بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، نبينا، وإمامنا، وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه، إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله جل وعلا خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بها ، فقال : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] ، فخلقهم للعبادة وتكفل بأرزاقهم، كما قال في الآية الأخرى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] وأرسل الرسل جميعًا لهذا الأمر العظيم؛ ليدعوا الناس إلى عبادة الله، ويأمروهم بها، ويوضحوها لهم، فقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] هكذا جميع الرسل، بعثوا لهذا الأمر العظيم؛ ليأمروا الناس، أن يعبدوا الله وحده دون كل ما سواه، ويقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
وهذه العبادة التي خلقوا لها، وأرسلت الرسل بها، أمرهم بها سبحانه في مواضع من كتابه العظيم، كما في قوله تعالى في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وقال في سورة النساء: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شيئًا [النساء:36]، وقال في سورة بني إسرائيل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وقال في سورة البينة: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة:5]، وقال سبحانه: فَاعبد الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3].
فهذه العبادة التي خلقوا لها، قد أمروا بها، وبينت لهم في كتاب الله، وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وبعث الله بها الرسل جميعًا... وخاتمهم، وأفضلهم، وإمامهم، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بعث بذلك، بعثه الله يدعو الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له، ومكث في مكة بضع عشرة سنة، ثلاث عشرة سنة، يدعو الناس إلى توحيد الله وطاعة الله، يأمرهم أن يعبدوا الله وحده، وأن يخلعوا عبادة ما سواه، من الأصنام والأوثان والملائكة والأنبياء وغير ذلك، يقول: يا قوم قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا[1]، فأجابه الأقل، وأنكر دعوته الأكثرون، ولم يزل صابرا داعيا إلى الله ، حتى أمره الله بالهجرة إلى المدينة بعد ما اشتد أذى المشركين له وللذين انقادوا لما جاء به عليه الصلاة والسلام، فهاجر إلى المدينة ومكث بها عشر سنين يدعو إلى الله، ويعلم الناس شريعة الله، وأنزل الله عليه القرآن العظيم، بعضه في مكة وبعضه في المدينة وبينه للناس وأرشد الناس إلى ما دل عليه القرآن، وبين لهم ما أوحى الله إليه في ذلك، فإن الله أعطاه وحيين: القرآن، والوحي الثاني: السنة.
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى -يعني محمدًا عليه الصلاة والسلام- وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4] فالله أوحى إليه القرآن وأوحى إليه السنة، وهى أحاديثه عليه الصلاة والسلام وما بينه للأمة من شرع الله، فتلقى الصحابة عنه هذا الدين العظيم، دين الإسلام، ونقلوه إلينا غضًّا طريًّا، وهكذا نقله التابعون عن الصحابة وهكذا أتباع التابعين، ولم يزل أهل العلم ينقلون هذا العلم، من جيل إلى جيل ومن قرن إلى قرن، ويكتبون فيه الكتب الكثيرة، ويوضحون للناس دعوة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وما بينه الكتاب العظيم القرآن من دين الله.
فعقيدة المسلمين التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة، هي ما بين الله لعباده في كتابه العظيم، وبينه رسوله عليه الصلاة والسلام، وتلقاه الصحابة عن نبيهم ، وبلغوه للناس، هو دين الله وهو توحيد الله وطاعته، واتباع رسوله وترك ما نهى عنه والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، هذا هو دين الله وهذا هو العقيدة التي درج عليها سلف الأمة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، الإيمان بالله ورسوله والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، والعمل بذلك قولا وعملا وعقيدة، عن محبة وانقياد وإخلاص وموالاة ومعاداة، فالإيمان بالله ورسوله: هو الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، من الطاعات القولية والفعلية.
على المؤمن أن يتلقى ذلك عن كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كما تلقاه أصحاب النبي ﷺ، ومن بعده من السلف الصالح وقد بينه ﷺ في أحاديث كثيرة، شرح للناس دين الإسلام والإيمان والإحسان، وأوضح للناس أوامر الله ونواهيه قولا وعملا.
فعقيدة أهل السنة والجماعة هي العمل بكل ما أخبر الله به ورسوله، وبكل ما أمر الله به ورسوله، عن إيمان صادق وإخلاص لله، ومحبة ورغبة ورهبة، فهم يؤدون أوامر الله، وينتهون عن نواهي الله، ويقفون عند حدود الله عن إيمان بالله ورسوله، وعن إخلاص وصدق، وعن رغبة ورهبة لا رياء ولا سمعة، ولا نفاقا ولكن عن إيمان وعن صدق.
وهذه العبادة التي خلقوا لها سماها الله إسلاما، وسماها إيمانا وسماها تقوى، وسماها هدى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136].
فهي إيمان وإسلام وهدى، وتقوى وبر وصلاح وإصلاح، هذه العقيدة التي درج عليها أهل السنة والجماعة، وهي دين الله، الذي بعث به رسوله ﷺ، وبعث به جميع المرسلين، قول وعمل وعقيدة، قول باللسان وعمل بالجوارح، وعقيدة بالقلب عن محبة وعن إخلاص، وعن صدق وعن رغبة ورهبة، وجميع ما جاءت به الكتب والرسل يندرج تحت الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، كما قال جل وعلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، وقال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الآية [البقرة:136]، وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ الآية [البقرة:285]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية [النساء:136].
فدين الإسلام وعقيدة أهل السنة والجماعة، هي الإيمان بالله قولا وعملا وعقيدة، ويدخل في الإيمان ما بينه الرسول ﷺ لجبرائيل لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، بين له أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، والإحسان قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبدالله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[2].
هذا هو دين الله، عند التفصيل إسلام وإيمان وإحسان، فالإسلام ما أمر الله به ورسوله من الأعمال الظاهرة، تسمى إسلاما يعني خضوعا لله، الإسلام الانقياد والذل لله، سمى الله دينه إسلاما؛ لأن المسلم ينقاد لله ويذل له، ويؤدي حقه عن خضوع وذل وانكسار، وهذا هو العبادة، سمي عبادة لهذا، سمي الدين كله عبادة؛ لأنه يؤدى بالذل والانكسار والخضوع لله ، فالعبادة التي خلقنا لها هي: الإسلام وهي دين الله وهي الإيمان والهدى، فقوله ﷺ: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله[3]... " الخ، داخل في قوله أن تؤمن بالله.
فالعقيدة التي تلقاها أهل السنة والجماعة، عن أصحاب النبي ﷺ، وتلقاها أصحاب النبي عن رسول الله، هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
هذه الستة الأصول هي أصول الدين كله، يدخل في الإيمان بالله: الإيمان بكل ما أمر الله به، وشرع من الإسلام من توحيد الله والإخلاص له والشهادة بأنه لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله، والشهادة بأن محمدًا عبدالله ورسوله، عليه الصلاة والسلام، ويدخل في ذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج، كله داخل في الإيمان بالله، والإيمان بجميع المرسلين، كما نص عليه جل وعلا في كتابه العظيم، ونص عليه الرسول ﷺ، فالإيمان بالله يشمل ذلك كله، الإيمان بالله يشمل جميع ما أمر الله به ورسوله، من صلاة وزكاة وصوم وحج وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن منكر إلى غير ذلك، من كل ما أمر به الله ورسوله، كله داخل في الإيمان بالله.
والإيمان بالملائكة معناه: الإيمان بكل الملائكة الذين خلقهم الله، يؤمن العبد بأن لله ملائكة خلقهم في طاعته وعبادته، وتنفيذ أوامره ، نؤمن بهم جميعًا، وأنهم خلقوا من النور، خلقهم الله من النور وأنهم في طاعته واتباع أمره وتنفيذ أوامره ، لا يحصي عددهم إلا الله جل وعلا، نؤمن بهم إجمالا وتفصيلا، نؤمن بالملائكة إجمالا، وأن لله ملائكة في طاعته واتباع أوامره وتنفيذها، ومنهم من فصَّله الله لنا وبين لنا أسماءهم كجبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، هؤلاء بينهم ، وهكذا ملك الموت ومن سماه الله من غيرهم، نؤمن بهم على سبيل التفصيل.
