أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، نبينا محمد بن عبدالله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإني أحييكم أيها الإخوة وأيها الأبناء بتحية الإسلام فأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم إني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا ومفيدا لنا جميعا وموصلا لما يرضيه ويقرب إليه، قاضيا على كثير من أسباب الفساد والبلاء، وعونا على ظهور الحق ودرء الباطل. ثم إني أشكر القائمين على هذا المشروع على دعوتهم لي للتحدث إليكم والإجابة عن أسئلتكم، وأسأله سبحانه أن يجزيهم على عملهم خيرا، وأن يجعلنا وإياهم من الهداة المهتدين، وأن يوفقنا جميعا لما فيه إظهار الحق وإدحاض الباطل، وإجابة السائلين بما يوافق الصواب للحق الذي يرضي المولى عز وجل.
والعنوان كما سمعتم (أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة)، هذا هو عنوان كلمتي التي ألقيها بين أيدي إخواني وأبنائي، ولا ريب أن العلم هو مفتاح كل خير، وهو الوسيلة إلى أداء ما أوجب الله وترك ما حرم الله، فإن العمل نتيجة العلم لمن وفقه الله، وهو مما يؤكد العزم على كل خير، فلا إيمان ولا عمل ولا كفاح ولا جهاد إلا بالعلم، فالأقوال والأعمال التي بغير علم لا قيمة لها ولا نفع فيها، بل تكون لها عواقب وخيمة، وقد تجر إلى فساد كبير.
وإنما يعبد الله ويؤدي حقه وينشر دينه وتحارب الأفكار الهدامة والدعوات المضللة والأنشطة المنحرفة بالعلم النافع، المتلقى عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ، وهكذا إنما تؤدى الفرائض بالعلم، ويتقي الله بالعلم، وبه تكشف الحقائق الموجودة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد -عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا في كتابه العزيز: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:33] فجميع ما يقدمه أهل الباطل وما يلبسون به في دعواتهم المضللة وفي توجيهاتهم لغيرهم بأنواع الباطل، وفي تشبيههم غيرهم فيما جاء عن الله عز وجل وعن رسول الله ﷺ،  كله يندحض ويكشف بما جاء عن الله ورسوله بعبارة أوضح، وبيان أكمل، وبحجة قيمة تملأ القلوب وتؤيد الحق، وما ذاك إلا لأن العلم المأخوذ من الكتاب العزيز والسنة المطهرة علم صدر عن حكيم عليم، يعلم أحوال العباد ويعلم مشكلاتهم ويعلم ما في نفوسهم من أفكار خبيثة أو سليمة، ويعلم بما يأتي به أهل الباطل فيما يأتي من الزمان، كل ذلك يعلمه سبحانه، وقد أنزل كتابه لإيضاح الحق وكشف الباطل، وإقامة الحجج على ما دعت إليه رسله -عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسل رسوله محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق، وأنزل كتابه الكريم تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
وإنما يعمل أهل الباطل وينشطون عند اختفاء العلم وظهور الجهل، وخلو الميدان ممن يقول: قال الله وقال الرسول، فعند ذلك يستأسدون ضد غيرهم وينشطون في باطلهم، لعدم وجود من يخشونهم من أهل الحق والإيمان وأهل البصيرة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه كل شيء إجمالا في مواضع، وتفصيلا في مواضع أخرى، قال عز وجل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] وهذا كلام الحكيم العليم الذي لا أصدق منه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] وأوضح سبحانه في قوله: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89] أنه مع كونه تبيانا لكل شيء فيه هدى ورحمة وبشرى. فهو بيان للحق وإيضاح لسبله ومناهجه ودعوة إليه بأوضح عبارة وأبين إشارة، ومع ذلك فهو هدى للعالمين في كل ما يحتاجون إليه في ذكر ربهم والتوجه إلى ما يرضيه، والبعد عن مساخطه، ويبين لهم طريق النجاح وسبيل السعادة مع كونه رحمة في بيانه وإرشاده، وهدى وإحسانا وبشرى، وتطمينا للقلوب بما يوضح من الحقائق ويرشد إليه من البصائر، التي تخضع لها القلوب وتطمئن إليها النفوس، وتنشرح لها الصدور بوضوحها وظهورها، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57] ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهََ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونََ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59] ويقول سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10] ولولا أن كتابه عز وجل وسنة نبيه ﷺ فيهما الهداية والكفاية لما رد الناس إليهما، ولكان رده إليهما غير مفيد، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما رد الناس إليهما عند التنازع والخلاف لما فيهما من الهداية، والبيان الواضح، وحل المشكلات والقضاء على الباطل، ثم ذكر أن هذا شرط للإيمان فقال سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ثم ذكر أنه خير للعباد في العاجل والآجل، وأحسن عاقبة، يعني أن ردهم ما يتنازعون فيه إلى الله والرسول خير لهم في الدنيا والآخرة وأحسن لهم في العاقبة.
