وانتشرت راية الإسلام في غالب المعمورة غربًا وشرقًا، كل هذا بسبب أعمالهم الصالحة التي منها جهادهم الصادق وقيامهم بالصلاة، وأداءهم الزكاة، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وطاعتهم لله ولرسوله في كل شيء، ويدخل في ذلك: ما أشار إليه الشيخ محمد رأفت سعيد من قيامهم بالتعليم في المساجد، والاجتماعات في الغزو والجهاد في كل مكان، تارة في الجهاد، وتارة في الإعداد، أوقاتهم محفوظة، أوقات يعدون للعدو، وفي أوقات أخرى يباشرون الجهاد والقتال والصراع بينهم وبين عدوهم، فأعمالهم الصالحة قائمة، وجهادهم قائم، وأوقاتهم محفوظة، والمعاصي مرفوضة، وطاعة الله مقدمة بينهم، فمن هذا جاء نصر الله عز وجل، والنصر من عند الله، لا من عند الناس وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، وما جعل هذه الأسباب إلا بشرى، ولتطمئن القلوب بذلك، وإلا فالنصر من عند الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] كم من فئة غلبوا آلافا، كم من ألف غلب آلاف، فالنصر من عند الله .
فالمسلمون الأولون عمروا مساجدهم بطاعة الله، وعمروا قلوبهم بالإخلاص لله، ومحبة الله وتعظيم حرماته، وإيثار رضاه، وعمروا بيوتهم بطاعة الله ورسوله، بينهم وبين أهلهم وأولادهم، وعمروا مجتمعاتهم بطاعة الله ورسوله، بالعلم والتعلم والتفقه في الدين، درسوا القرآن وتعلموه، ما جعلوا فجوة بين العلم والعمل، تعلموا ليعملوا، ما تعلموا للمادة ليأخذوا معاشًا وليعيشوا مع الناس، تعلموا ليعملوا، تعلموا ليعرفوا ما أوجب الله عليهم، ليعرفوا ما حرم الله عليهم؛ حتى يعملوا به، ليعرفوا مواقع رضا الله؛ فيأخذوا بذلك، ليعرفوا مساخطه؛ فيجتنبوها ويحذروها، فمن ذلك استقام أمرهم، وأيدهم الله ونصرهم على أعدائهم، فانتشرت راية الإسلام في الجزيرة أولًا، ثم انتقلوا من الجزيرة إلى العراق والشام فطردوا من الشام والعراق طردوا الروم من الشام وما حولها، وطردوا الكياسرة من بلادهم واستولوا على بلادهم، وهدى الله من هدى منهم وأسلم، ومن أبى قاتلوه وأعانهم الله عليهم، وهكذا بعد ذلك انتشرت رايات الإسلام في كل مكان بأسباب الصدق والعمل الصالح والإيمان الصادق، وأنهم يتعلمون ليعملوا، فهم بالليل رهبان، وفي النهار أسود، وعند قيام الحرب في أي وقت من ليل أو نهار هم مستعدون لها بأعمالهم الصالحة، وقلوبهم الجريئة، وشجاعتهم، وإقدامهم، وحبهم للموت في سبيل الله ، وإيثارهم الآخرة على الدنيا، ومن هذا كله حصل ما حصل من النصر.
ومن ذلك اعتصامهم بحبل الله، واجتماعهم على الحق عملا بقول الله سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فصاروا جندًا واحدًا، وأمة واحدة، قلوبهم متفقة، وآراؤهم متحدة، ومتى اختلفت الآراء ردوها إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، عاملين بقوله : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ... [النساء:59] الآية، وعاملين بقوله : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، هذا شأنهم بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام.