الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي العربي المكي ثم المدني، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله عز وجل بعث محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق، والهدى: هو الخبر الصادق والعلم النافع، ودين الحق: هو الشرائع والأحكام التي جاء بها -عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9] والله سبحانه وتعالى أرسله إلى الجن والإنس والعرب والعجم والذكور والإناث، أرسله جل وعلا رحمة للعالمين جميعا وإماما للمتقين، أرسله -عليه الصلاة والسلام- يعلم الناس دينهم، ويفقههم في دينهم، ويوضح لهم أسباب النجاة، ويحذرهم من أسباب الهلاك بعثه بدين الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:19] بعثة بالهدى ودين الحق بالأخبار الصادقة والعلوم النافعة والشرائع المستقيمة والأحكام العادلة، بعثه يدعوا إلى كل خير وينهى عن كل شر، بعثه يدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وينهى عن سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال، قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28] وقال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] وقال قبلها: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157] هذه حال هذا الدين العظيم، وحال هذا النبي الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، بعثه الله رحمة للعالمين، الجن والإنس، والذكور والإناث، والعرب والعجم، حتى الدواب رحمها الله ببعثته؛ لأنه أوصى بها خيرا، وأوصى برحمتها والإحسان إليها.
وبين الله سبحانه وتعالى أنه خلق الجن والإنس ليعبدوه، فقال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] والمعنى: إلا ليخلصوا لي العبادة ويفردوني بها ويطيعوا أمري وينتهوا عن نهيي، هذه هي العبادة، طاعة أوامره سبحانه وترك نواهيه عن إخلاص له سبحانه وعن إيمان به وبرسله وعن رغبة ورهبة وعن تصديق لأخباره وأخبار رسوله -عليه الصلاة والسلام، وعن وقوف عند حدوده. وقد أمرهم بذلك فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] وهذا يعم الذكور والإناث، والجن والإنس، والعرب والعجم، وقال عز وجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقال عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:152] وعلمهم في سورة فاتحة الكتاب وهي: "الحمد" أن يسألوا الله الهداية لصراطه المستقيم، وهو دينه الذي جاء به نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام، وهو الإسلام والإيمان والهدى والتقوى والصلاح، فقال جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-5] وهذا كله ثناء على الله سبحانه وتعالى، وتوجيه للعباد إلى أن يعترفوا بأنه المعبود بالحق، وأنه المستعان في جميع الأمور سبحانه وتعالى، ثم علمهم أن يقولوا بعد ذلك: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] لما حمدوه وأثنوا عليه واعترفوا بأنهم عبيده، وأنه المستعان وحده، علمهم أن يقولوا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] والصراط المستقيم هو دينه، وهو الإسلام والإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وهو طريق المنعم عليهم من أهل العلم والعمل، وهم أصحاب النبي ﷺ ومن تبعهم بإحسان ومن سبقهم من الرسل وأتباعهم.
هذا هو الصراط المستقيم، صراط من أنعم الله عليهم، وهم الذين عرفوا الحق وعملوا به، كما قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] هذا- الصراط المستقيم صراط هؤلاء، وهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم، ويخصنا منهم نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه الكرام، فإننا مأمورون باتباعه ﷺ والسير على منهاجه والسير على ما سلكه أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- من العلم والعمل، كما قال جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
فهذا الصراط هو دين الله، وهو ما بعث الله به نبيه ﷺ من العلم والعمل، من العلم النافع والعمل الصالح، وهو الهدى ودين الحق الذي بعث الله به نبيه محمدا -عليه الصلاة والسلام، وهو ما بينه في كتابه جل وعلا، هذا الصراط العظيم هو فعل الأوامر وترك النواهي التي بينها سبحانه في كتابه العظيم وعلى لسان رسوله الأمين -عليه الصلاة والسلام، فالواجب على أهل الإسلام أن يتدبروا كتاب الله ويتعقلوه، وهو القرآن، ويتعلموا سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- ويستقيموا عليهما، ففي كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- بيان الأوامر والنواهي التي جاء بها نبينا محمد ﷺ، وفيها بيان الأخلاق التي مدحها سبحانه وأثنى عليها من أخلاق المؤمنين وأخلاق المؤمنات وصفاتهم وأعمالهم، ومن تدبر كتاب الله وتعقله وجد ذلك، ومن تدبر السنة- وهي سيرة الرسول ﷺ وأحاديثه، من تدبرها- وجد ذلك وعرف ذلك، ومن ذلك ما أوضحه الله سبحانه في آخر سورة الفرقان، حيث قال سبحانه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:63-68] أي من يشرك بالله أو يقتل نفسا بغير حق أو يزني يلقى آثاما، أي عذابا عظيما، فسره سبحانه بقوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:69] أي في العذاب: إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:70، 71] كل هذا من أخلاق أهل الإيمان من الرجال والنساء ثم قال: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] أي لا يحضرونه، والزور هو الباطل والمنكر من سائر المعاصي والكفر، لا يشهدونه بل ينكرونه ويحاربونه وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72] أعرضوا عنه كما في الآية الأخرى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ الآية [القصص:55] وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [الفرقان: 73] بل يخرون عن خشوع وعن إقبال على الله وعن تعظيم لله، هكذا المؤمن والمؤمنة إذا ذكروا بآيات الله، خشعوا لذلك ولانت قلوبهم وعظموا ربهم وبكوا من خشيته، يرجون ثوابه ويخشون عقابه سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
كل هذا من صفات المؤمنين والمؤمنات، وهم عباد الرحمن على الحقيقة والكمال، وقرة العين أن ترى ولدك من ذكر وأنثى متخلقا بصالح الأعمال، والولد إذا أطلق يشمل الذكر والأنثى، والذكر يقال له ابن والأنثى يقال لها بنت، وهكذا كلمة الذرية تشمل الذكر والأنثى، ومنه الحديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فالولد يشمل الذكر والأنثى كما تقدم، فقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] يعني ذرية تقر بهم العين لكونهم مطيعين لله مستقيمين على شريعته، وهكذا الأزواج، الزوج إذا رأى زوجته على طاعة الله قرت بها عينه، وهكذا الزوجة إذا رأت زوجها على طاعة الله وهي مؤمنة قرت بذلك عينها، فالزوج الصالح قرة عين لزوجته والزوجة الصالحة قرة عين لزوجها المؤمن، والذرية الطيبة قرة عين لآبائهم وأمهاتهم وأقاربهم المؤمنين والمؤمنات وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا يعني أئمة في الخير هداة للخلق، ثم أوضح سبحانه جزاءهم فقال: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ [الفرقان:75] وهي الجنة، سميت غرفة لارتفاعها، لأنها في أعلى مكان فوق السماوات تحت العرش، فالجنة في أعلى مكان ولهذا قال: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ يعني الجنة بِمَا صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن محارم الله، وصبرهم على المصائب، فلما صبروا جازاهم الله بالجنة العالية العظيمة، لما صبروا على أداء حق الله وصبروا عن محارم الله وصبروا على المصائب المؤلمة من مرض وفقر وغير ذلك، جزاهم الله بأحسن الجزاء أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا أي في الجنة تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:75، 76].