وهكذا الكتب نؤمن بها، كل ذلك داخل في الإيمان بالله، داخل في الإسلام، الكتب التي أنزلها الله على الرسل، فإن الله جل وعلا أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد: 25]، فالله أرسلهم وأرسل معهم الكتب لبيان الحق للناس، فنؤمن بكتب الله جميعًا على الإجمال والتفصيل.
نؤمن بجميع الكتب المنزلة على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومنها التوراة والإنجيل والزبور والقرآن الذي هو أعظمها المنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، صحف موسى وصحف إبراهيم، نؤمن بكل الكتب التي أنزلها الله على رسله، وأفضلها وخاتمها القرآن الكريم.
وهكذا نؤمن بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، نؤمن بهم جميعًا وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة عليهم الصلاة والسلام، ومنهم آدم عليه الصلاة والسلام الرسول النبي المكلم، فهو رسول الله إلى ذريته يدعوهم إلى توحيد الله، ويأمرهم بأمر الله، وينهاهم عن نهي الله، ثم بعث الله نوحا عليه الصلاة والسلام، بعد ما وقع الشرك في بني آدم، أرسل الله نوحا، فنوح هو أول الرسل إلى أهل الأرض، بعد ما وقع الشرك فيهم، بعث الله نوحا عليه الصلاة والسلام، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وصبر على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وهو فيهم يدعوهم إلى الله، فلما استكبروا واستمروا في العناد أهلكهم الله بالغرق، وأنجاه هو وأصحاب السفينة عليه الصلاة والسلام.
وهكذا من بعده من الرسل كهود وصالح وشعيب ولوط وموسى، وهارون وغيرهم، كلهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة إلى أن ختمهم الله بأفضلهم محمد عليه الصلاة والسلام، نؤمن بذلك، من عقيدة أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله ورسوله أن نؤمن بهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم أدوا الرسالة، بلغوها وأدوا أمانة الله وصبروا، منهم من قتل ومنهم من سلم.
وهم متفاوتون، منهم من تبعه جمع غفير ومنهم من لم يتبعه إلا قليل، حتى قال ﷺ في حديث ابن عباس: منهم من لم يتبعه إلا الرهط، الثلاثة والأربعة والخمسة، ومنهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان، ومن الرسل من لم يتبعه أحد[4]، بل خالفه القوم كلهم والعياذ بالله.
وهكذا نؤمن باليوم الآخر، وهو الأصل الخامس من أصول الإيمان نؤمن باليوم الآخر، فأهل السنة والجماعة يؤمنون باليوم الآخر وهو يوم القيامة، سمي الآخر لأنه دبر الدنيا، الدنيا ثم يوم القيامة، حين تقوم الساعة تذهب الدنيا، والدنيا هي اليوم الأول وتقوم الساعة وهي اليوم الآخر، ويجازى الناس بأعمالهم في هذا اليوم الآخر، وفيه تنصب الموازين ويحاسب الناس ويوفون أعمالهم ويعطى هذا كتابه بيمينه وهذا كتابه بشماله، فمن أعطي كتابه بيمينه فهو الرابح السعيد وله الجنة والكرامة، ومن أعطي كتابه بشماله فهو الهالك وله النار يوم القيامة، ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله عن الآخرة، عن يوم القيامة والجنة والنار، والجزاء والحساب وغير ذلك، كله داخل في الإيمان باليوم الآخر.
والأصل السادس الإيمان بالقدر: أن الله علم الأشياء قبل أن تكون، علمها سبحانه وقدرها، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فعلم أعمال العباد وما يقع في هذه الدار، وما يقع في الآخرة، كل ذلك علمه سبحانه وأحصاه وكتبه، فالمسلمون تلقوا عن نبيهم ﷺ الإيمان بيوم الآخرة كما دل عليه القرآن: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، وقال سبحانه: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:177]، فالمسلمون يتلقون إيمانهم عن رسولهم ﷺ، وعن كتاب ربهم بهذه الأصول الستة، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
فتؤمن بأن الله علم الأشياء كلها، وأنه أحصاها وكتبها وأنه سبحانه هو القادر على كل شيء، العالم بأحوال عباده وأن العباد لن يخرجوا عن قدر الله، وما سبق في علمه ، ولما أخبر النبي ﷺ الصحابة بذلك، قالوا: يا رسول الله إذا كان الله قد قدر كل شيء، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة، فييسروا لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسروا لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10].
ومن الإيمان بالله أيضا: الإيمان بأسمائه وصفاته، كما أنه داخل في ذلك الإيمان بشرائعه، من صلاة وزكاة وصوم، وحج وجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك، كله داخل في الإيمان بالله، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح، لما قال رجل: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك؟ قال: قل آمنت بالله ثم استقم[5]، كل شيء داخل في الإيمان بالله، كل ما أمر الله به ورسوله داخل في الإيمان، وهكذا قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
فمن آمن بالله ربا وإلها معبودا بالحق، واستقام على دينه، فهذا هو دين الله، وهذا هو الإسلام، وهذا هو الإيمان، وهذا هو الهدى، وهذا هو العبادة التي خلقنا لها، الإيمان بالله ثم الاستقامة؛ الإيمان بالله ربا وإلها معبودا بالحق والإيمان، بكل ما شرع من الأوامر والنواهي، والعمل بذلك. هذا كله العبادة، وهذا هو الدين، وهذا هو الإيمان بالله، وهذا هو الإسلام وهذا هو الهدى، وهذا هو التقوى.
ومن الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته، كله داخل في الإيمان بالله، الإيمان بأنه سبحانه حكيم عليم، رحمن رحيم، على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سبحانه بيده تصريف الأمور وهو القادر على كل شيء وإليه مصير العباد، فالإيمان بكل أسمائه وصفاته كل ذلك داخل في الإيمان بالله.
فعلى المكلف أن يؤمن بالله ربا وإلها معبودا بالحق، وعليه أن ينقاد لشريعته فعلا للمأمور، وتركا للمحظور، هكذا الإسلام وهكذا الإيمان. إيمان بالله يتضمن أداء فرائضه، وترك محارمه والوقوف عند حدوده، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله مما كان وما يكون.
وصفاته وأسماؤه توقيفية، تؤخذ من كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن يؤمن بذلك، يؤمن بكل ما دل عليه كتاب الله من أسمائه وصفاته، وبكل ما أخبر به النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة من أسماء الله وصفاته، كله داخل في الإيمان بالله، مع الإيمان بأنه سبحانه ليس كمثله شيء، له الكمال المطلق في علمه وتوحيده وفي قدرته وفي حكمته، في كل أسمائه وصفاته، كما قال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، ويقول سبحانه: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل:74].
فله الكمال المطلق في علمه وقدرته وحياته، وفي كل شيء ، لا شريك له ولا شبيه له ولا كفو له. وأسماؤه وصفاته جاءت مفصلة ومجملة، فصلها في الإثبات: إن الله عزيز حكيم غفور رحيم، سميع بصير عليم حكيم، على كل شيء قدير، مفصلة في إثباتها، ومجملة في نفيها، جمع سبحانه بين النفي والإثبات، نفي مجمل وإثبات مفصل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]. كل هذا نفي مجمل، وفيه نفي مفصل، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، ولكنه قليل، الغالب على النفي: الإجمال، نفي النقائص والعيوب، والمشابهة لخلقه.
وفصَّل صفاته الثابتة في كتابه العظيم: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75]، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28]، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24].
إلى غير هذا مما بين سبحانه من أسمائه وصفاته جل وعلا، فعلى العبد أن يؤمن بذلك، وبكل ما أخبر الله به ورسوله من أسماء الله وصفاته، على الوجه الذي يليق به سبحانه، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته، نؤمن بذلك على الوجه الذي يليق به سبحانه، ليس له مثيل ولا نظير ولا كفو ولا ند، جل وعلا، فعلمه كامل ليس كعلمنا، قدرته كاملة ليست كقدرتنا، بصره كامل ليس كبصرنا، وهكذا بقية صفاته ، وهكذا يسمع ويبصر ليس كسمعنا وبصرنا، بل هو أكمل وأعظم، وهكذا موصوف بأن له يدا، بل يداه مبسوطتان، سميع بصير، وله قدم كما في الحديث الصحيح: لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها رجله -وفي رواية قدمه، وينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قط قط -أي حسبي حسبي[6] لا مثيل له في سمعه ولا في بصره ولا في يده، ولا في وجهه ولا في قدمه ولا في غير ذلك، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].
