحم، يطيع، يسافر، يصل فلانًا، يقطع فلانًا، يرحم فلانًا، ويؤذي فلانًا، يحسن إلى فلان، ويسيء إلى فلان، له أعمال طيبة وخبيثة، فهو مأجور على الطيبة، ومأزور على الخبيثة.

والله يجازيه على أعماله الطيبة والخبيثة، على الطيبة بالجزاء الحسن، وعلى أعماله الرديئة بما يستحق، وقد يعفو إذا كان موحدًا، فهو سبحانه العفو، وهو -جل وعلا- العفو العظيم -جل وعلا-، يقول فيه النبي ﷺ: اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني لما سئل «قيل: يا رسول الله، إذا كانت منازلنا في الجنة معلومة...» لما قال لهم: ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة، ومقعده من النار قالوا: يا رسول الله، إذا كان هذا قد سبق في علم الله، ففيم العمل؟ كيف نعمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[الليل:5-10]»، ويقول -جل وعلا-: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[يونس:22].

فالعبد مسير بقدر الله، لكن له اختيار، وله مشيئة، وله عمل، يجازى على عمله الطيب، ويستحق العقاب على عمله الرديء إلا أن يعفو الله كما أخبر سبحانه في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48] قد يغفر عن بعض المعاصي لمن يشاء إذا مات على التوحيد، وهكذا في الدنيا قد يعفو ويصفح عن بعض عباده فضلًا منه وإحسانًا ، وقد يعاقب على السيئات في الدنيا قبل الآخرة، نعم.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم، وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.

فتاوى ذات صلة