الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله في أشرف بقعة من بقاع الدنيا وهي: مكة المكرمة للتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى وبيان أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم وبيان ضد ذلك.
وأسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاءً مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين جميعا، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفقهم لتحكيم شريعته بين عباده، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يصلح لهم البطانة وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل ويجعلهم من الهداة المهتدين إنه خير مسئول.
ثم إني أشكر إخواني القائمين على هذا النادي وعلى رأسهم معالي الأخ الدكتور/ راشد بن راجح مدير جامعة أم القرى، ورئيس النادي على دعوتهم لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يبارك في الجميع، وأن يصلح أحوالنا جميعا ويجعلنا من دعاة الهدى وأنصار الحق؛ إنه سميع قريب.
أيها الإخوة في الله! ذكر معالي الدكتور: راشد حفظه الله في المقدمة أنني رئيس هيئة كبار العلماء، وأحب التصحيح فإن الرئاسة للهيئة محصورة في خمسة من كبار السن من الأعضاء تدور بينهم الرئاسة كل واحد في السنة الخامسة يأتيه الدور وأنا واحد منهم، ولست رئيس الهيئة، ولكني واحد من رؤساء الهيئة، أما ما يتعلق بموضوع المحاضرة وهي: (أسباب نصر الله للمؤمنين).
فالله جل وعلا جعل للنصر أسبابا وجعل للخذلان أسبابا، فالواجب على أهل الإيمان في جهادهم وفي سائر شئونهم أن يأخذوا بأسباب النصر ويستمسكوا بها في كل مكان، في المسجد، وفي البيت وفي الطريق، وفي لقاء الأعداء وفي جميع الأحوال، فعلى المؤمنين أن يلتزموا بأمر الله، وأن ينصحوا لله ولعباده، وأن يحذروا المعاصي التي هي من أسباب الخذلان، ومن المعاصي: التفريط في أسباب النصر، الأسباب الحسية التي جعلها الله أسبابا لابد منها.
كما أنه لابد من الأسباب الدينية، فالتفريط في هذا أو هذا سبب الخذلان، والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم وهو أصدق القائلين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] هذه الآية العظيمة خطاب لجميع المؤمنين أوضح فيها سبحانه أنهم إذا نصروا الله نصرهم سبحانه وتعالى، ونصر الله من المؤمنين هو: اتباع شريعته ونصر دينه والقيام بحقه، وليس هو سبحانه في حاجة إلى عباده؛ بل هم المحتاجون إليه كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].
فالناس كلهم جنهم وإنسهم، ملوكهم وعامتهم كلهم في حاجة إلى ربهم، وكلهم فقراء إلى الله، والله سبحانه هو الغني الحميد، فنصره سبحانه هو نصر شريعته وهو نصر دينه هذا هو نصره، نصر ما بعث به رسوله وأنزل به كتابه الكريم، فإذا قام المسلمون بنصر دينه والقيام بحقه ونصر أوليائه نصرهم الله على عدوهم ويسر أمورهم وجعل لهم العاقبة الحميدة كما قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] وقال سبحانه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
والصبر والتقوى يكونان: بنصر الله، والقيام بدينه سبحانه، والتواصي بذلك في السر والجهر، في الشدة والرخاء، في حال الجهاد وما قبله وما بعده وفي جميع الأحوال.
ولما حذر سبحانه من اتخاذ البطانة من دون المؤمنين في قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118] بين سبحانه في آخر الآيات أنهم إذا صبروا واتقوا لم يضرهم أعداؤهم فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] وفي الأخرى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] ويقول سبحانه: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
فنصر الله جل وعلا باتباع شريعته والصبر على ذلك كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك فمن حفظ الله بحفظ دينه والاستقامة عليه والتواصي بحقه والصبر عليه نصره الله وأيده على عدوه وحفظه من مكائده، وقال عز وجل: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] والمؤمنون هم الذين استقاموا على دين الله وحافظوا على حقه وابتعدوا عن مناهيه كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62].
فالمؤمنون هم المتقون وهم أولياء الله، وهم أنصار دين الله ينصرهم الله ويحميهم من كيد أعدائهم ويجعل لهم العاقبة سبحانه وتعالى، ويقول سبحانه في كتابه الكريم: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41] هؤلاء هم المنصورون وهم الموعودون بالعاقبة الحميدة، ثم أوضح سبحانه صفات الناصرين له فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: أقدرناهم ﴿أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ يعني: حافظوا على هذه وهذه كما أمر الله، فأقاموا الصلاة كما أمر الله بأركانها وواجباتها وغير ذلك من شئونها، وأدوا الزكاة طيبة بها نفوسهم كما شرع الله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهذا يعم جميع الأوامر والنواهي فيدخل في المعروف: الصيام والحج والجهاد وبر الوالدين وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، ويدخل في المنكر كل ما نهى الله عنه من أنواع الشرك وسائر المعاصي، فالمؤمنون يوحدون الله ويؤمنون به إيمانا صادقاً، ويلتزمون بتوحيده والإخلاص له وتصديق أخباره وأخبار رسوله عليه الصلاة والسلام وبالقيام بحقه كما أمر، ومع ذلك يحذرون ما نهى عنه ويبتعدون عما حرمه عليهم رغبة فيما عنده وطلبا لمرضاته جل وعلا وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم المؤمنون حقا وهم المتقون المذكورون في قوله تعالى في سورة الأنفال: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنفال:34].
