الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد سمعنا جميعًا قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].
حيث إن الكفار -كفار العرب وغيرهم- إلا من رحم الله ينكرون البعث والنشور؛ لأنها حياة منتهية ويرون أن من مات مات؛ فلا عودة ولا بعث ولا نشور، هكذا قال لهم شيطانهم.
وقد بين الله جل وعلا أنه لابد من البعث والنشور، والجزاء والحساب؛ ولهذا قال: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا زعموا: أي كذبوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يبعثون وينبئون بأعمالهم -خيرها وشرها- هكذا أخبر الله في كتابه العظيم أنه لابد من البعث والجزاء، قال تعالى: وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53]، فلابد من البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار؛ ولهذا فإن من أصول الإيمان: الإيمان بالأركان الستة التي هي أصول الإيمان: الإيمان باليوم الآخر -يوم القيامة- والبعث والنشور والجنة والنار والجزاء والحساب.
ثم قال جل وعلا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن:8].
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ أي: آمنوا بالله ربًا وإلهًا ومعبودًا بالحق، وهو الخلاق العليم، المالك لكل شيء، المدبر لكل شيء، القاهر فوق عباده، المستحق أن يعبد دون كل ما سواه.
وَرَسُولِهِ محمد عليه الصلاة والسلام وسائر الرسل جميعًا، الرسول: مفرد يعم الرسل، وبالأخص خاتمهم وإمامهم وأفضلهم؛ محمد عليه الصلاة والسلام فلابد من الإيمان بالله، وجميع الرسل والأنبياء، وبكل ما أخبر الله به ورسوله.
ثم قال: وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا؛ النور الذي أنزل الله: شريعته التي جاء بها نبيه محمد ﷺ وهي نور، من عرفها عرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال وصار كالبصير بين العميان، يرى الأشياء على ما هي عليه، فهي نور، جعلها الله للعباد يعرفون بها ما يرضيه وما يسخطه، وما أعده لأوليائه وما أعده لأعدائه، وما سيقع يوم القيامة.
نور كما قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [النساء:136]، فالإيمان بالله والرسول، والإيمان بالكتاب المنزل هو القرآن، وفيه أمر بطاعة الله ورسوله؛ فلابد من هذا النور، لابد من الإيمان بهذا النور، والأخذ به والتفقه من هذا النور، وهو: ما أنزل من كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام حتى تعرف مواضع الرضى والغضب، وتعرف الشرائع التي شرعها الله والأوامر، وحتى تعرف الأشياء التي نهى عنها.
فبالأوامر وامتثالها تحصل النجاة، وبترك النواهي والمعاصي كذلك، هذا هو النور: أن تكون على بصيرة وبينة، تعرف هذا وهذا؛ تعرف الأوامر فتأتي بها وتؤديها، وتعرف النواهي فتحذرها وتجتنبها، فهذا هو المقصود، مع الإيمان والتصديق بذلك هذا هو الواجب على الجميع -الجن والإنس- أن يعرفوا أوامر الله فيمتثلوها، وأن يعرفوا نواهيه فيجتنبوها؛ وذلك بالتفقه في الدين بالتعلم، وبالعناية بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وبسؤال أهل الذكر.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين[1]، ويقول ﷺ: من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة[2].
ويقول: مثل ما بعثني الله به من الهدى والنور كمثل غيث أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء -يعني: مواضع مطمئنة أمسكت الماء- فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ -وهذه هي حال الناس- فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به[3].
هذه هي أقسام الناس مثل الأرض: أرض طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهم: أهل العلم والإيمان والتعليم والتوجيه والإرشاد.
وطائفة أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا، وهم: حملة العلم، فحملوه للناس حتى استفادوا منه وفجرّوا ينابيعه للناس؛ حفظوه وفقَّهوا غيرهم من طريق أهل العلم الذين نقلوه عنهم وأخذوه عنهم، فهم حفظة استفادوا وأفادوا، وأهل العلم والفقه في الدين وأهل التبصر استخرجوا ما فيه من العلوم، استخرجوا ما فيه من الأحكام والفوائد ونشروها في الناس، مثل إذا أخذوا الماء فشربوا وسقوا وزرعوا.
