الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فقد سمعنا جميعًا هذه الندوة المباركة التي تولاها أصحاب الفضيلة: الدكتور زاهر بن عواض الألمعي، والشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الدرويش، والشيخ محمد رأفت سعيد في موضوع عمارة المساجد الحسية والمعنوية، ولقد جادوا وأحسنوا وأفادوا جزاهم الله خيرا، وضاعف مثوبتهم وزادنا وإياكم وإياهم علمًا وهدى وتوفيقًا، ونفعنا جميعًا بما سمعنا، ولقد بينوا ووضحوا ما ينبغي إيضاحه في شأن المساجد وتعميرها التعمير الحسي والمعنوي، وبسطوا القول في هذا.
ولا شك أن المساجد جديرة بكل عناية، فهي بيوت الله وهي مجمع عباد الله لأداء حقه، وهي أيضًا مواضع التوجيه والإرشاد والتعليم والدعوة إلى الله عز وجل، والتعاون على الخير، وهي مركز الإشعاع الذي عم الدنيا من عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فكانت موضع التوجيه والإرشاد، وموضع إعلان المهمات من الأمور، كما أوضح المشايخ في ندوتهم، وكما هو معلوم من حال النبي عليه الصلاة والسلام، وحال أصحابه في أمر المسجد، فلقد كان عليه الصلاة والسلام عامرًا مسجده عليه الصلاة والسلام بالتوجيه والإرشاد والخطب العظيمة النافعة، وتوجيه الأمة إلى ما فيه صلاحها ونجاتها، وبيان من سيبعث من البعوث للجهاد في سبيل الله، وتوجيه البعوث من السرايا والجيوش لما ينبغي أن يقوموا به من جهاد وصبر ومصابرة إلى غير ذلك من الأمور الظاهرة، أما ما قد يقع من الأمور السرية بين القائد والجيش والسرايا فهذا شيء آخر، لكنها موضع البيان، لكن المساجد موضع البيان والإيضاح من القادة المسلمين وعلى رأسهم إمامنا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام ثم خلفاؤه الراشدون ثم من بعدهم من أئمة الهدى والصلاح.
ولقد بين المشايخ ما ينبغي من جهة تعميرها الحسي، وأنه ينبغي أن تكون العمارة بعيدة عما يشغل المصلين ويؤذيهم ويشغل قلوبهم عما هو مقصود من الحضور في المساجد من نقوش وكتابات وغير ذلك، وأن تكون عمارة قوية سليمة لا يخشى من خطرها، ومع ذلك تكون جيدة، فقد جود الناس بيوتهم وقد أحسن الناس في بيوتهم، كما قال عثمان رضي الله عنه لما أنكروا عليه ما فعل في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام من تعميره عمارة جديدة بالحجارة المنقوشة وسقفه بالساج، قال: "إن الناس غيروا بيوتهم وحسنوا بيوتهم ولم تكن على حالها الأولى، فمسجد رسول الله ﷺ أولى بأن يعتنى به ويلاحظ"، هذا معنى ما قال رضي الله عنه وأرضاه، وقال أيضًا: إني سمعت النبي يقول عليه الصلاة والسلام: من بنى لله مسجدًا بنى الله له مثله في الجنة، ولهذا اعتنى بتحسين بناية المسجد وتقويتها وتحسين منظرها حتى تكون منشطة ومشجعة على المجيء إليها والصلاة فيها لا شاغلة للناس عن ما ينبغي، فهكذا تكون المساجد جيدة سليمة نظيفة تعين على الحضور إليها، وتعين على الاجتماع بها، وليس فيها ما يشغل الناس من النقوش التي تشغل والكتابات التي تشغل، ولكنها جيدة قوية مناسبة لحال الناس، وهذا غير التباهي، التباهي شيء آخر هو التفاخر، كل واحد يقول: لعل بنايتي تكون أحسن من الأول من جهة الرياء والسمعة ومن جهة الرغبة فيما عند الناس من الثناء والقيل والقال، وهكذا ما قال ابن عباس: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى" عند حديث: ما أمرت بتشييد المساجد، فالمقصود من هذا كله الشيء الذي يصد عن الخير ويشغل المصلين عما ينبغي لهم. أما ما يتعلق بالقوة وإحسان العمارة ونحو ذلك فهذا شيء مطلوب لا يضر، وإن كان ما كان عليه النبي ﷺ وعليه صاحباه أبو بكر وعمر أفضل، ولكن ما وقع بعد ذلك من تحسين وإجادة لا حرج فيه إن شاء الله ولا تحريم فيه، ولكن ما كان عليه النبي ﷺ وصاحباه الصديق وعمر من التواضع وبناية المساجد بناية فيها تواضع كان ذلك أفضل؛ لأنه يذكر بالله ويذكر بالآخرة، ويذكر بأن هذه الدنيا ليست دار إقامة وليست دار خلد ولكنها متاع.
والمقصود من المساجد أن يصلى فيها وأن تعمر بطاعة الله وليس المقصود بأن تكون مشيدة جميلة كبيوت الناس وقصور الناس ونحو ذلك، ولكن لما غير الناس وأحسن الناس بيوتهم وتأنقوا فيها وعمروها عمارة جميلة جيدة رأى عثمان رضي الله عنه وأرضاه أن يعمل بمسجد رسول الله ﷺ ذلك، وأن يقوي عمارته وأن يحسنها اجتهادا منه فرضي الله عنه وأرضاه، ودل ذلك على أنه لا حرج في مثل هذا، لهذا القصد الصالح لا لقصد التباهي والتفاخر، ولكن لقصد أن يرغب الناس في المجيء إليها، وأن يرغبوا في الإقامة فيها، والقراءة فيها، وإقامة حلقات العلم فيها، ونحو ذلك، لأن المكان إذا كان جيدًا حسن المنظر ليس فيه ما يشوش على المصلين من غبار أو منظر يؤذيهم كان ذلك أدعى إلى حضورهم وإلى اجتماعهم، ولاسيما بعدما تغيرت الأحوال، وصار الناس غير أولئك الماضين من جهة الرغبة في العبادة والنشاط في العبادة وحضور المساجد.
ولقد أحسن الإخوان لما بينوا ما ينبغي في هذا المقام من العناية بالمجيء إلى المسجد بخشوع ورغبة صادقة في الخير، كثير من الناس قد يأتي المسجد لمجرد عادة، وأنه يصلي مع الناس لا، ينبغي لك يا أخي أن تأتي إلى المسجد مجيء الراغب بما عند الله، مجيء المشتاق لهذا المسجد لتؤدي حق الله فيه، لتشترك مع إخوانك في هذه العبادة العظيمة التي هي عمود الإسلام، فتأتي راغبًا لهذا الخير حريصًا عليه، راغبًا في المشاركة فيه، راغبًا في الوقوف بين يدي الله ومناجاته ترجو رحمته وتخشى عقابه .