 ومن هذا يعلم أن في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الأمين حلا لجميع المشكلات، وبيانا لكل ما يحتاجه الناس في دينهم، وفي القضاء على خصوماتهم، كما أن في ذلك النصر للداعي إلى الحق والقضاء على خصمه بالحجة الواضحة، ولهذا يقول سبحانه: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:33] والمثل يعم كل ما يقدمون من شبهة يزعمونها حجة، ومن مذهب يدعونه صحيحا، ومن دعوة يزعمون أنها مفيدة، كل ذلك يكشفه هذا الكتاب وما جاءت به سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام.
فجميع ما يقدمونه من مشكلات وشبهات ودعوات مضللة ومذاهب هدامة، كل ذلك يكشفه العلم بهذا الكتاب وسنة الرسول -عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن الأفكار الهدامة والمبادئ الضالة والمذاهب المنحرفة كثيرة، والملبسون للحق بالباطل لا يحصون، وكذلك دعاة الباطل والمؤلفون في الصد عن سبيل الله لا يحصيهم إلا الله، وهم يلبسون على الناس باطلهم بما يحرفون من الكلم.
 ولقد كثر الخطباء والمتكلمون في الإذاعات وفي التلفاز، وفي كل مجال في الصحافة والمجتمعات، وفي كل نافذة، كل يدعو إلى نحلته وينادي إلى فكرته ويمني غيره ويدعوة إلى الباطل، ولا مخرج من هذه المحن ولا طريق للتخلص منها والقضاء عليها إلا بعرضها على هذا الميزان العظيم الكتاب والسنة، ففي عرضها على هذا الميزان العظيم تمحيصها وبيان حقها من باطلها، ورشدها من غيها، وهداها من ضلالها، وبذلك ينتصر الحق وأهله، ويندحر الباطل وأهله، فإذا تقدم دعاة الشيوعية والاشتراكية المنكرون لوجود الله والقائلون: (لا إله والحياة مادة) المكذبون بالحق والمنكرون لكتاب الله وما ورد فيه من الأدلة النقلية والعقلية على وجود الباري وقدرته العظيمة وعلمه الشامل، فارجعوا إلى كتاب الله واقرؤا من آياته ما يرشد إلى دلائل وجوده سبحانه، وأنه الصانع الحكيم لهذه الأشياء والموجد لها والخالق لها سبحانه.
