ولهذا ذكر أهل العلم أن السفر إليهم محرم، السفر إلى بلاد المشركين محرم، ولو لطلب العلم، لا يجوز السفر إليهم، بل يجب طلب العلم في بلاد المسلمين وبين المسلمين، ولا يحل أن يسافر إلى بلادهم لما في هذا من الخطر العظيم، لا من الرجال ولا من النساء، لا للشباب ولا للفتيات، يجب منع ذلك وسد بابه، اللهم إلا إذا كان المسافرون رجالًا قد تفقهوا في دينهم، وقد تبصروا في دينهم، وعلموا ما يعينهم على الدعوة إلى الله، وعلى إظهار الدين، وكانت حالتهم طيبة ومشكورة باتزانهم واستقامتهم وصلاح أحوالهم، فلا مانع من ابتعاثهم إلى الدعوة إلى الله، أو إلى تعلم العلوم التي يحتاجها المسلمون، ولا توجد بينهم في بلادهم بهذه الشروط التي لا بد منها، وهي من أسباب سلامته من الخطر، ومن أسباب انتفاعهم بهم هناك.
فإذا كان السفر إليهم لا يجوز، فكيف بالبقاء بينهم والإقامة بينهم؟ هذا أخطر وأشر، ولهذا جاءت السنة بالأمر بالهجرة في حديث عبد الله بن السعدي لا تنقضي الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، فلا بد من الهجرة ما دام هناك دينان، ما دام هناك دين الإسلام، ما دام هناك جهاد، فإذا طلعت الشمس من مغربها انقطع الجهاد وانقطع قبول العمل، وبقي الإنسان على ما هو عليه من عمله السابق، إذا طلعت الشمس من مغربها لا يقبل من كافر توبة، ولا من عاص توبة، كل يبقى على حاله الأولى، المسلم على حاله وعلى أعماله، والكافر على حاله وعلى أعماله، يتجالسون على الطعام وعلى غيره، هذا يقول: يا كافر، وهذا يقول: يا مسلم، كل قد انتهى أمره، لا يستطيع هذا الكافر أن يتوب، قد أغلق باب التوبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يستطيع المسلم أن يزيد؛ لأنه إنما زاد بعدما رأى باب التوبة قد أغلق، كما قال جل وعلا: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158] وهذا مراده طلوع الشمس من مغربها.
فالواجب على أهل الإسلام أن يتكاتفوا، وأن يتعاونوا أينما كانوا في الحاضرة في البادية في الأمصار في القرى على حفظ دينهم، وعلى الاستقامة على ما أوجب الله عليهم، وأن يتمسكوا بكتاب ربهم، وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وأن يتباعدوا عما سوى ذلك، فالمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، يعني المهاجر الكامل الذي انتقل من بلاد الشرك هذا مهاجر لكن أكمل منه أعظم هجرة من ترك ما نهى الله عنه من جميع الوجوه ترك بلاد الشرك وترك المعاصي أيضًا فهذا هو المهاجر الكامل الذي تباعد عن جميع المعاصي لله لا للدينا، ولا لأغراض أخرى، بل ترك ما نهى الله عنه، يبتغي رضا الله يبتغي ما عند الله من الأجر والثواب، هذا هو المهاجر على الحقيقة، وذاك مهاجر لكن هذا أكمل مثل ما قال النبي ﷺ: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب الذي يصرع الناس يسمى شديدًا، ويسمى قويًا، الذي يطرح الناس، ولكن أقوى منه وأشد منه الذي يملك نفسه عند الغضب، حتى لا يقع فيما حرم الله، مثل ما قال عليه الصلاة والسلام: ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يقوم فيسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه، يعني هذا هو المسكين بمعنى الكلمة، فهكذا المهاجر، المهاجر العظيم، المهاجر الكامل الذي جاهد نفسه حتى ترك جميع المعاصي، وحتى استقام على أمر الله، وحتى تباعد عن بلاد الشرك، والسفر إليها، وصانه الله من ذلك، فهجر كل ما نهى الله عنه.
وإنما يكون مهاجرًا إذا كان له نية صالحة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه، فالمهاجر إلى الله ورسوله هو الذي هاجر إخلاصًا لله ومحبة لله وتعظيمًا لله واتباعًا لسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام.
إنما المهاجر الهجرة الشرعية التي يؤجر عليها الأجر العظيم هو الذي هاجر من أجل الله بإخلاص دينه لله باتباع سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام بالحفاظ على دينه حذرًا مما حرم الله عليه، فهذا هو المهاجر، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لما فيه رضاه، وأن يجعلنا جميعًا من المهاجرين الكمل الذين هجروا ما نهى الله عنه، وجاهدوا أنفسهم في ذلك، فإن هذا جهاد عظيم جهاد النفس حتى تبتعد عما حرم الله، وجهادها حتى تؤدي ما أوجب الله، فهذا جهاد عظيم، وهجرة عظيمة، فنسأل الله أن يوفقنا وإياكم لذلك، وأن يجزي الأخوين: الشيخ صالح، والشيخ إبراهيم على كلماتهما، وعما شرحا وبينا جزاء حسنًا، وأن يثيبنا وإياكم وإياهم، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا إنه سميع قريب.