وهذه الصفات التي وصف بها نفسه، نَصِفه بها، ونقول كما قال: له وجه وله يدان، وله سمع وله بصر وله قدم، وله أصابع كلها تليق به، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا، جاء في الحديث الصحيح: إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء[7].
وعرفت أيها المسلم: أن الإيمان بالكتب، يشمل الإيمان بجميع الكتب المفصلة والمجملة، نؤمن بكتب الله المنزلة على رسله وأنبيائه، وما سمى الله نسميه من التوراة والإنجيل، والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى، وما سمى الله نسميه وأعظمها القرآن وهو خاتمها.
وهكذا الملائكة نؤمن بهم إجمالا وتفصيلا، من سماه الله سميناه: كجبرائيل وميكائيل، ومن لم يسمه الله نقول: لله ملائكة، لا يحصيهم إلا الله جل وعلا. يقول النبي ﷺ في شأنهم: في البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة، على وزان الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه مرة أخرى[8]، كل يوم سبعون ألف ملك للتعبد، ثم لا يعودون إليه، فمن يحصيهم إلا الله جل وعلا. وله ملائكة يتعاقبون فينا، يشهدون معنا الصلوات، فإذا صلى الناس الفجر عرج الذين باتوا فينا، وبعد العصر يعرج الذين فينا من النهار وينزل أهل الليل، يجتمع في صلاة الصبح ملائكة يتعاقبون فينا، يشهدون على أعمال العباد وما شاهدوه منها، يسألهم ربهم وهو أعلم، إذا عرجوا إليه: كيف تركتم عبادي، فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون، ومعك أنت -يا عبدالله- كل واحد منا معه ملكان يكتبان أعماله، هذا يكتب حسناته وهذا يكتب سيئاته. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
فجدير بك يا عبدالله أن تحرص على إملاء الخير على هؤلاء الملائكة، أمل الخير، أمل عليهم ما ينفعك ويرضي الله عنك، من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، والدعوة إلى الله وتعليم الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى غير هذا من وجوه الخير، وهكذا العمل، فهم يكتبون كل شيء.
وعلينا أن نؤمن باليوم الآخر، علينا جميعًا على جميع المكلفين من الجن والإنس، الإيمان باليوم الآخر، يدخل فيه كل ما أخبر الله به عن يوم القيامة، كله داخل في الإيمان باليوم الآخر، الجنة والنار والحساب والجزاء، توزيع الكتب على الناس، والمرور على الصراط يوم القيامة، مرور المؤمن على الصراط إلى الجنة، إلى غير هذا من كل ما فرضه الله ورسوله في اليوم الآخر، علينا أن نؤمن بذلك، وأن الله يبعث عباده بعد مماتهم في آخر الزمان عند قيام الساعة، يرسل الله ريحا طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، فلا يبقى إلا الأشرار في خفة الطير وأحلام السباع، يأتيهم الشيطان ويزين لهم الشرك بالله وعبادة غير الله، فيعبدون غير الله وتمتلئ الأرض من شركهم وكفرهم، وضلالهم، وعليهم تقوم الساعة، نسأل الله العافية.
فالله جل وعلا يحكم بين عباده يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، كما قال جل وعلا: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، وقال جل وعلا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، ويقول سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شيئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
فجميع أعمال العباد يوفون إياها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، تنصب الموازين يوم القيامة، وتوزن فيها أعمال العباد فهذا يثقل ميزانه، وهذا يخفض ميزانه، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11].
من ثقلت موازينه أعطي كتابه بيمينه، ومن خفت موازينه أعطي كتابه بشماله، والعصاة أمرهم إلى الله، الذين ماتوا على المعاصي والسيئات، أمرهم إلى الله، من شاء سبحانه عفا عنه وأدخله الجنة وصار من أهل اليمين، من أهل النجاة والسعادة، ومن شاء سبحانه أدخله النار بذنوبه ومعاصيه، ثم بعد التطهير والتمحيص يخرجه الله من النار، ويلتحق بإخوانه في الجنة. وأهل الجنة فيها منعمون أبد الآباد، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، بل في نعيم دائم وخير دائم، وهذا الطعام والشراب جشأ ورشح، لا بول ولا غائط ولا مخاط ولا بصاق، وأهل النار في عذاب وبلاء، أبد الآباد، نسأل الله العافية، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]. هذه نهاية الناس، هذه النهاية.
فجدير بالعاقل أن تكون هذه النهاية على باله وألا يغفلها، فلا بد منها، ومن مات فقد قامت قيامته، فليحذر العبد أن يغفل، وأن يجازف في الأمور، فيندم غاية الندامة، ليعد لهذا اليوم عدته، وليحرص قبل أن يهجم عليه الأجل، على العدة الصالحة، على الزاد الصالح؛ من طاعة الله ورسوله والقيام بحقه والاستقامة على دينه، وذلك بفعل أوامر الله وترك نواهيه.
هذه العدة الصالحة، أن تستقيم على دين الله وأن توحد ربك، وتخصه بالعبادة، وأن تؤدي فرائضه من صلاة وغيرها، وأن تنتهي عن نواهيه، وأن تقف عند حدوده ترجو ثوابه وتخشى عقابه، هذه العدة الصحيحة، هذه العدة التي أنت مأمور بها ومخلوق لها، أن تعبد ربك وحده، تشهد أنه لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله، وأن محمدًا عبدالله ورسوله، وتؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، وتؤدي فرائض الله التي فرضها عليك بإخلاص له سبحانه، ورغبة فيما عنده ومحبة، وتنتهي عن نواهي الله، عن إيمان وصدق وإخلاص، وتقف عند حدود الله مؤمنا بالله ورسله، مؤمنا بأن الله قدر الأقدار، وشاء ما شاء ، فعليك أن تؤمن بالقدر خيره وشره، أن تعلم أن الله علم الأشياء وكتبها، وأنه الخالق لكل شيء، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لهم لم يكن .
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان أيضًا بأن الله يُرى يوم القيامة، إذا جاء لفصل العباد يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون. كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]. والمؤمنون يرونه ويكشف لهم عن ساق، وينظرون إليه ويكلمهم، يحييهم ، ثم في الجنة يرونه سبحانه، يراه المؤمن في الجنة، كما يشاء ، وما أعطوا في الجنة شيئًا أحب إليهم من النظر إلى وجهه، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]، الحسنى: الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، والمسلمون إذا انتهوا من الموقف يمرون على الصراط، منصوب بين الجنة والنار، يمر عليه المؤمنون، ويمنع منه الكافرون، فاحرص على العدة التي تيسر في مرورك، من الإيمان بالله والتقوى.
وعلى الصراط كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، منهم من يخطف وينجو، ومنهم من يخطف ويسقط بسبب معاصيه، والكفار لا يمرون عليه بل يساقون إلى النار، ويحشرون إليها كما ضيعوا أمر الله، وأشركوا به وكفروا به، يحشرون إليها، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بأن المؤمن مخلد في الجنة أبد الآباد، ونعيمهم فيها متفاوت، قصورهم ونعيمهم وزوجاتهم مختلفون في ذلك، منهم من يعطى زوجات كثيرات، ومنهم من هو أقل من ذلك. ولكل واحد زوجتان من الحور العين، غير زوجاته من الدنيا، وغير ما يعطى من الزوجات الأخريات من الحور العين، كل واحد لا ينقص عن زوجتين من الحور العين، مع ما له من زوجات الدنيا، فالنساء في الجنة أكثر وفي النار أكثر، في الجنة أكثر ومعهم الحور العين، وفي النار أكثر لما يحصل منهن من الإضاعة لأمر الله، والمعاصي الكثيرة التي من أسبابها صرن أكثر أهل النار، قال الرسول ﷺ: رأيتكن أكثر أهل النار، قالت له امرأة: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير -يعني تكثرن السب والشتم، وتكفرن الأزواج والإحسان- لو أحسن الزوج إلى إحداكن الدهر، ثم رأت منه شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط[9] الأغلب إنكار الجميل عند أقل شيء من الزوج، فلهذا كن أكثر أهل النار، بسبب المعاصي والشرور وكفران العشير، وعدم الإيمان بالله ورسوله. وهن أكثر أهل الجنة لما معهن من الحور العين، فالمؤمنات في الجنة مع أزواجهم المؤمنين، ولأزواجهم مزيد من الحور العين، لكل واحد زوجتان من الحور العين، وقد يزاد بعضهم زوجات كثيرات على حسب أعمالهم الصالحة، لكن أقلهم من له زوجتان من الحور العين غير نصيبه من زوجات الدنيا.