هذه من صفات أهل الإيمان الكامل من الذكور والإناث أهل السعادة والنجاة، وفي القرآن آيات كثيرات بين الله فيها سبحانه صفات المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم، ومن ذلك ما في سورة البقرة حيث يقول سبحانه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] هذه حالة الأتقياء من الذكور والإناث، هذه صفاتهم بينها سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة من سورة البقرة بقوله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الآية، والمعنى: ولكن ذا البر أي صاحب البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، آمن بالله ربا وإلها سبحانه وتعالى، وآمن بأنه معبوده الحق، وأنه خالقه ورازقه، وأنه سبحانه موصوف بالأسماء الحسنى والصفات العلى، لا شبيه له ولا كفؤ له ولا ند له، بل هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، بل له الكمال المطلق من كل الوجوه، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] وآمن باليوم الآخر، أي بالبعث بعد الموت، هذه الدنيا تزول ويأتي اليوم الآخر، وهو يوم القيامة، لابد من هذا اليوم، سوف يأتي، وسوف يبعث الله عباده، كما قال جل وعلا: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:15، 16] وقال تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7].
فاليوم الآخر هو: يوم الحساب والجزاء والجنة والنار والميزان والصراط وإعطاء الصحف باليمين والشمال ونصب الميزان ووزن الأعمال، ثم بعد ذلك كله ينتهي الناس إلى الجنة أو النار، فالمؤمنون إلى الجنة والسعادة والكرامة، والكافرون إلى النار والعذاب المهين -نسأل الله العافية، وهكذا الإيمان بالملائكة الذين هم في طاعة ربهم، وجند من جنوده، وسفراء بينه وبين عبادة في تبليغ أوامره ونواهيه سبحانه وتعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] خلقهم الله من نور، ينفذون أوامره كما قال جل وعلا: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:26-28] -عليهم الصلاة والسلام، ويقول فيهم جل وعلا: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وهكذا الإيمان بالكتاب، والمراد به الكتب المنزلة من السماء، وأعظمها القرآن الكريم، فأهل الإيمان يؤمنون بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين، وآخرها وأعظمها وأشرفها القرآن العظيم المنزل على محمد ﷺ، وهكذا المؤمنون يؤمنون بالنبيين والمرسلين جميعا، ويصدقونهم وآخرهم محمد ﷺ، وهو خاتمهم وأفضلهم.
وهكذا المؤمنون يتصدقون بالمال على حبه، وهو معنى قوله سبحانه وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177] ينفقون المال على حبه، في الفقراء والمساكين من الأقارب وغيرهم، وفي المشاريع الخيرية، وفي جهاد أعداء الله، هكذا أهل الإيمان والبر، ينفقون أموالهم في سبيل الخيرات، وفي آية أخرى يقول عز وجل: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] ويقول سبحانه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
وفي هذه الآية -آية البقرة- يقول سبحانه: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177] المعنى أنهم ينفقون في هذه الجهات، في القرابات، وفي الأيتام الفقراء، وفي المساكين غير الأقارب من الضعفاء، وفي أبناء السبيل، وهم الذين يمرون بالبلد وليسوا من أهلها وتنقطع بهم النفقة، وهكذا السائلون وهم الذين يسألون الناس لحاجتهم ومسكنتهم، أو سائلون مجهولون لا تعرف حالهم، فيعطون ما يسد حالهم، وقوله: وَفِي الرِّقَابِ المعنى: ينفقون في عتق الرقاب، أي في عتق العبيد والإماء وفي عتق الأسارى وفك أسرهم.
ثم قال سبحانه وتعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ والمعنى: أن المؤمنين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة يحافظون على الصلوات، ويقيمونها في أوقاتها، كما شرعها الله، ويؤدون الزكاة كما شرعها الله، ثم قال سبحانه: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا أي إذا أعطوا عهدا وفوا ولم يغدروا، ثم قال سبحانه: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أي في حالة البأساء، وهي: حالة الفقر، والضراء وهي: الأمراض والأوجاع والجراحات ونحو ذلك، وحين البأس: حين القتال والحرب، ثم قال سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ هؤلاء هم أهل الصدق، لكونهم حققوا إيمانهم بأعمالهم الطيبة، وتقواهم لله عز وجل. وذكر في سورة الأنفال صفات أخرى، وفي سورة براءة، وفي سورة المؤمنون قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2].
وفي مواضع أخرى ذكر صفات المؤمنين وأخلاقهم ومن نظر في القرآن الكريم وتعقله وجد ذلك، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] ويقول سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] ويقول عز وجل: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44] ويقول سبحانه وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:29].
فنصيحتي لإخواني وأخواتي في الله وعموم الناس، نصيحتي لهم جميعا ولنفسي: العناية بالقرآن وتدبر معانيه وحفظه عن ظهر قلب، والحرص على تلاوته باستمرار من المصحف تارة وعن ظهر قلب تارة أخرى إن كان القارئ ممن يحفظه بالتدبر والتعقل وطلب الفائدة، كما قال سبحانه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] وتطبيق ذلك بالعمل والفهم والفقه، فالله سبحانه قد أنزل هذا الكتاب للعمل والعلم والفقه، قال عز وجل: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] فهو منزل للعمل والاتباع، لا لمجرد القراءة والحفظ.
