الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنني أحمد الله على ما يسره عز وجل من هذا اللقاء من إخوة في الله كرام وأبناء أعزاء في سبيل التعاون على البر والتقوى والتناصح في الحق والدعوة إلى الخير، وأسأله عز وجل أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلى كلمته ويخذل الأعداء.
ثم أشكر القائمين على هذه المؤسسة وعلى رأسهم سمو الأمير محمد بن فهد بن فيصل آل سعود على هذه الدعوة، وأسأل الله أن يجعل دعوته إلى هذا اللقاء مباركة، كما أسأله سبحانه أن يبارك في جهود الجميع وأن يصلح أعمالهم وأقوالهم وأن يمنحهم الفقه في الدين والصدق والصبر والمصابرة والاستقامة على الحق، وأن ينفع بجهودهم وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح المسلمين وسعادتهم في العاجل والآجل إنه خير مسئول.
أيها الإخوة في الله: أيها الأبناء الكرام: إن الله عز وجل قد بين في كتابه العظيم صفات المسلمين وأخلاق المؤمنين في مواضع كثيرة، وحث عليها ورغب فيها وأمر بها في مواضع، وأثنى على أهلها في مواضع، ووعدهم على ذلك الخير الكثير والعاقبة الحميدة والفوز بالجنة والكرامة، ومن ذلك قوله تعالى في آخر سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ الآيات [آل عمران:190، 191].
هذه الآيات العظيمات كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقرؤها إذا استيقظ من نومه عليه الصلاة والسلام إلى آخر السورة ويمسح النوم عن وجهه بعدها، ويرتل هذه الآيات ويرفع بصره إلى السماء وهو يقرأ هذه الآيات: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ والآيات بعدها.
وأولوا الألباب هم أولوا العقول الصحيحة، والألباب جمع لب وهو العقل الصحيح النير، وهم لصلاح عقولهم وسلامتها وصحتها وصفهم الله بهذه الصفات، وهي أنهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في هذه الآيات التي أوجدها سبحانه، ومنها خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، فإن آيات الله كثيرة، ومن جملتها خلق هذه السماوات في ارتفاعها وسعتها وخلق هذه الأرض في انبساطها وسعتها واستقرارها وما فيهما من الآيات العظيمات الكثيرات.
وهكذا اختلاف الليل والنهار من جملة آياته العظيمة سبحانه وتعالى، فلذا أخبر أن في ذلك آيات لأولي الألباب، ثم ذكر بعض أعمالهم: من ذكر الله قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم بالقلب واللسان والعمل، فيذكرون الله في قلوبهم محبة وتعظيما وخوفا ورجاء وخشية له سبحانه، وبألسنتهم بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والقراءة والدعاء والاستغفار وغير ذلك. ومن أعمالهم الصلاة ليلا ونهارا والتهجد بالليل والصدقات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير هذا من أعمالهم الصالحة. ثم ذكر أنهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض وما فيها من العجائب والغرائب والآيات العظيمة قائلين: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران:191] بل لحكمة عظيمة وغايات حميدة ثم يقولون: سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191] فأقروا أن الله سبحانه خلق هذا لحكمة أرادها وليس ذلك باطلا ولا عبثا، ثم سألوه أن يقيهم عذاب النار ونزهوه عما لا يليق به سبحانه وتعالى. وقال جل وعلا في آيات أخرى من أول سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4] هذه من صفات أهل الإيمان الكمل الخلص. وفي آيات أخرى في سورة التوبة يقول عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] وهذه صفات المؤمنين الصادقين من جنود الإسلام وغيرهم.
فالمؤمنون والمؤمنات حقا هذه صفاتهم وهذه أخلاقهم، فالواجب على جنود الإسلام أن يهتموا بهذه الصفات ويتخلقوا بها، لأنهم قدوة لغيرهم، ولأنها من أعظم أسباب النصر على الأعداء، ولأنهم معدون للجهاد في سبيل الله والرباط في ثغور البلاد، فهم أولى الناس بأن يتخلقوا بهذه الصفات ويستقيموا عليها. وبذلك يحققون نسبتهم إلى الإسلام على خير وجه.
والإسلام هو دين الله الذي بعث به جميع الرسل كما قال عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:19] وقال سبحانه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] وقال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] سمى سبحانه وتعالى دينه إسلاما لما فيه من الاستسلام لله والخضوع لأمره ونهيه والالتزام بطاعته والوقوف عند حدوده.
يقال في اللغة العربية: أسلم فلان لفلان إذا انقاد له، وأسلم العبد لله إذا انقاد لأمره وخضع لطاعته، فالإسلام خضوع لله وانقياد لأوامره وترك لنواهيه ووقوف عند حدوده سبحانه وتعالى.
وسمي إيمانا؛ لأن المسلم يفعل ذلك عن إيمانه بالله ورسوله لا عن رياء ولا عن سمعة ولا عن نفاق ولكنه يخضع لله ويسلم لله وينقاد لأوامره سبحانه ويقف عند حدوده عن إيمان وتصديق وطمأنينة وعلم، فيعلم أن الله واحد لا شريك له وهو رب السماوات والأرض وهو الخلاق العليم وهو مخلص لله معظم لحرمات الله مؤمن به سبحانه ربا وإلها وخالقا ورازقا ومعبودا بالحق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان.
فديننا يسمى إسلاما لما فيه من الانقياد لله والإخلاص له والذل له والتعظيم، ويسمى إيمانا لما يشتمل عليه من التصديق بأخبار الله ووحدانيته وأنه الإله الحق سبحانه وتعالى، وأنه المستحق للعبادة دون كل ما سواه مع الإيمان بما أمر به ونهى عنه، وما شرع لعباده وما أباح لهم وما حرم عليهم كل ذلك داخل في مسمى الإيمان وفي مسمى الإسلام، فيسمى إسلاما للانقياد لله وطاعة أوامره والوقوف عند حدوده، ويسمى إيمانا لما يشتمل عليه قلب المؤمن من التصديق المتضمن الانقياد للعمل الصالح والقول السديد. ولهذا لما سأل جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلا ثم قال عن الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره فذكر له أصول الإيمان التي ينبثق منها الإسلام والدين، وذكر له أصول الإسلام الظاهرة التي بني عليها وهي أركانه الخمسة المذكورة آنفا.
فالإسلام أركانه الظاهرة هذه الخمسة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، وهذه أركانه الظاهرة.
أما أركانه الباطنة فهي أصول الإيمان الستة التي ينبني عليها الإسلام في الباطن وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، فلا إسلام لمن لا إيمان له ولا إيمان لمن لا إسلام له، فلابد من هذا وهذا.
لابد من الإيمان الذي ينبثق عنه الإسلام والانقياد لله وأداء حقه، ولابد من الإسلام الذي هو تصديق بالأعمال ويدل على الإيمان المستقر في القلب ويشهد له بالصحة، حتى يخرج بذلك عن صفات المنافقين وأعمال المنافقين الذين يقولون بالأفواه ما ليس في القلوب، ويعملون بالظواهر خلاف ما في القلوب، كما قال عنهم سبحانه في كتابه العظيم في سورة النساء: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:142، 143] فليس لهم ثبات بل هم مذبذبون حائرون، تارة مع المؤمنين وتارة مع الكافرين والعياذ بالله.