ومن أخبار اليوم الآخر: أن أهل الجنة يتزاورون فيها، وهم في نعيم دائم، لا يتغوطون ولا يبولون ولا يتفلون، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، يسبحون الله بكرة وعشية يتنعمون بالتسبيح والتهليل، والتحميد والتكبير وذكر الله ، وهم مع تزاورهم واختلاف منازلهم في الجنة، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، كل واحد يرى أنه في نعمة ليس فيها غيره من النعيم العظيم، ليس يعتليه حزن ولا مضايقة، بل في نعيم دائم وسرور دائم، مع لقائه لإخوانه في الأوقات التي يشاؤها الله، ولهم مواعيد مع ربهم يزورونه، ويسلمون عليه وينظرون إلى وجهه الكريم، على حسب مراتبهم، كل هذا من الإيمان باليوم الآخر، ولهم يوم المزيد يوم يجمع الله فيه أهل الجنة، ويزورونه وينظرون إليه، ويسلم عليهم يحادثهم .
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بأن جميع الخلائق يوفون أجورهم في ذلك اليوم، ما أحد يضيع حقه، كل يعطى حقه، من مسلم وكافر وعاص ولو مثقال الذرة، ما يضيع ولو مثاقيل الذر. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، فالواجب على كل مكلف من الرجال والنساء، أن يعد العدة لهذا اليوم، وأن يكون على باله، على الرجل أن يعد العدة وأن يتقي الله، وأن يستقيم على دين الله، وأن يحافظ على ما أوجب الله عليه من صلاة وغيرها، وعلى المرأة كذلك أن تؤدي حق الله، وأن تستقيم على دين الله، وأن تتفقه في دين الله، وأن تؤدي حق زوجها في المعروف، وأن تحذر كفر العشير، وإيذاء الزوج بغير حق، وعلى الزوج أن يتقي الله في أهله، وألا يظلمهم، قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، فعلى الزوج أن يتقي الله، وأن يعاشر بالمعروف وعلى الزوجة أن تتقي الله، وأن تسمع وتطيع زوجها في المعروف، وعليهما أن يتعاونا على البر والتقوى، على طاعة الله ورسوله، حتى تكون زوجته في الجنة، وحتى يكون زوجها في الجنة.
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالحوض المورود للنبي ﷺ حوض يوم القيامة، يرده الناس، حوض عظيم، طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، آنيته كثيرة يرده المؤمنون أتباع النبي ﷺ، يردونه ويشربون منه يوم القيامة، ويذاد عنه الكافرون الذين لم يؤمنوا بالرسول ﷺ أو ارتدوا بعد وفاته، يذادون عنه ويحرمون منه، كما يحرمون من دخول الجنة، ويرده المؤمنون ويشربون منه، من هذا الحوض المورود، كل هذا من أخبار يوم القيامة، وهو يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة، يوم طويل عظيم، لكن لا ينتصف إلا وقد صار أهل الجنة إلى منازلهم، قال تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24] عند نصف النهار قد وصلوا إلى منازلهم، وتبوءوا منازلهم، وتنعموا فيها. وما ذلك إلا لكثرة الخلق، وطول الحساب، والله جل وعلا هو الحكيم العليم، الذي يجازيهم بأعمالهم: خيرها وشرها، هو الحكم العدل لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17]، إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شيئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
فأنت يا عبدالله حاسب نفسك، وهكذا أنت يا أمة الله حاسبي نفسك، كل يحاسب نفسه، ينظر ماذا قدم وماذا فعل، هل أدى حق الله، هل استقام على دين الله، هل أدى واجب الله، هل ترك محارم الله، هل وقف عند حدود الله، هل أدى ما عليه لإخوانه، وهكذا الزوج يحاسب نفسه، هل أدى حق زوجته، هل أنصفها، هل أدى حق والديه، هل أدى حق أولاده وقراباته. وهكذا الزوجة، المرأة تحاسب نفسها، تنظر هل أدت حق زوجها، هل أدت حق والدها وأقاربها، كل ذلك مطلوب، كما أن على كل منهما أن يؤدي حق الله، وهكذا حق المخلوق أيضا.
حق الله أعظم وأكبر، ولكن أوجب عليك حقوقا لغيرك، أوجب عليك حقا لوالديك، ولزوجتك ولأولادك ولإخوانك المسلمين، عليك أن تؤديه، وهكذا المرأة عليها أن تؤدي حق الله الذي عليها لربها، ولزوجها ولقراباتها وللمسلمين.
ومن الحق على الجميع الدعوة إلى الله، وتعليم الناس للخير، والنصح لله ولعباده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا من حق الله على الجميع، التواصي بالحق والتناصح. وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
من الحق على الجميع التعاون على البر والتقوى، يقول سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، فالواجب على كل إنسان، أن يحاسب نفسه، هل أدى الحق الذي عليه لله ولعباده، ولا شك أنه متى حاسب نفسه وناقشها، وجد التقصير، فعليه أن يكمل، عليه أن يستقيم، وعليه أن يجاهد نفسه لله، حتى يؤدي الحقوق التي لله ولعباده.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون أيضًا بكلام الله، وأنه يكلم أهل الجنة، ويكلم عباده يوم القيامة، ويسمعون كلامه ، ويسلم على أهل الجنة ويقول: هل رضيتم؟ فيقولون يا ربنا ما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، ألم تثقل موازيننا، ألم تدخلنا الجنة، ألم تنجنا من النار، قال: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا[10] هذا من فضله وجوده جل وعلا.
وجميع ما يقوله أهل السنة والجماعة، كله موزون بالكتاب والسنة والإجماع، فدين الله مبني على هذه الأصول الثلاثة، على كتاب الله القرآن، وعلى سنة رسوله ﷺ، وعلى إجماع سلف الأمة.
وأهل السنة وأهل الجماعة هم المستقيمون على دين الله ورسوله، هم التابعون للحق، هم المنقادون لشرع الله، فهم يؤمنون بأن القرآن الكريم كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ويؤمنون بما جاء عن رسوله ﷺ، وأن أمة محمد تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والفرقة الناجية هم المؤمنون به، وهم أهل السنة والجماعة، وهم المستقيمون على دينه وعلى اتباع شريعته، هم أهل السنة والجماعة، هم الفرقة الناجية، واثنتان وسبعون متوعدون بالنار إما لكفرهم، وإما لبدعهم ومخالفاتهم، أما أهل السنة والجماعة، فهم الذين استقاموا على دين الله، قولا وعملا وعقيدة، واتبعوا شرع الله ونصحوا لله ولعباده، وتباعدوا عن مساخطه، فهؤلاء هم أهل السنة والجماعة، هم أهل الحق، هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وأتباعهم بإحسان.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيذنا جميعًا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، كما نسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، كما نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين، وأن يعيذهم من دعاة الباطل ونزغات الشيطان، ومن كل ما يخالف أمره سبحانه، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل، إنه جل وعلا الجواد الكريم وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان[11].