لأن الحفظ والقراءة وسيلة، والمقصود هو العلم بالكتاب والسنة مع الإيمان بالله ورسوله وتنفيذ أوامر الله وترك نواهيه، ويجمع ذلك قوله تعالى في سورة التوبة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] فهذه الآية من أجمع الآيات في بيان صفات المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم العظيمة، وما يجب عليهم، فقوله سبحانه وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يدل على أن المؤمنين والمؤمنات أولياء يتناصحون ويتحابون في الله، ويتواصون بالحق والصبر عليه ويتعاونون على البر والتقوى، هكذا المؤمنون والمؤمنات جميعا، المؤمن ولي أخيه وولي أخته في الله، والمؤمنة ولية أخيها في الله وأختها في الله، كل واحد منهما يحب الخير للآخر، ويدعوه إليه ويفرح باستقامته عليه، ويدفع عنه الشر، لا يغتابه ولا يتكلم في عرضه ولا عليه، ولا يشهد عليه بالزور ولا يسبه، ولا يدعي عليه دعوى باطلة، هكذا المؤمنون والمؤمنات.
فإذا رأيت من نفسك إيذاء لأخيك أو أختك في الله بالغيبة أو بالسب أو بالنميمة أو بالكذب أو غير هذا، فاعرف أن إيمانك ناقص وأنك ضعيف الإيمان، لو كان إيمانك مستقيما كاملا لما فعلت ما فعلت من ظلم أخيك، والتعدي عليه بالغيبة والنميمة، أو الدعوى الباطلة أو الشهادة بالزور أو اليمين الكاذبة أو السباب، ونحو ذلك، فالإيمان بالله ورسوله والتقوى لله والبر والهدى، كل ذلك يمنع صاحبه عن التعدي على أخيه في الله وأخته في الله، لا بالغيبة ولا بالشتم ولا بالكذب ولا بالدعوى الباطلة ولا بشهادة الزور ولا غير ذلك من أنواع الظلم، فإيمانه يحجزه عن ذلك ويمنعه من كل أذى، ثم قال سبحانه بعد ذلك: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ هذا واجب عظيم فيه صلاح الأمة، وبه نصر الدين، وبه القضاء على أسباب الهلاك والمعاصي والشرور، فالمؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ المؤمن لا يسكت إذا رأى من أخيه منكرا، ينهاه عنه، وهكذا إن رأى من أخته أو عمته أو خالته أو غيرهن، إذا رأى منهن منكرا نهاهن عن ذلك، وإذا رأى من أخيه في الله أو أخته في الله تقصيرا في الواجب أنكر عليه ذلك، وأمره بالمعروف، كل ذلك بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن، فالمؤمن إذا رأى أخا له في الله يتكاسل عن الصلوات أو يتعاطى الغيبة أو النميمة أو شرب الدخان أو المسكر أو يعصي والديه أو أحدهما أو يقطع أرحامه أنكر عليه بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، لا بالألقاب المكروهة والأسلوب الشديد، وبين له أن هذا الأمر لا يجوز له، وهكذا إذا رأى من أخته في الله منكرا أنكر عليها ذلك، كأن يراها تعصي والديها، أو تسيء إلى زوجها أو تقصر في تربية أولادها أو تتساهل بالصلاة أنكر عليها، سواء كان زوجها أو أباها أو أخاها أو ابن أختها أو ابن أخيها، أو ليس قريبا لها، بل من الناس الذين عرفوا ذلك منها، وهي كذلك إذا رأت من زوجها تقصيرا نهته عن ذلك، كأن رأته يشرب الخمر أو رأته يدخن أو رأته يتساهل بالصلاة أو يصلي في البيت دون المسجد تنكر عليه بالأسلوب الحسن وبالكلام الطيب، كأن تقول له: يا عبدالله، اتق الله وراقب الله، هذا لا يجوز لك، حافظ على الصلاة في الجماعة، دع عنك ما حرم الله عليك من المسكرات أو التدخين أو حلق اللحية أو إطالة الشوارب أو إسبال الملابس.
كل هذه المنكرات يجب على كل واحد من المؤمنين والمؤمنات والصلحاء إنكارها، وعلى الزوج والزوجة وعلى الأخ والقريب وعلى الجار وعلى الجليس وعلى غيرهم القيام بذلك، كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وقال المصطفى -عليه الصلاة والسلام: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه ويقول -عليه الصلاة والسلام: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وهذا عام لجميع المنكرات، سواء كانت في الطريق أو في البيت أو في المسجد أو في الطائرة أو في القطار أو في السيارة أو في أي مكان، وهو يعم الرجال والنساء جميعا، المرأة تتكلم والرجل يتكلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن في هذا صلاح الجميع ونجاة الجميع، ولا يجوز السكوت عن ذلك من أجل خاطر الزوج أو خاطر الأخ أو خاطر فلان وفلان، لكن يكون بالأسلوب الحسن والكلمات الطيبة، لا بالعنف والشدة، ومع ملاحظة الأوقات المناسبة، فقد يكون بعض الناس في وقت لا يقبل التوجيه، ولكنه في وقت آخر يكون متهيئا للقبول، فالمؤمن والمؤمنة يلاحظان للإنكار والأمر بالمعروف الأوقات المناسبة، ولا ييأس إذا لم يقبل منه اليوم أن يقبل منه غدا، فالمؤمن لا ييأس، والمؤمنة لا تيأس، بل يستمران في إنكار المنكر، وفي الأمر بالمعروف، وفي النصيحة لله ولعباده، مع حسن الظن بالله والرغبة فيما عند الله عز وجل.
ثم قال الله سبحانه: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ هكذا المؤمنون والمؤمنات، يقيمون الصلاة ويحافظون عليها في أوقاتها، ويقيمها الرجال في المساجد، ويحافظون عليها مع إخوانهم في الجماعة، ويسارعون إليها إذا سمعوا المنادي يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ويبادرون إليها في جميع الأوقات. والواجب على كل مؤمن أن يراقب الله في ذلك ويحذر مما ابتلي به كثير من الناس - والعياذ بالله- من أدائها في البيت، والتخلف عن صلاة الجماعة حتى شابهوا أهل النفاق في ذلك، فيصلي في البيت وقد عافاه الله، وربما أخر الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس، إلى أن يقوم للعمل فيصلي، وربما تركها بالكلية، وهذا هو البلاء العظيم والمنكر الخطير.
فالصلاة عمود الإسلام، من حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، من تركها كفر لقول النبي ﷺ: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وهذا يعم الرجال والنساء، ويقول -عليه الصلاة والسلام: بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة فلا يجوز للمؤمن التساهل بهذا الأمر ولا للمؤمنة، ولا يجوز للرجل فعلها في البيت، بل يجب الخروج إلى المساجد، يقول النبي: من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، أنا رجل أعمى ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم قال: فأجب فلم يرخص له النبي ﷺ وهو أعمى ليس له قائد يلائمه، فكيف بحال الصحيح البصير؟!
وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم وهذا يدل على عظم الأمر.
فالواجب العناية بالصلاة والمسارعة إليها في المساجد، والحذر من التكاسل عنها والتثاقل، فإن الكسل عنها والتثاقل من صفات أهل النفاق -نعوذ بالله من حالهم- كما قال سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا [النساء:142] فالواجب على كل مسلم ومسلمة العناية بالصلاة التي هي عمود الإسلام، وهي أعظم أركانه بعد الشهادتين، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها ضيع دينه -ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن المحافظة عليها ومن إقامتها الخشوع فيها وعدم مسابقة الإمام، يقول الله سبحانه وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2] ويقول ﷺ: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قيل: يا رسول الله، كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولما رأى النبي ﷺ رجلا قد أساء في صلاته، فلم يتم ركوعها ولا سجودها أمره أن يعيد الصلاة، وقال له: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وكثير من الناس ينقرها نقرا، ولا شك أن ذلك منكر عظيم؛ لأن من نقرها بطلت صلاته للحديث المذكور، فلابد من الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال بعد الركوع وبين السجدتين، مع الحذر من مسابقة الإمام، فإذا كنت مع الإمام فلا تسابقه، إذا كبر فلا تكبر حتى يكبر وينقطع صوته، وإذا قال: "الله أكبر" راكعا، فلا تركع حتى يستوي راكعا وحتى ينقطع صوته، ثم تركع، وهكذا في السجود لا تسابق الإمام، ولا تكن مع الإمام، لا معه ولا تسابقه، لا هذا ولا هذا، يقول ﷺ: إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف ويقول -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد وهذا الأمر واضح بين -لكل من وفقه الله- ولكن بعض الناس لا يصبر، بل يسارع ويسابق الإمام-والعياذ بالله- فالواجب الحذر من ذلك.
ومما يعين على المحافظة على صلاة الفجر في وقتها وعلى أدائها في الجماعة: التبكير بالنوم وعدم السهر، وقد كان النبي ﷺ يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها.
فالمشروع لكل مؤمن ومؤمنة بذل المستطاع في المحافظة على أداء الصلاة في وقتها وعدم السهر بعد العشاء؛ لأن ذلك قد يسبب النوم عن صلاة الفجر، وينبغي أن يستعان بالساعة المنبهة على ذلك، كما ينبغي التعاون على ذلك بين الرجل وأهله في هذا الأمر، لقول الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ويقول سبحانه وتعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] فلا بد من التناصح، والتواصي بالحق، والتعاون على الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل حلول العقوبة.
وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه وقال الرسول -عليه الصلاة والسلام: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وقال جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه: بايعت النبي ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
والمشروع للمسلم إذا سمع الفائدة أن يبلغها غيره، وهكذا المسلمة تبلغ غيرها ما سمعت من العلم؛ لقول النبي ﷺ: بلغوا عني ولو آية وكان ﷺ إذا خطب الناس يقول: ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ويقول ﷺ: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ويدخل في هذا الحديث العظيم كل من جاء إلى مسجد أو أي مكان فيه حلقة علم أو موعظة يطلب العلم ويستفيد.
ويقول -عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ويقول -عليه الصلاة والسلام: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ويقول ﷺ: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده وهذا يدل على شرعية المسابقة إلى حلقات العلم والعناية بها، والحرص على الاجتماع على تلاوة القرآن ومدارسته، ومن ذلك سماع البرامج الدينية والأحاديث المفيدة التي تذاع من إذاعة القرآن الكريم، ويتولاها المعروفون بالعلم والبصيرة، وحسن العقيدة.
ثم من المعلوم أن الله سبحانه خلق الثقلين لعبادته، والعبادة لابد فيها من العلم. والإنسان لا يعرف العبادة التي كلف بها إلا بالتعلم والتفقه في الدين، والله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فما هي العبادة التي لا بد أن تتعلمها، ولابد أن تتفقه فيها؟ هي كل ما شرعه الله وأحبه لعباده من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك، ثم قال سبحانه وتعالى بعد الصلاة: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ فالزكاة حق المال، يجب على المسلم أن يؤدي زكاة أمواله إلى أهلها، مخلصا لله، راجيا ثوابه، خائفا من عقابه، سبحانه وتعالى، وقد بين الله أهلها في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] الآية من سورة التوبة، ثم قال بعدها: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بعدما ذكر الصلاة والزكاة والموالاة بين المؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني في كل شيء، كما يطيعونه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الصلاة والزكاة، يطيعونه في كل شيء، هكذا المؤمن والمؤمنة، يطيعون الله ورسوله في كل الأوامر والنواهي أينما كانوا، ولا يتم الدين إلا بذلك، ثم قال تعالى: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ فأوضح سبحانه بذلك أن الذين استقاموا على دين الله وأدوا حقه وأطاعوه، وأطاعوا رسوله -عليه الصلاة والسلام، هم المستحقون للرحمة في الدنيا والآخرة؛ لطاعتهم لله وإيمانهم به وأدائهم حقه، فدل ذلك على أن المعرض الغافل المقصر قد عرض نفسه لعذاب الله وغضبه، فالرحمة تحصل بالعمل الصالح والجد في طاعة الله والقيام بأمره، ومن أعرض عن ذلك وتابع الهوى والشيطان فله النار يوم القيامة، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 37-41].
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يرزقنا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والتعاون على البر والتقوى وإيثار الآخرة على الدنيا، والحرص على سلامة القلوب وسلامة الأعمال، والحرص على نفع المسلمين أينما كانوا، كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين عموما، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يمنحهم الفقه في دينه، وأن يشرح صدورهم لتحكيم شريعته والحكم بها، والاستقامة عليها، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين في كل مكان من مضلات الفتن وطوارق المحن، وأن يخذل أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن يجعل الدائرة عليهم، وأن ينصر إخواننا المجاهدين في سبيل الله في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه[1].