فربنا ينوع العبارات في صفات المؤمنين وترجع إلى شيء واحد كما قال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فيدخل في هذا الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر ما أمر الله به ورسوله، كما يدخل في ذلك من باب أولى توحيد الله والإيمان به والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام، وتصديق أخبار الله ورسوله كلها داخلة في قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا كما أنها داخلة في قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فالصبر والتقوى يشتمل على فعل جميع الأوامر وترك النواهي.
وهكذا قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ يشمل فعل الأوامر وترك النواهي، فإن هذا هو النصر لله بفعل أوامره وترك نواهيه عن إيمان وعن إخلاص لله وتوحيد له سبحانه وإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، لا عن مجرد شجاعة وحمية، ولا ليقال إنه كذا وكذا، ولا لمقصد آخر غير اتباع الشرع، فالنصر لدين الله يكون بطاعة الله وتعظيمه والإخلاص له والرغبة فيما عنده سبحانه وتعالى والعمل بشريعته يريد ثوابه وإقامة دينه، فمن كان بهذه الصفة فهو من المؤمنين الذين قال الله فيهم: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ويقول فيهم جل وعلا: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52] يعني بذلك العاقبة الوخيمة وهي اللعنة وسوء الدار، فالعاقبة الوخيمة هي النار والطرد من رحمة الله لأنهم لم ينصروا الله ولم ينصروا دينه، فالظالمون لا تنفعهم المعاذير ولهم اللعنة ولهم سوء الدار يوم القيامة، بخلاف من نصر دين الله واستقام عليه فلهم الرضا والكرامة والعاقبة الحميدة وذلك بالنصر في الدنيا والفوز في الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
فالرسل وأتباعهم -وهم المؤمنون- لهم النصر في الدنيا بإظهارهم على عدوهم وتمكينهم من عدوهم وجعل العاقبة الحميدة لهم ضد عدوهم، وفي الآخرة لهم النصر بدخول الجنة والنجاة من النار والسلامة من هول اليوم العظيم، ويقول عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55] هؤلاء هم أنصار الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين نصروا دين الله واستقاموا عليه، فالآيات والأحاديث يفسر بعضها بعضا ويدل بعضها على معنى بعض، فأنصار الله هم المؤمنون، وهم المتقون، وهم الصابرون الصادقون، وهم الأبرار، وهم الذين إذا مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات المذكورون في هذه الآية من سورة النور، وهم الذين قاموا بهذين الأمرين، آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بأن الله ربهم وهو معبودهم الحق خصوه بالعبادة وآمنوا بأسمائه وصفاته واستقاموا على دينه قولا وعملا وعقيدة، هؤلاء هم المؤمنون، هم أنصار الله، هم أنصار دينه، وهم المتقون، وهم الذين قال فيهم: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وهم المؤمنون الذين ذكروا في قوله: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] وهم المذكورون في قوله جل وعلا: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ الآية، وفي قوله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ وهم الموعودون بالاستخلاف في الأرض والتمكين لدينهم وإبدالهم بعد الخوف أمنا وبعد الذل عزا.
فعليك يا عبدالله أن تعرف هذا المعنى جيدا وأن تعمل به حتى تكون من أنصار الله، وحتى تحصل لك العاقبة الحميدة التي وعد الله بها أنصاره، فالله وعد أنصاره بالنصر والعاقبة الحميدة والتمكين في الأرض، وأن يبدلهم بخوفهم أمنا لما أخافوا أعداءه من أجله، وصبروا على دينه، وجاهدوا في الله وقدموا أنفسهم في سبيله سبحانه رخيصة يرجون رحمته ويخافون عقابه، قد باعوها لله وسلموها لله عملا بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ الآية [التوبة:111]، فهؤلاء هم أنصار الله الذين ثبتوا على دينه واستقاموا عليه قولا وعملا في الأمن والخوف في الشدة والرخاء جاهدوا لله وصبروا فجعل الله لهم العاقبة الحميدة كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وعدهم بالهداية وأنهم هم المحسنون المنصورون، ولما توافرت هذه الأسباب في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في يوم بدر نصروا على الكفار وهم أضعافهم، أضعافهم في القوة والعدد ومع ذلك نصروا عليهم بأنهم حققوا هذه الصفات، نصروا دين الله بالقول والعمل، وصبروا في لقاء الأعداء وصدقوا، فمكنهم الله وهزم عدوهم وجعل لهم العاقبة الحميدة، وهكذا في يوم الأحزاب صدقوا وصبروا وصابروا صبرا عظيما مع كون الكفار أضعاف المسلمين.