وقد أرشد سبحانه في كتابه الكريم إلى ذلك، وبين أنه رب العالمين، وأنه الخلاق العليم، وأنه خالق كل شيء، وأنه ينصر الحق، ويقيم الأدلة على ذلك في مواضع كثيرة من كتابه؛ ليعتمد عليها طالب الحق، يقول سبحانه: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] ثم يقول سبحانه بعدها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] ويقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22] ويقول: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:99] ويقول سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [الإسراء:23] ويقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] إلى آيات كثيرة يرشد بها سبحانه أنه رب العباد، وأنه رب العالمين، وأن الرسل جاءت بهذا، كما قال جل وعلا: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُواا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ويقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ويقول سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوََ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62]، ويقول جل وعلا: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 2-3] ويقول سبحانه: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62] ويقول سبحانه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3]
ثم يبين الأدلة في مواضع كثيرة، عندما يتأملها المؤمن يعرف أن الدليل النقلي مؤيد بالدليل العقلي المشاهد المحسوس، ولهذا ذكر سبحانه بعد قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الحجة على ذلك فقال: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] والمعنى أن هذا الخالق لنا هو المستحق أن نعبده لكونه خلقنا، ولأنه يرعى مصالح العباد، وهذا أمر معلوم بالفطر السليمة والعقول الصحيحة، فهم لم يخلقوا أنفسهم فقد خلقهم بارؤهم، فالله هو الخالق بالأدلة النقليه والعقلية، ثم قال سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] بين سبحانه وتعالى كيف تدرك هذه الأشياء المشاهدة المخلوقة التي يدركها العقل ويدركها كل إنسان، فجعل الأرض فراشا لنا ننام عليها، ونسير عليها، ونرعى المواشي عليها، ونحمل عليها، نزرع عليها الأشجار، ونأخذ منها المعادن إلى غير ذلك، ثم أنزل من السماء ماء من السحاب، أنزل المطر فأخرج به الثمرات لنا.
من الذي أنزل المطر؟ من الذي أخرج هذه الثمار التي يأكلها الناس والدواب مما زرعوا ومن غير ما زرعوا؟ كلها من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته العظيمة وأنه رب العالمين. أرض مستقرة أرساها ربنا بالجبال التي جعلها أوتادا لها، وجعلها ممهدة ساكنة نعيش عليها، ونطمئن نحن ودوابنا وسياراتنا فوقها، وتطير في فضائها طائراتنا، ونتمتع بجميع ما خلق فيها، والسماء كذلك خلقها فوقنا، وزينها بالكواكب السيارات والثوابت، وجعل فيها الشمس والقمر ليعلم العباد قدرة الخالق العظيم، والعلي الكبير الذي لا شريك له في ذلك سبحانه وتعالى.
ثم هذه المزروعات الكثيرة، والثمار المنوعة التي فيها المنافع الكثيرة، والمصالح العظيمة، مع اختلاف أشكالها وألوانها، وأحجامها وطعومها، ومنافعها إلى غير ذلك، هنا تظهر قدرة الله سبحانه واستحقاقه للعبادة، كما قال عز وجل: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۝ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:163، 164] فهو سبحانه يبين لنا في هذه الآيات التي نشاهدها ونراها ونحس بها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هذه السموات مع اتساعها وارتفاعها وما فيها من عجائب وغرائب، وهذه الأرض مع سعتها وانبساطها وما فيها من أنهار وجبال وغير ذلك، ثم اختلاف الليل والنهار وما أنزل من السماء من ماء وما أخرج من البحر من أشياء تنفع الناس، وما يحمله ماؤها من البواخر التي أمسكها على ظهر هذا الماء تحمل حاجات الناس، وتحملهم أيضا من بلاد إلى بلاد. ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض.
هذه الآيات العظيمة لمن تدبرها ترشده إلى وجود بارئها وخالقها الذي خلقه وأوجده من العدم، وأنه رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن هذه المخلوقات لا قوام لها إلا به سبحانه، كما قال عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25]  فهذه الآيات التي نشاهدها والدلائل التي نقرؤها ونعلمها إنما ينتفع بها ذوو العقول السليمة والبصائر المستقيمة، ولهذا قال سبحانه في آخر الآية: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
والرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم أصدق الناس، وقد أقاموا الأدلة والمعجزات على صدقهم، وقد أخبرونا بهذا، وأن هذا صنع الله، وأنه ربنا وخالقنا، وأنه الرحمن، وأنه الرحيم، وأنه السلام، وأنه القدوس، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى، كما أخبر جل وعلا في كتابه العظيم أنه الحكيم العليم القادر على كل شيء جل وعلا، وفي هذا أبلغ رد على دعاة الشيوعية والدهرية والاشتراكية وغيرهم ممن أنكروا وجود الله، فهل هذه المخلوقات وهل هذه الموجودات تخلق نفسها وتنشيء نفسها؟ هل يقول هذا عاقل؟ بل كوب الماء لو قلت لعاقل إنه خلق نفسه لقال إنك مجنون، وهكذا كوب الشاي وكوب القهوة والملعقة والعصا، كلها معروف من صنعها فكيف بهذا العالم العظيم الذي أنشأه الخالق سبحانه من العدم، وجعل فيه من الآيات والمنافع ما لا يحصى، فهو المبدع، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم هذا الخالق قد بين أسماء تليق بذاته، وبينت الرسل صفاته وأسماءه، ودلوا عليه وأرشدوا إليه، وقامت الدلائل على صدقهم، وعلى رأسهم نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام، أصدق الأنبياء وأفضلهم، قد بعثه الله بكتابه العظيم، والرسالة العامة التي أوضح بها كل شيء، ثم يأتي دعاة الماسونية الذين يريدون أن يردوا الناس إلى الأحوال البهيمية والمساواة في كل شيء، ويحاربوا مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال؛ ليجعلوهم كالبهائم، لا يميزون حقا من باطل، ولا خيرا من شر، وهذا كله خلاف ما دعت إليه الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وخلاف ما دل عليه القرآن الكريم المعجز، وهو أيضا خلاف ما دلت عليه العقول الصحيحة والفطر السليمة التي فطر الله العباد عليها، فإن الله سبحانه فطر الناس على الاعتراف بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والعدل والحق، وكراهة الظلم والعدوان والأذى. لقد فطر الله العباد على تمييز الأب من الابن، والأخ من الأخت، والزوجة من الزوج، حتى البهائم ميزوا هذا عن هذا.
كذلك من ادعى الإباحية، وأنه لا حرج على الإنسان في أي حال أن يعمل ما يشاء ويستبيح ما يشاء من مهازل ومساوئ، كلهم ملحدون وضالون، وقد أبطل الله هذا المذهب، وبين سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل وأنزل الكتاب لبيان حقه على عباده، وما أحل من الطيبات، وما حرم من الخبائث، وما أوصى به سبحانه وتعالى عباده من التمسك بما جاءت به الرسل، ونبذ ما خالفه. ولقد أوضح سبحانه في الكتب المنزلة من السماء تفصيل الحلال من الحرام، والهدى من الضلال، والمعروف من المنكر، والخير من الشر.
فالإباحيون والماسونيون قد أعرضوا عن ذلك كله، ونبذوه وراء ظهورهم، فلا خلقا كريما استقاموا عليه، ولا عقلا صحيحا تمسكوا به، فلم يأخذوا بما جاءت به الرسل من الهدى والتمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال، ومن تأمل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام، وتأمل أحوال العالم: عرف أن الحق كله فيما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام، من بيان ما أباح الله، وبيان ما حرمه سبحانه، وأنهم بعثوا ليميزوا بين الطيب والخبيث، وبين الحلال والحرام، بما شرع الله، حتى تسير المجتمعات على هدى وبيان، وعلى خير ورشاد، وعلى الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، التي تحفظ للإنسان عقله ودينه، وماله ونفسه، وذريته وزوجته وغير ذلك. ولا يتعدى عليه غيره فيأمن المجتمع، وتستقيم الأحوال والأخلاق، ويأمن الناس، وتحصل لكل إنسان حريته في أخذه وعطائه، وبيعه وشرائه، وتعاطي ما يسر الله له من الحلال، وتملكه ما كسب بالطرق الشرعية، وتصرفه بما ينفعه ولا يضره.
وأما من دعا إلى أفكار أخرى كدعوة القاديانية وأشباههم، ممن دعا إلى اتباع نبي جديد، أو رسول جديد، فدعواه باطلة وأفكاره مضللة زائفة؛ لأن الله عز وجل بيَّن في كتابه المبين أن محمدا -عليه الصلاة والسلام- خاتم النبيين، وقد جاء ذلك في الأحاديث المتواترة عن رسول الله ﷺ، وبشرت به النبوات السابقة، قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ولكن هناك أشباه الأنعام، تلتبس عليهم كل دعوى، ويخفى عليهم كل شيء، ولا يميزون بين حق وباطل، ولا يفرقون بين هدى وضلال.
فكل ما يدعيه الداعون وينعق به الناعقون يلتبس عليهم؛ لعدم العلم والبصيرة، ولهذا ارتفع صوت هذا الرجل، أعني مرزا غلام أحمد بدعواه الباطلة، فاتبعه من الناس من هم أشباه الأنعام، وصدقوا بما قاله وما كتبه في هذا الباب مما يخالف نص الكتاب العزيز، وما تواترت به السنة عن المصطفى -عليه الصلاة والسلام- ومن كونه خاتم الأنبياء والمرسلين.
كيف يحدث مثل هذا؟! وكيف يشتبه على من هم من بني آدم؟ الذين هم من أصحاب العقول، والذين يقرءون ويكتبون، وبطلانه من أوضح الأشياء وأظهرها؟! ولكن الله عز وجل يري عباده من العجائب والعبر ما فيه عظة وذكرى لكل ذي لب، قال سبحانه وتعالى: لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] وهكذا البهائية والبابية وأشباههم، ممن ادعوا دعاوي باطلة، وضلوا في هذا السبيل، ولبسوا على أشباه الأنعام من البشر ما يدعون إليه من باطلهم، فزعم كبيرهم أنه نبي، ثم ادعى أنه رب العالمين. ومع ظهور باطلهم، نجد لهم أتباعا ودعاة وأندية تروج باطلهم وتدعو إليه، وربما كان الكثير منهم يعرف الحق ويعلم أنه مبطل في دعواه، ولكنه يتظاهر بتأييد الباطل؛ لما له من غرض في ذلك في هذه الحياة الدنيا، فتابعهم في طريق الباطل، وهم أشبه بالأنعام، بل هم أضل منها، كما قال الله عز وجل: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44] وقال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنََ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكََ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]
لقد ضل هؤلاء ضلالا بعيدا، كما ضل أصحاب فرعون بفرعون، وأصحاب النمرود بالنمرود.
فهذا المسكين الذي يتبول ويتغوط ويأكل ويشرب ويتألم من كل شيء، كيف يكون ربا؟! وكيف يكون إلها؟! وكيف يجوز هذا عليه وعلى أتباعه؟! ولكن الأمر كما قال الله سبحانه: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] وكما قال سبحانه وتعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنََّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالْأَنْعَامِ [الفرقان:44] وكما قال عز وجل: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنََ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ الآية [القصص:50]. وهكذا الدجال الذي يأتي في آخر الزمان يتبعه جم كثير من كل جاهل وأعمى بصيرة؛ لما يروجه من الباطل، ويأتي به من خوارق العادات التي تشتبه على أشباه الأنعام.
 وكل نحلة وكل دعوة باطلة تجد لها أتباعا وأنصارا بغير قلوب ولا هدى، أما طريق السلف الصالح، فهو أوضح من الشمس في رابعة النهار؛ لما قام عليه من البراهين الساطعة والحجج النيرة والأدلة القاطعة لكل من عنده أدنى بصيرة ورغبة في طلب الحق، وقد بين الله في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين أن الخير والفلاح يكونان في التمسك بكتاب الله العظيم، وسنة المصطفى -عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم، وأتباعهم بإحسان، فيرد دعاة الحق على هؤلاء المنحرفين بما علموا من كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام، وبما علموا بعقولهم الصحيحة وبصائرهم النافذة وفطرهم السليمة على هدى ما علموه من كتاب الله وسنة رسوله، وما علموه من مخلوقات الله عز وجل من الدلالة على قدرته وعظمته واستحقاقه للعبادة، وصدق رسله -عليهم الصلاة والسلام، وأن ما أتوا به هو الحق، وهو ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ من بيان الحلال والحرام، والهدى والضلال، وما شرع الله لعباده، وما نهى عنه، وما أخبر به من الجنة والنار، إلى غير ذلك.
وأن ما أنكره هؤلاء وغيرهم من الشيوعيين وسائر الملاحدة من البعث والنشور والجنة والنار وغير ذلك من شئون اليوم الآخر، كله باطل ومخالف للأدلة القطعية.