فإن الله عز وجل بعث محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق، والهدى: هو الخبر الصادق والعلم النافع، ودين الحق: هو الشرائع والأحكام التي جاء بها -عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9] والله سبحانه وتعالى أرسله إلى الجن والإنس والعرب والعجم والذكور والإناث، أرسله جل وعلا رحمة للعالمين جميعا وإماما للمتقين، أرسله -عليه الصلاة والسلام- يعلم الناس دينهم، ويفقههم في دينهم، ويوضح لهم أسباب النجاة، ويحذرهم من أسباب الهلاك بعثه بدين الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:19] بعثة بالهدى ودين الحق بالأخبار الصادقة والعلوم النافعة والشرائع المستقيمة والأحكام العادلة، بعثه يدعوا إلى كل خير وينهى عن كل شر، بعثه يدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وينهى عن سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال، قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28] وقال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] وقال قبلها: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157] هذه حال هذا الدين العظيم، وحال هذا النبي الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، بعثه الله رحمة للعالمين، الجن والإنس، والذكور والإناث، والعرب والعجم، حتى الدواب رحمها الله ببعثته؛ لأنه أوصى بها خيرا، وأوصى برحمتها والإحسان إليها.
وبين الله سبحانه وتعالى أنه خلق الجن والإنس ليعبدوه، فقال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] والمعنى: إلا ليخلصوا لي العبادة ويفردوني بها ويطيعوا أمري وينتهوا عن نهيي، هذه هي العبادة، طاعة أوامره سبحانه وترك نواهيه عن إخلاص له سبحانه وعن إيمان به وبرسله وعن رغبة ورهبة وعن تصديق لأخباره وأخبار رسوله -عليه الصلاة والسلام، وعن وقوف عند حدوده. وقد أمرهم بذلك فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] وهذا يعم الذكور والإناث، والجن والإنس، والعرب والعجم، وقال عز وجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقال عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:152] وعلمهم في سورة فاتحة الكتاب وهي: "الحمد" أن يسألوا الله الهداية لصراطه المستقيم، وهو دينه الذي جاء به نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام، وهو الإسلام والإيمان والهدى والتقوى والصلاح، فقال جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-5] وهذا كله ثناء على الله سبحانه وتعالى، وتوجيه للعباد إلى أن يعترفوا بأنه المعبود بالحق، وأنه المستعان في جميع الأمور سبحانه وتعالى، ثم علمهم أن يقولوا بعد ذلك: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] لما حمدوه وأثنوا عليه واعترفوا بأنهم عبيده، وأنه المستعان وحده، علمهم أن يقولوا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] والصراط المستقيم هو دينه، وهو الإسلام والإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وهو طريق المنعم عليهم من أهل العلم والعمل، وهم أصحاب النبي ﷺ ومن تبعهم بإحسان ومن سبقهم من الرسل وأتباعهم.
هذا هو الصراط المستقيم، صراط من أنعم الله عليهم، وهم الذين عرفوا الحق وعملوا به، كما قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] هذا- الصراط المستقيم صراط هؤلاء، وهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم، ويخصنا منهم نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه الكرام، فإننا مأمورون باتباعه ﷺ والسير على منهاجه والسير على ما سلكه أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- من العلم والعمل، كما قال جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
فهذا الصراط هو دين الله، وهو ما بعث الله به نبيه ﷺ من العلم والعمل، من العلم النافع والعمل الصالح، وهو الهدى ودين الحق الذي بعث الله به نبيه محمدا -عليه الصلاة والسلام، وهو ما بينه في كتابه جل وعلا، هذا الصراط العظيم هو فعل الأوامر وترك النواهي التي بينها سبحانه في كتابه العظيم وعلى لسان رسوله الأمين -عليه الصلاة والسلام، فالواجب على أهل الإسلام أن يتدبروا كتاب الله ويتعقلوه، وهو القرآن، ويتعلموا سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- ويستقيموا عليهما، ففي كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- بيان الأوامر والنواهي التي جاء بها نبينا محمد ﷺ، وفيها بيان الأخلاق التي مدحها سبحانه وأثنى عليها من أخلاق المؤمنين وأخلاق المؤمنات وصفاتهم وأعمالهم، ومن تدبر كتاب الله وتعقله وجد ذلك، ومن تدبر السنة- وهي سيرة الرسول ﷺ وأحاديثه، من تدبرها- وجد ذلك وعرف ذلك، ومن ذلك ما أوضحه الله سبحانه في آخر سورة الفرقان، حيث قال سبحانه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:63-68] أي من يشرك بالله أو يقتل نفسا بغير حق أو يزني يلقى آثاما، أي عذابا عظيما، فسره سبحانه بقوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:69] أي في العذاب: إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:70، 71] كل هذا من أخلاق أهل الإيمان من الرجال والنساء ثم قال: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] أي لا يحضرونه، والزور هو الباطل والمنكر من سائر المعاصي والكفر، لا يشهدونه بل ينكرونه ويحاربونه وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72] أعرضوا عنه كما في الآية الأخرى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ الآية [القصص:55] وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [الفرقان: 73] بل يخرون عن خشوع وعن إقبال على الله وعن تعظيم لله، هكذا المؤمن والمؤمنة إذا ذكروا بآيات الله، خشعوا لذلك ولانت قلوبهم وعظموا ربهم وبكوا من خشيته، يرجون ثوابه ويخشون عقابه سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
كل هذا من صفات المؤمنين والمؤمنات، وهم عباد الرحمن على الحقيقة والكمال، وقرة العين أن ترى ولدك من ذكر وأنثى متخلقا بصالح الأعمال، والولد إذا أطلق يشمل الذكر والأنثى، والذكر يقال له ابن والأنثى يقال لها بنت، وهكذا كلمة الذرية تشمل الذكر والأنثى، ومنه الحديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فالولد يشمل الذكر والأنثى كما تقدم، فقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] يعني ذرية تقر بهم العين لكونهم مطيعين لله مستقيمين على شريعته، وهكذا الأزواج، الزوج إذا رأى زوجته على طاعة الله قرت بها عينه، وهكذا الزوجة إذا رأت زوجها على طاعة الله وهي مؤمنة قرت بذلك عينها، فالزوج الصالح قرة عين لزوجته والزوجة الصالحة قرة عين لزوجها المؤمن، والذرية الطيبة قرة عين لآبائهم وأمهاتهم وأقاربهم المؤمنين والمؤمنات وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا يعني أئمة في الخير هداة للخلق، ثم أوضح سبحانه جزاءهم فقال: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ [الفرقان:75] وهي الجنة، سميت غرفة لارتفاعها، لأنها في أعلى مكان فوق السماوات تحت العرش، فالجنة في أعلى مكان ولهذا قال: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ يعني الجنة بِمَا صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن محارم الله، وصبرهم على المصائب، فلما صبروا جازاهم الله بالجنة العالية العظيمة، لما صبروا على أداء حق الله وصبروا عن محارم الله وصبروا على المصائب المؤلمة من مرض وفقر وغير ذلك، جزاهم الله بأحسن الجزاء أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا أي في الجنة تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:75، 76].