وقال عنهم جل وعلا في أول سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10] والمعنى: أنهم يقولون باللسان ويعملون في الظاهر ما ليس في القلوب فصاروا كاذبين. وقرئ: بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ من التكذيب لأنهم يقرون في الظاهر بشعائر الإسلام ولكنهم في الباطن لا يقرون بذلك؛ بل يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام ويكذبون ما جاء به، فلهذا أخبر الله عنهم أنهم تحت الكفار في النار يوم القيامة، فقال تعالى عنهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145] فأهل الإيمان الصادق والإسلام الصادق هم المؤمنون حقا، وهم الذين جمعوا بين الخضوع لله والذل له سبحانه والإسلام له والجهاد في سبيله والإخلاص له، مع الإيمان الصادق في القلوب الذي ينتج عنه ويتفرع عنه الأقوال الصادقة والأعمال الصالحة وأعمال القلوب من خوف ورجاء وإخلاص ومحبة وشوق إلى الله وإلى جنته وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى.
فالمؤمن الصادق هو المذكور في قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وفي قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ والآية بعدها [الأنفال:2].
فجدير بنا أيها الإخوة أن نحقق هذه الصفات العظيمة، وأن نتخلق بها وعلى رأسها الإخلاص لله، فإن شهادة أن لا الله إلا الله توجب إخلاص العبادة لله وحده، وصرف العبادة له وحده دون كل ما سواه، وأن يكون القلب معمورا بمحبته والإخلاص له والشوق إليه والأنس بمناجاته والذكر له تعالى كما قال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] وقال عز وجل: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3] وقال سبحانه وتعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].
هذا الإخلاص أساس كلمة التوحيد لا إله إلا الله أي لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي وتثبت، تنفي العبادة وهي الألوهية عن غير الله وتثبتها له وحده دون ما سواه، فلا يستقيم دين ولا يصح ولا يثبت ولا يسمى المرء مسلما ولا مؤمنا إلا بالإخلاص لله عز وجل وتخصيصه بالعبادة سبحانه وتعالى، ثم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والشهادة بأنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وهذه الشهادة لابد لها من ثمرة ونتيجة، وهي متابعة شرعه والاستقامة على دينه والوقوف عند حدوده التي جاء بها عليه الصلاة والسلام.
وهاتان الشهادتان هما أصل الدين، وهما أساس الملة، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومتى صدق فيهما العبد وأدى حقهما فإنه يؤدي ما أوجب الله من الأقوال والأعمال وينتهي عما حرم الله من القول والعمل، ويقف عند حدود الله، ومتى فرط في شيء من ذلك صار نقصا في إيمانه وتوحيده وضعفا في إيمانه وتوحيده، فعلم من ذلك أن هاتين الشهادتين لهما حقوق وهي أداء فرائض الله وترك محارم الله والوقوف عند حدود الله كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وقد احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذا الحديث على قتال مانعي الزكاة، وقال: (إن الزكاة من حق لا إله إلا الله)، فسلم له الصحابة رضي الله عنهم وتابعوه في جهادهم.
وفي آية براءة بيان تلك الحقوق وهي قوله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] وهؤلاء المؤمنون والمؤمنات هم المصدقون بالله والموحدون له، الذين أقروا له بالتوحيد والإخلاص له وحده، وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم بعضهم أولياء بعض، فهم فيما بينهم أولياء متحابون في الله متناصحون فيه متواصون بالحق والصبر عليه متعاونون على البر والتقوى. فهذه أوصاف المؤمنين والمؤمنات، وهذه أخلاقهم العظيمة لا غل ولا حقد ولا حسد ولا غش ولا خيانة ولا شهادة بالزور ولا كذب فيما بينهم، لا يحسد بعضهم بعضا ولا يغش بعضهم بعضا، ولا يشهدون بالزور ولا يظلمون أحدا، ولا يخذلون أخاهم في الله، ولا يخونون الأمانة بل هم إخوة في الله صادقون. هكذا المؤمنون والمؤمنات الذين عمرت قلوبهم بالإيمان واستقر حب الله في قلوبهم.
فإذا رأيت من نفسك خيانة لأخيك أو رأت المرأة المؤمنة في نفسها خيانة لأختها في الله أو لأخيها في الله فذلك نقص في الإيمان، ومن ضعف الإيمان ومن ضعف الإخلاص لله عز وجل، إذ لو كان الإيمان كاملا لما وقع هذا النقص الذي هو خيانة أو ظلم أو غير ذلك مما حرم الله عز وجل، فالحسد والخيانة والغش في المعاملة والشهادة بالزور والظلم للعباد كل ذلك نقص في الإيمان وضعف في الإخلاص والإسلام.
وهكذا ما سوى ذلك من سائر المعاصي، وقد يفضي ذلك إلى زوال الإيمان بالكلية كترك الصلاة فإنها كفر أكبر وردِّة عن الإسلام وإن لم يجحد التارك وجوبها في أصح قولي العلماء، وأما في جحد وجوبها فإنه يكفر بالإجماع من العلماء.
وهكذا لو جحد وجوب الزكاة أو جحد وجوب صيام رمضان أو جحد وجوب الحج إلى بيت الله الحرام مع الاستطاعة أو جحد مشروعية الجهاد في سبيل الله أو جحد شيئا من الأمور الظاهرة الإسلامية المعلومة من الدين بالضرورة فإنه يكون بذلك كافرا ومرتدا بإجماع المسلمين.
وهكذا لو جحد بعض ما حرم الله من المحرمات المعروفة من الدين بالضرورة؛ كأن يقول إن الزنا حلال أو الخمر حلال أو عقوق الوالدين حلال أو الربا حلال؛ فإن هذا وأمثاله كفر وردة عن الإسلام والعياذ بالله من ذلك. وبذلك يعلم أن المعاصي والمخالفات منها ما يزيل الإيمان بالكلية ويكون صاحبها مرتدا مفارقا للإسلام كما سمعتم في الأمثلة؛ وقد بين ذلك أهل العلم في كل مذهب من المذاهب الأربعة، وعقدوا لذلك بابا خاصا سموه باب حكم المرتد، وهو باب عظيم تنبغي مراجعته والعناية به.
ومنها ما يضعف الإيمان ويجعل صاحبه ناقص الإيمان كتعاطي بعض المحرمات من المسكر وعقوق الوالدين أو أحدهما، وتعاطي الربا أو الغيبة والنميمة أو الحسد والبغي والظلم من دون استحلال لذلك. فكل ذلك نقص في الإيمان وضعف في الدين. والإيمان يزيد وينقص عند أهل السنة والجماعة يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. والضعف يختلف فيعظم بكثرة المعاصي ويقل بقلتها.