أما بعد: فإن الله جل وعلا خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بها ، فقال : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] ، فخلقهم للعبادة وتكفل بأرزاقهم، كما قال في الآية الأخرى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] وأرسل الرسل جميعًا لهذا الأمر العظيم؛ ليدعوا الناس إلى عبادة الله، ويأمروهم بها، ويوضحوها لهم، فقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] هكذا جميع الرسل، بعثوا لهذا الأمر العظيم؛ ليأمروا الناس، أن يعبدوا الله وحده دون كل ما سواه، ويقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
وهذه العبادة التي خلقوا لها، وأرسلت الرسل بها، أمرهم بها سبحانه في مواضع من كتابه العظيم، كما في قوله تعالى في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وقال في سورة النساء: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شيئًا [النساء:36]، وقال في سورة بني إسرائيل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وقال في سورة البينة: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة:5]، وقال سبحانه: فَاعبد الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3].
فهذه العبادة التي خلقوا لها، قد أمروا بها، وبينت لهم في كتاب الله، وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وبعث الله بها الرسل جميعًا... وخاتمهم، وأفضلهم، وإمامهم، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بعث بذلك، بعثه الله يدعو الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له، ومكث في مكة بضع عشرة سنة، ثلاث عشرة سنة، يدعو الناس إلى توحيد الله وطاعة الله، يأمرهم أن يعبدوا الله وحده، وأن يخلعوا عبادة ما سواه، من الأصنام والأوثان والملائكة والأنبياء وغير ذلك، يقول: يا قوم قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا[1]، فأجابه الأقل، وأنكر دعوته الأكثرون، ولم يزل صابرا داعيا إلى الله ، حتى أمره الله بالهجرة إلى المدينة بعد ما اشتد أذى المشركين له وللذين انقادوا لما جاء به عليه الصلاة والسلام، فهاجر إلى المدينة ومكث بها عشر سنين يدعو إلى الله، ويعلم الناس شريعة الله، وأنزل الله عليه القرآن العظيم، بعضه في مكة وبعضه في المدينة وبينه للناس وأرشد الناس إلى ما دل عليه القرآن، وبين لهم ما أوحى الله إليه في ذلك، فإن الله أعطاه وحيين: القرآن، والوحي الثاني: السنة.
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى -يعني محمدًا عليه الصلاة والسلام- وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4] فالله أوحى إليه القرآن وأوحى إليه السنة، وهى أحاديثه عليه الصلاة والسلام وما بينه للأمة من شرع الله، فتلقى الصحابة عنه هذا الدين العظيم، دين الإسلام، ونقلوه إلينا غضًّا طريًّا، وهكذا نقله التابعون عن الصحابة وهكذا أتباع التابعين، ولم يزل أهل العلم ينقلون هذا العلم، من جيل إلى جيل ومن قرن إلى قرن، ويكتبون فيه الكتب الكثيرة، ويوضحون للناس دعوة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وما بينه الكتاب العظيم القرآن من دين الله.
فعقيدة المسلمين التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة، هي ما بين الله لعباده في كتابه العظيم، وبينه رسوله عليه الصلاة والسلام، وتلقاه الصحابة عن نبيهم ، وبلغوه للناس، هو دين الله وهو توحيد الله وطاعته، واتباع رسوله وترك ما نهى عنه والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، هذا هو دين الله وهذا هو العقيدة التي درج عليها سلف الأمة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، الإيمان بالله ورسوله والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، والعمل بذلك قولا وعملا وعقيدة، عن محبة وانقياد وإخلاص وموالاة ومعاداة، فالإيمان بالله ورسوله: هو الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، من الطاعات القولية والفعلية.
على المؤمن أن يتلقى ذلك عن كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كما تلقاه أصحاب النبي ﷺ، ومن بعده من السلف الصالح وقد بينه ﷺ في أحاديث كثيرة، شرح للناس دين الإسلام والإيمان والإحسان، وأوضح للناس أوامر الله ونواهيه قولا وعملا.
فعقيدة أهل السنة والجماعة هي العمل بكل ما أخبر الله به ورسوله، وبكل ما أمر الله به ورسوله، عن إيمان صادق وإخلاص لله، ومحبة ورغبة ورهبة، فهم يؤدون أوامر الله، وينتهون عن نواهي الله، ويقفون عند حدود الله عن إيمان بالله ورسوله، وعن إخلاص وصدق، وعن رغبة ورهبة لا رياء ولا سمعة، ولا نفاقا ولكن عن إيمان وعن صدق.
وهذه العبادة التي خلقوا لها سماها الله إسلاما، وسماها إيمانا وسماها تقوى، وسماها هدى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136].
فهي إيمان وإسلام وهدى، وتقوى وبر وصلاح وإصلاح، هذه العقيدة التي درج عليها أهل السنة والجماعة، وهي دين الله، الذي بعث به رسوله ﷺ، وبعث به جميع المرسلين، قول وعمل وعقيدة، قول باللسان وعمل بالجوارح، وعقيدة بالقلب عن محبة وعن إخلاص، وعن صدق وعن رغبة ورهبة، وجميع ما جاءت به الكتب والرسل يندرج تحت الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، كما قال جل وعلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، وقال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الآية [البقرة:136]، وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ الآية [البقرة:285]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية [النساء:136].
فدين الإسلام وعقيدة أهل السنة والجماعة، هي الإيمان بالله قولا وعملا وعقيدة، ويدخل في الإيمان ما بينه الرسول ﷺ لجبرائيل لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، بين له أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، والإحسان قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبدالله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[2].
هذا هو دين الله، عند التفصيل إسلام وإيمان وإحسان، فالإسلام ما أمر الله به ورسوله من الأعمال الظاهرة، تسمى إسلاما يعني خضوعا لله، الإسلام الانقياد والذل لله، سمى الله دينه إسلاما؛ لأن المسلم ينقاد لله ويذل له، ويؤدي حقه عن خضوع وذل وانكسار، وهذا هو العبادة، سمي عبادة لهذا، سمي الدين كله عبادة؛ لأنه يؤدى بالذل والانكسار والخضوع لله ، فالعبادة التي خلقنا لها هي: الإسلام وهي دين الله وهي الإيمان والهدى، فقوله ﷺ: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله[3]... " الخ، داخل في قوله أن تؤمن بالله.
فالعقيدة التي تلقاها أهل السنة والجماعة، عن أصحاب النبي ﷺ، وتلقاها أصحاب النبي عن رسول الله، هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
هذه الستة الأصول هي أصول الدين كله، يدخل في الإيمان بالله: الإيمان بكل ما أمر الله به، وشرع من الإسلام من توحيد الله والإخلاص له والشهادة بأنه لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله، والشهادة بأن محمدًا عبدالله ورسوله، عليه الصلاة والسلام، ويدخل في ذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج، كله داخل في الإيمان بالله، والإيمان بجميع المرسلين، كما نص عليه جل وعلا في كتابه العظيم، ونص عليه الرسول ﷺ، فالإيمان بالله يشمل ذلك كله، الإيمان بالله يشمل جميع ما أمر الله به ورسوله، من صلاة وزكاة وصوم وحج وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن منكر إلى غير ذلك، من كل ما أمر به الله ورسوله، كله داخل في الإيمان بالله.
والإيمان بالملائكة معناه: الإيمان بكل الملائكة الذين خلقهم الله، يؤمن العبد بأن لله ملائكة خلقهم في طاعته وعبادته، وتنفيذ أوامره ، نؤمن بهم جميعًا، وأنهم خلقوا من النور، خلقهم الله من النور وأنهم في طاعته واتباع أمره وتنفيذ أوامره ، لا يحصي عددهم إلا الله جل وعلا، نؤمن بهم إجمالا وتفصيلا، نؤمن بالملائكة إجمالا، وأن لله ملائكة في طاعته واتباع أوامره وتنفيذها، ومنهم من فصَّله الله لنا وبين لنا أسماءهم كجبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، هؤلاء بينهم ، وهكذا ملك الموت ومن سماه الله من غيرهم، نؤمن بهم على سبيل التفصيل.
وهكذا الكتب نؤمن بها، كل ذلك داخل في الإيمان بالله، داخل في الإسلام، الكتب التي أنزلها الله على الرسل، فإن الله جل وعلا أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد: 25]، فالله أرسلهم وأرسل معهم الكتب لبيان الحق للناس، فنؤمن بكتب الله جميعًا على الإجمال والتفصيل.