وهم جميعا حجتهم داحضة وباطلهم واضح، فإن الأدلة الدالة على بعث الموتى ووقوفهم أمام رب العالمين، كثيرة لا تحصى، وأن كل ما خلقه الله في هذه الدنيا شاهد على قدرته سبحانه ووجوب الاعتراف بألوهيته وحده، فالأرض الميتة ينزل الله عليها المطر فيخرج منها النبات بعد موتها، ويخرج منها جل وعلا ما شاء من الثمار.
فالذي أخرج هذا النبات وأنعم علينا بهذه الثمار هو الله سبحانه وتعالى، الذي أنزل هذا المطر وأحيا به الأرض الميتة التي أخرجت النبات والثمار، هو الذي سيحيي الموتى ويبعثهم من قبورهم، ويقف كل واحد أمامه عز وجل للحساب على ما عمل، وما اكتسبت يداه في هذه الدنيا.
وهكذا الإنسان: خلق الله أبانا آدم من تراب، ثم جاءت منه الذرية، خلقهم سبحانه من ماء مهين، ثم تحولوا إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى إنسان سوي له سمع وبصر وعقل وإدراك وجوارح، ثم يتدرج ويكبر حتى يصير إنسانا عظيما، فيأخذ ويعطي ويفكر ويتعلم وينتج.
وأن هذه الآيات العظيمة كلها تدل على قدرة الله عز وجل، وتدل على صدق الرسل وإخبارهم بأن هناك- أي في الآخرة- مجتمعا لديه سبحانه، يؤيد فيه الحق، ويجزي أهله بأحسن الجزاء، ويدخلهم الجنة، ويقيهم عذاب النار، ويذل أعداءه، ويخلدهم في النار أبد الآباد. ثم إن كل عاقل في هذه الدار يشاهد من يظلم، ومن تؤخذ حقوقه، ومن يعتدى عليه في ماله وبدنه وغير ذلك، ثم يموت الظالم ولم يرد الحقوق، ولم ينصف المظلوم، فهل يضيع ذلك الحق على المظلومين المساكين المستضعفين؟!
كلا.. فإن الخالق العظيم الحكيم العليم حدد للإنصاف موعدا، ذلك الموعد هو يوم القيامة، ينصف فيه المظلوم الذي لم يعط حقه في الدنيا كاملا من الظالم، فينتقم منه ويعاقبه بما يستحق. إن هذه الدار ليست دار جزاء، ولكنها دار امتحان وابتلاء، وعمل وسرور وأحزان، وقد ينصف فيها المظلوم فيأخذ حقه فيها، وقد يؤجل أمره إلى يوم القيامة لحكمة عظيمة، فينتقم الله من هؤلاء الظالمين، كما قال سبحانه وتعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]
ففي هذا اليوم الرهيب ينصف الله المظلومين، ويعطيهم جزاءهم، وينتقم لهم من الظالمين، وقد يعجل الله سبحانه للظلمة العقوبات في الدنيا، كما فعل في أمم كثيرة، وقد يؤجل ذلك للمظلومين والظالمين، ثم تعطى الحقوق في هذا اليوم العظيم، يوم القيامة، الذي تشخص فيه الأبصار، وكل ذلك حق.
فالحكم العليم القادر على كل شيء لا يفوت على المظلومين حقهم، ولهذا أخبرنا أن هناك بعثا ونشورا، وأن هناك جزاء وحسابا، وقد قامت على هذا الأدلة من القرآن والسنة وإجماع الأمة والعقول الصحيحة والفطر السليمة، ودلت على أنه لا بد من جزاء وحساب، وأن البعث حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، كل ذلك جاءت به الكتب السماوية، والسنة النبوية، وأجمع عليها المسلمون.
ومع ذلك فالفطر السليمة والعقول الصحيحة تشهد بذلك، وإننا نشاهد ظالمين ومظلومين لم يقتص من الظالمين للمظلومين، ولم تؤخذ منهم الحقوق، فلا بد لهم من يوم يحاسبون فيه، ويجازى فيه كل إنسان على ما قدم.