هذه من صفات أهل الإيمان الكامل من الذكور والإناث أهل السعادة والنجاة، وفي القرآن آيات كثيرات بين الله فيها سبحانه صفات المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم، ومن ذلك ما في سورة البقرة حيث يقول سبحانه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] هذه حالة الأتقياء من الذكور والإناث، هذه صفاتهم بينها سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة من سورة البقرة بقوله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الآية، والمعنى: ولكن ذا البر أي صاحب البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، آمن بالله ربا وإلها سبحانه وتعالى، وآمن بأنه معبوده الحق، وأنه خالقه ورازقه، وأنه سبحانه موصوف بالأسماء الحسنى والصفات العلى، لا شبيه له ولا كفؤ له ولا ند له، بل هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، بل له الكمال المطلق من كل الوجوه، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] وآمن باليوم الآخر، أي بالبعث بعد الموت، هذه الدنيا تزول ويأتي اليوم الآخر، وهو يوم القيامة، لابد من هذا اليوم، سوف يأتي، وسوف يبعث الله عباده، كما قال جل وعلا: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:15، 16] وقال تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7].
فاليوم الآخر هو: يوم الحساب والجزاء والجنة والنار والميزان والصراط وإعطاء الصحف باليمين والشمال ونصب الميزان ووزن الأعمال، ثم بعد ذلك كله ينتهي الناس إلى الجنة أو النار، فالمؤمنون إلى الجنة والسعادة والكرامة، والكافرون إلى النار والعذاب المهين -نسأل الله العافية، وهكذا الإيمان بالملائكة الذين هم في طاعة ربهم، وجند من جنوده، وسفراء بينه وبين عبادة في تبليغ أوامره ونواهيه سبحانه وتعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] خلقهم الله من نور، ينفذون أوامره كما قال جل وعلا: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:26-28] -عليهم الصلاة والسلام، ويقول فيهم جل وعلا: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وهكذا الإيمان بالكتاب، والمراد به الكتب المنزلة من السماء، وأعظمها القرآن الكريم، فأهل الإيمان يؤمنون بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين، وآخرها وأعظمها وأشرفها القرآن العظيم المنزل على محمد ﷺ، وهكذا المؤمنون يؤمنون بالنبيين والمرسلين جميعا، ويصدقونهم وآخرهم محمد ﷺ، وهو خاتمهم وأفضلهم.
وهكذا المؤمنون يتصدقون بالمال على حبه، وهو معنى قوله سبحانه وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177] ينفقون المال على حبه، في الفقراء والمساكين من الأقارب وغيرهم، وفي المشاريع الخيرية، وفي جهاد أعداء الله، هكذا أهل الإيمان والبر، ينفقون أموالهم في سبيل الخيرات، وفي آية أخرى يقول عز وجل: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] ويقول سبحانه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
وفي هذه الآية -آية البقرة- يقول سبحانه: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177] المعنى أنهم ينفقون في هذه الجهات، في القرابات، وفي الأيتام الفقراء، وفي المساكين غير الأقارب من الضعفاء، وفي أبناء السبيل، وهم الذين يمرون بالبلد وليسوا من أهلها وتنقطع بهم النفقة، وهكذا السائلون وهم الذين يسألون الناس لحاجتهم ومسكنتهم، أو سائلون مجهولون لا تعرف حالهم، فيعطون ما يسد حالهم، وقوله: وَفِي الرِّقَابِ المعنى: ينفقون في عتق الرقاب، أي في عتق العبيد والإماء وفي عتق الأسارى وفك أسرهم.
ثم قال سبحانه وتعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ والمعنى: أن المؤمنين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة يحافظون على الصلوات، ويقيمونها في أوقاتها، كما شرعها الله، ويؤدون الزكاة كما شرعها الله، ثم قال سبحانه: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا أي إذا أعطوا عهدا وفوا ولم يغدروا، ثم قال سبحانه: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أي في حالة البأساء، وهي: حالة الفقر، والضراء وهي: الأمراض والأوجاع والجراحات ونحو ذلك، وحين البأس: حين القتال والحرب، ثم قال سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ هؤلاء هم أهل الصدق، لكونهم حققوا إيمانهم بأعمالهم الطيبة، وتقواهم لله عز وجل. وذكر في سورة الأنفال صفات أخرى، وفي سورة براءة، وفي سورة المؤمنون قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2].
وفي مواضع أخرى ذكر صفات المؤمنين وأخلاقهم ومن نظر في القرآن الكريم وتعقله وجد ذلك، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] ويقول سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] ويقول عز وجل: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44] ويقول سبحانه وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:29].
فنصيحتي لإخواني وأخواتي في الله وعموم الناس، نصيحتي لهم جميعا ولنفسي: العناية بالقرآن وتدبر معانيه وحفظه عن ظهر قلب، والحرص على تلاوته باستمرار من المصحف تارة وعن ظهر قلب تارة أخرى إن كان القارئ ممن يحفظه بالتدبر والتعقل وطلب الفائدة، كما قال سبحانه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] وتطبيق ذلك بالعمل والفهم والفقه، فالله سبحانه قد أنزل هذا الكتاب للعمل والعلم والفقه، قال عز وجل: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] فهو منزل للعمل والاتباع، لا لمجرد القراءة والحفظ.
