بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فقد سمعنا جميعًا هذه الندوة المباركة التي تولاها أصحاب الفضيلة: الشيخ مناع القطان، والشيخ محمد سعيد رأفت في موضوع من الأهمية بمكان، موضوع قد طرقه العلماء، وطرقه أيضًا أعداء الشريعة وخصوم الإسلام ألا وهو موضوع تعدد النساء، وقد أجاد الشيخان في هذه الندوة المباركة وأفادا وبينا وأوضحا حكم الإسلام في التعدد، وبينا الحكم الشرعية في هذا التعدد، وكل عاقل يتدبر التعدد وفوائده ومصالحه يعرف ذلك، ويعلم كمال الشريعة واحتواءها على مصالح الأمة، وعلى كل ما فيه خيرها وسعادتها، وحل مشاكلها، وعلى كل ما فيه نجاتها في الآخرة، وإن جهل ذلك أو تجاهله بعض الناس.
ثم من المعلوم عند أهل العلم أن على المكلفين أن يتلقوا أحكام الله وأن يأخذوها بإيمان وانشراح ورضا عرفوا حكمتها أم لم يعرفوا حكمتها، ليس من شرط تحمل التكليف، وليس من شرط امتثال الأوامر وترك النواهي أن يعلم المكلف الحكمة والأسباب، ليس هذا بشرط، بل على المكلف أن يقبل الحق، وأن يأخذ بالأوامر وأن ينتهي عن النواهي، وإن لم يعرف الحكمة والسبب في ذلك، فإن ربنا حكيم عليم فلا يأمر ولا ينهى إلا عن حكمة، كما أنه لا يخلق شيئًا إلا لحكمة سبحانه وتعالى، ونحن عبيد مأمورون منهيون مكلفون متعبدون علينا أن نمتثل وأن نقبل وأن نخضع مطلقًا، مع إيماننا التام بأن الله حكيم عليم، وأن أوامره في مصلحتنا، والله غني عنا وعن أعمالنا وعن عباداتنا وعن وجودنا وذواتنا وعن كل شيء سبحانه وتعالى، فهذا الأساس العظيم يريح المؤمن من تكلف والتماس الحكم، وهؤلاء الذين يهتمون كثيرًا بالعلل ويتوقفون عن الامتثال إذا لم تظهر لهم الحكمة فهؤلاء كأنهم غنيون عن الله، وكأنهم مخيرون إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا لم يفعلوا، إلا ما وافق عقولهم، كأن الأمر قد أسند إليهم، فإن رأوا ما يعجبهم وإلا تركوا، ليس الأمر كذلك، بل الواجب عليهم أن يمتثلوا، وإن لم ترض النفوس الظالمة بالأوامر عليه أن يلزمها بالحق، وأن يخضع للحق، وأن يرضى به، وأن يعلم أن ربه جل وعلا حكيم عليم، إنما يأمر بالخير والإصلاح، وإنما يأمر بما فيه نفعك أيها العبد في عاجل أمرك وآجله، فعليك أن ترضى بذلك وأن تقتنع بذلك، وأن تسلم بذلك قال الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال في آخرين ذامًا لهم وعائبًا ومبينًا بطلان أعمالهم ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9]، نسأل الله العافية.
وقال في آخرين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]، فالمؤمن واجب عليه أن يتقبل شريعة الله بصدر رحب وإيمان ورضا واقتناع، وإن لم يعرف الحكمة أو بعض الحكمة، فإن عرف الحكمة فهذا خير إلى خير، ونور إلى نور وإن لم يعرف، فليعلم يقينًا أن هذا الشيء لم يشرع عبثًا ولا سدى، وإنما شرع لحكمة بالغة، وأسرار عظيمة، ومصالح لمن شرع له ذلك وإن لم يعلم ذلك، وإن لم تظهر له حكمته.
ومن ذلك أمر تعدد النساء كثير من الناس لجهله يكون عنده حرج وشك في ذلك لجهله بالحكم، وهكذا أوامر أخرى فيما أحل الله، وما حرم عند بعض الناس شكوك وأوهام إذا لم تظهر له الحكم، وهذا من الجهل الكبير ولا ينبغي للعاقل أن يميل أو يصغي إلى شبه أعداء الله، فإن أعداء الله إنما يريدون الصد عن سبيل الله والتشكيك في حكم الله والدعوة إلى منابذة شرع الله ومخالفة أمره والخروج عن جادة الصواب، وعن طريق الحق يعني عن الامتثال والتسليم، فالإصغاء للأعداء والميل إليهم والنظر فيما يشبهون به نظر المعجب قد يضره كثيرًا، ويوقعه في مهالك لا تحصى، لكن يجب أن نسلم لأمر الله، وأن يعنى بما قاله الله ورسوله، وأن يتفقه في ذلك، وأن يكون طيب القلب سليم القلب بأحكام الله، وسوف يأتيه النور وتبين له الحكم والأسرار، وسوف يرى من عجائب الحكم والأسرار ما يبهره، وما يضطره إلى الإيمان الصادق بأمر الله وحكمته سبحانه وتعالى، وعظيم إحسانه جل وعلا، وأنه سبحانه وتعالى الحكيم العليم، ولما شرع أمر الفرائض وتفصيل المواريث، قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11] ، وكثيرًا ما يقول في كتابه العظيم: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28] إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]، ليعلم العباد أن تشريعه سبحانه وأن أوامره ونواهيه وما يحله ويحرمه إنما صدر عن علم لا عن جهل، وعن حكمة لا عن عبث أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، يعني معطلًا لا يؤمر ولا ينهى، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون:115] وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ص:27] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حكمه العظيمة، وأنه الحكيم العليم، وأنه لا يصنع شيئًا ولا يخلق شيئًا عبثًا ولا سدى .