الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فلا ريب أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- نهى عن البناء على القبور، ولعن اليهود و النصارى على اتخاذ المساجد عليها، فقال -عليه الصلاة والسلام-: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه عنه مسلم في الصحيح عن جابر "أنه نهى عن تجصيص القبور، والقعود عليها، والبناء عليها" وفي رواية للترمذي وغيره: والكتابة عليها.
فالبناء على القبور، واتخاذ مساجد عليها من المحرمات التي حذر منها النبي -عليه الصلاة والسلام-، وتلقاها أهل العلم، تلقى أهل العلم ما قاله ﷺ في ذلك بالقبول، ونهى أهل العلم عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها تنفيذًا للسنة المطهرة، وعملًا بها، ومع ذلك فقد وجد في الكثير من الدول والبلدان البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، واتخاذ القباب عليها أيضًا، وهذا كله مخالف لما جاءت به السنة عن الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وهو من أعظم الوسائل لوقوع الشرك، والغلو في أصحاب القبور.
فلا ينبغي لعاقل، ولا ينبغي لأي مسلم أن يغتر بهؤلاء، وأن يتأسى بهم فيما فعلوا؛ لأن أعمال الناس تعرض على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة، أو وافق أحدهما قبل، وإلا رد على من أحدثه، كما قال الله سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[الشورى:10] وقال : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[النساء:59] الآية.
أما ما يتعلق بالقبة الخضراء التي على قبر النبي ﷺ فهذا شيء أحدثه بعض الأمراء في المدينة في القرون المتأخرة في القرن التاسع، وما حوله، ولا شك أنه غلط منه، وجهل منه، ولم يكن هذا في عهد النبي ﷺ، ولا في عهد أصحابه، ولا في عهد القرون المفضلة، وإنما حدث في القرون المتأخرة التي كثر فيها الجهل، وقلَّ فيها العلم، وكثرت فيها البدع، فلا ينبغي أن يغتر بذلك، ولا أن يقتدى بذلك.
ولعل من تولى المدينة من الملوك والأمراء المسلمين تركوا ذلك خشية الفتنة من بعض العامة، فتركوا ذلك وأعرضوا عن ذلك؛ حسمًا لمادة الفتن؛ لأن بعض الناس ليس عنده بصيرة، فقد يقول: غيروا وفعلوا بقبر النبي ﷺ، وهذا كذا، وهذا كذا، فيثير فتنًا لا حاجة إلى إثارتها، وقد تضر إثارتها.
فالأظهر -والله أعلم- أنها تركت لهذا المعنى خشية من رواج فتنة يثيرها بعض الجهلة، ويرمي من أزال القبة بأنه يستهين بالنبي ﷺ، أو بأنه لا يرى حرمته -عليه الصلاة والسلام-، هكذا يدعي عباد القبور، وأصحاب الغلو إذا رأوا من يدعو إلى التوحيد، ويحذر من الشرك والبدع، رموه بأنواع المعايب، واتهموه بأنه يبغض النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو بأنه يبغض الأولياء، أو لا يرى حرمته ﷺ، أو ما أشبه هذه الأقاويل الفاسدة الباطلة.
وإلا فلا شك أن الذي عملها قد أخطأ، وأتى بدعة، وخالف ما قاله النبي ﷺ في التحذير من البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، وأما البناء الأول فهو بيت عائشة كان دفن في بيت عائشة، والصحابة وأرضاهم خافوا من دفنه في البقيع من الفتنة، فجعلوه في بيت عائشة، ثم دفنوا معه صاحبيه الصديق وعمر -رضي الله عنهما-، ولم يكن في المسجد، بل كان في بيت عائشة، ثم لما وسع المسجد في عهد الوليد بن عبدالملك في آخر القرن الأول أدخل الحجرة في التوسعة، فظن بعض الناس الذين لا يعلمون أن الرسول ﷺ دفن في المسجد، وليس الأمر كذلك، بل هو -عليه الصلاة والسلام- دفن في بيت عائشة، في خارج المسجد، ولم يدفن في المسجد.
فليس لأحد الحجة في ذلك، أن يدفن في المساجد، بل يجب أن تكون المساجد خالية من القبور، ويجب أن لا يبنى أي مسجد على قبر؛ لكون الرسول حذر من ذلك -عليه الصلاة والسلام- فقال: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين، وروى مسلم في صحيحه -رحمه الله- عن جندب بن عبدالله البجلي عن النبي ﷺ أنه سمعه يقول قبل أن يموت بخمس، يقول: إن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك فذم من اتخذ المساجد قبورًا، ونهى عن ذلك بصيغتين: إحداهما: قوله: فلا تتخذوا القبور مساجد والثانية قوله: فإني أنهاكم عن ذلك وهذه مبالغة في النهي والتحذير منه -عليه الصلاة والسلام- من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: ذمًا لمن اتخذ المساجد قبورًا على قبور الأنبياء والصالحين ممن قبلنا.
والثاني: أنه نهى عن ذلك بصيغة: لا تتخذوا.
والثالث: أنه نهى عنه بصيغة: فإني أنهاكم عن ذلك وهذه مبالغة في التحذير، وسبق في حديث عائشة أنه نهى عنه باللعن قال: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد هذا يبين لنا، ويبين لكل مسلم، ولكل ذي فهم أن البناء على القبور، واتخاذ القباب عليها، والمساجد أنه مخالف لشريعة الله التي جاء بها نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وأنه منكر وبدعة في الدين، وأنه من وسائل الشرك.
ولهذا لما رأى العامة والجهلة هذه القبور المعظمة المساجد والقباب وغير ذلك، والفرش ظنوا أنها تنفعهم، وأنها تجيب دعاءهم، وأنها ترد عليهم غائبهم، وتشفي مريضهم، فدعوها واستغاثوا بها، ونذروا لها، ووقعوا في الشرك بسبب ذلك.
فالواجب على أهل العلم والإيمان أينما كانوا أن يحذروا الناس من هذه الشرور، وأن يبينوا لهم أن البناء على القبور من البدع المنكرة، وهكذا اتخاذ القباب والمساجد عليها من البدع المنكرة، وأنها من وسائل الشرك حتى يحذر العامة ذلك، وحتى يعلم الخاص والعام أن هذه الأشياء حدثت بعد الرسول ﷺ وبعد أصحابه وبعد القرون المفضلة، حتى يحذروها، وحتى يبتعدوا عنها.
والزيارة الشرعية للقبور هي أن يزوروها للسلام عليهم، والدعاء لهم، والترحم عليهم، لا لدعائهم وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكروب، فإن هذا شرك بالله، ولا يجوز إلا مع الله .
ولكن الجهلة والمشركين بدلوا الزيارة الشرعية بالزيارة المنكرة الشركية جهلًا وضلالًا، ومن أسباب هذا التبديل ومن أسباب هذا الشرك والبدع وجود هذه البنايات والقباب والمساجد على القبور، ومن أسباب ذلك سكوت الكثير من العلماء عن ذلك، إما للجهل بالحكم الشرعي في ذلك من بعضهم، وإما ليأسه من قبول العامة، وعدم الفائدة من كلامه معهم لما رأى من إقبالهم عليها، وإنكارهم على من أنكر عليهم، وإما لأسباب أخرى.
فالواجب على أهل العلم أينما كانوا أن يوضحوا للناس ما حرم الله عليهم، وأن يبينوا لهم ما أوجب الله عليهم، وأن يحذروهم من الشرك وأسبابه ووسائله، فإن العامة في ذمتهم، والله أوجب عليهم البلاغ والبيان، وحرم عليهم الكتمان، نعم.