الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن الشرك نوعان: أكبر وأصغر، بإجماع المسلمين، قال الله في الشرك الأكبر: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فهذه الآيات وأشباهها في الشرك الأكبر، ومنه دعاء الأموات والأصنام والأشجار والأحجار والنجوم والجن والملائكة ونحوهم والاستغاثة بهم، والنذر لهم والذبح لهم ونحو ذلك، هذا من الشرك الأكبر.
وهكذا اعتقاد أن هؤلاء يصلحوا للعبادة وإن لم يدعهم، إذا اعتقد أن هؤلاء يدعون من دون الله ويستغاث بهم وأنه لا بأس بذلك فهو شرك أكبر وإن لم يفعل.
وهكذا اعتقاد السر في حي من الأحياء أنه ينفع ويضر دون الله، وأنه يصلح لأن يعبد من دون الله ولو كان حيًا، كما يفعله بعض ضلال الصوفية بمشايخهم، هذه وأشباهها من الشرك الأكبر.
وهكذا ما يفعله بعض الناس مع الجن يدعوهم أو ينذر لهم أو يذبح لهم خوفًا من شرهم هذا أيضًا من الشرك الأكبر، وهكذا ما يفعله بعض الناس مع الرسل والأنبياء والملائكة يدعوهم ويستغيث بهم وينذر لهم هو من الشرك الأكبر، قال الله : وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106] يعني: المشركين. وقال : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، قال : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:13-14] فسماه شركاً دعوة غير الله، سماها شركًا، وقال سبحانه: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117] فسمى دعاة غير الله كفارًا.
أما الشرك الأصغر فقد بينه النبي ﷺ في عدة أحاديث، منها حديث محمود بن لبيد عن النبي ﷺ أنه قال عليه الصلاة والسلام: أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه؟ فقال: الرياء، يقول الله يوم القيامة للمرائين: اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء؟، وهذا الحديث صحيح رواه جماعة من أهل العلم بأسانيد صحيحة، فهو يدل على أن الشرك فيه أصغر وأكبر، فالرياء من جنس الشرك الأصغر كونه يقرأ يرائي أو يصلي بعض الصلوات يرائي الناس أو يسبح ويهلل يرائي، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يرائي، يقول النبي ﷺ: من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به، وقال جماعة من علماء التفسير: إن قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] نزلت في المرائين.
هذا الرياء إذا وقع من المسلم في بعض الأعمال فهو شرك أصغر، وهكذا إذا عاد المريض أو فعل أي عبادة من العبادات التي يتقرب بها إلى الله فعلها من أجل الرياء أو من أجل السمعة كان شركاً أصغر، أما إذا كان فاسد العقيدة كالمنافقين الذين يعتقدون تكذيب الرسول ﷺ وإنكار ما جاء به من الهدى أو الشك في ذلك ثم يصلون مع الناس ويصومون ويراءونهم بهذا فهذا شرك أكبر وهذا رياء أكبر؛ لأنهم فاسدوا العقيدة، إنما أظهروا ما أظهروا تقية ورياء، فهم كفار كفرًا أكبر لفساد العقيدة؛ كما قال : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:142-143]، عندهم شك وريب وتردد فصاروا كفارًا كفرًا أكبر.
وقال في حقهم في الآخرة: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145] بسبب كفرهم الأكبر واعتقادهم الفاسد، ومن الشرك الأصغر الحلف بغير الله، كما قال النبي ﷺ: من حلف بشيء دون الله فقد أشرك رواه الإمام أحمد في المسند من حديث عمر بإسناد صحيح، وخرج أبو داود والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: من حلف بغير الله فقد أشرك -أو كفر- هكذا شك من الراوي، (أو) بمعنى الواو يعني: وقع في الشرك والكفر جميعًا، هذا عند أهل العلم شرك أصغر؛ لأن الرسول ﷺ أقرهم على الحلف بغير الله في أول الإسلام ولم ينهاهم عن ذلك، ثم نهاهم بعد ذلك، فلو كان شركًا أكبر لم يقرهم عليه؛ لأن الله بعثه بإنكاره من حين بعثه في مكة، فلما أقرهم عليه دهرًا من الزمان ثم نهاهم في المدينة بعد ذلك دل على أنه شرك أصغر؛ إذ لو كان أكبر لما أذن فيه أبدًا، بل نهي عنه من أول وهلة.
وهكذا قول: ما شاء الله وشاء فلان، أو لولا الله وفلان، هذا أيضًا من الشرك الأصغر؛ لقول النبي ﷺ: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان، ولما جاء في حديث قتيلة عند النسائي "أن اليهود كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تشركون- وفي لفظ: إنكم تنددون- تقولون: ما شاء الله وشاء محمد وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد. وفي لفظ: أن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت، وفي لفظ قال لهم: قولوا: ماشاء الله وحده، فهذا كله يدل على أن هذه الأمور من الشرك الأصغر، وأن الكمال أن يقول ما شاء الله وحده فإن قال: ما شاء الله ثم شاء فلان، لولا الله ثم فلان فلا بأس بذلك.
وفي حديث الأبرص والأقرع والأعمى في الصحيحين أن الملك الذي جاءهم بعدما عافاهم الله من البرص والقرع والعمى جاءهم يسألهم يقول: لا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك فدل على جواز مثل هذه العبارة.
لكن لو اعتقد من حلف بغير الله أن هذا المحلوف به يتصرف في الكون أو ينفع ويضر دون الله، أو أن له مثل عظمة الله صار شركًا أكبر، فمن قال من العلماء: إنه شرك أكبر فمراده إذا عظمه كتعظيم الله أو اعتقد فيه أنه يصلح لما يعبد الله به أو أنه ينفع ويضر دون الله أو ما أشبهه من العقائد الباطلة، فإن حلف به على هذا الاعتقاد صار شركًا أكبر.
أما إذا جرى على لسانه الحلف بغير الله كعادة جرت عليها جماعته وأهله وبلاده، أو جرى عليها سابقًا هو واعتادها سابقًا ولم يقصد أنه معظم كعظمة الله، أو أنه يتصرف في الكون، أو أنه يصلح أن يعبد من دون الله لم يعتقد هذا الاعتقاد ولكن جرى على لسانه الحلف بغير الله كعادة كثير من الناس فهذا من الشرك الأصغر، ويوجد كثير من الناس اعتادوا هذا البلاء، وقد ينسب لأهل العلم لكن لأن العادة غلبت عليهم يتكلمون بهذا، فتجده يقول: والنبي.. والأمانة.. بالنبي.. بالأمانة مع أنه من طلبة العلم ومن أهل العلم، لكن غلبت على لسانه واعتادها فينسى عند الكلام فيتكلم بها، فهذا كله من المنكر وكله غلط وكله من الشرك الأصغر، والواجب التنبيه على ذلك والتحذير منه وأن لا يتساهل في ذلك.
فمن قال: إنه شرك أكبر، فله وجه كما تقدم، ومن قال: إنه شرك أصغر، فهذا هو الأصل أنه شرك أصغر كما قال الشيخ عبد العزيز السلمان، ومن قال: إنه شرك أكبر، كما حكاه السائل عن بعض العلماء، فالظاهر -والله أعلم- ما ذكرنا، يعني: من حلف بغير الله معظمًا له كتعظيم الله، أو معتقدًا فيه أنه يصلح للعبادة أو ينفع ويضر أو ما أشبه ذلك من العقائد الباطلة، والله أعلم. نعم.
المقدم: الله أعلم، جزاكم الله خيرًا.