فصبر المسلمون وهم محاصرون حتى نصرهم الله بأمر من عنده على عدوهم، بجنود لم يروها حتى زلزلهم وردهم خائبين لم ينالوا خيرا، بسبب صبر الصحابة ونبيهم صلى الله عليه وسلم على طاعته وجهاد أعدائه، وهكذا في يوم الفتح نصر الله المسلمين على عدوهم، وفتحوا مكة وهزموا الشرك وأعوانه وجيش هوازن؛ فضلا منه سبحانه وتأييدا لأوليائه، وهكذا حصل للصحابة في قتالهم للروم وفارس وغيرهما صبروا وجاهدوا فأفلحوا ونصروا وجعل الله لهم العاقبة الحميدة، فصاروا قادة الناس وملوك الأرض، وسنة الله سبحانه هذه سائرة في عباده إلى يوم القيامة، من نصره نصره، ومن حاد عن دينه خذله، ولما جرى ما جرى يوم أحد من الخلل أصيب المسلمون وهم أفضل خلق الله في أرض الله، فيهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وهم بعده وبعد الأنبياء أفضل الخلق، وفيهم الصديق رضي الله عنه أفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيهم عمر أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد الصديق، وفيهم بقية الأخيار.
أصيب المسلمون بسبب الخلل الذي حصل من الرماة لما أخلوا بما أوجب الله عليهم من الصبر لأعداء الله، ولزوم الثغر الذي يخشى منه فدخل العدو عليهم، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد أمر الرماة أن يلزموا موقعهم وأن لا يبرحوه؛ وإن رأوا العدو يتخطف المسلمين وإن رأوا المسلمين نصروا لا هذا ولا هذا، فعليهم أن يلزموا مكانهم، فلما انهزم العدو يوم أحد ورآهم الرماة انهزموا ظنوا أنها الفاصلة فأخلوا بمواقعهم، وحاول أميرهم أن يثنيهم عن ذلك فخالفوه ظنا منهم أن الكفار لا عودة لهم، وأنهم قد انهزموا انهزاما كاملا فدخل العدو على المسلمين وصارت النكبة على المسلمين والقتل والجراحات والهزيمة حتى حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم فأنجاه الله من شرهم وأصابه جراحات وكسروا رباعيته عليه الصلاة والسلام إلى غير هذا مما أصابه عليه الصلاة والسلام، وقتل سبعون من الصحابة وأصاب بعض من بقي جراحات، وأنزل الله فيهم سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ أي: يقتلونهم بإذن الله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ يعني بذلك الرماة وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ تنازعوا في الأمر واختلفوا وَعَصَيْتُمْ بترك الموقع الذي أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بلزومه مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ من هزيمة العدو، والجواب: محذوف تقديره: سلط العدو عليكم. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ... الآية [آل عمران:152].
المقصود أنهم أصيبوا بسبب الخلل الذي وقع منهم في موقف عظيم لابد منه في سياسة الجهاد من حفظ الثغور وحفظ المنافذ التي ينفذ منها العدو، فحفظ الثغور التي يدخل منها العدو على المسلمين وحفظ المنافذ التي يدخل منها العدو على الجيش وقت اللقاء لابد فيه للجيش بأن يكون عنده عناية بذلك وعنده حذر وعنده حرص على سد كل ثغر يمكن أن ينفذ منها العدو على المسلمين ليضرهم أو يأتيهم من خلفهم، ولما استنكر المسلمون هذا الأمر وهذا الحدث المؤلم من الجراح والقتل وقالوا لماذا أصبنا؟ ولماذا جرى هذا؟ وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم خيرة الله من عباده بعد الأنبياء أنزل الله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ﴿قد أصبتم مثليها﴾ يعني يوم بدر قتلوا سبعين من الكفار وأسروا سبعين وحصلت جراحات في الكفار كثيرة قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا يعني استنكرتم من أين أصبنا كما قال تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] وهذا يفيد أن معصية بعض الجيش وإخلال بعض الجيش بالأسباب مصيبة للجميع فأصيبوا بسبب بعضهم، وهكذا الناس إذا رأوا المنكرات وشاعت ولم تغير عمت العقوبات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه أخرجه الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح عن الصديق رضي الله عنه، والمقصود أن الواجب على الأمة التآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى والصدق في ذلك، في كل بلد وفي كل قرية وفي كل قبيلة؛ عليهم أن يتناصحوا ويتواصوا بالحق والصبر عليه ويتعاونوا على البر والتقوى ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حتى لا تصيبهم كارثة بسبب ذنوبهم وأعمالهم، يقول سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ أي: جنس الإنسان إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] هؤلاء هم الرابحون وهم المنصورون فلابد من هذه الصفات الأربع: الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر في الجهاد وغيره.
وفي المدن والقرى وفي القبائل لابد من هذه الخصال الأربع، فمن أراد نصر الله والسلامة لدينه وأراد حسن العاقبة فليتق الله وليصبر على طاعة الله وليحذر محارم الله أينما كان، هذا هو سبب نصر الله له وهو من أسباب نجاته في الدنيا والآخرة، فالرجل في بيته وفي المسجد وفي الطريق وفي السيارة والطائرة والقطار وفي محل البيع والشراء وفي الجهاد وفي كل مكان، يجب عليه أن يتقي الله وأن ينصر دين الله بقوله وعمله وفي جهاده وفي جميع شئونه، وهكذا المرأة في بيتها وفي كل مكان عليها أن تتقي الله وأن تنصر دين الله بقولها وعملها حسب الطاقة لقول الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقوله سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا [البقرة:286] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم متفق على صحته، فالمرأة تبذل النصيحة مع الزوج ومع الأولاد ومع من في البيت من أقارب وخدم ومع الجيران ومع الزميلات ومع الجليسات ترجو بذلك ما عند الله من المثوبة، وأن ينفع بها عباده، وكل واحد من الرجال عليه أن يتقي الله وينصر دينه في قوله وعمله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عن صدق وإخلاص ورغبة ورهبة كما قال سبحانه في سورة الأنبياء عن عباده الصالحين: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] وقال في سورة المؤمنون: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنين:57-61] فهذه أسباب النصر، هذه أسباب حماية الله لعباده من كل سوء وأسباب نصره لهم، وهي من أعظم الأسباب في دخول الجنة والنجاة من النار، ولابد مع هذا كله من الحرص على الأسباب الدينية والحسية التي يعلم أنها من أسباب النصر لقوله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102] ويقول سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الآية [الأنفال:60]، ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71].