وغالب الخلق مثل القيعان؛ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، هذه هي حال أكثر الخلق، لا خير فيهم؛ لا علم ولا عمل، كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقوله: وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقوله: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [الأنعام:116]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].
فاحذر أن تكون من الأكثرين المعْرِضِين الضالين، واحرص أن تكون من القليل الناجي، من المؤمنين الصادقين المصدقين، المتفقهين في الدين المتعلمين.
وهذا كتاب الله بين أيدينا -بحمد الله- أقبل عليه، أكثر من تلاوته، يقول سبحانه: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ص:29]، ويقول: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، ويقول: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، ويقول: هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [إبراهيم:52]، ويقول سبحانه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام:19].
تأملوا هذا القرآن، وكل واحد يجب أن يكون له عناية في الليل أو في النهار أو فيهما جميعًا، به يقرأ ما تيسر، ويتدبر ويتعقل، ويحث أهله وأولاده وإخوانه وجيرانه على كثرة القراءة والتدبر والتعقل.
وهكذا سنة الرسول ﷺ التي حفظها العلماء ونقلوها إلينا مثل: الصحيحين، والسنن الأربع في (المنتقى)، وفي (بلوغ المرام)، وفي (عمدة الحديث)، و(رياض الصالحين)، وفي غيرها من كتب الحديث التي نقل فيها أهل العلم هذه الأحاديث وصححوها؛ فالمؤمن يستفيد منها يقرأ ويستفيد، ويسمع ويسأل.
وهذا اليوم هو يوم القر -يوم الخميس- هذا هو يوم القر، وهو اليوم الأول من أيام التشريق، وغدًا هو يوم النفر الأول، ويوم السبت هو يوم النفر الثاني.
بعض الناس قد يخلط؛ يحسب أن هذا اليوم هو النفر الأول، يوم العيد لا يعد من الأيام الثلاثة، يوم العيد مستقل وحده، ومحل أعمال الحج أيام التشريق، التي أولها هذا اليوم الحادي عشر، وثانيها الثاني عشر، وثالثها الثالث عشر، وهي المراد في قوله تعالى: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، هذه هي الأيام المعدودات.
فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ؛ يعني يوم الجمعة في هذه السنة فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَن تَأَخَّرَ؛ يعني يوم السبت فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، هذه الأيام المعدودات أيام التشريق، وهي التي يصومها من عجز عن الهدي -هدي المتمتع- يجوز له صومها، أما غيره فلا يصومها.
هي أيام عيد، أيام أكل وشرب، قال النبي ﷺ: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل[4]، وكان يبعث من ينادي في الناس ويعلمهم: أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وليست أيام صيام، إلا لمن فقد الهدي ولمن عجز عن الهدي.
أولها هذا اليوم، والنفر الأول غدًا -يوم الجمعة- إذا رمى الجمار بعد الزوال، وأحب أن ينفر إلى مكة ليقيم فيها أيامًا أو إلى بلاده، فلينفر قبل غروب الشمس من منى، يمر بمكة، ويطوف طواف الوداع إن كان طاف طواف الإفاضة، أو يطوف طواف الإفاضة وينوي الوداع معه، ثم ينفر بعده إذا أحب، أو يقيم في مكة ما شاء الله، ثم إذا عزم على السفر طاف طواف الوداع. والنفر الثاني يوم السبت يوم الثالث عشر، فإذا غابت الشمس انتهت أيام التشريق، وانتهت أيام الرمي، ولو جلس في منى فليس عليه رمي؛ لو جلس الرابع عشر في منى ما عليه رمي، انتهت أيام الرمي بغروب الشمس.
وهذه الأيام هي أيام تكبير أيضًا مطلق ومقيد؛ في أدبار الصلوات وبقية الأوقات يكبر، في الضحى، وفي الظهر، وفي الليل؛ كان عمر في هذه الأيام يكبر في مخيمه، فيسمعه الناس وترتجُّ منى تكبيرًا؛ في أسواقهم وفي طرقاتهم؛ يذكِّر الناس .
وهذه هي أيام الذبح؛ مثل الضحايا والهدايا في هذه الأيام الأربعة، هذا الصحيح من أقوال العلماء: أربعة أيام، يوم العيد وثلاثة أيام بعده، كلها أيام ذبح إلى غروب الشمس من يوم الثالث عشر ذبح الهدايا والضحايا؛ الضحايا في جميع الدنيا -في البر والبحر، في القرى والأمصار- هذه الضحايا.
