الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله بيَّن في كتابه العظيم حكم الشرك وحكم ما دونه، فبيَّن سبحانه أن الشرك لا يغفر، وأنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فعلم بذلك أن ما دون الشرك من المعاصي كلها تحت مشيئة الله، ويدخل فيها قتل النفس بغير حق، ويدخل فيها أكل الربا، والعقوق، وشهادة الزور، وشرب الخمر، وغير ذلك من سائر المعاصي، كالقمار، وقطيعة الرحم، وسائر المعاصي كلها تحت المشيئة.
أما التفريق بينها وبين بعضها، فهذا في درجة الشرك وهذا دون ذلك هذا لا دليل عليه، وهو خلاف قول أهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة والجماعة هم أصحاب النبي ﷺ ومن سار على نهجهم، كلهم متفقون على أن جميع المعاصي دون الشرك، وعلى أن أصحابها إذا ماتوا عليها غير تائبين تحت مشيئة الله، إن شاء ربنا غفر لهم وعفا، وإن شاء أدخلهم النار، وعذبهم فيها على قدر جرائمهم، كما جاء في القاتل: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[البقرة:275] وفي آكل الربا: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[البقرة:275] وفي القاتل: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء:93] وجاء في كبائر أخرى أنواع من الوعيد.
فكل هذا الوعيد لا يخرجها عن كونها تحت المشيئة؛ لأن الله قد يعفو ولا ينفذ وعيده، وإخلاف الوعيد من صفات الكمال، بخلاف إخلاف الوعد، فالله لا يخلف وعده ، يعني: وعده بالخير، ولكن إخلاف وعيده، هذا من مكارم الأخلاق إذا عفا، كريم الأخلاق من بني آدم، فكيف بالله الذي هو أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين؟! فإنه إذا عفا سبحانه فله الفضل، وله الجود والكرم ، ويقول الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته |
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي |
فإنجاز الموعد مما يمدح به ويثنى به، وإخلاف الإيعاد عفوًا وفضلًا مما يمدح به، فالله بيَّن أن الشرك لا يغفر إلا لمن تاب منه.
وأما ما دون ذلك فإنه تحت مشيئته ، وهذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي ﷺ ومن جاء بعدهم على نهجهم الطيب خلافًا للخوارج، وخلافًا للمعتزلة، فإن الخوارج كفّروا بالمعاصي والكبائر، وأخرجوا بها من الإسلام، وهكذا المعتزلة أخرجوهم من الإسلام، وجعلوهم منزلة بين المنزلتين، ووافقوا الخوارج في تخليدهم في النار، وهذا باطل مخالف للنصوص المتواترة عن رسول الله ﷺ، كما أنه مخالف لنص القرآن في قوله سبحانه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48].
وقد تواترت الأخبار عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، مثقال ذرة من إيمان، وأن الله يشفع في أهل النار من الموحدين عدة شفاعات، فيحد الله له حدًا ويخرجهم من النار وهذا عام لجميع أهل المعاصي.
أما الشرك فلا؛ ولهذا قال العلماء: إن الخلود خلودان:
خلود مؤبد: وهذا خلود الكفرة، فهذا خلود مؤبد لا يخرجون من النار أبدًا، كما قال سبحانه في حقهم: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ[البقرة:167] وقال في حق الكفرة أيضًا: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ[المائدة:37] هذه حال الكفرة.
أما الخلود الثاني: فهو خلود بعض أهل المعاصي، كما جاء في القاتل، وفي الزاني في قوله -جل وعلا-: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[الفرقان:69] فجمع الشرك والقتل والزنا.
فالخلود للمشرك خلود دائم، والخلود للقاتل والزاني والمرابي ونحوهم خلود مؤقت، والعرب تطلق على الإقامة الطويلة: خلود، مثل قولهم: أقاموا فأخلدوا، يعني: طولوا الإقامة ومدوها، فهذا هو الحق عند أهل السنة والجماعة، القاتل إذا كان لم يستحل القتل، أما إذا استحل القتل ورأى أن دماء المسلمين حلال هذا كفر وردة عن الإسلام، وهكذا من استحل الزنا، أو استحل الخمر، وقد قامت عليه الحجة، فهذا يكون كافرًا مرتدًا عن الإسلام، وهكذا من استحل الربا بعد إقامة الحجة عليه يكون كافرًا.