ومن ذلك تعاطي ما حرم الله من الإسبال في الملابس وحلق اللحية وغير ذلك مما حرم الله، وكثير من الناس يتهاون بهذه الأمور ولا يبالي بملابسه ولا بلحيته بل يحلقها أو يقصها ويسبل ثيابه، وكل ذلك من المنكرات التي تضعف الإيمان وتنقص الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس رواه مسلم في صحيحه، والأحاديث في النهي عن التشبه بالكفار والأمر بمخالفتهم كثيرة.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم بيّن كل خير ودعا إلى كل خير وحذر من كل شر، وقال عليه الصلاة السلام: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار خرجه البخاري في صحيحه. فالإزار والسراويل والقميص والبشت كلها يجب ألا تنزل عن الكعبين فما نزل عن ذلك ففيه الوعيد المذكور في حق الرجال. أما النساء فعليهن أن يرخين الملابس حتى تستر أقدامهن؛ لأنهن عورة؛ فلا يجوز للرجل أن يتشبه بالنساء في إرخاء الثياب ولا في غير ذلك.
ومما يجب التنبيه عليه أن كثيرا من الناس قد يتساهل بالصلاة وهي عمود الإسلام، وأهم الفرائض بعد الشهادتين. فالواجب العناية بها والمحافظة عليها في أوقاتها وأداء الرجال لها مع إخوانهم في بيوت الله. وكثيرا من الناس قد يصلي في البيت وربما صلى وقتا دون وقت، وهذا خطأ عظيم ومنكر خطير، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وقال عليه الصلاة والسلام: بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه. وقد همَّ عليه الصلاة والسلام أن يحرق على من تخلف عن الصلاة في الجماعة بيوتهم فقال عليه الصلاة والسلام: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم متفق عليه.
وهذا يدل على تعين أداء الصلاة بالجماعة في بيوت الله عز وجل وأن من تخلف عنها يستحق العقوبة، ويقول عليه الصلاة والسلام: من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر أخرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم بإسناد على شرط مسلم.
وسئل ابن عباس عن العذر فقال: خوف أو مرض. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أعمى قال يا رسول الله ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء للصلاة؟ قال نعم قال: فأجب فكيف يجوز بعد هذا لمن يخاف الله ويرجوه أن يصلي في بيته ويتشبه بأهل النفاق الذين قال فيهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا [النساء:142] وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا متفق على صحته. وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (لقد رأيتنا وما يتخلف عنها - يعني الصلاة في الجماعة - إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يعني من الصحابة يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) أخرجه مسلم في صحيحه.
وقد قال الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] ويقول سبحانه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] ويقول عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].
ومن أهم الأمور في الصلاة الخشوع فيها والإقبال عليها بالقلب والقالب حتى يؤديها المصلى خاشعا مطمئنا خاضعا لربه محضرا قلبه بين يديه سبحانه وتعالى يرجو رحمته ويخشى عقابه، لا ينقرها كالمنافقين ولا يذهب قلبه ها هنا وها هنا، بل يجمع قلبه على الصلاة حتى يفرغ منها ويستحضر أنه بين يدي الله عز وجل يرجو رحمته ويخشى عقابه. يقول الله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2] ثم ذكر صفات جليلة للمؤمنين ثم قال في آخرها: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9-11] ولا يجوز للمسلم ولا للمسلمة التشبه بأعداء الله المنافقين في التساهل بالصلاة والتثاقل عنها وعدم الطمأنينة فيها، بل الواجب العناية بها والمحافظة عليها في الجماعة في أوقاتها كما شرع الله وكما أوجب سبحانه، وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام والتابعين لهم بإحسان.
أما زكاة المال فهي من أعظم الفرائض وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. فالواجب العناية بأدائها وصرفها في أهلها المستحقين لها.
وهكذا صوم رمضان تجب العناية به في وقته والمحافظة عليه وهو الركن الرابع من أركان الإسلام الخمسة، وتجب صيانة الصيام عما حرم الله حتى يؤديه العبد كما شرع الله، وحتى تكفر به خطاياه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه متفق على صحته.
وهكذا الحج لمن استطاع السبيل إليه. فالواجب على كل مسلم ومسلمة البدار بحج بيت الله الحرام مرة في العمر مع الاستطاعة لقول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الآية [آل عمران:97] وهو من أسباب المغفرة وتكفير الذنوب ودخول الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وقال: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه متفق على صحتهما.
ومن أهم الفرائض بعد أركان الإسلام الخمسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من صفات المؤمنين والمؤمنات وأعمالهم العظيمة كما في قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الآية.. [التوبة:71] وقدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصلاة في هذه الآية لعظم شأنه وكونه من المصلحة الهامة للمسلمين، كما قدم ذكره على الإيمان في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] فالواجب على جميع المؤمنين والمؤمنات التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر عليه؛ عملا بهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث، وعملا بقوله عز وجل: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]
فالواجب على كل مسلم رأى من أخيه تقصيرا في الصلاة أو ارتكابا لبعض المحرمات أن ينصحه بالرفق والأسلوب الحسن كما قال الله عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وقال صلى الله عليه وسلم: عليكم بالرفق، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شي إلا شانه، فإذا رأيت من أخيك تكاسلا وتثاقلا عن الصلاة في الجماعة فانصح له باللين وبالرفق وبالحكمة. وإذا رأيته سيئ الخلق مع إخوانه فانصح له حتى يتواضع ويحسن خلقه مع إخوانه، وإذا رأيته يعق والديه أو أحدهما أو علمت ذلك من طريق الثقات فانصحه وأمره بتقوى الله وببر والديه، أو رأيته يسيء إلى أقاربه أو إلى زوجته وأهل بيته فانصح له وقل: يا أخي اتق الله! خيركم خيركم لأهله، ووضح له أن الواجب النصيحة للأهل وإكرامهم وعدم إيذائهم بالكلام السيئ أو الفعل السيئ، وعليه أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وقال سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات ومن أعظم الفرائض في حق الرجال والنساء جميعا؛ لما دل عليه كتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم مثل قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان رواه مسلم في صحيحه. فهذا هو الواجب بين المؤمنين والمؤمنات.
وإذا تركوا هذا الواجب فشا بينهم المنكر وخشي عليهم من حلول العقوبات العامة -ولا حول ولا قوة إلا بالله-، لقول المصطفي عليه الصلاة والسلام: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده خرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويقول الله عز وجل في كتابه العظيم عن بني إسرائيل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تلا هذه الآية قال: "كلا والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه - وفي رواية الظالم - ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم" أخرجه أبو داود فنسأل الله السلامة والعافية من كل شر وفتنة.
ولا شك أن الأمر عظيم وجدير بالعناية من المسلمين؛ لأن التناصح بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات العظيمة ومن أسباب صلاح العامة والخاصة، وقد قال الله سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] فبين سبحانه أن هذه الصفات الأربع هي أخلاق الرابحين وهي صفات المؤمنين الناجين من عذاب الله في الدنيا والآخرة.