نؤمن بجميع الكتب المنزلة على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومنها التوراة والإنجيل والزبور والقرآن الذي هو أعظمها المنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، صحف موسى وصحف إبراهيم، نؤمن بكل الكتب التي أنزلها الله على رسله، وأفضلها وخاتمها القرآن الكريم.
وهكذا نؤمن بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، نؤمن بهم جميعًا وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة عليهم الصلاة والسلام، ومنهم آدم عليه الصلاة والسلام الرسول النبي المكلم، فهو رسول الله إلى ذريته يدعوهم إلى توحيد الله، ويأمرهم بأمر الله، وينهاهم عن نهي الله، ثم بعث الله نوحا عليه الصلاة والسلام، بعد ما وقع الشرك في بني آدم، أرسل الله نوحا، فنوح هو أول الرسل إلى أهل الأرض، بعد ما وقع الشرك فيهم، بعث الله نوحا عليه الصلاة والسلام، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وصبر على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وهو فيهم يدعوهم إلى الله، فلما استكبروا واستمروا في العناد أهلكهم الله بالغرق، وأنجاه هو وأصحاب السفينة عليه الصلاة والسلام.
وهكذا من بعده من الرسل كهود وصالح وشعيب ولوط وموسى، وهارون وغيرهم، كلهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة إلى أن ختمهم الله بأفضلهم محمد عليه الصلاة والسلام، نؤمن بذلك، من عقيدة أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله ورسوله أن نؤمن بهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم أدوا الرسالة، بلغوها وأدوا أمانة الله وصبروا، منهم من قتل ومنهم من سلم.
وهم متفاوتون، منهم من تبعه جمع غفير ومنهم من لم يتبعه إلا قليل، حتى قال ﷺ في حديث ابن عباس: منهم من لم يتبعه إلا الرهط، الثلاثة والأربعة والخمسة، ومنهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان، ومن الرسل من لم يتبعه أحد[4]، بل خالفه القوم كلهم والعياذ بالله.
وهكذا نؤمن باليوم الآخر، وهو الأصل الخامس من أصول الإيمان نؤمن باليوم الآخر، فأهل السنة والجماعة يؤمنون باليوم الآخر وهو يوم القيامة، سمي الآخر لأنه دبر الدنيا، الدنيا ثم يوم القيامة، حين تقوم الساعة تذهب الدنيا، والدنيا هي اليوم الأول وتقوم الساعة وهي اليوم الآخر، ويجازى الناس بأعمالهم في هذا اليوم الآخر، وفيه تنصب الموازين ويحاسب الناس ويوفون أعمالهم ويعطى هذا كتابه بيمينه وهذا كتابه بشماله، فمن أعطي كتابه بيمينه فهو الرابح السعيد وله الجنة والكرامة، ومن أعطي كتابه بشماله فهو الهالك وله النار يوم القيامة، ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله عن الآخرة، عن يوم القيامة والجنة والنار، والجزاء والحساب وغير ذلك، كله داخل في الإيمان باليوم الآخر.
والأصل السادس الإيمان بالقدر: أن الله علم الأشياء قبل أن تكون، علمها سبحانه وقدرها، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فعلم أعمال العباد وما يقع في هذه الدار، وما يقع في الآخرة، كل ذلك علمه سبحانه وأحصاه وكتبه، فالمسلمون تلقوا عن نبيهم ﷺ الإيمان بيوم الآخرة كما دل عليه القرآن: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، وقال سبحانه: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:177]، فالمسلمون يتلقون إيمانهم عن رسولهم ﷺ، وعن كتاب ربهم بهذه الأصول الستة، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
فتؤمن بأن الله علم الأشياء كلها، وأنه أحصاها وكتبها وأنه سبحانه هو القادر على كل شيء، العالم بأحوال عباده وأن العباد لن يخرجوا عن قدر الله، وما سبق في علمه ، ولما أخبر النبي ﷺ الصحابة بذلك، قالوا: يا رسول الله إذا كان الله قد قدر كل شيء، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة، فييسروا لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسروا لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10].
ومن الإيمان بالله أيضا: الإيمان بأسمائه وصفاته، كما أنه داخل في ذلك الإيمان بشرائعه، من صلاة وزكاة وصوم، وحج وجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك، كله داخل في الإيمان بالله، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح، لما قال رجل: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك؟ قال: قل آمنت بالله ثم استقم[5]، كل شيء داخل في الإيمان بالله، كل ما أمر الله به ورسوله داخل في الإيمان، وهكذا قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
فمن آمن بالله ربا وإلها معبودا بالحق، واستقام على دينه، فهذا هو دين الله، وهذا هو الإسلام، وهذا هو الإيمان، وهذا هو الهدى، وهذا هو العبادة التي خلقنا لها، الإيمان بالله ثم الاستقامة؛ الإيمان بالله ربا وإلها معبودا بالحق والإيمان، بكل ما شرع من الأوامر والنواهي، والعمل بذلك. هذا كله العبادة، وهذا هو الدين، وهذا هو الإيمان بالله، وهذا هو الإسلام وهذا هو الهدى، وهذا هو التقوى.
ومن الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته، كله داخل في الإيمان بالله، الإيمان بأنه سبحانه حكيم عليم، رحمن رحيم، على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سبحانه بيده تصريف الأمور وهو القادر على كل شيء وإليه مصير العباد، فالإيمان بكل أسمائه وصفاته كل ذلك داخل في الإيمان بالله.
فعلى المكلف أن يؤمن بالله ربا وإلها معبودا بالحق، وعليه أن ينقاد لشريعته فعلا للمأمور، وتركا للمحظور، هكذا الإسلام وهكذا الإيمان. إيمان بالله يتضمن أداء فرائضه، وترك محارمه والوقوف عند حدوده، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله مما كان وما يكون.
وصفاته وأسماؤه توقيفية، تؤخذ من كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن يؤمن بذلك، يؤمن بكل ما دل عليه كتاب الله من أسمائه وصفاته، وبكل ما أخبر به النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة من أسماء الله وصفاته، كله داخل في الإيمان بالله، مع الإيمان بأنه سبحانه ليس كمثله شيء، له الكمال المطلق في علمه وتوحيده وفي قدرته وفي حكمته، في كل أسمائه وصفاته، كما قال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، ويقول سبحانه: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل:74].
فله الكمال المطلق في علمه وقدرته وحياته، وفي كل شيء ، لا شريك له ولا شبيه له ولا كفو له. وأسماؤه وصفاته جاءت مفصلة ومجملة، فصلها في الإثبات: إن الله عزيز حكيم غفور رحيم، سميع بصير عليم حكيم، على كل شيء قدير، مفصلة في إثباتها، ومجملة في نفيها، جمع سبحانه بين النفي والإثبات، نفي مجمل وإثبات مفصل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]. كل هذا نفي مجمل، وفيه نفي مفصل، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، ولكنه قليل، الغالب على النفي: الإجمال، نفي النقائص والعيوب، والمشابهة لخلقه.
وفصَّل صفاته الثابتة في كتابه العظيم: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75]، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28]، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24].
إلى غير هذا مما بين سبحانه من أسمائه وصفاته جل وعلا، فعلى العبد أن يؤمن بذلك، وبكل ما أخبر الله به ورسوله من أسماء الله وصفاته، على الوجه الذي يليق به سبحانه، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته، نؤمن بذلك على الوجه الذي يليق به سبحانه، ليس له مثيل ولا نظير ولا كفو ولا ند، جل وعلا، فعلمه كامل ليس كعلمنا، قدرته كاملة ليست كقدرتنا، بصره كامل ليس كبصرنا، وهكذا بقية صفاته ، وهكذا يسمع ويبصر ليس كسمعنا وبصرنا، بل هو أكمل وأعظم، وهكذا موصوف بأن له يدا، بل يداه مبسوطتان، سميع بصير، وله قدم كما في الحديث الصحيح: لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها رجله -وفي رواية قدمه، وينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قط قط -أي حسبي حسبي[6] لا مثيل له في سمعه ولا في بصره ولا في يده، ولا في وجهه ولا في قدمه ولا في غير ذلك، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].