أما من ترك الصلاة فهذا فوق الكبائر، هذا من الشرك عند أهل الحق، عند المحققين من أهل العلم: أن ترك الصلاة كفر مستقل أكبر، ليس من جنس الكبائر التي دون الشرك؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه أهل السنن وأحمد بإسناد صحيح، وروى مسلم في الصحيح عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة فهذا يدل على أنه كفر أكبر.
وقال عبدالله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل: "لم يكن أصحاب النبي ﷺ يعدون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" فدل ذلك على أن ترك الصلاة عمدًا كفر أكبر، نعوذ بالله، ولو كان متهاونًا لم يجحد وجوبها، أما إذا جحد وجوبها صار كافرًا بالإجماع، لا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف إذا تركها تهاونًا لا جحدًا لوجوبها، فهذا هو محل الخلاف.
وأرجح القولين للعلماء وأصوبهما: أنه كفر أكبر، أما سب الدين وسب الرسول ﷺ وسب القرآن هذا ردة من نواقض الإسلام عند أهل العلم بالإجماع، سب الدين، سب الإسلام، سب الرب ، سب الرسول ﷺ، سب القرآن، والطعن فيه هذا ردة كبرى، وكفر أكبر، ومن نواقض الإسلام بإجماع أهل العلم.
وبهذا يعلم السائل ويعلم المستمع التفريق بين الكبائر وبين الشرك، فالكبائر عند أهل السنة من جملة المعاصي، ولا يخلد صاحبها في النار خلودًا كاملًا، خلودًا مؤبدًا، بل قد يخلد بعضهم خلودًا خاصًا، وهو المقام الطويل في النار نعوذ بالله، لكن لا بد له من نهاية فيخرجه الله من النار إلى الجنة، بعد تمحيصه وتطهيره من ذنوبه التي مات عليها غير تائب.
وأما خلود الكفرة عباد الأوثان عباد الأصنام الجاحدين لما أوجب الله، أو لما حرم الله، الطاعنين في الإسلام السابين لله ولرسوله، جميع أنواع الكفرة كفر أكبر، هؤلاء خلودهم مؤبد دائم أبدًا عند أهل السنة والجماعة لا يخرجون منها أبدًا، بل عذابهم فيها مقيم، كما قال سبحانه: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا[الإسراء:97] وقال : فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا[النبأ:30]، كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ[البقرة:167].
وأما أهل المعاصي فإنهم لهم أمد ينتهون إليه، ولو طال، وسمي خلودًا فلا بد من إخراجهم من النار، فضلًا من الله ، وممن ورد فيهم الخلود ما تقدم: قاتل النفس، والزاني، ومن قتل نفسه، هؤلاء جاء فيهم الخلود، ولكنه خلود مؤقت له نهاية، ليس مثل خلود الكفار، فينبغي أن يعلم هذا، وينبغي أن يتنبه له المؤمن، وينبه عليه غيره من الناس، حتى لا يقع في عقيدة الخوراج والمعتزلة وهو لا يشعر، فإن عقيدتهما فاسدة عند أهل السنة، سواء قالوا بالتكفير، أو قالوا بالخلود في النار، ولم يكفروا كما تقول المعتزلة، فهما قولان باطلان، فالعاصي ليس بكافر إذا لم يستحل المعصية، وليس بمخلد في النار عند أهل السنة والجماعة.
وأما قول الخوارج فباطل، وهكذا قول المعتزلة باطل؛ لأنه مخالف للنصوص ولإجماع أهل السنة والجماعة، والله المستعان، نعم.
المقدم: جزاكم الله خيرًا.