وقد بين العلماء وأصحاب الفكر النير وأرباب البصيرة النافذة والخبرة لأحوال الأمم في هذا العصر وقبله بعصور أسباب ضعف المسلمين وتأخرهم، كما بينوا أيضًا وسائل العلاج الناجع، ونتائجه وعاقبته إذا أحسن استعمال الدواء بصدق، وترجع أسباب الضعف التأخر وتسليط الأعداء ترجع إلى سبب واحد نشأت عنه أسباب ترجع إلى سبب واحد نشأت عنه أسباب كثيرة إلى عامل واحد نشأت عنه عوامل كثيرة وهذا السبب الواحد والعامل الواحد هو الجهل بالله وبدينه، وبالعواقب الذي استولى على الأكثرين، وصار العلم قليلًا، والجهل غالبًا، وعن هذا الجهل نشأت أسباب وعوامل منها: حب الدنيا وكراهة الموت، ومنها إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، ومنها عدم الإعداد للعدو والرضا بأخذ حاجاتهم من عدوهم وعدم الهمة العالية في إنتاج حاجاتهم من بلادهم وثرواتهم، فنشأ عن ذلك أيضًا التفرق والاختلاف، وعدم جمع الكلمة، وعدم الاتحاد، وعدم التعاون، فعن هذه الأسباب الخطيرة وثمراتها وموجباتها حصل ما حصل من الضعف أمام العدو، والتأخر في كل شيء إلا ما شاء الله، والإقبال على الشهوات المحرمة، والشغل بما يصد عن سبيل الله وعن الهدى، وعدم الإعداد للعدو، لا من جهة الصناعة، ولا من جهة السلاح الكافي الذي يرهب العدو ويعين على قتاله وجهاده وأخذ الحق منه وعدم إعداد الأبدان للجهاد، وعدم صرف الأموال فيما ينبغي للإعداد للعدو والتحرز من شره، والدفاع عن الدين والوطن، ونشأ عن ذلك أيضًا الحرص على تحصيل الدنيا بكل وسيلة، وعلى جمعها بكل سبب وكل إنسان لا يهمه إلا نفسه وما يتعلق ببلاده، وإن ذهب في ذلك دينه أو أكثره هذه حال الأكثرين، وهذا هو الغالب على الدول المنتسبة للإسلام، بل يصح أن تقول: إن هذا هو الواقع إلا ما شاء الله جل وعلا من بعض الإعداد، وبعض التحرز من بعضهم على وجه ليس بالأكمل، وليس بالمطلوب من كل الوجوه.
ويدل على أن أعظم الأسباب هو الجهل بالله وبدينه وبالحقائق التي يجب التمسك بها والأخذ بها قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين مع آيات في المعنى وأحاديث كلها تدل على خبث الجهل وخبث عواقبه ونهايته وما يترتب عليه، فالقرآن الكريم مملوء من التنديد بالجهل وأهله والتحذير منه وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:111] بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت:63] إلى غير ذلك، فعن الجهل بالله والجهل بدينه والجهل بما يجب ضد العدو من الإعداد والأهبة والاتحاد والتعاون عن الجهل نشأت هذه الأشياء التي سمعت سابقًا من فرقة واختلاف وإقبال على الشهوات وإضاعة لما أوجب الله وعدم إيثار للآخرة وعدم الالتفات إليها، بل لا يهم الأكثرين إلا هذه العاجلة كما سمعتم من القارئ قبل قليل كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ [القيامة:20-21]، وكما في قوله جل وعلا: فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41] عن الجهل نشأت هذه الكوارث وهذه العوامل الخبيثة التي هي حب الدنيا وكراهة الموت والإقبال على الشهوات وإضاعة الواجبات والصلوات وإضاعة الإعداد للعدو من جميع الوجوه إلا ما شاء الله من ذلك والتفرق والاختلاف وعدم الاتحاد والتعاون إلى غير ذلك.
فقوله عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين يدل على أن من علامات الخير والسعادة للعبد وللدولة وللشعب أن يفقه في الدين، فإذا أقبل على التفقه في الدين والتعلم والتبصر بما يجب عليه في العاجل والآجل فذلك علامة أن الله أراد به خيرًا، ومن ذلك أن يعد العدة للعدو، ومن ذلك أن يؤدي فرائض الله، وأن ينتهي عن محارم الله، وأن يقف عند حدود الله، ومن ذلك أن يوجد في بلاده من الصناعة والإعداد والقوة ما يستطيعه بكل وسيلة، حتى لا تكون حاجاته عند عدوه، وحتى يعلم عدوه ما لديه فيرهبه ويصنفه ويعطيه حقوقه ويقف عند حده، وحتى يحصل إعداد الأبدان وعدم الرفاهية التي تميع القوى وتضعف القلوب حتى لا تقابل العدو ولا تنشط في الجهاد.
والتفقه في الدين أيضًا يعطي المعلومات الكافية عن الآخرة وعن الجنة ونعيمها وقصورها وما فيها من الخير العظيم، وعن النار وعذابها وأنكالها وأنواع ما فيها من الشر والعذاب، فيكسب القلوب نشاطًا في طلب الآخرة وزهدًا في الدنيا، وإعدادًا للأعداء وحرصًا على الجهاد في سبيل الله، والاستشهاد في سبيله .
وكذلك التفقه في الدين يعطي الشعب والوالي النشاط الكامل في كل ما يحبه الله ويرضاه، وفي البعد عن كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى، ويعطي القلوب من الوالي والرعية أيضا الرغبة الكاملة في الاتحاد مع بقية المسلمين والتعاون معهم ضد العدو وفي إقامة أمر الله وفي تحكيم شريعة الله وفي الوقوف عند حدود الله، ويحصل بذلك أيضًا التعاون على كل ما يجب لله سبحانه لعباده، فإن العلم يدعو إلى العمل، العلم النافع الحقيقي الصحيح يدعو أهله إلى العمل والتكاتف والتناصح والتعاون على الخير، ويعطيهم أيضا الحرص الكامل على أداء الفرائض، والبعد عن المحارم، والشوق إلى الآخرة، وعدم كراهة الموت في سبيل الله الحق وفي الجهاد في سبيل الله وفي قتال العدو وفي أخذ الحقوق منه.
وبالعلم تكون النفوس والأموال رخيصة في جنب رضا الله، وفي سبيل إعلاء كلمة الله، وفي سبيل إنقاذ المسلمين من سيطرة عدوهم، وتخليصهم مما أصابهم من أنواع البلاء، وفي سبيل استنقاذ المستضعفين من أيدي أعدائهم، وفي سبيل حفظ كيان المسلمين وحوزتهم، وألا تنتقص بلادهم وحقوقهم، فإذا كان الجهل كفلت هذه الأشياء وهذه الحقوق وهذه الخيرات وهذه المعلومات وهذا الإيثار وهذا الإرخاص للنفوس والأموال في سبيل الحق وقد قال الشاعر:
ما يبلغ الأعداء من جاهل | ما يبلغ الجاهل من نفسه |
فالجهل داء عظيم، داء عضال، داء يميت القلوب، ويميت الشعور، ويضعف الأبدان والقوى، ويجعل أهله أشباه الأنعام لا يهمهم إلا الشهوات شهوات الفروج وشهوات البطون، وما زاد على ذلك فهو تابع له من شهوات المساكن وشهوات الملابس إلى غير ذلك، قد ضعف قلبه وضعف شعوره وقلت بصيرته فليس وراء شهوته وحاجته العاجلة ليس وراءها شيء يطمح إليه ولا يريده وينظر إليه.