إننا نجد مؤمنين صالحين موفقين مجتهدين في سبيل الخير، لم ينالوا ما ناله غيرهم من أولئك الذين تعدوا حدود الله، وظلموا عباد الله، وهم مع هذا لديهم الأموال العظيمة، والقصور الشاهقة، والخدم والمتاع. وجمع غفير من الأخيار المتقين محرومون لم ينالوا من هذا شيئا، فلابد من موعد ولابد من لقاء مع ربهم، يعطون فيه من المنازل العالية والأجر العظيم، ويتكرم عليهم سبحانه بأنواع الفضل، جزاء صبرهم وأعمالهم الصالحة، فينالون الثواب الكبير، والمنازل العالية، والخير الجزيل، والإحسان العظيم، والقصور والجواري، والخيرات التي لا تحصى على ما فعلوا من خير، وعلى ما قدموا من عمل صالح، ويجازي سبحانه هؤلاء الظالمين المفرطين المعرضين، الذين ركنوا إلى الدنيا، وغرتهم شهواتها وانساقوا وراء مفاتنها، بما يستحقون من العذاب والنكال وسوء المصير، وما ذلك إلا لتفريطهم وإعراضهم عن الله، وتعديهم حدوده، ومقابلتهم نعمه بالكفران، وظلمهم عباده، وإدبارهم عن طاعته.
فهؤلاء يجازيهم الله عز وجل بما يستحقون. وهذه الأمور العظيمة إذا تأملها صاحب العقل الصحيح والفطرة السليمة، عرف أن المعاد حق، وعلم أن ما يدعيه الملحدون والشيوعيون والوثنيون وغيرهم ممن ينكرون الآخرة ومعاد الأبدان: من أبطل الباطل، واتضح له أن دعواهم ساقطة، وأقوالهم زائفة.
وهكذا أصحاب النحل والدعوات المضللة والأفكار الهدامة، كلها على هذا السبيل إذا تأملها ذو العقل الصحيح والبصيرة النافذة والفطرة السليمة عرف بطلانها وعرف أدلة زيفها من الكتاب والسنة المطهرة ومن الكتب الصحيحة، فإنه سبحانه خلق الشواهد، وأقام الدلائل على الحق، من كتابه وسنة نبيه ﷺ، وبما أودع في العقول من فهم وإدراك، وبما خلق في هذه الدنيا من مخلوقات، وأوجد فيها من كائنات، تشهد له بالحكمة، وأنه الخلاق العليم، الرزاق الكريم، القادر على كل شيء، والمستحق لأن يعبد وحده لا شريك له.
والجدير بطالب العلم أينما كان، أن يقبل على كتاب الله، وأن يجعل تدبره وتعقله، من أكبر همه ومن أعظم شواغله، وأن تكون له العناية الكاملة بقراءته وتدبر ما فيه من المعاني العظيمة والبراهين الساطعة على صحة ما جاء به الرسل، وعلى صدق ما دل عليه الكتاب، وعلى بطلان ما يقول به أهل السوء، أينما كانوا، وكيفما كانوا.
ومن تدبر القرآن طالبا للهدى أعزه الله وبصره وبلغه مناه، كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] وقال عز وجل: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44].
وهكذا السنة المطهرة إذا تأملها المؤمن، وتأمل موقفه ﷺ مع أعدائه وخصومه في مكة والمدينة عرف الحق، وأن أهل الحق منصورون وممتحنون، ومن فاته النصر في الدنيا فلن يفوته الجزاء والعوض في الآخرة، كما قال عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ۝ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].
فقد وعد الله سبحانه بالنصر للعاملين في الدنيا والثواب في الآخرة، قال عز وجل: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40، 41] فقد وعد الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين الذين يعملون للحق ويقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة لمستحقيها ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعدهم جل وعلا بالنصر، وهو يعم النصر في الدنيا والتمكين فيها، والنصر والرضى من الله سبحانه يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد.
