ضرورة التضامن والتعاون الإسلامي بين المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

فقد سمعنا جميعًا هذه المحاضرة القيمة المباركة من أخينا فضيلة الشيخ محمد الراوي في موضوع يهمنا جميعًا ويهم كل مسلم والناس، والمسلمون بوجه أخص في أشد الحاجة إليه ألا وهو موضوع التضامن الإسلامي، التضامن الإسلامي هو التعاون الإسلامي كما أوضح فضيلته، فقد شرح لنا هذا التضامن وأوضح دلائله وبين وسائله، فجزاه الله خيرًا، وضاعف مثوبته، وزادنا وإياكم وإياه علمًا وهدى توفيقًا ونفعنًا جميعًا بما سمعنا وعلمنا.

لا ريب أن الأمر كما قال فضيلته، وما ذكره شيء واضح وبين في أمر التضامن، التضامن الإسلامي بين المسلمين أمر لازم وأمر مفترض، فرضه ربنا علينا، وأوجبه رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه المبلغ عن الله عز وجل، ولا يتم هذا التضامن ولا يحصل في الحقيقة إلا ممن عرف دين الله وتبصر في هذا الدين العظيم في الإسلام، وعرف واقع القول في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وعرف نتائج هذا التضامن وأهدافه وغاياته وما يترتب عليه من الخير العظيم والنصر المؤزر والعز البالغ والمجد الأثيل، ثم وجد مناخًا صالحًا يتعاون فيه مع إخوانه ويشد بعضهم في أزر بعض ليوجدوا مقتضى هذا التضامن وحقيقته وثمرته، فالتضامن تكافل وتعاون بين المسلمين في تحقيق مصالحهم ولاتخاذ الوسائل الواقية من شر عدوهم ومكائده، وللتعاون الكامل لنصر دين الله وإعلاء كلمته والقضاء على العدو المتربص بالوسائل التي شرعها الله في قوله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وفي قوله: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وقوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى[المائدة:2]، وقوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وقوله : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، وقوله : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].

ففي هذه الآيات وما جاء من الأحاديث الشريفة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام الدلالة على هذا الأصل الأصيل، والشعارات المفرقة تضر ولا تنفع وتوجب الحزازات وتنشئ البغضاء والعداوات وتفرق الشمل وتنشر الأهداف المتضاربة، فلا يتم معها تعاون، ولا يتم معها أخوة، ولا يتم معها نصر على الأعداء، وإنما يتم التعاون ويحصل الالتحام والتكاتف والتضامن إذا اتحد المقصد والهدف، واتحد الشعار وطاب المناخ وصار مناخًا جيدًا طيبًا، ينشأ فيه الصغير على ما كان عليه الكبير من علم وهدى وتقوى لله ، وإعداد لما يقي شر العدو، يحفظ الناشئة من الوقوع فيما يضرهم ولا ينفعهم، ولكن ليس اجتماع الأمة كلها شرطًا في ذلك، لو اجتمعوا لكان ذلك الخير العظيم، ولكان الهدى والنصر الكامل، ولكن من رحمة الله وحسن توفيقه ونصره لأوليائه أن الأمة إذا وجد فيها طائفة تنصر الحق وتؤيده وتعرفه جيدًا وتتكاتف في نصره وجمع القوى عليه وتعد له ما يجب فإن الله ينصرها ويؤيدها ولو قل جمعها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، لا تزال  هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرها من خذلها وخالفها المهم أن تتحد الجماعة على الحق والهدى، وأن تسخر قواها لنصر دين الله، وأن يصلح هدفها وقصدها، فيكون قصدها نصر دين الله وإعلاء كلمة الله، هذا هو الهدف من جهادها وتعاونها وتكاتفها، وأن يكون ذلك على علم وعلى هدى وعلى بصيرة، وأن يكون المرجع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فبهذا تنصر الأمة وتؤيد، ويحصل لها العاقبة الحميدة كما حصل لصدر هذه الأمة مع قلتهم، فرسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم أضعافهم عدوهم الحاضر، عندهم في المعركة أضعافهم سوى عدوهم الذي لا يحصى في بقية الأرض؛ في الجزيرة وفي غير الجزيرة، ومع هذا لما جاء الصدق والاتحاد على الحق والتعاون والتكاتف نصرهم الله وأيدهم وأذل عدوهم، فهزموا عدوهم وأسروا من أسروا وقتلوا من قتلوا وفرق البقية ونصر المسلمون.

وفي يوم أحد وكانوا أكثر من يوم بدر كان عددهم أكثر من يوم بدر وعدد عدوهم أكثر كذلك، وقد نصروا أول الأمر لما جاء الصدق والاتحاد والتكاتف، نصروا في أول الأمر، وأحسوا المشركين وقتلوا من قتلوا فيهم وسقطت رايتهم وانكشفوا، ولم يرفعها إلا امرأة، فلما عصى الرماة وتنازعوا وفشلوا فيما بينهم وأخلوا بالموقف الذي أمرهم النبي بلزومه عليه الصلاة والسلام دخل العدو من جهتهم على المسلمين من خلفهم، والتقى العدو بالمسلمين وأحاط بهم من أمامهم ومن خلفهم، فصار ما صار من القتل على المسلمين، والجراح على المسلمين والهزيمة، حتى جرح نبيهم عليه الصلاة والسلام وكسرت البيضة على رأسه، وجرى ما جرى بأسباب الفشل والنزاع والعصيان لله ولرسوله ﷺ كما قال : وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].

فهذه أسباب الهزيمة لما فشلوا وتنازعوا وعصوا سلط عليهم العدو وفيهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيهم أفضل الخلق وإمام المسلمين وأفضل الرسل عليهم الصلاة والسلام ومعه أولياء الله -أفضل الخلق بعد الأنبياء- وهم الصحابة، لكن لما أخلوا بما يجب سلط عليهم العدو لما أخلوا بما يجب وهم الصفوة وهم الخلاصة من العباد، سلط عليهم أكفر الناس في زمانهم، أضلهم عباد الأوثان، فهذا يبين لنا أن النصر ليس بالكثرة وليس بالقوة، ولكنه من عند الله : وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، وله أسباب: أسبابه تقوى الله، وطاعة الله، والتكاتف على دين الله، وعدم التنازع وعدم الفشل، وصدق اللقاء والصبر على مكائد الأعداء واتحاد الكلمة، بهذا ينصر العباد، وبهذا يقام دين الله وينشر الحق ويخذل الباطل، ولو كانت الأعداد أقل من الأعداد، ولو كانت القوة أقل من القوة، لكن الكيفية وصلاح القلوب، صلاح النيات، اتحاد الكلمة، العزم الصادق بهذا ينصر الجيش.

وكان عمر يكتب إلى أمراء الجيوش ويحرضهم شر الذنوب، ويقول: "إن أخشى ما أخشى عليكم من ذنوبكم" يعني أخشى عليكم ذنوبكم أكثر مما أخشى عليكم عدوكم؛ لأن الذنوب ضد عليهم مع عدوهم ومن أسباب خذلانهم وتسليط عدوهم.