وقد حكم ربنا سبحانه أن غيرهم في خسران وأقسم على هذا بقوله: وَالْعَصْرِ، وهو الصادق سبحانه وإن لم يقسم جل وعلا، ولكنه سبحانه أقسم بالعصر لتأكيد المقام والتحذير من أسباب الخسران، والعصر هو الزمان؛ الليل والنهار، ويقال لهما: العصران ويقال لآخر النهار العصر، والمراد هذا الليل والنهار لأنهما محل أعمال العباد، وهو سبحانه يقسم بما شاء من خلقه كما أقسم بالسماء والطارق، وبالسماء ذات البروج، وبالشمس وضحاها، وبالضحى، وبالتين إلى غير ذلك، فهو يقسم سبحانه بما شاء من مخلوقاته الدالة على عظمته وكبريائه واستحقاقه للعبادة سبحانه وتعالى، أما العباد فليس لهم أن يحلفوا إلا بالله وحده سبحانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت، وقال عليه الصلاة والسلام: من حلف بغير الله فقد أشرك فليس لأحد أن يحلف إلا بالله وحده سبحانه وتعالى.
ولا يجوز الحلف بغير الله لا بالأنبياء ولا بالصالحين ولا بالملائكة ولا بالأمانة ولا بغير ذلك، بل يجب أن يكون القسم بالله سبحانه وتعالى، أما هو سبحانه فله أن يقسم بما شاء لكونه الحكم العدل المالك لكل شيء المتصرف في خلقه كيف يشاء ولا أحد يحجر عليه في ملكه، ولأن في إقسامه بما أقسم به من مخلوقاته دلائل على عظمته واستحقاق للعبادة دون كل ما سواه.
وقد أقسم سبحانه بالعصر أن الإنسان لفي خسر، فجميع الناس في خسارة ونقص وعواقب وخيمة، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ فهؤلاء هم الرابحون والسعداء. فجدير بنا أيها الإخوة أن نتخلق بهذه الأخلاق الإيمانية الصادقة، وأن نتواصى بها ونصبر عليها حتى يستقر حبها والإيمان بها في القلوب.
ومعلوم أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ولأهل السنة عبارة أخرى في هذا الباب وهي: أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وكلتا العبارتين صحيحة، فهو قول وعمل، يعني قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح وهو قول وعمل واعتقاد؛ قول باللسان وعمل بالجوارح واعتقاد بالقلب، فالجهاد في سبيل الله والصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال المشروعة كلها أعمال خيرية، وهي من شعب الإيمان التي يزيد بها الإيمان وينقص بنقصها عند أهل السنة والجماعة؛ وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بالإحسان.
فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد في سبيل الله وسائر الأعمال المشروعة كلها من شعب الإيمان التي يزيد بها الإيمان وينقص بنقصها. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" متفق على صحته.
فلا يربح الناس ولا يسعدون ولا تحصل لهم النجاة في الدنيا والآخرة إلا بهذه الصفات الأربع: الإيمان الصادق والعمل الصالح، وهو من الإيمان وإنما عطفه عليه لمزيد التأكيد والإيضاح ولأنه نتيجته وثمرته، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وكلاهما أيضا من الإيمان، وإنما نبّه عليهما سبحانه لعظم شأنهما ولشدة الحاجة إليها، فالرابحون هم الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا وآمنوا بأن الله معبودهم الحق، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبجميع المرسلين، وآمنوا بكتب الله وملائكته ورسله وآمنوا باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وآمنوا بكل ما أخبر الله به ورسوله.
هؤلاء هم الناجون والرابحون، ثم قال بعد هذا: وتواصوا بالحق، وهذه صفة ثالثة، وهي من جملة العمل الصالح ومن جملة الإيمان ولكن الله سبحانه نبه عليه لعظم شأنه؛ لأن التواصي معناه التناصح والتعاون على الخير والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا من جملة التناصح والتواصي كما قال عليه الصلاة والسلام: الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
ثم ذكر سبحانه الخصلة الرابعة: وهي التواصي بالصبر لشدة الحاجة إليه.
فهكذا المؤمنون والرابحون والسعداء من الرجال والنساء يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيمانا صادقا مستقرا في القلوب، وقد أخلصوا لله في أعمالهم ووحدوه سبحانه وآمنوا به وبما أخبر به في كتابه، وبما أخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام وحققوا هذا الإيمان بالعمل الصالح. فأدوا الصلاة وأدوا الزكاة وصاموا وحجوا واجتهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إلى غير هذا من أعمال الإيمان.
ومن جملة ذلك الخصلة الثالثة التواصي بالحق وهو عمل من أعمال الإيمان، لكنه لما كان له شأن عظيم خصه بالذكر -كما تقدم- ليتناصح الناس وليتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر ويتعاونوا على البر والتقوى ويدعوا إلى الله ويرشدوا إليه، وهكذا الخصلة الرابعة: وهي التواصي بالصبر نبه عليها سبحانه لعظم شأنها وشدة الضرورة إليها؛ لأن الأمور كلها لا تحصل إلا بالله سبحانه ثم بالصبر.
فالواجب على أهل الإيمان الصبر على أداء الحق والكف عن الباطل والاستعانة بالله في ذلك، وبذلك يفوزون بالربح العظيم والعاقبة الحميدة والفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالعباد في أشد الحاجة والضرورة إلى الضراعة إلى الله وسؤاله الهداية. فإنه الهادي الموفق سبحانه وتعالى، فمن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالمؤمن والمؤمنة يضرعان إلى الله ويسألانه الهداية والتوفيق، ويعملان بإيمان صادق وإخلاص تام، وتواص بالحق وتواص بالصبر، كما قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وقال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] فالمؤمن يتضرع إلى الله والمؤمنة تتضرع إلى الله، ويسألانه سبحانه أن يوفقهما وأن يعينهما حتى يؤديا ما أوجب الله عليهما من الحقوق له سبحانه ولعباده.
فالإيمان كما تقدم بضع وسبعون شعبة، أعلاها وأفضلها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، كحجر أو شوك أو نحوهما. والحياء من الإيمان، وهو خلق كريم يقوم بالقلب، يمنع من سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم: الحياء لا يأتي إلا بخير، وفي لفظ آخر: الحياء خير كله خرجهما مسلم في صحيحه. أما ما يدعو إلى الجبن والضعف عن القيام بأمر الله والغيرة لدينه والنصح لعباده فإنه ليس بحياء ولكنه خور وضعف لا يليق بالمؤمن التخلق به.
هذا وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا وإياكم الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يجعلنا وإياكم من المسارعين إلى مراضيه، والمستقيمين على أمره، والمتحابين في جلاله والمتواصين بالحق والصبر عليه، كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويعيذهم من شرارهم، كما أسأله عز وجل أن يوفق حكومتنا لكل خير، وأن يعينها على كل خير ويصلح لها البطانة، وأن يجعلها موفقة في كل أعمالها وأقوالها وسيرتها، وأن ينفع بها البلاد والعباد وأن يكثر أعوانها في الخير، كما أسأله عز وجل أن يبارك في هذه المؤسسة وينفع بها المسلمين، وأن يعين القائمين عليها على كل خير، وأن ينفع بهم الأمة؛ إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان[1].