لأن الحفظ والقراءة وسيلة، والمقصود هو العلم بالكتاب والسنة مع الإيمان بالله ورسوله وتنفيذ أوامر الله وترك نواهيه، ويجمع ذلك قوله تعالى في سورة التوبة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] فهذه الآية من أجمع الآيات في بيان صفات المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم العظيمة، وما يجب عليهم، فقوله سبحانه وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يدل على أن المؤمنين والمؤمنات أولياء يتناصحون ويتحابون في الله، ويتواصون بالحق والصبر عليه ويتعاونون على البر والتقوى، هكذا المؤمنون والمؤمنات جميعا، المؤمن ولي أخيه وولي أخته في الله، والمؤمنة ولية أخيها في الله وأختها في الله، كل واحد منهما يحب الخير للآخر، ويدعوه إليه ويفرح باستقامته عليه، ويدفع عنه الشر، لا يغتابه ولا يتكلم في عرضه ولا عليه، ولا يشهد عليه بالزور ولا يسبه، ولا يدعي عليه دعوى باطلة، هكذا المؤمنون والمؤمنات.
فإذا رأيت من نفسك إيذاء لأخيك أو أختك في الله بالغيبة أو بالسب أو بالنميمة أو بالكذب أو غير هذا، فاعرف أن إيمانك ناقص وأنك ضعيف الإيمان، لو كان إيمانك مستقيما كاملا لما فعلت ما فعلت من ظلم أخيك، والتعدي عليه بالغيبة والنميمة، أو الدعوى الباطلة أو الشهادة بالزور أو اليمين الكاذبة أو السباب، ونحو ذلك، فالإيمان بالله ورسوله والتقوى لله والبر والهدى، كل ذلك يمنع صاحبه عن التعدي على أخيه في الله وأخته في الله، لا بالغيبة ولا بالشتم ولا بالكذب ولا بالدعوى الباطلة ولا بشهادة الزور ولا غير ذلك من أنواع الظلم، فإيمانه يحجزه عن ذلك ويمنعه من كل أذى، ثم قال سبحانه بعد ذلك: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ هذا واجب عظيم فيه صلاح الأمة، وبه نصر الدين، وبه القضاء على أسباب الهلاك والمعاصي والشرور، فالمؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ المؤمن لا يسكت إذا رأى من أخيه منكرا، ينهاه عنه، وهكذا إن رأى من أخته أو عمته أو خالته أو غيرهن، إذا رأى منهن منكرا نهاهن عن ذلك، وإذا رأى من أخيه في الله أو أخته في الله تقصيرا في الواجب أنكر عليه ذلك، وأمره بالمعروف، كل ذلك بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن، فالمؤمن إذا رأى أخا له في الله يتكاسل عن الصلوات أو يتعاطى الغيبة أو النميمة أو شرب الدخان أو المسكر أو يعصي والديه أو أحدهما أو يقطع أرحامه أنكر عليه بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، لا بالألقاب المكروهة والأسلوب الشديد، وبين له أن هذا الأمر لا يجوز له، وهكذا إذا رأى من أخته في الله منكرا أنكر عليها ذلك، كأن يراها تعصي والديها، أو تسيء إلى زوجها أو تقصر في تربية أولادها أو تتساهل بالصلاة أنكر عليها، سواء كان زوجها أو أباها أو أخاها أو ابن أختها أو ابن أخيها، أو ليس قريبا لها، بل من الناس الذين عرفوا ذلك منها، وهي كذلك إذا رأت من زوجها تقصيرا نهته عن ذلك، كأن رأته يشرب الخمر أو رأته يدخن أو رأته يتساهل بالصلاة أو يصلي في البيت دون المسجد تنكر عليه بالأسلوب الحسن وبالكلام الطيب، كأن تقول له: يا عبدالله، اتق الله وراقب الله، هذا لا يجوز لك، حافظ على الصلاة في الجماعة، دع عنك ما حرم الله عليك من المسكرات أو التدخين أو حلق اللحية أو إطالة الشوارب أو إسبال الملابس.
كل هذه المنكرات يجب على كل واحد من المؤمنين والمؤمنات والصلحاء إنكارها، وعلى الزوج والزوجة وعلى الأخ والقريب وعلى الجار وعلى الجليس وعلى غيرهم القيام بذلك، كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وقال المصطفى -عليه الصلاة والسلام: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه ويقول -عليه الصلاة والسلام: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وهذا عام لجميع المنكرات، سواء كانت في الطريق أو في البيت أو في المسجد أو في الطائرة أو في القطار أو في السيارة أو في أي مكان، وهو يعم الرجال والنساء جميعا، المرأة تتكلم والرجل يتكلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن في هذا صلاح الجميع ونجاة الجميع، ولا يجوز السكوت عن ذلك من أجل خاطر الزوج أو خاطر الأخ أو خاطر فلان وفلان، لكن يكون بالأسلوب الحسن والكلمات الطيبة، لا بالعنف والشدة، ومع ملاحظة الأوقات المناسبة، فقد يكون بعض الناس في وقت لا يقبل التوجيه، ولكنه في وقت آخر يكون متهيئا للقبول، فالمؤمن والمؤمنة يلاحظان للإنكار والأمر بالمعروف الأوقات المناسبة، ولا ييأس إذا لم يقبل منه اليوم أن يقبل منه غدا، فالمؤمن لا ييأس، والمؤمنة لا تيأس، بل يستمران في إنكار المنكر، وفي الأمر بالمعروف، وفي النصيحة لله ولعباده، مع حسن الظن بالله والرغبة فيما عند الله عز وجل.
ثم قال الله سبحانه: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ هكذا المؤمنون والمؤمنات، يقيمون الصلاة ويحافظون عليها في أوقاتها، ويقيمها الرجال في المساجد، ويحافظون عليها مع إخوانهم في الجماعة، ويسارعون إليها إذا سمعوا المنادي يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ويبادرون إليها في جميع الأوقات. والواجب على كل مؤمن أن يراقب الله في ذلك ويحذر مما ابتلي به كثير من الناس - والعياذ بالله- من أدائها في البيت، والتخلف عن صلاة الجماعة حتى شابهوا أهل النفاق في ذلك، فيصلي في البيت وقد عافاه الله، وربما أخر الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس، إلى أن يقوم للعمل فيصلي، وربما تركها بالكلية، وهذا هو البلاء العظيم والمنكر الخطير.
