الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإني أشكر الله على هذا اللقاء بإخوتي في الله وأبنائي الكرام، أسأله سبحانه أن يجعله لقاءً مباركًا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعًا، وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه سبحانه خير مسئول.
ثم أشكر إخواني القائمين على هذا المعهد على دعوتهم لي لهذا اللقاء، أسأل الله أن يبارك فيهم جميعًا وأن يعينهم على مهمتهم، وأن يجعلهم هداة مهتدين وصالحين مصلحين، إنه جل وعلا سميع قريب.
أيها الإخوة في الله... لا يخفى فضل العلم وأن الله سبحانه جعله من أوصاف الرسل والملائكة وخيرة الناس من عباد الله وبه يُعرف الله وبه يُعبد سبحانه، وبه تُعلم أحكامه التي أنزل بها كتبه وأرسل بها رسله، -كما لا يخفى- أن العلماء هم ورثة الأنبياء وهم خلفاؤهم، ويكفي في فضلهم أنه سبحانه استشهد بهم مع ملائكته بوحدانيته فقال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، ومعلوم أن العلماء إذا أطلقوا في كتاب الله، وفي كلام رسوله ﷺ فإنما هم العلماء في الله وبشريعة الله، وهم الذين أخذوا العلم عن كتابه وسنة رسوله وعمّا أوضحته الشريعة من القواعد المتبعة، هؤلاء هم العلماء عند الإطلاق في كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام وكلام علماء الشريعة، وهناك علماء آخرون في الطب والجغرافيا وغير ذلك من حاجة الناس، لهم فضلهم على حسب نياتهم ونفعهم للناس، لكن العلماء عند الإطلاق في كلام الله وكلام رسوله وعلماء الشريعة هم العلماء بكتابه وسنة رسوله ﷺ، وهم الدعاة إليه، هم المحسنون إلى عباده بالتوجيه والإرشاد والتعليم، والقضاء بينهم فيما أشكل عليهم، فهم طبقات في علم الله وعملهم وفضلهم على حسب ما أعطاهم الله من العلم وعلى حسب نفعهم للعباد، فمنهم العلماء المعلمون للناس ومنهم الوعاظ والمذكرون والمرشدون والمنذرون، ومنهم القضاة الذين ينظرون في مشاكل الخلق ويحلونها بما أعطاهم الله من علم الشريعة، فللعلماء فضلهم فهم ورثة الأنبياء، وللقضاة مع ذلك فضل خاص لما يتولونه من النظر في مصالح العباد وحل المشاكل وردع الظالم وإنصاف المظلوم إلى غير هذا مما يتولاه القضاة، فلهم مع فضل العلم فضل النظر في مصالح المسلمين وفي مشاكل المسلمين وفي حل ما يعرض لهم من قضايا يجب النظر فيها لحل المشاكل وردع الظالم وإقامة الحق.
وأنتم أيها الإخوة طلاب هذا المعهد -المعهد العالي للقضاء- لكم مستقبل، نسأل الله أن يعينكم على ما فيه من تعب ومن جهاد، فنسأل الله أن يمنحكم فيه الصبر والتوفيق لإصابة الحق وردع الظالم ونصر المظلوم وإقامة العدالة بين المسلمين.
ولا يخفى أيضًا ما للقاضي من الفضل العظيم والخير الكثير والأجر المضاعف إذا أخلص النية وأصاب الحق فالقضاة في الحقيقة عليهم مسئوليات كبيرة، ولهم أجور عظيمة، والعباد في أشد الضرورة إلى القضاة لحل المشاكل وإقامة الحق.. فأبشروا بالخير، وأسسوا النية الصالحة، وأعدوا كل ما تستطيعون لهذا الأمر العظيم من صبر وعلم ورحابة صدر وحرص على إقامة الحق وإنصاف المظلوم وردع الظلمة على ضوء حكم الله وما جاءت به شريعته المطهرة.
وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر[1] فهو على خير عظيم بين أجر وأجرين مع ما قد يحصل له من أجور أخرى في حرصه على معرفة الحق وطلبه ذلك وتفتيشه عن ذلك ومراجعة إخوانه وغير ذلك من الجهود التي يبذلها القاضي قبل الحكم، له فيها أجر عظيم وله فيها ثواب جزيل، والله يزيده بها علمًا وهدى وتقوى على حسب نيته واجتهاده وإخلاصه لله سبحانه وقصده الحق، فكم من فائدة وكم من أجر يحصل في سبيل التفتيش عن حكم الله في أي مسألة فيحصل له من أجر التفتيش عن ذلك وطلب ذلك أجور متنوعة مع ما يحصل له من الفوائد في تفتيشه، فقد يوفق للعثور على مسألة عظيمة هو في حاجة إليها أعظم من الحاجة إلى التي يفتش عنها ويطلبها، فهو على خير عظيم في مذاكرته مع زملائه ومشايخه، وهو على خير عظيم في تفتيشه عن المسألة في بطون الكتب، وعن التفتيش عنها في كتاب الله، وفي أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، كل ذلك له فيه أجر عظيم على حسب نيته وصدقه وإخلاصه.
يضاف إلى ذلك ما يحصل للمسلمين من الخير العظيم واستتباب الأمن ومحبة الشريعة والرضا بها إذا رأوا من القضاة الحرص العظيم على إنصاف المظلوم وردع الظالم والحرص على إصابة الحق ونشر العدالة ودفع الظالمين وإيقافهم عند حدودهم، يحصل للمسلمين بذلك الطمأنينة والثبات على اتباع الحق ومحبة الإسلام والرضا به ما لا يَقْدِرُ قدره إلا الله .
ثم أمر آخر، وهو أيضًا: ما يحصل للضعفاء والمنكوبين والمظلومين في حقوقهم، فيحصل لهم من الراحة والطمأنينة وانشراح الصدور في إنصافهم وإعطائهم حقوقهم واطمئنانهم إلى عدالة الشريعة، وأنها تنصف المظلوم وتردع الظالم وأنها توقف المعتدي عند حده، وأن هناك رجالًا من أبناء الإسلام ومن علماء المسلمين يبذلون جهودهم ووسعهم في هذا الأمر حتى يصل الأمر إلى مستحقه، وحتى يردع الظالم والمتعدي عن عدوانه وظلمه.
كل ذلك من فوائد القضاء ومن فوائد القضاة الذين يوفقون لإنصاف المظلوم ونصرة الحق على بصيرة وهدى، لكن هناك أمور أخرى فيها خطر على القاضي لابد أن يحسب لها حسابها، وهي التساهل في بذل الأسباب في معرفة الحكم الشرعي، أو التساهل في عدم معرفة ما عند الخصمين أو عدم الصبر في سماع كلام هذا وكلام هذا، أو ما قد يقع من ميول إلى أحد الخصمين ومحبة كونه ينتصر على غيره إلى غير هذا من الأخطاء.
فعلى القاضي أن يحذر هذه الأمور وأن تكون على باله ليبتعد عن الخطر الذي قد يحصل له بسببها فيجب عليه أن يعطي القضية حقها من النظر والعناية حتى يطمئن إلى دليلها وإلى الحكم فيها، وعليه أيضًا أن يصبر على الاستماع للخصمين فيما يتعلق في أمر الدعوى، وفيما يتعلق بظهور الحق، أما الجدال الذي لا خير فيه فليس من اللازم سماعه، لكن المقصود سماع ما عند المدعي والمدعى عليه من الحجج والبيان لدعوى هذا وجواب هذا حتى يكون على بينة كيف يحكم بعدما يسمع من هذا ومن هذا، مع إخلاصه لله، وعدم تحيزه إلى أحد الطرفين، وأن يكون في غاية من العدالة، والبعد عن التحيز لأحد الطرفين بغير حق لا لقرابة ولا صداقة ولا وجاهة ولا غير ذلك، بل هدفه أن يصيب الحق وأن يوصله إلى أهله وأن يردع الظالم عن ظلمه بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن.
والخطر الآخر هو أن يحكم على جهالة أو يجور في الحكم، ومعلوم أن القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة؛ أما اللذان في النار فقد أوضح النبي ﷺ صفتهما، وهما: الذي يقضي على جهل أو يجور في الحكم، أما القاضي الذي في الجنة: فهو الذي عرف الحق فقضى به، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذا الصنف، وأن يعيذنا من سوء النفس وسيئات الأعمال.
وخلاصة الكلام: أن الواجب على القاضي أمور:
بذل الوسع فيما يستحق بدليله وأن يصبر على ذلك وأن يسأل ربه التوفيق والإعانة وأن يخلص له في ذلك وأن يصبر حتى يطمئن.
أن تكون أعماله وأقواله وسيرته على الوجه الشرعي أينما كان، في محل القضاء، وفي الطريق وفي المسجد وفي بيته، يتحرى الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة التي يتخلق بها أهل العلم حتى يُطمئَن إلى علمه وإلى سيرته وأن يحذر صفات الجهلاء والسفهاء أو التقصير فيما أوجب الله، فإن القاضي إذا رُؤي منه قصور مما يدل على تساهله بدينه وعدم عنايته بأمر الله نزل في أعين الناس واتهم في قضائه ولم تكن له منزلة كبيرة في قلوب الخصوم وأقربائهم وغيرهم من الناس.
العناية بتفهم القضية تفهمًا كاملًا، وعدم العجلة، وعند أي إشكال ترفع القضية إلى وقت آخر حتى يحكم على بينة وبصيرة، وقد سمع كلام هذا وكلام هذا واطمئن إلى الطريقة التي يحكم بها بينهما، لأنه قد عرف ما لديهما واطمئن إلى أنه استوفى ما يتعلق بالقضية من الطرفين.
أن يضرع إلى الله دائمًا في طلب الحق لإصابة الحق قبل الحكم، وفي أي وقت كان حتى يكون بذلك قد بذل ما يستطيع من الأسباب المعنوية والحسية، القولية والعملية. فإن الله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه، ولاسيما أولياءه وخواص عباده من علماء الإسلام وقضاة الإسلام فإنه أسرع بالإجابة لهم من غيرهم لمنزلتهم عنده العظيمة، وهو القائل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا جميعًا الفقه في الدين والثبات عليه، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
أن القاضي عليه مسئولية كبيرة غير القضاء فينبغي ألا يغفلها وألا ينساها، مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله وتعليم الناس حسب طاقته، لا يغفل عن هذا، فلا يقول هذا لغيري، نعم عنده القضاء لا شك بذلك، لكن عنده أوقات أخرى يستطيع بها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله ويدرس في بعض المساجد التي حوله وينفع الناس، والكلمة من القاضي لها مكانتها ولها أثرها العظيم، لا فيما يتعلق في الدعوة، ولا فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا فيما يتعلق بالتعليم والتوجيه، وينبغي أن تكون هذه الأمور الثلاثة على بال القاضي على حسب طاقته.
نسأل الله التوفيق والهداية وصلاح النية والعمل إنه جواد كريم، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن دعى بإحسان[2].
فإني أشكر الله على هذا اللقاء بإخوتي في الله وأبنائي الكرام، أسأله سبحانه أن يجعله لقاءً مباركًا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعًا، وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه سبحانه خير مسئول.
ثم أشكر إخواني القائمين على هذا المعهد على دعوتهم لي لهذا اللقاء، أسأل الله أن يبارك فيهم جميعًا وأن يعينهم على مهمتهم، وأن يجعلهم هداة مهتدين وصالحين مصلحين، إنه جل وعلا سميع قريب.
أيها الإخوة في الله... لا يخفى فضل العلم وأن الله سبحانه جعله من أوصاف الرسل والملائكة وخيرة الناس من عباد الله وبه يُعرف الله وبه يُعبد سبحانه، وبه تُعلم أحكامه التي أنزل بها كتبه وأرسل بها رسله، -كما لا يخفى- أن العلماء هم ورثة الأنبياء وهم خلفاؤهم، ويكفي في فضلهم أنه سبحانه استشهد بهم مع ملائكته بوحدانيته فقال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، ومعلوم أن العلماء إذا أطلقوا في كتاب الله، وفي كلام رسوله ﷺ فإنما هم العلماء في الله وبشريعة الله، وهم الذين أخذوا العلم عن كتابه وسنة رسوله وعمّا أوضحته الشريعة من القواعد المتبعة، هؤلاء هم العلماء عند الإطلاق في كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام وكلام علماء الشريعة، وهناك علماء آخرون في الطب والجغرافيا وغير ذلك من حاجة الناس، لهم فضلهم على حسب نياتهم ونفعهم للناس، لكن العلماء عند الإطلاق في كلام الله وكلام رسوله وعلماء الشريعة هم العلماء بكتابه وسنة رسوله ﷺ، وهم الدعاة إليه، هم المحسنون إلى عباده بالتوجيه والإرشاد والتعليم، والقضاء بينهم فيما أشكل عليهم، فهم طبقات في علم الله وعملهم وفضلهم على حسب ما أعطاهم الله من العلم وعلى حسب نفعهم للعباد، فمنهم العلماء المعلمون للناس ومنهم الوعاظ والمذكرون والمرشدون والمنذرون، ومنهم القضاة الذين ينظرون في مشاكل الخلق ويحلونها بما أعطاهم الله من علم الشريعة، فللعلماء فضلهم فهم ورثة الأنبياء، وللقضاة مع ذلك فضل خاص لما يتولونه من النظر في مصالح العباد وحل المشاكل وردع الظالم وإنصاف المظلوم إلى غير هذا مما يتولاه القضاة، فلهم مع فضل العلم فضل النظر في مصالح المسلمين وفي مشاكل المسلمين وفي حل ما يعرض لهم من قضايا يجب النظر فيها لحل المشاكل وردع الظالم وإقامة الحق.