أما بعد: فإنني أحمد الله على ما يسره عز وجل من هذا اللقاء من إخوة في الله كرام وأبناء أعزاء في سبيل التعاون على البر والتقوى والتناصح في الحق والدعوة إلى الخير، وأسأله عز وجل أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلى كلمته ويخذل الأعداء.
ثم أشكر القائمين على هذه المؤسسة وعلى رأسهم سمو الأمير محمد بن فهد بن فيصل آل سعود على هذه الدعوة، وأسأل الله أن يجعل دعوته إلى هذا اللقاء مباركة، كما أسأله سبحانه أن يبارك في جهود الجميع وأن يصلح أعمالهم وأقوالهم وأن يمنحهم الفقه في الدين والصدق والصبر والمصابرة والاستقامة على الحق، وأن ينفع بجهودهم وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح المسلمين وسعادتهم في العاجل والآجل إنه خير مسئول.
أيها الإخوة في الله: أيها الأبناء الكرام: إن الله عز وجل قد بين في كتابه العظيم صفات المسلمين وأخلاق المؤمنين في مواضع كثيرة، وحث عليها ورغب فيها وأمر بها في مواضع، وأثنى على أهلها في مواضع، ووعدهم على ذلك الخير الكثير والعاقبة الحميدة والفوز بالجنة والكرامة، ومن ذلك قوله تعالى في آخر سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ الآيات [آل عمران:190، 191].
هذه الآيات العظيمات كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقرؤها إذا استيقظ من نومه عليه الصلاة والسلام إلى آخر السورة ويمسح النوم عن وجهه بعدها، ويرتل هذه الآيات ويرفع بصره إلى السماء وهو يقرأ هذه الآيات: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ والآيات بعدها.
وأولوا الألباب هم أولوا العقول الصحيحة، والألباب جمع لب وهو العقل الصحيح النير، وهم لصلاح عقولهم وسلامتها وصحتها وصفهم الله بهذه الصفات، وهي أنهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في هذه الآيات التي أوجدها سبحانه، ومنها خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، فإن آيات الله كثيرة، ومن جملتها خلق هذه السماوات في ارتفاعها وسعتها وخلق هذه الأرض في انبساطها وسعتها واستقرارها وما فيهما من الآيات العظيمات الكثيرات.
وهكذا اختلاف الليل والنهار من جملة آياته العظيمة سبحانه وتعالى، فلذا أخبر أن في ذلك آيات لأولي الألباب، ثم ذكر بعض أعمالهم: من ذكر الله قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم بالقلب واللسان والعمل، فيذكرون الله في قلوبهم محبة وتعظيما وخوفا ورجاء وخشية له سبحانه، وبألسنتهم بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والقراءة والدعاء والاستغفار وغير ذلك. ومن أعمالهم الصلاة ليلا ونهارا والتهجد بالليل والصدقات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير هذا من أعمالهم الصالحة. ثم ذكر أنهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض وما فيها من العجائب والغرائب والآيات العظيمة قائلين: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران:191] بل لحكمة عظيمة وغايات حميدة ثم يقولون: سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191] فأقروا أن الله سبحانه خلق هذا لحكمة أرادها وليس ذلك باطلا ولا عبثا، ثم سألوه أن يقيهم عذاب النار ونزهوه عما لا يليق به سبحانه وتعالى. وقال جل وعلا في آيات أخرى من أول سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4] هذه من صفات أهل الإيمان الكمل الخلص. وفي آيات أخرى في سورة التوبة يقول عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] وهذه صفات المؤمنين الصادقين من جنود الإسلام وغيرهم.
فالمؤمنون والمؤمنات حقا هذه صفاتهم وهذه أخلاقهم، فالواجب على جنود الإسلام أن يهتموا بهذه الصفات ويتخلقوا بها، لأنهم قدوة لغيرهم، ولأنها من أعظم أسباب النصر على الأعداء، ولأنهم معدون للجهاد في سبيل الله والرباط في ثغور البلاد، فهم أولى الناس بأن يتخلقوا بهذه الصفات ويستقيموا عليها. وبذلك يحققون نسبتهم إلى الإسلام على خير وجه.
والإسلام هو دين الله الذي بعث به جميع الرسل كما قال عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:19] وقال سبحانه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] وقال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] سمى سبحانه وتعالى دينه إسلاما لما فيه من الاستسلام لله والخضوع لأمره ونهيه والالتزام بطاعته والوقوف عند حدوده.
يقال في اللغة العربية: أسلم فلان لفلان إذا انقاد له، وأسلم العبد لله إذا انقاد لأمره وخضع لطاعته، فالإسلام خضوع لله وانقياد لأوامره وترك لنواهيه ووقوف عند حدوده سبحانه وتعالى.
وسمي إيمانا؛ لأن المسلم يفعل ذلك عن إيمانه بالله ورسوله لا عن رياء ولا عن سمعة ولا عن نفاق ولكنه يخضع لله ويسلم لله وينقاد لأوامره سبحانه ويقف عند حدوده عن إيمان وتصديق وطمأنينة وعلم، فيعلم أن الله واحد لا شريك له وهو رب السماوات والأرض وهو الخلاق العليم وهو مخلص لله معظم لحرمات الله مؤمن به سبحانه ربا وإلها وخالقا ورازقا ومعبودا بالحق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان.
فديننا يسمى إسلاما لما فيه من الانقياد لله والإخلاص له والذل له والتعظيم، ويسمى إيمانا لما يشتمل عليه من التصديق بأخبار الله ووحدانيته وأنه الإله الحق سبحانه وتعالى، وأنه المستحق للعبادة دون كل ما سواه مع الإيمان بما أمر به ونهى عنه، وما شرع لعباده وما أباح لهم وما حرم عليهم كل ذلك داخل في مسمى الإيمان وفي مسمى الإسلام، فيسمى إسلاما للانقياد لله وطاعة أوامره والوقوف عند حدوده، ويسمى إيمانا لما يشتمل عليه قلب المؤمن من التصديق المتضمن الانقياد للعمل الصالح والقول السديد. ولهذا لما سأل جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلا ثم قال عن الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره فذكر له أصول الإيمان التي ينبثق منها الإسلام والدين، وذكر له أصول الإسلام الظاهرة التي بني عليها وهي أركانه الخمسة المذكورة آنفا.
فالإسلام أركانه الظاهرة هذه الخمسة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، وهذه أركانه الظاهرة.
أما أركانه الباطنة فهي أصول الإيمان الستة التي ينبني عليها الإسلام في الباطن وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، فلا إسلام لمن لا إيمان له ولا إيمان لمن لا إسلام له، فلابد من هذا وهذا.
لابد من الإيمان الذي ينبثق عنه الإسلام والانقياد لله وأداء حقه، ولابد من الإسلام الذي هو تصديق بالأعمال ويدل على الإيمان المستقر في القلب ويشهد له بالصحة، حتى يخرج بذلك عن صفات المنافقين وأعمال المنافقين الذين يقولون بالأفواه ما ليس في القلوب، ويعملون بالظواهر خلاف ما في القلوب، كما قال عنهم سبحانه في كتابه العظيم في سورة النساء: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:142، 143] فليس لهم ثبات بل هم مذبذبون حائرون، تارة مع المؤمنين وتارة مع الكافرين والعياذ بالله.