وهذا هو الواجب على المؤمنين أن يأخذوا حذرهم من عدوهم عند القتال، وأن يعدوا له ما استطاعوا من قوة من السلاح والعدد، والحرس الجيد، وتكون الملاحظات جيدة، والثغرات مسدودة، والسلاح محمول عند الحاجة حتى ولو كانوا في الصلاة، فلا يجوز أن يقول المجاهد: أنا مؤمن ويكفي، بل لابد من الأسباب الحسية المعنوية، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل المؤمنين وأكمل المتوكلين، والصحابة أفضل المؤمنين بعد الأنبياء، ومع هذا كله أصابهم ما أصابهم يوم أحد لما أخل الرماة بالشيء الذي يجب عليهم وأخلوا بالموقف الذي أمروا بلزومه.
فالمعاصي من أسباب الخذلان، كما أن معصية الرماة سبب الهزيمة يوم أحد، وهكذا المعاصي كلها في كل وقت من أسباب الخذلان إذا ظهرت ولم تنكر تكون من أسباب الخذلان وتسليط الأعداء، وحصول الكثير من المصائب، كما أنها من أسباب قسوة القلب وانتكاسه نعوذ بالله من ذلك، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] فالمعصية إذا ظهرت ضرت العامة إذا لم تنكر ولم تغير.
فالمؤمنون مأمورون بالاستقامة على تقوى الله والجهاد لأعداء الله، وأن يصبروا على التقوى والعمل الصالح أينما كانوا مع الإيمان بأن الله سبحانه سوف ينصرهم ويمكنهم من عدوهم، ويجعلهم بعد خوفهم في أمن وعافية، وبعد القلق في استقرار وراحة؛ بسبب إيثارهم حقه ونصرهم دينه وتعاونهم على البر والتقوى وصدقهم في ذلك ونصحهم لله ولعباده، ومتى أخلوا بشيء فليعلموا أنه خطر عليهم، وأنه متى أصابهم مصيبة بسبب الخلل فمن عند أنفسهم كما قال عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] ويقول سبحانه: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] وهو القائل سبحانه في سورة آل عمران بعد ما ذكر كيد الكفار: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] وهو القائل سبحانه في سورة النور: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية [النور:55]، وفي سورة محمد يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وأعظم العدو الشيطان، فهو أعظم العدو للإنسان فإنه يجري منه مجرى الدم، فعليك أن تجاهده بتقوى الله وترك معصيته، وأن تحذر مكائده ووساوسه، وأن تكثر من الاستعاذة بالله منه مع الإكثار من الحسنات والحذر من السيئات في جميع الأوقات، فهذا هو طريق السلامة من شره ومكائده بتوفيق الله وإعانته، ولابد مع ذلك من جهاد النفس، والإكثار من ذكر الله، والاستقامة على دينه، والحفاظ على حدوده، والحذر من مكايد عدو الله في كل زمان ومكان.
يقول الله سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3] ويقول تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4] ويقول عز وجل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] ويقول سبحانه عن زوجة العزيز: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53] ويقول عز وجل في سورة النازعات: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
فهذه أسباب النصر، وهذه أسباب النجاة من الأعداء، وهذه أسباب السلامة من مكائد الأعداء جنّهم وإنسهم، حضرهم وبدوهم، قريبهم وبعيدهم، وهي أسباب النصر عليهم، والسلامة من مكائدهم وهي أن تتقي الله في جميع الأحوال، وأن تحافظ على دينه، وأن تحذر معصيته أينما كنت في الجهاد وغيره، هذه أسباب حفظ الله لك، وحفظ الله لدينه بك، ونصر الله لك على عدوك وخذلان عدوك، ومتى فرط المؤمنون في هذه الأمور فهم في الحقيقة ساعون في تأييد عدوهم في نصره عليهم، والمعنى أن معاصي الجيش عون لعدوهم عليهم كما جرى يوم أحد، فعلى المؤمنين جميعا في أي مكان أن يتقوا الله، وأن ينصروا دينه، وأن يحافظوا على شرعه، وأن يحذروا من كل ما يغضبه في أنفسهم، وفيمن تحت أيديهم وفي مجتمعهم كل على حسب طاقته كما قال الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لما فيه رضاه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، وأن يعيننا على حفظ أنفسنا من شر جميع أعدائنا، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين جميعا لما يرضيه ولما يمكنهم من عدوهم ويعينهم عليه، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يجمع كلمتهم على التقوى، وأن يصلح جميع الشعوب الإسلامية وقادتهم، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل ما فيه رضاه، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين إنه جل وعلا جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين[1].