وهذه الصفات التي وصف بها نفسه، نَصِفه بها، ونقول كما قال: له وجه وله يدان، وله سمع وله بصر وله قدم، وله أصابع كلها تليق به، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا، جاء في الحديث الصحيح: إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء[7].
وعرفت أيها المسلم: أن الإيمان بالكتب، يشمل الإيمان بجميع الكتب المفصلة والمجملة، نؤمن بكتب الله المنزلة على رسله وأنبيائه، وما سمى الله نسميه من التوراة والإنجيل، والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى، وما سمى الله نسميه وأعظمها القرآن وهو خاتمها.
وهكذا الملائكة نؤمن بهم إجمالا وتفصيلا، من سماه الله سميناه: كجبرائيل وميكائيل، ومن لم يسمه الله نقول: لله ملائكة، لا يحصيهم إلا الله جل وعلا. يقول النبي ﷺ في شأنهم: في البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة، على وزان الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه مرة أخرى[8]، كل يوم سبعون ألف ملك للتعبد، ثم لا يعودون إليه، فمن يحصيهم إلا الله جل وعلا. وله ملائكة يتعاقبون فينا، يشهدون معنا الصلوات، فإذا صلى الناس الفجر عرج الذين باتوا فينا، وبعد العصر يعرج الذين فينا من النهار وينزل أهل الليل، يجتمع في صلاة الصبح ملائكة يتعاقبون فينا، يشهدون على أعمال العباد وما شاهدوه منها، يسألهم ربهم وهو أعلم، إذا عرجوا إليه: كيف تركتم عبادي، فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون، ومعك أنت -يا عبدالله- كل واحد منا معه ملكان يكتبان أعماله، هذا يكتب حسناته وهذا يكتب سيئاته. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
فجدير بك يا عبدالله أن تحرص على إملاء الخير على هؤلاء الملائكة، أمل الخير، أمل عليهم ما ينفعك ويرضي الله عنك، من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، والدعوة إلى الله وتعليم الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى غير هذا من وجوه الخير، وهكذا العمل، فهم يكتبون كل شيء.
وعلينا أن نؤمن باليوم الآخر، علينا جميعًا على جميع المكلفين من الجن والإنس، الإيمان باليوم الآخر، يدخل فيه كل ما أخبر الله به عن يوم القيامة، كله داخل في الإيمان باليوم الآخر، الجنة والنار والحساب والجزاء، توزيع الكتب على الناس، والمرور على الصراط يوم القيامة، مرور المؤمن على الصراط إلى الجنة، إلى غير هذا من كل ما فرضه الله ورسوله في اليوم الآخر، علينا أن نؤمن بذلك، وأن الله يبعث عباده بعد مماتهم في آخر الزمان عند قيام الساعة، يرسل الله ريحا طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، فلا يبقى إلا الأشرار في خفة الطير وأحلام السباع، يأتيهم الشيطان ويزين لهم الشرك بالله وعبادة غير الله، فيعبدون غير الله وتمتلئ الأرض من شركهم وكفرهم، وضلالهم، وعليهم تقوم الساعة، نسأل الله العافية.
فالله جل وعلا يحكم بين عباده يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، كما قال جل وعلا: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، وقال جل وعلا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، ويقول سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شيئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
فجميع أعمال العباد يوفون إياها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، تنصب الموازين يوم القيامة، وتوزن فيها أعمال العباد فهذا يثقل ميزانه، وهذا يخفض ميزانه، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11].
من ثقلت موازينه أعطي كتابه بيمينه، ومن خفت موازينه أعطي كتابه بشماله، والعصاة أمرهم إلى الله، الذين ماتوا على المعاصي والسيئات، أمرهم إلى الله، من شاء سبحانه عفا عنه وأدخله الجنة وصار من أهل اليمين، من أهل النجاة والسعادة، ومن شاء سبحانه أدخله النار بذنوبه ومعاصيه، ثم بعد التطهير والتمحيص يخرجه الله من النار، ويلتحق بإخوانه في الجنة. وأهل الجنة فيها منعمون أبد الآباد، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، بل في نعيم دائم وخير دائم، وهذا الطعام والشراب جشأ ورشح، لا بول ولا غائط ولا مخاط ولا بصاق، وأهل النار في عذاب وبلاء، أبد الآباد، نسأل الله العافية، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]. هذه نهاية الناس، هذه النهاية.
فجدير بالعاقل أن تكون هذه النهاية على باله وألا يغفلها، فلا بد منها، ومن مات فقد قامت قيامته، فليحذر العبد أن يغفل، وأن يجازف في الأمور، فيندم غاية الندامة، ليعد لهذا اليوم عدته، وليحرص قبل أن يهجم عليه الأجل، على العدة الصالحة، على الزاد الصالح؛ من طاعة الله ورسوله والقيام بحقه والاستقامة على دينه، وذلك بفعل أوامر الله وترك نواهيه.
هذه العدة الصالحة، أن تستقيم على دين الله وأن توحد ربك، وتخصه بالعبادة، وأن تؤدي فرائضه من صلاة وغيرها، وأن تنتهي عن نواهيه، وأن تقف عند حدوده ترجو ثوابه وتخشى عقابه، هذه العدة الصحيحة، هذه العدة التي أنت مأمور بها ومخلوق لها، أن تعبد ربك وحده، تشهد أنه لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله، وأن محمدًا عبدالله ورسوله، وتؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، وتؤدي فرائض الله التي فرضها عليك بإخلاص له سبحانه، ورغبة فيما عنده ومحبة، وتنتهي عن نواهي الله، عن إيمان وصدق وإخلاص، وتقف عند حدود الله مؤمنا بالله ورسله، مؤمنا بأن الله قدر الأقدار، وشاء ما شاء ، فعليك أن تؤمن بالقدر خيره وشره، أن تعلم أن الله علم الأشياء وكتبها، وأنه الخالق لكل شيء، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لهم لم يكن .
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان أيضًا بأن الله يُرى يوم القيامة، إذا جاء لفصل العباد يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون. كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]. والمؤمنون يرونه ويكشف لهم عن ساق، وينظرون إليه ويكلمهم، يحييهم ، ثم في الجنة يرونه سبحانه، يراه المؤمن في الجنة، كما يشاء ، وما أعطوا في الجنة شيئًا أحب إليهم من النظر إلى وجهه، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]، الحسنى: الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، والمسلمون إذا انتهوا من الموقف يمرون على الصراط، منصوب بين الجنة والنار، يمر عليه المؤمنون، ويمنع منه الكافرون، فاحرص على العدة التي تيسر في مرورك، من الإيمان بالله والتقوى.
وعلى الصراط كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، منهم من يخطف وينجو، ومنهم من يخطف ويسقط بسبب معاصيه، والكفار لا يمرون عليه بل يساقون إلى النار، ويحشرون إليها كما ضيعوا أمر الله، وأشركوا به وكفروا به، يحشرون إليها، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بأن المؤمن مخلد في الجنة أبد الآباد، ونعيمهم فيها متفاوت، قصورهم ونعيمهم وزوجاتهم مختلفون في ذلك، منهم من يعطى زوجات كثيرات، ومنهم من هو أقل من ذلك. ولكل واحد زوجتان من الحور العين، غير زوجاته من الدنيا، وغير ما يعطى من الزوجات الأخريات من الحور العين، كل واحد لا ينقص عن زوجتين من الحور العين، مع ما له من زوجات الدنيا، فالنساء في الجنة أكثر وفي النار أكثر، في الجنة أكثر ومعهم الحور العين، وفي النار أكثر لما يحصل منهن من الإضاعة لأمر الله، والمعاصي الكثيرة التي من أسبابها صرن أكثر أهل النار، قال الرسول ﷺ: رأيتكن أكثر أهل النار، قالت له امرأة: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير -يعني تكثرن السب والشتم، وتكفرن الأزواج والإحسان- لو أحسن الزوج إلى إحداكن الدهر، ثم رأت منه شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط[9] الأغلب إنكار الجميل عند أقل شيء من الزوج، فلهذا كن أكثر أهل النار، بسبب المعاصي والشرور وكفران العشير، وعدم الإيمان بالله ورسوله. وهن أكثر أهل الجنة لما معهن من الحور العين، فالمؤمنات في الجنة مع أزواجهم المؤمنين، ولأزواجهم مزيد من الحور العين، لكل واحد زوجتان من الحور العين، وقد يزاد بعضهم زوجات كثيرات على حسب أعمالهم الصالحة، لكن أقلهم من له زوجتان من الحور العين غير نصيبه من زوجات الدنيا.