وقال عنهم جل وعلا في أول سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10] والمعنى: أنهم يقولون باللسان ويعملون في الظاهر ما ليس في القلوب فصاروا كاذبين. وقرئ: بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ من التكذيب لأنهم يقرون في الظاهر بشعائر الإسلام ولكنهم في الباطن لا يقرون بذلك؛ بل يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام ويكذبون ما جاء به، فلهذا أخبر الله عنهم أنهم تحت الكفار في النار يوم القيامة، فقال تعالى عنهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145] فأهل الإيمان الصادق والإسلام الصادق هم المؤمنون حقا، وهم الذين جمعوا بين الخضوع لله والذل له سبحانه والإسلام له والجهاد في سبيله والإخلاص له، مع الإيمان الصادق في القلوب الذي ينتج عنه ويتفرع عنه الأقوال الصادقة والأعمال الصالحة وأعمال القلوب من خوف ورجاء وإخلاص ومحبة وشوق إلى الله وإلى جنته وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى.
فالمؤمن الصادق هو المذكور في قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وفي قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ والآية بعدها [الأنفال:2].
فجدير بنا أيها الإخوة أن نحقق هذه الصفات العظيمة، وأن نتخلق بها وعلى رأسها الإخلاص لله، فإن شهادة أن لا الله إلا الله توجب إخلاص العبادة لله وحده، وصرف العبادة له وحده دون كل ما سواه، وأن يكون القلب معمورا بمحبته والإخلاص له والشوق إليه والأنس بمناجاته والذكر له تعالى كما قال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] وقال عز وجل: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3] وقال سبحانه وتعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].
هذا الإخلاص أساس كلمة التوحيد لا إله إلا الله أي لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي وتثبت، تنفي العبادة وهي الألوهية عن غير الله وتثبتها له وحده دون ما سواه، فلا يستقيم دين ولا يصح ولا يثبت ولا يسمى المرء مسلما ولا مؤمنا إلا بالإخلاص لله عز وجل وتخصيصه بالعبادة سبحانه وتعالى، ثم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والشهادة بأنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وهذه الشهادة لابد لها من ثمرة ونتيجة، وهي متابعة شرعه والاستقامة على دينه والوقوف عند حدوده التي جاء بها عليه الصلاة والسلام.
وهاتان الشهادتان هما أصل الدين، وهما أساس الملة، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومتى صدق فيهما العبد وأدى حقهما فإنه يؤدي ما أوجب الله من الأقوال والأعمال وينتهي عما حرم الله من القول والعمل، ويقف عند حدود الله، ومتى فرط في شيء من ذلك صار نقصا في إيمانه وتوحيده وضعفا في إيمانه وتوحيده، فعلم من ذلك أن هاتين الشهادتين لهما حقوق وهي أداء فرائض الله وترك محارم الله والوقوف عند حدود الله كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وقد احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذا الحديث على قتال مانعي الزكاة، وقال: (إن الزكاة من حق لا إله إلا الله)، فسلم له الصحابة رضي الله عنهم وتابعوه في جهادهم.
وفي آية براءة بيان تلك الحقوق وهي قوله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] وهؤلاء المؤمنون والمؤمنات هم المصدقون بالله والموحدون له، الذين أقروا له بالتوحيد والإخلاص له وحده، وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم بعضهم أولياء بعض، فهم فيما بينهم أولياء متحابون في الله متناصحون فيه متواصون بالحق والصبر عليه متعاونون على البر والتقوى. فهذه أوصاف المؤمنين والمؤمنات، وهذه أخلاقهم العظيمة لا غل ولا حقد ولا حسد ولا غش ولا خيانة ولا شهادة بالزور ولا كذب فيما بينهم، لا يحسد بعضهم بعضا ولا يغش بعضهم بعضا، ولا يشهدون بالزور ولا يظلمون أحدا، ولا يخذلون أخاهم في الله، ولا يخونون الأمانة بل هم إخوة في الله صادقون. هكذا المؤمنون والمؤمنات الذين عمرت قلوبهم بالإيمان واستقر حب الله في قلوبهم.
فإذا رأيت من نفسك خيانة لأخيك أو رأت المرأة المؤمنة في نفسها خيانة لأختها في الله أو لأخيها في الله فذلك نقص في الإيمان، ومن ضعف الإيمان ومن ضعف الإخلاص لله عز وجل، إذ لو كان الإيمان كاملا لما وقع هذا النقص الذي هو خيانة أو ظلم أو غير ذلك مما حرم الله عز وجل، فالحسد والخيانة والغش في المعاملة والشهادة بالزور والظلم للعباد كل ذلك نقص في الإيمان وضعف في الإخلاص والإسلام.
وهكذا ما سوى ذلك من سائر المعاصي، وقد يفضي ذلك إلى زوال الإيمان بالكلية كترك الصلاة فإنها كفر أكبر وردِّة عن الإسلام وإن لم يجحد التارك وجوبها في أصح قولي العلماء، وأما في جحد وجوبها فإنه يكفر بالإجماع من العلماء.
وهكذا لو جحد وجوب الزكاة أو جحد وجوب صيام رمضان أو جحد وجوب الحج إلى بيت الله الحرام مع الاستطاعة أو جحد مشروعية الجهاد في سبيل الله أو جحد شيئا من الأمور الظاهرة الإسلامية المعلومة من الدين بالضرورة فإنه يكون بذلك كافرا ومرتدا بإجماع المسلمين.
وهكذا لو جحد بعض ما حرم الله من المحرمات المعروفة من الدين بالضرورة؛ كأن يقول إن الزنا حلال أو الخمر حلال أو عقوق الوالدين حلال أو الربا حلال؛ فإن هذا وأمثاله كفر وردة عن الإسلام والعياذ بالله من ذلك. وبذلك يعلم أن المعاصي والمخالفات منها ما يزيل الإيمان بالكلية ويكون صاحبها مرتدا مفارقا للإسلام كما سمعتم في الأمثلة؛ وقد بين ذلك أهل العلم في كل مذهب من المذاهب الأربعة، وعقدوا لذلك بابا خاصا سموه باب حكم المرتد، وهو باب عظيم تنبغي مراجعته والعناية به.
ومنها ما يضعف الإيمان ويجعل صاحبه ناقص الإيمان كتعاطي بعض المحرمات من المسكر وعقوق الوالدين أو أحدهما، وتعاطي الربا أو الغيبة والنميمة أو الحسد والبغي والظلم من دون استحلال لذلك. فكل ذلك نقص في الإيمان وضعف في الدين. والإيمان يزيد وينقص عند أهل السنة والجماعة يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. والضعف يختلف فيعظم بكثرة المعاصي ويقل بقلتها.