أما بعد: فإنني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله في أشرف بقعة من بقاع الدنيا وهي: مكة المكرمة للتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى وبيان أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم وبيان ضد ذلك.
وأسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاءً مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين جميعا، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفقهم لتحكيم شريعته بين عباده، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يصلح لهم البطانة وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل ويجعلهم من الهداة المهتدين إنه خير مسئول.
ثم إني أشكر إخواني القائمين على هذا النادي وعلى رأسهم معالي الأخ الدكتور/ راشد بن راجح مدير جامعة أم القرى، ورئيس النادي على دعوتهم لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يبارك في الجميع، وأن يصلح أحوالنا جميعا ويجعلنا من دعاة الهدى وأنصار الحق؛ إنه سميع قريب.
أيها الإخوة في الله! ذكر معالي الدكتور: راشد حفظه الله في المقدمة أنني رئيس هيئة كبار العلماء، وأحب التصحيح فإن الرئاسة للهيئة محصورة في خمسة من كبار السن من الأعضاء تدور بينهم الرئاسة كل واحد في السنة الخامسة يأتيه الدور وأنا واحد منهم، ولست رئيس الهيئة، ولكني واحد من رؤساء الهيئة، أما ما يتعلق بموضوع المحاضرة وهي: (أسباب نصر الله للمؤمنين).
فالله جل وعلا جعل للنصر أسبابا وجعل للخذلان أسبابا، فالواجب على أهل الإيمان في جهادهم وفي سائر شئونهم أن يأخذوا بأسباب النصر ويستمسكوا بها في كل مكان، في المسجد، وفي البيت وفي الطريق، وفي لقاء الأعداء وفي جميع الأحوال، فعلى المؤمنين أن يلتزموا بأمر الله، وأن ينصحوا لله ولعباده، وأن يحذروا المعاصي التي هي من أسباب الخذلان، ومن المعاصي: التفريط في أسباب النصر، الأسباب الحسية التي جعلها الله أسبابا لابد منها.
كما أنه لابد من الأسباب الدينية، فالتفريط في هذا أو هذا سبب الخذلان، والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم وهو أصدق القائلين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] هذه الآية العظيمة خطاب لجميع المؤمنين أوضح فيها سبحانه أنهم إذا نصروا الله نصرهم سبحانه وتعالى، ونصر الله من المؤمنين هو: اتباع شريعته ونصر دينه والقيام بحقه، وليس هو سبحانه في حاجة إلى عباده؛ بل هم المحتاجون إليه كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].
فالناس كلهم جنهم وإنسهم، ملوكهم وعامتهم كلهم في حاجة إلى ربهم، وكلهم فقراء إلى الله، والله سبحانه هو الغني الحميد، فنصره سبحانه هو نصر شريعته وهو نصر دينه هذا هو نصره، نصر ما بعث به رسوله وأنزل به كتابه الكريم، فإذا قام المسلمون بنصر دينه والقيام بحقه ونصر أوليائه نصرهم الله على عدوهم ويسر أمورهم وجعل لهم العاقبة الحميدة كما قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] وقال سبحانه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
والصبر والتقوى يكونان: بنصر الله، والقيام بدينه سبحانه، والتواصي بذلك في السر والجهر، في الشدة والرخاء، في حال الجهاد وما قبله وما بعده وفي جميع الأحوال.
ولما حذر سبحانه من اتخاذ البطانة من دون المؤمنين في قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118] بين سبحانه في آخر الآيات أنهم إذا صبروا واتقوا لم يضرهم أعداؤهم فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] وفي الأخرى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] ويقول سبحانه: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
فنصر الله جل وعلا باتباع شريعته والصبر على ذلك كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك فمن حفظ الله بحفظ دينه والاستقامة عليه والتواصي بحقه والصبر عليه نصره الله وأيده على عدوه وحفظه من مكائده، وقال عز وجل: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] والمؤمنون هم الذين استقاموا على دين الله وحافظوا على حقه وابتعدوا عن مناهيه كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62].
فالمؤمنون هم المتقون وهم أولياء الله، وهم أنصار دين الله ينصرهم الله ويحميهم من كيد أعدائهم ويجعل لهم العاقبة سبحانه وتعالى، ويقول سبحانه في كتابه الكريم: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41] هؤلاء هم المنصورون وهم الموعودون بالعاقبة الحميدة، ثم أوضح سبحانه صفات الناصرين له فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: أقدرناهم ﴿أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ يعني: حافظوا على هذه وهذه كما أمر الله، فأقاموا الصلاة كما أمر الله بأركانها وواجباتها وغير ذلك من شئونها، وأدوا الزكاة طيبة بها نفوسهم كما شرع الله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهذا يعم جميع الأوامر والنواهي فيدخل في المعروف: الصيام والحج والجهاد وبر الوالدين وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، ويدخل في المنكر كل ما نهى الله عنه من أنواع الشرك وسائر المعاصي، فالمؤمنون يوحدون الله ويؤمنون به إيمانا صادقاً، ويلتزمون بتوحيده والإخلاص له وتصديق أخباره وأخبار رسوله عليه الصلاة والسلام وبالقيام بحقه كما أمر، ومع ذلك يحذرون ما نهى عنه ويبتعدون عما حرمه عليهم رغبة فيما عنده وطلبا لمرضاته جل وعلا وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم المؤمنون حقا وهم المتقون المذكورون في قوله تعالى في سورة الأنفال: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنفال:34].