والهدي هو: هدي التمتع والقران في هذه الأيام في مكة، ومن فاتته الأيام ولم يذبح هديه -إما عاجزًا، أو لم يحصل الدراهم إلا بعد الحج، أو ضل هديه ووجده فيما بعد، أو اقترض واشترى- فإنه يذبح ولو بعد الأيام، كالقضاء.
إذا فاتت الأيام ثم تيسر له الهدي يذبحه، ولو كان قد صام الثلاثة يذبحه بعد الثلاثة، ويسقط عنه صيام السبعة، ولو تيسر له ذبيحة يوم أربعة عشر أو خمسة عشر يذبحها ويأكل ويطعم، ويسقط عنه صيام السبعة إن كان قد صام الثلاثة، وإن كان ما صام الثلاثة سقطت عنه العشرة كلها إذا تيسر الذبح في الرابع عشر أو في الخامس عشر أو في السادس عشر أو في السابع عشر أو بعده، يذبحه في الحرم ويأكل ويطعم.
وهذا اليوم يوم رمي إلى آخر الليل، يبدأ بعد الزوال، قبل الصلاة أفضل -إن تيسر- وإلا بعد الصلاة، وبعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء إلى آخر الليل، كله رمي عن هذا اليوم -يوم الحادي عشر- وغدًا كله رمي بعد الزوال إلى آخر الليل عن اليوم الثاني عشر، ويوم السبت يرمي بعد الزوال إلى غروب الشمس فقط.
وفق الله الجميع، وثبت الجميع على الهدى، وتقبل منا ومنكم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه، وسلم[5].
فقد سمعنا جميعًا قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].
حيث إن الكفار -كفار العرب وغيرهم- إلا من رحم الله ينكرون البعث والنشور؛ لأنها حياة منتهية ويرون أن من مات مات؛ فلا عودة ولا بعث ولا نشور، هكذا قال لهم شيطانهم.
وقد بين الله جل وعلا أنه لابد من البعث والنشور، والجزاء والحساب؛ ولهذا قال: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا زعموا: أي كذبوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يبعثون وينبئون بأعمالهم -خيرها وشرها- هكذا أخبر الله في كتابه العظيم أنه لابد من البعث والجزاء، قال تعالى: وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53]، فلابد من البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار؛ ولهذا فإن من أصول الإيمان: الإيمان بالأركان الستة التي هي أصول الإيمان: الإيمان باليوم الآخر -يوم القيامة- والبعث والنشور والجنة والنار والجزاء والحساب.
ثم قال جل وعلا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن:8].
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ أي: آمنوا بالله ربًا وإلهًا ومعبودًا بالحق، وهو الخلاق العليم، المالك لكل شيء، المدبر لكل شيء، القاهر فوق عباده، المستحق أن يعبد دون كل ما سواه.
وَرَسُولِهِ محمد عليه الصلاة والسلام وسائر الرسل جميعًا، الرسول: مفرد يعم الرسل، وبالأخص خاتمهم وإمامهم وأفضلهم؛ محمد عليه الصلاة والسلام فلابد من الإيمان بالله، وجميع الرسل والأنبياء، وبكل ما أخبر الله به ورسوله.
ثم قال: وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا؛ النور الذي أنزل الله: شريعته التي جاء بها نبيه محمد ﷺ وهي نور، من عرفها عرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال وصار كالبصير بين العميان، يرى الأشياء على ما هي عليه، فهي نور، جعلها الله للعباد يعرفون بها ما يرضيه وما يسخطه، وما أعده لأوليائه وما أعده لأعدائه، وما سيقع يوم القيامة.
نور كما قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [النساء:136]، فالإيمان بالله والرسول، والإيمان بالكتاب المنزل هو القرآن، وفيه أمر بطاعة الله ورسوله؛ فلابد من هذا النور، لابد من الإيمان بهذا النور، والأخذ به والتفقه من هذا النور، وهو: ما أنزل من كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام حتى تعرف مواضع الرضى والغضب، وتعرف الشرائع التي شرعها الله والأوامر، وحتى تعرف الأشياء التي نهى عنها.