فالصلاة عمود الإسلام، من حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، من تركها كفر لقول النبي ﷺ: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وهذا يعم الرجال والنساء، ويقول -عليه الصلاة والسلام: بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة فلا يجوز للمؤمن التساهل بهذا الأمر ولا للمؤمنة، ولا يجوز للرجل فعلها في البيت، بل يجب الخروج إلى المساجد، يقول النبي: من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، أنا رجل أعمى ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم قال: فأجب فلم يرخص له النبي ﷺ وهو أعمى ليس له قائد يلائمه، فكيف بحال الصحيح البصير؟!
وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم وهذا يدل على عظم الأمر.
فالواجب العناية بالصلاة والمسارعة إليها في المساجد، والحذر من التكاسل عنها والتثاقل، فإن الكسل عنها والتثاقل من صفات أهل النفاق -نعوذ بالله من حالهم- كما قال سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا [النساء:142] فالواجب على كل مسلم ومسلمة العناية بالصلاة التي هي عمود الإسلام، وهي أعظم أركانه بعد الشهادتين، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها ضيع دينه -ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن المحافظة عليها ومن إقامتها الخشوع فيها وعدم مسابقة الإمام، يقول الله سبحانه وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2] ويقول ﷺ: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قيل: يا رسول الله، كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولما رأى النبي ﷺ رجلا قد أساء في صلاته، فلم يتم ركوعها ولا سجودها أمره أن يعيد الصلاة، وقال له: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وكثير من الناس ينقرها نقرا، ولا شك أن ذلك منكر عظيم؛ لأن من نقرها بطلت صلاته للحديث المذكور، فلابد من الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال بعد الركوع وبين السجدتين، مع الحذر من مسابقة الإمام، فإذا كنت مع الإمام فلا تسابقه، إذا كبر فلا تكبر حتى يكبر وينقطع صوته، وإذا قال: "الله أكبر" راكعا، فلا تركع حتى يستوي راكعا وحتى ينقطع صوته، ثم تركع، وهكذا في السجود لا تسابق الإمام، ولا تكن مع الإمام، لا معه ولا تسابقه، لا هذا ولا هذا، يقول ﷺ: إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف ويقول -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد وهذا الأمر واضح بين -لكل من وفقه الله- ولكن بعض الناس لا يصبر، بل يسارع ويسابق الإمام-والعياذ بالله- فالواجب الحذر من ذلك.
ومما يعين على المحافظة على صلاة الفجر في وقتها وعلى أدائها في الجماعة: التبكير بالنوم وعدم السهر، وقد كان النبي ﷺ يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها.
فالمشروع لكل مؤمن ومؤمنة بذل المستطاع في المحافظة على أداء الصلاة في وقتها وعدم السهر بعد العشاء؛ لأن ذلك قد يسبب النوم عن صلاة الفجر، وينبغي أن يستعان بالساعة المنبهة على ذلك، كما ينبغي التعاون على ذلك بين الرجل وأهله في هذا الأمر، لقول الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ويقول سبحانه وتعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] فلا بد من التناصح، والتواصي بالحق، والتعاون على الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل حلول العقوبة.
وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه وقال الرسول -عليه الصلاة والسلام: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وقال جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه: بايعت النبي ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
والمشروع للمسلم إذا سمع الفائدة أن يبلغها غيره، وهكذا المسلمة تبلغ غيرها ما سمعت من العلم؛ لقول النبي ﷺ: بلغوا عني ولو آية وكان ﷺ إذا خطب الناس يقول: ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ويقول ﷺ: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ويدخل في هذا الحديث العظيم كل من جاء إلى مسجد أو أي مكان فيه حلقة علم أو موعظة يطلب العلم ويستفيد.
ويقول -عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ويقول -عليه الصلاة والسلام: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ويقول ﷺ: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده وهذا يدل على شرعية المسابقة إلى حلقات العلم والعناية بها، والحرص على الاجتماع على تلاوة القرآن ومدارسته، ومن ذلك سماع البرامج الدينية والأحاديث المفيدة التي تذاع من إذاعة القرآن الكريم، ويتولاها المعروفون بالعلم والبصيرة، وحسن العقيدة.
ثم من المعلوم أن الله سبحانه خلق الثقلين لعبادته، والعبادة لابد فيها من العلم. والإنسان لا يعرف العبادة التي كلف بها إلا بالتعلم والتفقه في الدين، والله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فما هي العبادة التي لا بد أن تتعلمها، ولابد أن تتفقه فيها؟ هي كل ما شرعه الله وأحبه لعباده من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك، ثم قال سبحانه وتعالى بعد الصلاة: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ فالزكاة حق المال، يجب على المسلم أن يؤدي زكاة أمواله إلى أهلها، مخلصا لله، راجيا ثوابه، خائفا من عقابه، سبحانه وتعالى، وقد بين الله أهلها في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] الآية من سورة التوبة، ثم قال بعدها: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بعدما ذكر الصلاة والزكاة والموالاة بين المؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني في كل شيء، كما يطيعونه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الصلاة والزكاة، يطيعونه في كل شيء، هكذا المؤمن والمؤمنة، يطيعون الله ورسوله في كل الأوامر والنواهي أينما كانوا، ولا يتم الدين إلا بذلك، ثم قال تعالى: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ فأوضح سبحانه بذلك أن الذين استقاموا على دين الله وأدوا حقه وأطاعوه، وأطاعوا رسوله -عليه الصلاة والسلام، هم المستحقون للرحمة في الدنيا والآخرة؛ لطاعتهم لله وإيمانهم به وأدائهم حقه، فدل ذلك على أن المعرض الغافل المقصر قد عرض نفسه لعذاب الله وغضبه، فالرحمة تحصل بالعمل الصالح والجد في طاعة الله والقيام بأمره، ومن أعرض عن ذلك وتابع الهوى والشيطان فله النار يوم القيامة، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 37-41].
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يرزقنا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والتعاون على البر والتقوى وإيثار الآخرة على الدنيا، والحرص على سلامة القلوب وسلامة الأعمال، والحرص على نفع المسلمين أينما كانوا، كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين عموما، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يمنحهم الفقه في دينه، وأن يشرح صدورهم لتحكيم شريعته والحكم بها، والاستقامة عليها، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين في كل مكان من مضلات الفتن وطوارق المحن، وأن يخذل أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن يجعل الدائرة عليهم، وأن ينصر إخواننا المجاهدين في سبيل الله في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه[1].
- محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في مسجد سليمان الراجحي بالرياض، شهر ربيع الآخر عام 1407هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 4/ 39)