فربنا ينوع العبارات في صفات المؤمنين وترجع إلى شيء واحد كما قال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فيدخل في هذا الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر ما أمر الله به ورسوله، كما يدخل في ذلك من باب أولى توحيد الله والإيمان به والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام، وتصديق أخبار الله ورسوله كلها داخلة في قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا كما أنها داخلة في قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فالصبر والتقوى يشتمل على فعل جميع الأوامر وترك النواهي.
وهكذا قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ يشمل فعل الأوامر وترك النواهي، فإن هذا هو النصر لله بفعل أوامره وترك نواهيه عن إيمان وعن إخلاص لله وتوحيد له سبحانه وإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، لا عن مجرد شجاعة وحمية، ولا ليقال إنه كذا وكذا، ولا لمقصد آخر غير اتباع الشرع، فالنصر لدين الله يكون بطاعة الله وتعظيمه والإخلاص له والرغبة فيما عنده سبحانه وتعالى والعمل بشريعته يريد ثوابه وإقامة دينه، فمن كان بهذه الصفة فهو من المؤمنين الذين قال الله فيهم: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ويقول فيهم جل وعلا: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52] يعني بذلك العاقبة الوخيمة وهي اللعنة وسوء الدار، فالعاقبة الوخيمة هي النار والطرد من رحمة الله لأنهم لم ينصروا الله ولم ينصروا دينه، فالظالمون لا تنفعهم المعاذير ولهم اللعنة ولهم سوء الدار يوم القيامة، بخلاف من نصر دين الله واستقام عليه فلهم الرضا والكرامة والعاقبة الحميدة وذلك بالنصر في الدنيا والفوز في الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
فالرسل وأتباعهم -وهم المؤمنون- لهم النصر في الدنيا بإظهارهم على عدوهم وتمكينهم من عدوهم وجعل العاقبة الحميدة لهم ضد عدوهم، وفي الآخرة لهم النصر بدخول الجنة والنجاة من النار والسلامة من هول اليوم العظيم، ويقول عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55] هؤلاء هم أنصار الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين نصروا دين الله واستقاموا عليه، فالآيات والأحاديث يفسر بعضها بعضا ويدل بعضها على معنى بعض، فأنصار الله هم المؤمنون، وهم المتقون، وهم الصابرون الصادقون، وهم الأبرار، وهم الذين إذا مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات المذكورون في هذه الآية من سورة النور، وهم الذين قاموا بهذين الأمرين، آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بأن الله ربهم وهو معبودهم الحق خصوه بالعبادة وآمنوا بأسمائه وصفاته واستقاموا على دينه قولا وعملا وعقيدة، هؤلاء هم المؤمنون، هم أنصار الله، هم أنصار دينه، وهم المتقون، وهم الذين قال فيهم: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وهم المؤمنون الذين ذكروا في قوله: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] وهم المذكورون في قوله جل وعلا: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ الآية، وفي قوله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ وهم الموعودون بالاستخلاف في الأرض والتمكين لدينهم وإبدالهم بعد الخوف أمنا وبعد الذل عزا.
فعليك يا عبدالله أن تعرف هذا المعنى جيدا وأن تعمل به حتى تكون من أنصار الله، وحتى تحصل لك العاقبة الحميدة التي وعد الله بها أنصاره، فالله وعد أنصاره بالنصر والعاقبة الحميدة والتمكين في الأرض، وأن يبدلهم بخوفهم أمنا لما أخافوا أعداءه من أجله، وصبروا على دينه، وجاهدوا في الله وقدموا أنفسهم في سبيله سبحانه رخيصة يرجون رحمته ويخافون عقابه، قد باعوها لله وسلموها لله عملا بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ الآية [التوبة:111]، فهؤلاء هم أنصار الله الذين ثبتوا على دينه واستقاموا عليه قولا وعملا في الأمن والخوف في الشدة والرخاء جاهدوا لله وصبروا فجعل الله لهم العاقبة الحميدة كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وعدهم بالهداية وأنهم هم المحسنون المنصورون، ولما توافرت هذه الأسباب في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في يوم بدر نصروا على الكفار وهم أضعافهم، أضعافهم في القوة والعدد ومع ذلك نصروا عليهم بأنهم حققوا هذه الصفات، نصروا دين الله بالقول والعمل، وصبروا في لقاء الأعداء وصدقوا، فمكنهم الله وهزم عدوهم وجعل لهم العاقبة الحميدة، وهكذا في يوم الأحزاب صدقوا وصبروا وصابروا صبرا عظيما مع كون الكفار أضعاف المسلمين.
فصبر المسلمون وهم محاصرون حتى نصرهم الله بأمر من عنده على عدوهم، بجنود لم يروها حتى زلزلهم وردهم خائبين لم ينالوا خيرا، بسبب صبر الصحابة ونبيهم صلى الله عليه وسلم على طاعته وجهاد أعدائه، وهكذا في يوم الفتح نصر الله المسلمين على عدوهم، وفتحوا مكة وهزموا الشرك وأعوانه وجيش هوازن؛ فضلا منه سبحانه وتأييدا لأوليائه، وهكذا حصل للصحابة في قتالهم للروم وفارس وغيرهما صبروا وجاهدوا فأفلحوا ونصروا وجعل الله لهم العاقبة الحميدة، فصاروا قادة الناس وملوك الأرض، وسنة الله سبحانه هذه سائرة في عباده إلى يوم القيامة، من نصره نصره، ومن حاد عن دينه خذله، ولما جرى ما جرى يوم أحد من الخلل أصيب المسلمون وهم أفضل خلق الله في أرض الله، فيهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وهم بعده وبعد الأنبياء أفضل الخلق، وفيهم الصديق رضي الله عنه أفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيهم عمر أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد الصديق، وفيهم بقية الأخيار.
