ولما كان المسلمون الأولون شغلهم الشاغل أن ينصروا دين الله، وأن يعلوا كلمة الله، وأن يظهروا دين الله وهم صُبر عل شظف العيش، وعلى المسكن الرث، والأثاث الرث، وغير ذلك؛ ما طمع فيهم الأعداء، بل جاهدهم أولئك الأخيار، ونشروا دين الله، وأزاحوهم عن كثير من بلادهم إلا من دخل في دين الله، من دخل رحبوا به، وصار له مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، وأعزوه، وآووه، ومن أبى جالدوه بالسيوف حتى يحكم الله بينهم وبينه، هكذا كان أوائل هذه الأمة، حتى نشروا دين الله بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، وملكوا البلاد، ورفعوا فيها راية الإسلام، لا بكثرة ولا بعدة كثيرة، ولكن بالصدق، والقلوب المؤمنة الغيورة لله ، القائمة بأمر الله سبحانه وتعالى، فالله أعانهم ووفقهم بسبب صدقهم وتكاتفهم وتعاونهم، واستعمال أبصارهم وأسماعهم وقلوبهم في نصر دين الله، وفي إقامة أمر الله، هكذا نصروا، وهكذا أُيدوا، قال جل وعلا: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40-41]، هذا شغلهم اشتغلوا بهذا وجدوا فيه وخافوا من شر المعاصي.
وسمعتم ما ذكر الشيخ سعود عن سعد بن أبي وقاص وأنه كان يخاف على الجيش من المعاصي أكثر مما يخاف عليهم من الجيش نفسه، وهذا المعنى مروي عن عمر مشهور عن عمر رضي الله عنه وأرضاه وقد يكون تلاقى فيه الرأي والفكر، فيكون قاله عمر ويكون قاله سعد ويكون قاله غيره، فكل قائد صالح وكل معلم صالح وكل داعية صالح يفهم هذا، ويعلم هذا أن المعاصي من الجيش أضر عليهم من عدوهم، فإن المعاصي من الجيش جند عليهم وعون لعدوهم عليهم، فلهذا كان عمر يحذر جنوده وجيشه من المعاصي والسيئات، ويكتب إلى سعد وإلى أبي عبيدة وإلى غيرهم يكتب إليهم ويحذرهم من المعاصي، ويأمرهم بتقوى الله، والاستقامة على أمر الله، وإيثار الآخرة، ويقول: "إنكم لن تنصروا على عدوكم بكثرتكم، ولا بعددكم، وعددتكم، ولكن تنصرون بطاعة الله، فإذا عصيتم الله صاروا أكثر منكم وأقوى منكم فغلبوكم"، فالنصر يكون بطاعة الله والقيام بأمر الله والاعتماد على الله والتكاتف والاجتماع ضد الباطل ولإظهار الحق وإقامة الحق، ويروى عنه رضي الله عنه أنه كان يكتب إلى أمرائه ويقول لهم: "إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها فقد حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع".
فالحاصل أن أسباب تأخر المسلمين وأسباب تسلط عدوهم عليهم هو ما سمعتم، هو تفرقهم واختلافهم وغفلتهم ومعاصيهم ما وقع في الكثير من القادة من التقليد الأعمى والجهل الكبير والجدل والاشتغال بما لا ينفع وبما يصد عن الحق إلى غير ذلك من الأسباب الأخرى التي بلي بها الكثير من الناس.