فبالأوامر وامتثالها تحصل النجاة، وبترك النواهي والمعاصي كذلك، هذا هو النور: أن تكون على بصيرة وبينة، تعرف هذا وهذا؛ تعرف الأوامر فتأتي بها وتؤديها، وتعرف النواهي فتحذرها وتجتنبها، فهذا هو المقصود، مع الإيمان والتصديق بذلك هذا هو الواجب على الجميع -الجن والإنس- أن يعرفوا أوامر الله فيمتثلوها، وأن يعرفوا نواهيه فيجتنبوها؛ وذلك بالتفقه في الدين بالتعلم، وبالعناية بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وبسؤال أهل الذكر.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين[1]، ويقول ﷺ: من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة[2].
ويقول: مثل ما بعثني الله به من الهدى والنور كمثل غيث أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء -يعني: مواضع مطمئنة أمسكت الماء- فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ -وهذه هي حال الناس- فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به[3].
هذه هي أقسام الناس مثل الأرض: أرض طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهم: أهل العلم والإيمان والتعليم والتوجيه والإرشاد.
وطائفة أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا، وهم: حملة العلم، فحملوه للناس حتى استفادوا منه وفجرّوا ينابيعه للناس؛ حفظوه وفقَّهوا غيرهم من طريق أهل العلم الذين نقلوه عنهم وأخذوه عنهم، فهم حفظة استفادوا وأفادوا، وأهل العلم والفقه في الدين وأهل التبصر استخرجوا ما فيه من العلوم، استخرجوا ما فيه من الأحكام والفوائد ونشروها في الناس، مثل إذا أخذوا الماء فشربوا وسقوا وزرعوا.
وغالب الخلق مثل القيعان؛ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، هذه هي حال أكثر الخلق، لا خير فيهم؛ لا علم ولا عمل، كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقوله: وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقوله: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [الأنعام:116]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].
فاحذر أن تكون من الأكثرين المعْرِضِين الضالين، واحرص أن تكون من القليل الناجي، من المؤمنين الصادقين المصدقين، المتفقهين في الدين المتعلمين.
وهذا كتاب الله بين أيدينا -بحمد الله- أقبل عليه، أكثر من تلاوته، يقول سبحانه: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ص:29]، ويقول: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، ويقول: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، ويقول: هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [إبراهيم:52]، ويقول سبحانه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام:19].
تأملوا هذا القرآن، وكل واحد يجب أن يكون له عناية في الليل أو في النهار أو فيهما جميعًا، به يقرأ ما تيسر، ويتدبر ويتعقل، ويحث أهله وأولاده وإخوانه وجيرانه على كثرة القراءة والتدبر والتعقل.
وهكذا سنة الرسول ﷺ التي حفظها العلماء ونقلوها إلينا مثل: الصحيحين، والسنن الأربع في (المنتقى)، وفي (بلوغ المرام)، وفي (عمدة الحديث)، و(رياض الصالحين)، وفي غيرها من كتب الحديث التي نقل فيها أهل العلم هذه الأحاديث وصححوها؛ فالمؤمن يستفيد منها يقرأ ويستفيد، ويسمع ويسأل.
وهذا اليوم هو يوم القر -يوم الخميس- هذا هو يوم القر، وهو اليوم الأول من أيام التشريق، وغدًا هو يوم النفر الأول، ويوم السبت هو يوم النفر الثاني.
بعض الناس قد يخلط؛ يحسب أن هذا اليوم هو النفر الأول، يوم العيد لا يعد من الأيام الثلاثة، يوم العيد مستقل وحده، ومحل أعمال الحج أيام التشريق، التي أولها هذا اليوم الحادي عشر، وثانيها الثاني عشر، وثالثها الثالث عشر، وهي المراد في قوله تعالى: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، هذه هي الأيام المعدودات.
فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ؛ يعني يوم الجمعة في هذه السنة فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَن تَأَخَّرَ؛ يعني يوم السبت فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، هذه الأيام المعدودات أيام التشريق، وهي التي يصومها من عجز عن الهدي -هدي المتمتع- يجوز له صومها، أما غيره فلا يصومها.