أصيب المسلمون بسبب الخلل الذي حصل من الرماة لما أخلوا بما أوجب الله عليهم من الصبر لأعداء الله، ولزوم الثغر الذي يخشى منه فدخل العدو عليهم، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد أمر الرماة أن يلزموا موقعهم وأن لا يبرحوه؛ وإن رأوا العدو يتخطف المسلمين وإن رأوا المسلمين نصروا لا هذا ولا هذا، فعليهم أن يلزموا مكانهم، فلما انهزم العدو يوم أحد ورآهم الرماة انهزموا ظنوا أنها الفاصلة فأخلوا بمواقعهم، وحاول أميرهم أن يثنيهم عن ذلك فخالفوه ظنا منهم أن الكفار لا عودة لهم، وأنهم قد انهزموا انهزاما كاملا فدخل العدو على المسلمين وصارت النكبة على المسلمين والقتل والجراحات والهزيمة حتى حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم فأنجاه الله من شرهم وأصابه جراحات وكسروا رباعيته عليه الصلاة والسلام إلى غير هذا مما أصابه عليه الصلاة والسلام، وقتل سبعون من الصحابة وأصاب بعض من بقي جراحات، وأنزل الله فيهم سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ أي: يقتلونهم بإذن الله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ يعني بذلك الرماة وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ تنازعوا في الأمر واختلفوا وَعَصَيْتُمْ بترك الموقع الذي أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بلزومه مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ من هزيمة العدو، والجواب: محذوف تقديره: سلط العدو عليكم. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ... الآية [آل عمران:152].
المقصود أنهم أصيبوا بسبب الخلل الذي وقع منهم في موقف عظيم لابد منه في سياسة الجهاد من حفظ الثغور وحفظ المنافذ التي ينفذ منها العدو، فحفظ الثغور التي يدخل منها العدو على المسلمين وحفظ المنافذ التي يدخل منها العدو على الجيش وقت اللقاء لابد فيه للجيش بأن يكون عنده عناية بذلك وعنده حذر وعنده حرص على سد كل ثغر يمكن أن ينفذ منها العدو على المسلمين ليضرهم أو يأتيهم من خلفهم، ولما استنكر المسلمون هذا الأمر وهذا الحدث المؤلم من الجراح والقتل وقالوا لماذا أصبنا؟ ولماذا جرى هذا؟ وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم خيرة الله من عباده بعد الأنبياء أنزل الله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ﴿قد أصبتم مثليها﴾ يعني يوم بدر قتلوا سبعين من الكفار وأسروا سبعين وحصلت جراحات في الكفار كثيرة قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا يعني استنكرتم من أين أصبنا كما قال تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] وهذا يفيد أن معصية بعض الجيش وإخلال بعض الجيش بالأسباب مصيبة للجميع فأصيبوا بسبب بعضهم، وهكذا الناس إذا رأوا المنكرات وشاعت ولم تغير عمت العقوبات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه أخرجه الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح عن الصديق رضي الله عنه، والمقصود أن الواجب على الأمة التآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى والصدق في ذلك، في كل بلد وفي كل قرية وفي كل قبيلة؛ عليهم أن يتناصحوا ويتواصوا بالحق والصبر عليه ويتعاونوا على البر والتقوى ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حتى لا تصيبهم كارثة بسبب ذنوبهم وأعمالهم، يقول سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ أي: جنس الإنسان إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] هؤلاء هم الرابحون وهم المنصورون فلابد من هذه الصفات الأربع: الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر في الجهاد وغيره.
وفي المدن والقرى وفي القبائل لابد من هذه الخصال الأربع، فمن أراد نصر الله والسلامة لدينه وأراد حسن العاقبة فليتق الله وليصبر على طاعة الله وليحذر محارم الله أينما كان، هذا هو سبب نصر الله له وهو من أسباب نجاته في الدنيا والآخرة، فالرجل في بيته وفي المسجد وفي الطريق وفي السيارة والطائرة والقطار وفي محل البيع والشراء وفي الجهاد وفي كل مكان، يجب عليه أن يتقي الله وأن ينصر دين الله بقوله وعمله وفي جهاده وفي جميع شئونه، وهكذا المرأة في بيتها وفي كل مكان عليها أن تتقي الله وأن تنصر دين الله بقولها وعملها حسب الطاقة لقول الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقوله سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا [البقرة:286] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم متفق على صحته، فالمرأة تبذل النصيحة مع الزوج ومع الأولاد ومع من في البيت من أقارب وخدم ومع الجيران ومع الزميلات ومع الجليسات ترجو بذلك ما عند الله من المثوبة، وأن ينفع بها عباده، وكل واحد من الرجال عليه أن يتقي الله وينصر دينه في قوله وعمله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عن صدق وإخلاص ورغبة ورهبة كما قال سبحانه في سورة الأنبياء عن عباده الصالحين: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] وقال في سورة المؤمنون: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنين:57-61] فهذه أسباب النصر، هذه أسباب حماية الله لعباده من كل سوء وأسباب نصره لهم، وهي من أعظم الأسباب في دخول الجنة والنجاة من النار، ولابد مع هذا كله من الحرص على الأسباب الدينية والحسية التي يعلم أنها من أسباب النصر لقوله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102] ويقول سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الآية [الأنفال:60]، ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71].