ومن ذلك تعاطي ما حرم الله من الإسبال في الملابس وحلق اللحية وغير ذلك مما حرم الله، وكثير من الناس يتهاون بهذه الأمور ولا يبالي بملابسه ولا بلحيته بل يحلقها أو يقصها ويسبل ثيابه، وكل ذلك من المنكرات التي تضعف الإيمان وتنقص الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس رواه مسلم في صحيحه، والأحاديث في النهي عن التشبه بالكفار والأمر بمخالفتهم كثيرة.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم بيّن كل خير ودعا إلى كل خير وحذر من كل شر، وقال عليه الصلاة السلام: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار خرجه البخاري في صحيحه. فالإزار والسراويل والقميص والبشت كلها يجب ألا تنزل عن الكعبين فما نزل عن ذلك ففيه الوعيد المذكور في حق الرجال. أما النساء فعليهن أن يرخين الملابس حتى تستر أقدامهن؛ لأنهن عورة؛ فلا يجوز للرجل أن يتشبه بالنساء في إرخاء الثياب ولا في غير ذلك.
ومما يجب التنبيه عليه أن كثيرا من الناس قد يتساهل بالصلاة وهي عمود الإسلام، وأهم الفرائض بعد الشهادتين. فالواجب العناية بها والمحافظة عليها في أوقاتها وأداء الرجال لها مع إخوانهم في بيوت الله. وكثيرا من الناس قد يصلي في البيت وربما صلى وقتا دون وقت، وهذا خطأ عظيم ومنكر خطير، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وقال عليه الصلاة والسلام: بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه. وقد همَّ عليه الصلاة والسلام أن يحرق على من تخلف عن الصلاة في الجماعة بيوتهم فقال عليه الصلاة والسلام: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم متفق عليه.
وهذا يدل على تعين أداء الصلاة بالجماعة في بيوت الله عز وجل وأن من تخلف عنها يستحق العقوبة، ويقول عليه الصلاة والسلام: من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر أخرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم بإسناد على شرط مسلم.
وسئل ابن عباس عن العذر فقال: خوف أو مرض. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أعمى قال يا رسول الله ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء للصلاة؟ قال نعم قال: فأجب فكيف يجوز بعد هذا لمن يخاف الله ويرجوه أن يصلي في بيته ويتشبه بأهل النفاق الذين قال فيهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا [النساء:142] وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا متفق على صحته. وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (لقد رأيتنا وما يتخلف عنها - يعني الصلاة في الجماعة - إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يعني من الصحابة يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) أخرجه مسلم في صحيحه.
وقد قال الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] ويقول سبحانه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] ويقول عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].
ومن أهم الأمور في الصلاة الخشوع فيها والإقبال عليها بالقلب والقالب حتى يؤديها المصلى خاشعا مطمئنا خاضعا لربه محضرا قلبه بين يديه سبحانه وتعالى يرجو رحمته ويخشى عقابه، لا ينقرها كالمنافقين ولا يذهب قلبه ها هنا وها هنا، بل يجمع قلبه على الصلاة حتى يفرغ منها ويستحضر أنه بين يدي الله عز وجل يرجو رحمته ويخشى عقابه. يقول الله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2] ثم ذكر صفات جليلة للمؤمنين ثم قال في آخرها: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9-11] ولا يجوز للمسلم ولا للمسلمة التشبه بأعداء الله المنافقين في التساهل بالصلاة والتثاقل عنها وعدم الطمأنينة فيها، بل الواجب العناية بها والمحافظة عليها في الجماعة في أوقاتها كما شرع الله وكما أوجب سبحانه، وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام والتابعين لهم بإحسان.
أما زكاة المال فهي من أعظم الفرائض وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. فالواجب العناية بأدائها وصرفها في أهلها المستحقين لها.
وهكذا صوم رمضان تجب العناية به في وقته والمحافظة عليه وهو الركن الرابع من أركان الإسلام الخمسة، وتجب صيانة الصيام عما حرم الله حتى يؤديه العبد كما شرع الله، وحتى تكفر به خطاياه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه متفق على صحته.
وهكذا الحج لمن استطاع السبيل إليه. فالواجب على كل مسلم ومسلمة البدار بحج بيت الله الحرام مرة في العمر مع الاستطاعة لقول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الآية [آل عمران:97] وهو من أسباب المغفرة وتكفير الذنوب ودخول الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وقال: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه متفق على صحتهما.
ومن أهم الفرائض بعد أركان الإسلام الخمسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من صفات المؤمنين والمؤمنات وأعمالهم العظيمة كما في قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الآية.. [التوبة:71] وقدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصلاة في هذه الآية لعظم شأنه وكونه من المصلحة الهامة للمسلمين، كما قدم ذكره على الإيمان في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] فالواجب على جميع المؤمنين والمؤمنات التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر عليه؛ عملا بهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث، وعملا بقوله عز وجل: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]
فالواجب على كل مسلم رأى من أخيه تقصيرا في الصلاة أو ارتكابا لبعض المحرمات أن ينصحه بالرفق والأسلوب الحسن كما قال الله عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وقال صلى الله عليه وسلم: عليكم بالرفق، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شي إلا شانه، فإذا رأيت من أخيك تكاسلا وتثاقلا عن الصلاة في الجماعة فانصح له باللين وبالرفق وبالحكمة. وإذا رأيته سيئ الخلق مع إخوانه فانصح له حتى يتواضع ويحسن خلقه مع إخوانه، وإذا رأيته يعق والديه أو أحدهما أو علمت ذلك من طريق الثقات فانصحه وأمره بتقوى الله وببر والديه، أو رأيته يسيء إلى أقاربه أو إلى زوجته وأهل بيته فانصح له وقل: يا أخي اتق الله! خيركم خيركم لأهله، ووضح له أن الواجب النصيحة للأهل وإكرامهم وعدم إيذائهم بالكلام السيئ أو الفعل السيئ، وعليه أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وقال سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات ومن أعظم الفرائض في حق الرجال والنساء جميعا؛ لما دل عليه كتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم مثل قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان رواه مسلم في صحيحه. فهذا هو الواجب بين المؤمنين والمؤمنات.
وإذا تركوا هذا الواجب فشا بينهم المنكر وخشي عليهم من حلول العقوبات العامة -ولا حول ولا قوة إلا بالله-، لقول المصطفي عليه الصلاة والسلام: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده خرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويقول الله عز وجل في كتابه العظيم عن بني إسرائيل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تلا هذه الآية قال: "كلا والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه - وفي رواية الظالم - ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم" أخرجه أبو داود فنسأل الله السلامة والعافية من كل شر وفتنة.
ولا شك أن الأمر عظيم وجدير بالعناية من المسلمين؛ لأن التناصح بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات العظيمة ومن أسباب صلاح العامة والخاصة، وقد قال الله سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] فبين سبحانه أن هذه الصفات الأربع هي أخلاق الرابحين وهي صفات المؤمنين الناجين من عذاب الله في الدنيا والآخرة.