وأنتم أيها الإخوة طلاب هذا المعهد -المعهد العالي للقضاء- لكم مستقبل، نسأل الله أن يعينكم على ما فيه من تعب ومن جهاد، فنسأل الله أن يمنحكم فيه الصبر والتوفيق لإصابة الحق وردع الظالم ونصر المظلوم وإقامة العدالة بين المسلمين.
ولا يخفى أيضًا ما للقاضي من الفضل العظيم والخير الكثير والأجر المضاعف إذا أخلص النية وأصاب الحق فالقضاة في الحقيقة عليهم مسئوليات كبيرة، ولهم أجور عظيمة، والعباد في أشد الضرورة إلى القضاة لحل المشاكل وإقامة الحق.. فأبشروا بالخير، وأسسوا النية الصالحة، وأعدوا كل ما تستطيعون لهذا الأمر العظيم من صبر وعلم ورحابة صدر وحرص على إقامة الحق وإنصاف المظلوم وردع الظلمة على ضوء حكم الله وما جاءت به شريعته المطهرة.
وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر[1] فهو على خير عظيم بين أجر وأجرين مع ما قد يحصل له من أجور أخرى في حرصه على معرفة الحق وطلبه ذلك وتفتيشه عن ذلك ومراجعة إخوانه وغير ذلك من الجهود التي يبذلها القاضي قبل الحكم، له فيها أجر عظيم وله فيها ثواب جزيل، والله يزيده بها علمًا وهدى وتقوى على حسب نيته واجتهاده وإخلاصه لله سبحانه وقصده الحق، فكم من فائدة وكم من أجر يحصل في سبيل التفتيش عن حكم الله في أي مسألة فيحصل له من أجر التفتيش عن ذلك وطلب ذلك أجور متنوعة مع ما يحصل له من الفوائد في تفتيشه، فقد يوفق للعثور على مسألة عظيمة هو في حاجة إليها أعظم من الحاجة إلى التي يفتش عنها ويطلبها، فهو على خير عظيم في مذاكرته مع زملائه ومشايخه، وهو على خير عظيم في تفتيشه عن المسألة في بطون الكتب، وعن التفتيش عنها في كتاب الله، وفي أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، كل ذلك له فيه أجر عظيم على حسب نيته وصدقه وإخلاصه.
يضاف إلى ذلك ما يحصل للمسلمين من الخير العظيم واستتباب الأمن ومحبة الشريعة والرضا بها إذا رأوا من القضاة الحرص العظيم على إنصاف المظلوم وردع الظالم والحرص على إصابة الحق ونشر العدالة ودفع الظالمين وإيقافهم عند حدودهم، يحصل للمسلمين بذلك الطمأنينة والثبات على اتباع الحق ومحبة الإسلام والرضا به ما لا يَقْدِرُ قدره إلا الله .
ثم أمر آخر، وهو أيضًا: ما يحصل للضعفاء والمنكوبين والمظلومين في حقوقهم، فيحصل لهم من الراحة والطمأنينة وانشراح الصدور في إنصافهم وإعطائهم حقوقهم واطمئنانهم إلى عدالة الشريعة، وأنها تنصف المظلوم وتردع الظالم وأنها توقف المعتدي عند حده، وأن هناك رجالًا من أبناء الإسلام ومن علماء المسلمين يبذلون جهودهم ووسعهم في هذا الأمر حتى يصل الأمر إلى مستحقه، وحتى يردع الظالم والمتعدي عن عدوانه وظلمه.
كل ذلك من فوائد القضاء ومن فوائد القضاة الذين يوفقون لإنصاف المظلوم ونصرة الحق على بصيرة وهدى، لكن هناك أمور أخرى فيها خطر على القاضي لابد أن يحسب لها حسابها، وهي التساهل في بذل الأسباب في معرفة الحكم الشرعي، أو التساهل في عدم معرفة ما عند الخصمين أو عدم الصبر في سماع كلام هذا وكلام هذا، أو ما قد يقع من ميول إلى أحد الخصمين ومحبة كونه ينتصر على غيره إلى غير هذا من الأخطاء.