وهذا هو الواجب على المؤمنين أن يأخذوا حذرهم من عدوهم عند القتال، وأن يعدوا له ما استطاعوا من قوة من السلاح والعدد، والحرس الجيد، وتكون الملاحظات جيدة، والثغرات مسدودة، والسلاح محمول عند الحاجة حتى ولو كانوا في الصلاة، فلا يجوز أن يقول المجاهد: أنا مؤمن ويكفي، بل لابد من الأسباب الحسية المعنوية، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل المؤمنين وأكمل المتوكلين، والصحابة أفضل المؤمنين بعد الأنبياء، ومع هذا كله أصابهم ما أصابهم يوم أحد لما أخل الرماة بالشيء الذي يجب عليهم وأخلوا بالموقف الذي أمروا بلزومه.
فالمعاصي من أسباب الخذلان، كما أن معصية الرماة سبب الهزيمة يوم أحد، وهكذا المعاصي كلها في كل وقت من أسباب الخذلان إذا ظهرت ولم تنكر تكون من أسباب الخذلان وتسليط الأعداء، وحصول الكثير من المصائب، كما أنها من أسباب قسوة القلب وانتكاسه نعوذ بالله من ذلك، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] فالمعصية إذا ظهرت ضرت العامة إذا لم تنكر ولم تغير.
فالمؤمنون مأمورون بالاستقامة على تقوى الله والجهاد لأعداء الله، وأن يصبروا على التقوى والعمل الصالح أينما كانوا مع الإيمان بأن الله سبحانه سوف ينصرهم ويمكنهم من عدوهم، ويجعلهم بعد خوفهم في أمن وعافية، وبعد القلق في استقرار وراحة؛ بسبب إيثارهم حقه ونصرهم دينه وتعاونهم على البر والتقوى وصدقهم في ذلك ونصحهم لله ولعباده، ومتى أخلوا بشيء فليعلموا أنه خطر عليهم، وأنه متى أصابهم مصيبة بسبب الخلل فمن عند أنفسهم كما قال عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] ويقول سبحانه: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] وهو القائل سبحانه في سورة آل عمران بعد ما ذكر كيد الكفار: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] وهو القائل سبحانه في سورة النور: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية [النور:55]، وفي سورة محمد يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وأعظم العدو الشيطان، فهو أعظم العدو للإنسان فإنه يجري منه مجرى الدم، فعليك أن تجاهده بتقوى الله وترك معصيته، وأن تحذر مكائده ووساوسه، وأن تكثر من الاستعاذة بالله منه مع الإكثار من الحسنات والحذر من السيئات في جميع الأوقات، فهذا هو طريق السلامة من شره ومكائده بتوفيق الله وإعانته، ولابد مع ذلك من جهاد النفس، والإكثار من ذكر الله، والاستقامة على دينه، والحفاظ على حدوده، والحذر من مكايد عدو الله في كل زمان ومكان.
يقول الله سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3] ويقول تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4] ويقول عز وجل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] ويقول سبحانه عن زوجة العزيز: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53] ويقول عز وجل في سورة النازعات: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
فهذه أسباب النصر، وهذه أسباب النجاة من الأعداء، وهذه أسباب السلامة من مكائد الأعداء جنّهم وإنسهم، حضرهم وبدوهم، قريبهم وبعيدهم، وهي أسباب النصر عليهم، والسلامة من مكائدهم وهي أن تتقي الله في جميع الأحوال، وأن تحافظ على دينه، وأن تحذر معصيته أينما كنت في الجهاد وغيره، هذه أسباب حفظ الله لك، وحفظ الله لدينه بك، ونصر الله لك على عدوك وخذلان عدوك، ومتى فرط المؤمنون في هذه الأمور فهم في الحقيقة ساعون في تأييد عدوهم في نصره عليهم، والمعنى أن معاصي الجيش عون لعدوهم عليهم كما جرى يوم أحد، فعلى المؤمنين جميعا في أي مكان أن يتقوا الله، وأن ينصروا دينه، وأن يحافظوا على شرعه، وأن يحذروا من كل ما يغضبه في أنفسهم، وفيمن تحت أيديهم وفي مجتمعهم كل على حسب طاقته كما قال الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لما فيه رضاه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، وأن يعيننا على حفظ أنفسنا من شر جميع أعدائنا، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين جميعا لما يرضيه ولما يمكنهم من عدوهم ويعينهم عليه، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يجمع كلمتهم على التقوى، وأن يصلح جميع الشعوب الإسلامية وقادتهم، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل ما فيه رضاه، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين إنه جل وعلا جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين[1].
- محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في نادي مكة الأدبي في 29/ 11/ 1412هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 7/ 5).