الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد سمعنا جميعًا المحاضرة القيمة التي ألقاها الأخ الكريم، وصاحب الفضيلة الشيخ محمد بن حسن الدريعي، في موضوع عظيم، وهو أعظم موضوع، هو موضوع الشرك ووسائله، وقد أجاد، وأفاد، وأحسن، جزاه الله خيرًا، وضاعف مثوبته، وزادنا الله وإياكم وإياه علمًا وتوفيقًا، ونفعنا جميعًا بما سمعنا وعلمنا.
وقبل ذلك أخبركم أني تأخرت هذه الليلة في الطريق لأجل زحام شديد في الأسواق، كنت خرجت من البيت قبل الأذان بعشر دقائق والعادة أنها تكفي أو تكون مع خمس دقائق فنأتي بعد الأذان بخمس دقائق، ومن أجل هذا الزحام أنبت منذ ليال عديدة فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين يصلي المغرب كل ليلة، من أجل تلافي هذا الزحام الكثير، بسبب بعد البيت أخيرًا عن المسجد، وكنت قلت للأخ المؤذن عبد العزيز بن ماجد إذا تأخرت لا يتأخر، يقيم ويصلي بالناس أحد الحاضرين من المشايخ والإخوان حتى لا يتأخر الجماعة عن حاجاتهم، وحتى لا أتأخر عنهم، وأشق عليهم، فليعلم هذا، ليعلم أن الإخوان والمؤذن في غاية من السماح، في غاية من الإذن أن تقام الصلاة، إذا تأخرت عن الموعد المعتاد، حتى لا يشق على الحاضرين والجماعة.
وأما هذه الليلة فزحامها أكثر من العادة، ليلة الجمعة يوم الخميس زحامها أكثر، فلهذا تأخرنا حتى بعد الأذان بنحو ربع ساعة، وأدركت ركعتين، وفاتتني ركعة مع الإمام، وقد أحسن الشيخ محمد في صلاته في الناس، وأحسن المؤذن في المساعدة على ذلك، ونسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه رضاه، وأن يعيذنا جميعًا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأن يصلح أحوال المسلمين، وأن يكفينا شر هذا الزحام، وهذه السيارات الكثيرة، وهذا الاختلاط الكثير الذي في الأسواق، كثير منهم يضر ولا ينفع، نسأل الله حسن العاقبة.
نعود لبحثنا: الموضوع الذي طرقه فضيلة الشيخ محمد الدريعي موضوع عظيم، جدير منا ومن كل مسلم بالعناية، وموضوع الشرك الذي هو ضد التوحيد، وموضوع الذرائع والوسائل الموصلة إليه والمقربة منه.
أوضح فضيلته قبل الدخول في الموضوع حقائق مهمة، أهمها: بيان الأمر الذي خلق من أجله الثقلان، ما هو حتى يعلمه كل من جهله، وذلك الأمر هو توحيد الله والإخلاص له، والسلامة من الشرك كله، هذا هو الأمر الذي خلق من أجله الخليقة، وأرسلت من أجله الرسل، وأنزلت من أجله الكتب، وعليها قام سوق الجنة والنار، وقام الجهاد، وبين الحلال والحرام، ونصبت الموازين لبيان الحق وإظهاره، الذي أصله التوحيد، وبيان الباطل الذي أصله الشرك، وأعظمه الشرك، والله يقول جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، خلقوا ليعبدوا الله وليتقوه، لم يخلقوا عبثًا ولا سدى، ولم يخلقوا لعمارة القصور وشق الأنهار، وغرس الأشجار، والتنافس في التجارات والمعاملات لا، هذه أمور أخرى إذا فعلها المؤمن ليستعين بها على طاعة الله فله ثوابه، وإذا فعلها على وجه مباح فهو مباح، ولكنه خلق ليعبد ربه، خلق ليعظم ربه، خلق ليعرف به بأسمائه وصفاته، خلق الإنسان والجن ليعرفوا ربهم بأسمائه وصفاته، وأنه خالقهم، وأنه رازقهم، وأنه مصرف شؤونهم، وليعلموا أنه خلقهم ليعبدوه يعني ليطيعوا أمره وينتهوا عن نهيه، هذه عبادته خلقهم ليعظموا أمره ونهيه، ويعبدوه بطاعة الأوامر، وترك النواهي، وأعظم الأوامر توحيد الله وتخصيصه بالعبادة، هذه أعظم الأوامر يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بعبادته، وآيات أخرى فيها الأمر بطاعته يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، فطاعة الله ورسوله هي عبادته، وهي توحيده، وهي ترك محارمه.
فالواجب على جميع الثقلين جنهم وإنسهم أن يعلموا هذا بأدلته، وأن يعرفوا ربهم بأسمائه وصفاته كما قال : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] ، فالواجب علينا أن نعرف ربنا بأسمائه وصفاته، وعظيم حقه، وأن نعبده وحده لا شريك له، نعرف ربنا بأنه خالقنا ورازقنا، وأنه رب السماوات ورب الأرض، ورب العرش العظيم، وأنه مدبر شؤون العالم كلها، وأنه متصرف في الكون كله : تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، يعطي هذا ويمنع هذا، يصح هذا ويمرض هذا، يحيي هذا ويميت هذا، يغني هذا ويفقر هذا، يقدر ما يشاء، ويفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، وهو المستحق لأن نعبده وحده لا شريك له دون كل ما سواه، نعبده بماذا؟ بما أمر، بالصلاة، بالزكاة، بالصيام، بالدعاء، بالضراعة إليه، بترك محارمه، بسائر ما أمر به سبحانه وتعالى، نعبده بذلك، لا نعبد معه ملكًا مقربًا، ولا نبيا مرسلًا، ولا كوكبًا، ولا صنمًا، ولا شجرًا، ولا قبرًا، ولا جبلًا، ولا غارًا، ولا غير ذلك، نعبده وحده بتوجيه القلوب إليه، وإخلاص الدعاء له والعبادة، فالقلوب تكون معمورة بالإخلاص له ومحبته وتعظيمه، والإيمان بأنه مستحق العبادة، وأنه رب الجميع، وأنه الخلاق العليم، وأنه لا شريك له في ملكه، ولا شريك له في أسمائه وصفاته، ولا شريك له في العبادة سبحانه وتعالى، ولا تستقيم أمور العالم كلها إلا على التوحيد، فإذا لم يستقيموا على توحيد الله وطاعته تفرقوا واختلفوا، وصارت بينهم الفوضاء والفساد، وطمع فيهم الشيطان، وفرق شملهم، وجعلهم أحزابًا وفرقًا كل حزب بما لديهم فرحون، وإنما يجمعهم توحيد الله والإخلاص له، والإيمان به وطاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، والتحاكم إلى شريعته، والحكم بها، والوقوف عند حدود الله، هذا هو الذي يجمع الناس، ويؤمن بلادهم، ويصلح قلوبهم، وينصف بعضهم من بعض، ويجعلهم إخوانا متحابين في الله، متعاونين على البر والتقوى.