ومن أخبار اليوم الآخر: أن أهل الجنة يتزاورون فيها، وهم في نعيم دائم، لا يتغوطون ولا يبولون ولا يتفلون، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، يسبحون الله بكرة وعشية يتنعمون بالتسبيح والتهليل، والتحميد والتكبير وذكر الله ، وهم مع تزاورهم واختلاف منازلهم في الجنة، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، كل واحد يرى أنه في نعمة ليس فيها غيره من النعيم العظيم، ليس يعتليه حزن ولا مضايقة، بل في نعيم دائم وسرور دائم، مع لقائه لإخوانه في الأوقات التي يشاؤها الله، ولهم مواعيد مع ربهم يزورونه، ويسلمون عليه وينظرون إلى وجهه الكريم، على حسب مراتبهم، كل هذا من الإيمان باليوم الآخر، ولهم يوم المزيد يوم يجمع الله فيه أهل الجنة، ويزورونه وينظرون إليه، ويسلم عليهم يحادثهم .
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بأن جميع الخلائق يوفون أجورهم في ذلك اليوم، ما أحد يضيع حقه، كل يعطى حقه، من مسلم وكافر وعاص ولو مثقال الذرة، ما يضيع ولو مثاقيل الذر. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، فالواجب على كل مكلف من الرجال والنساء، أن يعد العدة لهذا اليوم، وأن يكون على باله، على الرجل أن يعد العدة وأن يتقي الله، وأن يستقيم على دين الله، وأن يحافظ على ما أوجب الله عليه من صلاة وغيرها، وعلى المرأة كذلك أن تؤدي حق الله، وأن تستقيم على دين الله، وأن تتفقه في دين الله، وأن تؤدي حق زوجها في المعروف، وأن تحذر كفر العشير، وإيذاء الزوج بغير حق، وعلى الزوج أن يتقي الله في أهله، وألا يظلمهم، قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، فعلى الزوج أن يتقي الله، وأن يعاشر بالمعروف وعلى الزوجة أن تتقي الله، وأن تسمع وتطيع زوجها في المعروف، وعليهما أن يتعاونا على البر والتقوى، على طاعة الله ورسوله، حتى تكون زوجته في الجنة، وحتى يكون زوجها في الجنة.
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالحوض المورود للنبي ﷺ حوض يوم القيامة، يرده الناس، حوض عظيم، طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، آنيته كثيرة يرده المؤمنون أتباع النبي ﷺ، يردونه ويشربون منه يوم القيامة، ويذاد عنه الكافرون الذين لم يؤمنوا بالرسول ﷺ أو ارتدوا بعد وفاته، يذادون عنه ويحرمون منه، كما يحرمون من دخول الجنة، ويرده المؤمنون ويشربون منه، من هذا الحوض المورود، كل هذا من أخبار يوم القيامة، وهو يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة، يوم طويل عظيم، لكن لا ينتصف إلا وقد صار أهل الجنة إلى منازلهم، قال تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24] عند نصف النهار قد وصلوا إلى منازلهم، وتبوءوا منازلهم، وتنعموا فيها. وما ذلك إلا لكثرة الخلق، وطول الحساب، والله جل وعلا هو الحكيم العليم، الذي يجازيهم بأعمالهم: خيرها وشرها، هو الحكم العدل لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17]، إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شيئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
فأنت يا عبدالله حاسب نفسك، وهكذا أنت يا أمة الله حاسبي نفسك، كل يحاسب نفسه، ينظر ماذا قدم وماذا فعل، هل أدى حق الله، هل استقام على دين الله، هل أدى واجب الله، هل ترك محارم الله، هل وقف عند حدود الله، هل أدى ما عليه لإخوانه، وهكذا الزوج يحاسب نفسه، هل أدى حق زوجته، هل أنصفها، هل أدى حق والديه، هل أدى حق أولاده وقراباته. وهكذا الزوجة، المرأة تحاسب نفسها، تنظر هل أدت حق زوجها، هل أدت حق والدها وأقاربها، كل ذلك مطلوب، كما أن على كل منهما أن يؤدي حق الله، وهكذا حق المخلوق أيضا.
حق الله أعظم وأكبر، ولكن أوجب عليك حقوقا لغيرك، أوجب عليك حقا لوالديك، ولزوجتك ولأولادك ولإخوانك المسلمين، عليك أن تؤديه، وهكذا المرأة عليها أن تؤدي حق الله الذي عليها لربها، ولزوجها ولقراباتها وللمسلمين.
ومن الحق على الجميع الدعوة إلى الله، وتعليم الناس للخير، والنصح لله ولعباده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا من حق الله على الجميع، التواصي بالحق والتناصح. وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
من الحق على الجميع التعاون على البر والتقوى، يقول سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، فالواجب على كل إنسان، أن يحاسب نفسه، هل أدى الحق الذي عليه لله ولعباده، ولا شك أنه متى حاسب نفسه وناقشها، وجد التقصير، فعليه أن يكمل، عليه أن يستقيم، وعليه أن يجاهد نفسه لله، حتى يؤدي الحقوق التي لله ولعباده.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون أيضًا بكلام الله، وأنه يكلم أهل الجنة، ويكلم عباده يوم القيامة، ويسمعون كلامه ، ويسلم على أهل الجنة ويقول: هل رضيتم؟ فيقولون يا ربنا ما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، ألم تثقل موازيننا، ألم تدخلنا الجنة، ألم تنجنا من النار، قال: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا[10] هذا من فضله وجوده جل وعلا.
وجميع ما يقوله أهل السنة والجماعة، كله موزون بالكتاب والسنة والإجماع، فدين الله مبني على هذه الأصول الثلاثة، على كتاب الله القرآن، وعلى سنة رسوله ﷺ، وعلى إجماع سلف الأمة.
وأهل السنة وأهل الجماعة هم المستقيمون على دين الله ورسوله، هم التابعون للحق، هم المنقادون لشرع الله، فهم يؤمنون بأن القرآن الكريم كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ويؤمنون بما جاء عن رسوله ﷺ، وأن أمة محمد تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والفرقة الناجية هم المؤمنون به، وهم أهل السنة والجماعة، وهم المستقيمون على دينه وعلى اتباع شريعته، هم أهل السنة والجماعة، هم الفرقة الناجية، واثنتان وسبعون متوعدون بالنار إما لكفرهم، وإما لبدعهم ومخالفاتهم، أما أهل السنة والجماعة، فهم الذين استقاموا على دين الله، قولا وعملا وعقيدة، واتبعوا شرع الله ونصحوا لله ولعباده، وتباعدوا عن مساخطه، فهؤلاء هم أهل السنة والجماعة، هم أهل الحق، هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وأتباعهم بإحسان.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيذنا جميعًا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، كما نسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، كما نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين، وأن يعيذهم من دعاة الباطل ونزغات الشيطان، ومن كل ما يخالف أمره سبحانه، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل، إنه جل وعلا الجواد الكريم وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان[11].
- أخرجه الإمام أحمد، في مسند المكيين، حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه برقم 15593 بلفظ: ''يا أيها الناس...''، وابن حبان 14/ 6562.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم 8.
- صحيح البخاري تفسير القرآن (4777)، صحيح مسلم الإيمان (10)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991).
- صحيح مسلم الإيمان (220)، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2446).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام برقم 38.
- أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله وصفاته برقم 6661، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون... برقم 2846.
- أخرجه الترمذي في كتاب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن برقم 2140.
- صحيح مسلم الإيمان (162)، مسند أحمد (3/ 149).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب كفران العشير وكفر دون كفر، برقم 29.
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار برقم 6549، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط، برقم 2829.
- محاضرة ألقاها سماحته في جامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض بتاريخ 7/ 6/ 1415هـ. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 28/ 7).