وقد حكم ربنا سبحانه أن غيرهم في خسران وأقسم على هذا بقوله: وَالْعَصْرِ، وهو الصادق سبحانه وإن لم يقسم جل وعلا، ولكنه سبحانه أقسم بالعصر لتأكيد المقام والتحذير من أسباب الخسران، والعصر هو الزمان؛ الليل والنهار، ويقال لهما: العصران ويقال لآخر النهار العصر، والمراد هذا الليل والنهار لأنهما محل أعمال العباد، وهو سبحانه يقسم بما شاء من خلقه كما أقسم بالسماء والطارق، وبالسماء ذات البروج، وبالشمس وضحاها، وبالضحى، وبالتين إلى غير ذلك، فهو يقسم سبحانه بما شاء من مخلوقاته الدالة على عظمته وكبريائه واستحقاقه للعبادة سبحانه وتعالى، أما العباد فليس لهم أن يحلفوا إلا بالله وحده سبحانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت، وقال عليه الصلاة والسلام: من حلف بغير الله فقد أشرك فليس لأحد أن يحلف إلا بالله وحده سبحانه وتعالى.
ولا يجوز الحلف بغير الله لا بالأنبياء ولا بالصالحين ولا بالملائكة ولا بالأمانة ولا بغير ذلك، بل يجب أن يكون القسم بالله سبحانه وتعالى، أما هو سبحانه فله أن يقسم بما شاء لكونه الحكم العدل المالك لكل شيء المتصرف في خلقه كيف يشاء ولا أحد يحجر عليه في ملكه، ولأن في إقسامه بما أقسم به من مخلوقاته دلائل على عظمته واستحقاق للعبادة دون كل ما سواه.
وقد أقسم سبحانه بالعصر أن الإنسان لفي خسر، فجميع الناس في خسارة ونقص وعواقب وخيمة، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ فهؤلاء هم الرابحون والسعداء. فجدير بنا أيها الإخوة أن نتخلق بهذه الأخلاق الإيمانية الصادقة، وأن نتواصى بها ونصبر عليها حتى يستقر حبها والإيمان بها في القلوب.
ومعلوم أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ولأهل السنة عبارة أخرى في هذا الباب وهي: أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وكلتا العبارتين صحيحة، فهو قول وعمل، يعني قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح وهو قول وعمل واعتقاد؛ قول باللسان وعمل بالجوارح واعتقاد بالقلب، فالجهاد في سبيل الله والصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال المشروعة كلها أعمال خيرية، وهي من شعب الإيمان التي يزيد بها الإيمان وينقص بنقصها عند أهل السنة والجماعة؛ وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بالإحسان.
فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد في سبيل الله وسائر الأعمال المشروعة كلها من شعب الإيمان التي يزيد بها الإيمان وينقص بنقصها. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" متفق على صحته.
فلا يربح الناس ولا يسعدون ولا تحصل لهم النجاة في الدنيا والآخرة إلا بهذه الصفات الأربع: الإيمان الصادق والعمل الصالح، وهو من الإيمان وإنما عطفه عليه لمزيد التأكيد والإيضاح ولأنه نتيجته وثمرته، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وكلاهما أيضا من الإيمان، وإنما نبّه عليهما سبحانه لعظم شأنهما ولشدة الحاجة إليها، فالرابحون هم الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا وآمنوا بأن الله معبودهم الحق، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبجميع المرسلين، وآمنوا بكتب الله وملائكته ورسله وآمنوا باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وآمنوا بكل ما أخبر الله به ورسوله.
هؤلاء هم الناجون والرابحون، ثم قال بعد هذا: وتواصوا بالحق، وهذه صفة ثالثة، وهي من جملة العمل الصالح ومن جملة الإيمان ولكن الله سبحانه نبه عليه لعظم شأنه؛ لأن التواصي معناه التناصح والتعاون على الخير والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا من جملة التناصح والتواصي كما قال عليه الصلاة والسلام: الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
ثم ذكر سبحانه الخصلة الرابعة: وهي التواصي بالصبر لشدة الحاجة إليه.
فهكذا المؤمنون والرابحون والسعداء من الرجال والنساء يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيمانا صادقا مستقرا في القلوب، وقد أخلصوا لله في أعمالهم ووحدوه سبحانه وآمنوا به وبما أخبر به في كتابه، وبما أخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام وحققوا هذا الإيمان بالعمل الصالح. فأدوا الصلاة وأدوا الزكاة وصاموا وحجوا واجتهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إلى غير هذا من أعمال الإيمان.
ومن جملة ذلك الخصلة الثالثة التواصي بالحق وهو عمل من أعمال الإيمان، لكنه لما كان له شأن عظيم خصه بالذكر -كما تقدم- ليتناصح الناس وليتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر ويتعاونوا على البر والتقوى ويدعوا إلى الله ويرشدوا إليه، وهكذا الخصلة الرابعة: وهي التواصي بالصبر نبه عليها سبحانه لعظم شأنها وشدة الضرورة إليها؛ لأن الأمور كلها لا تحصل إلا بالله سبحانه ثم بالصبر.
فالواجب على أهل الإيمان الصبر على أداء الحق والكف عن الباطل والاستعانة بالله في ذلك، وبذلك يفوزون بالربح العظيم والعاقبة الحميدة والفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالعباد في أشد الحاجة والضرورة إلى الضراعة إلى الله وسؤاله الهداية. فإنه الهادي الموفق سبحانه وتعالى، فمن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالمؤمن والمؤمنة يضرعان إلى الله ويسألانه الهداية والتوفيق، ويعملان بإيمان صادق وإخلاص تام، وتواص بالحق وتواص بالصبر، كما قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وقال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] فالمؤمن يتضرع إلى الله والمؤمنة تتضرع إلى الله، ويسألانه سبحانه أن يوفقهما وأن يعينهما حتى يؤديا ما أوجب الله عليهما من الحقوق له سبحانه ولعباده.
فالإيمان كما تقدم بضع وسبعون شعبة، أعلاها وأفضلها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، كحجر أو شوك أو نحوهما. والحياء من الإيمان، وهو خلق كريم يقوم بالقلب، يمنع من سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم: الحياء لا يأتي إلا بخير، وفي لفظ آخر: الحياء خير كله خرجهما مسلم في صحيحه. أما ما يدعو إلى الجبن والضعف عن القيام بأمر الله والغيرة لدينه والنصح لعباده فإنه ليس بحياء ولكنه خور وضعف لا يليق بالمؤمن التخلق به.
هذا وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا وإياكم الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يجعلنا وإياكم من المسارعين إلى مراضيه، والمستقيمين على أمره، والمتحابين في جلاله والمتواصين بالحق والصبر عليه، كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويعيذهم من شرارهم، كما أسأله عز وجل أن يوفق حكومتنا لكل خير، وأن يعينها على كل خير ويصلح لها البطانة، وأن يجعلها موفقة في كل أعمالها وأقوالها وسيرتها، وأن ينفع بها البلاد والعباد وأن يكثر أعوانها في الخير، كما أسأله عز وجل أن يبارك في هذه المؤسسة وينفع بها المسلمين، وأن يعين القائمين عليها على كل خير، وأن ينفع بهم الأمة؛ إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان[1].
- محاضرة ألقيت بالمؤسسة العامة للصناعات الحربية بالخرج في حدود عام 1404هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 5/ 19).