هي أيام عيد، أيام أكل وشرب، قال النبي ﷺ: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل[4]، وكان يبعث من ينادي في الناس ويعلمهم: أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وليست أيام صيام، إلا لمن فقد الهدي ولمن عجز عن الهدي.
أولها هذا اليوم، والنفر الأول غدًا -يوم الجمعة- إذا رمى الجمار بعد الزوال، وأحب أن ينفر إلى مكة ليقيم فيها أيامًا أو إلى بلاده، فلينفر قبل غروب الشمس من منى، يمر بمكة، ويطوف طواف الوداع إن كان طاف طواف الإفاضة، أو يطوف طواف الإفاضة وينوي الوداع معه، ثم ينفر بعده إذا أحب، أو يقيم في مكة ما شاء الله، ثم إذا عزم على السفر طاف طواف الوداع. والنفر الثاني يوم السبت يوم الثالث عشر، فإذا غابت الشمس انتهت أيام التشريق، وانتهت أيام الرمي، ولو جلس في منى فليس عليه رمي؛ لو جلس الرابع عشر في منى ما عليه رمي، انتهت أيام الرمي بغروب الشمس.
وهذه الأيام هي أيام تكبير أيضًا مطلق ومقيد؛ في أدبار الصلوات وبقية الأوقات يكبر، في الضحى، وفي الظهر، وفي الليل؛ كان عمر في هذه الأيام يكبر في مخيمه، فيسمعه الناس وترتجُّ منى تكبيرًا؛ في أسواقهم وفي طرقاتهم؛ يذكِّر الناس .
وهذه هي أيام الذبح؛ مثل الضحايا والهدايا في هذه الأيام الأربعة، هذا الصحيح من أقوال العلماء: أربعة أيام، يوم العيد وثلاثة أيام بعده، كلها أيام ذبح إلى غروب الشمس من يوم الثالث عشر ذبح الهدايا والضحايا؛ الضحايا في جميع الدنيا -في البر والبحر، في القرى والأمصار- هذه الضحايا.
والهدي هو: هدي التمتع والقران في هذه الأيام في مكة، ومن فاتته الأيام ولم يذبح هديه -إما عاجزًا، أو لم يحصل الدراهم إلا بعد الحج، أو ضل هديه ووجده فيما بعد، أو اقترض واشترى- فإنه يذبح ولو بعد الأيام، كالقضاء.
إذا فاتت الأيام ثم تيسر له الهدي يذبحه، ولو كان قد صام الثلاثة يذبحه بعد الثلاثة، ويسقط عنه صيام السبعة، ولو تيسر له ذبيحة يوم أربعة عشر أو خمسة عشر يذبحها ويأكل ويطعم، ويسقط عنه صيام السبعة إن كان قد صام الثلاثة، وإن كان ما صام الثلاثة سقطت عنه العشرة كلها إذا تيسر الذبح في الرابع عشر أو في الخامس عشر أو في السادس عشر أو في السابع عشر أو بعده، يذبحه في الحرم ويأكل ويطعم.
وهذا اليوم يوم رمي إلى آخر الليل، يبدأ بعد الزوال، قبل الصلاة أفضل -إن تيسر- وإلا بعد الصلاة، وبعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء إلى آخر الليل، كله رمي عن هذا اليوم -يوم الحادي عشر- وغدًا كله رمي بعد الزوال إلى آخر الليل عن اليوم الثاني عشر، ويوم السبت يرمي بعد الزوال إلى غروب الشمس فقط.
وفق الله الجميع، وثبت الجميع على الهدى، وتقبل منا ومنكم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه، وسلم[5].
- أخرجه البخاري في كتاب (العلم)، باب (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)، برقم: 69، ومسلم في كتاب (الزكاة)، باب (النهي عن المسألة)، برقم: 1719.
- أخرجه مسلم في كتاب (الذكر والدعاء)، باب (فضل الاجتماع على تلاوة القرآن)، برقم: 4867.
- أخرجه مسلم في كتاب (الفضائل)، باب (بيان مثل ما بعثني به النبي)، برقم: 4232.
- أخرجه أحمد في (أول مسند البصريين)، (من حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنها)، برقم: 19797.
- كلمة ألقاها سماحته في 11/ 12/ 1415هـ، شريط 49/ 6. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 24/ 307).