وفي هذا عزة للمؤمنين، وذلة للكافرين، فالمؤمنون يفوزون بالجنة، والكافرون تعلو وجوههم الذلة والندامة، والنار تكون مثواهم ومصيرهم. وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومن تأمل أحوال أهل العلم الموفقين الذين نبغوا في هذه الأمة، وتدبروا كتاب ربهم وسنة نبيهم ﷺ، وعلموا في ذلك ما يعينهم على فهم كتاب الله وعلى فهم سنة رسول الله ﷺ فهما صحيحا من الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم، والتابعين لهم بإحسان من أئمة الإسلام، فيما كتبوا وما نقل عنهم، ومن سار على نهجهم من أهل الصدق والوفاء والبصيرة كأبي العباس بن تيمية -رحمه الله- وتلميذيه: العلامة ابن القيم والحافظ ابن كثير، وغيرهم ممن برزوا في هذا الميدان من أئمة هذا الشأن. نعم من تأمل أحوالهم، وفتح الله عليه بفهم ما قالوا وما كتبوا رأى العجب العجاب، والعبر الباهرة، والعلوم الصحيحة، والقلوب النيرة، والبراهين الساطعة، التي ترشد من تمسك بها إلى طريق السعادة وسبيل الاستقامة.
وبذلك يحصل له بتوفيق الله سبحانه، تحقيق الغاية المطلوبة، وتحصين نفسه بالعلوم والمعرفة والطمأنينة إلى الحق، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ودرج عليه سلف هذه الأمة.
ويتضح له أن من خالفهم من دعاة الزيغ والضلال، ليس عندهم إلا الشبهات الباطلة، والحجج الزائفة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ويعلم حقا أن طالب العلم في الحقيقة هو الذي يميز الحق من الباطل، بأدلته الظاهرة، وبراهينه الساطعة، ويقرأ كتب الأئمة المهتدين، ويأخذ منها ما وافق الحق، ويترك ما ظهر بطلانه، وعدم موافقته للحق، ومن هؤلاء الأئمة المبرزين الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وأنصاره في القرن الثاني عشر وما بعده، قد برزوا في هذا الميدان، وكتبوا الكتابات العظيمة الناجحة، وأرسلوا الرسائل إلى الناس وردوا على الخصوم، وأوضحوا الحق في رسائلهم ومؤلفاتهم، بأدلة من الكتاب والسنة، وقد جمع من ذلك العلامة الشيخ عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله جملة كثيرة في كتابه المسمى: (الدرر السنية في الأجوبة النجدية).
والأدلة التي كتبها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وتلاميذه من تأملها وتبصر فيها رأى فيها الحق المبين، والحجج الباهرة، والبراهين الساطعة التي- توضح بطلان أقوال الخصوم، وشبهاتهم، وتبين الحق بأدلته الواضحة.
وهم رحمة الله عليهم مع تأخر زمانهم- قد وفقوا في إظهار الحق وبيان أدلته، وأوضحوا ما يتعلق بدعوة التوحيد، والرد على دعاة الوثنية، وعباد القبور، وبرزوا في هذا السبيل، وكانوا على النهج المستقيم، نهج السلف الصالح، واستعانوا في هذا الباب بالأدلة الواضحة التي جاءت في الكتاب والسنة النبوية، وعنوا بكتب الحديث، وكتب التفسير، وبرزوا في هذا الميدان حتى أظهر الله بهم الحق، وأذل بهم الباطل، وأقام بهم الحجة على غيرهم، ونشر بهم راية الإسلام، وقامت راية الجهاد، وأجرى الله على أيديهم من نعمه وخيره الجزيل ما لا يحصى، وأصبح أهل الحق في سائر الأمصار الذين عرفوا كتبهم، وصحة دعوتهم، وسلامة منهجهم، ينشرون دعوتهم، ويستعينون بما ألفوا في هذا الشأن على خصوم الإسلام وأعداء الإسلام في كل مكان، من أهل الشرك والبدع والخرافات.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، وأن يمنحنا الفقه في دينه، كما أسأله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادة المسلمين، ويجعلهم هداة مهتدين، وأن يوفقهم لتحكيم الشريعة والتحاكم إليها، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وينصر بهم الحق، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.[1]

  1. محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في شهر ربيع الثاني عام 1402هـ. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 4/ 59)