فعلى القاضي أن يحذر هذه الأمور وأن تكون على باله ليبتعد عن الخطر الذي قد يحصل له بسببها فيجب عليه أن يعطي القضية حقها من النظر والعناية حتى يطمئن إلى دليلها وإلى الحكم فيها، وعليه أيضًا أن يصبر على الاستماع للخصمين فيما يتعلق في أمر الدعوى، وفيما يتعلق بظهور الحق، أما الجدال الذي لا خير فيه فليس من اللازم سماعه، لكن المقصود سماع ما عند المدعي والمدعى عليه من الحجج والبيان لدعوى هذا وجواب هذا حتى يكون على بينة كيف يحكم بعدما يسمع من هذا ومن هذا، مع إخلاصه لله، وعدم تحيزه إلى أحد الطرفين، وأن يكون في غاية من العدالة، والبعد عن التحيز لأحد الطرفين بغير حق لا لقرابة ولا صداقة ولا وجاهة ولا غير ذلك، بل هدفه أن يصيب الحق وأن يوصله إلى أهله وأن يردع الظالم عن ظلمه بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن.
والخطر الآخر هو أن يحكم على جهالة أو يجور في الحكم، ومعلوم أن القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة؛ أما اللذان في النار فقد أوضح النبي ﷺ صفتهما، وهما: الذي يقضي على جهل أو يجور في الحكم، أما القاضي الذي في الجنة: فهو الذي عرف الحق فقضى به، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذا الصنف، وأن يعيذنا من سوء النفس وسيئات الأعمال.
وخلاصة الكلام: أن الواجب على القاضي أمور:
بذل الوسع فيما يستحق بدليله وأن يصبر على ذلك وأن يسأل ربه التوفيق والإعانة وأن يخلص له في ذلك وأن يصبر حتى يطمئن.
أن تكون أعماله وأقواله وسيرته على الوجه الشرعي أينما كان، في محل القضاء، وفي الطريق وفي المسجد وفي بيته، يتحرى الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة التي يتخلق بها أهل العلم حتى يُطمئَن إلى علمه وإلى سيرته وأن يحذر صفات الجهلاء والسفهاء أو التقصير فيما أوجب الله، فإن القاضي إذا رُؤي منه قصور مما يدل على تساهله بدينه وعدم عنايته بأمر الله نزل في أعين الناس واتهم في قضائه ولم تكن له منزلة كبيرة في قلوب الخصوم وأقربائهم وغيرهم من الناس.
العناية بتفهم القضية تفهمًا كاملًا، وعدم العجلة، وعند أي إشكال ترفع القضية إلى وقت آخر حتى يحكم على بينة وبصيرة، وقد سمع كلام هذا وكلام هذا واطمئن إلى الطريقة التي يحكم بها بينهما، لأنه قد عرف ما لديهما واطمئن إلى أنه استوفى ما يتعلق بالقضية من الطرفين.
أن يضرع إلى الله دائمًا في طلب الحق لإصابة الحق قبل الحكم، وفي أي وقت كان حتى يكون بذلك قد بذل ما يستطيع من الأسباب المعنوية والحسية، القولية والعملية. فإن الله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه، ولاسيما أولياءه وخواص عباده من علماء الإسلام وقضاة الإسلام فإنه أسرع بالإجابة لهم من غيرهم لمنزلتهم عنده العظيمة، وهو القائل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا جميعًا الفقه في الدين والثبات عليه، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
أن القاضي عليه مسئولية كبيرة غير القضاء فينبغي ألا يغفلها وألا ينساها، مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله وتعليم الناس حسب طاقته، لا يغفل عن هذا، فلا يقول هذا لغيري، نعم عنده القضاء لا شك بذلك، لكن عنده أوقات أخرى يستطيع بها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله ويدرس في بعض المساجد التي حوله وينفع الناس، والكلمة من القاضي لها مكانتها ولها أثرها العظيم، لا فيما يتعلق في الدعوة، ولا فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا فيما يتعلق بالتعليم والتوجيه، وينبغي أن تكون هذه الأمور الثلاثة على بال القاضي على حسب طاقته.
نسأل الله التوفيق والهداية وصلاح النية والعمل إنه جواد كريم، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن دعى بإحسان[2].
- أخرجه البخاري برقم 6805 (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم برقم 3240 (كتاب الأقضية) باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.
- محاضرة ألقاها سماحة الشيخ على طلاب المعهد العالي للقضاء. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 23/ 195).