ويرون مُجانبة كل داعٍ إلى بدعة، والتَّشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنَّظر في الآثار، والنظر في الفقه، مع الاستكانة والتَّواضع وحُسن الخلق، مع بذل المعروف وكفِّ الأذى، وترك الغيبة والنَّميمة والشِّكاية، وتفقد المآكل والمشارب.
قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه.
الشيخ: وتفقد المآكل والمشارب يعني: عن الحرام، يتحرزون عن الحرام، ويجتهدون في طلب الحلال، هكذا قول أهل السنة والجماعة؛ يتركون الجدل والمراء إلا بحقٍّ، كما قال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46].
الشيخ: رحمه الله، وقد أحسن في ذلك رحمه الله.
وقال الأشعري أيضًا في اختلاف أهل القبلة في العرش، فقال: قال أهلُ السنة وأصحاب الحديث: إنَّ الله ليس بجسمٍ، ولا يُشبه الأشياء، وإنه استوى على العرش، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا كيفٍ، وإنَّ له وجهًا، كما قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وأنَّ له يدين، كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وأنَّ له عينين، كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته، كما قال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئًا إلَّا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله ﷺ.
وقالت المعتزلة: إنَّ الله استوى على العرش بمعنى: استولى. وذكر مقالات أخرى.
الشيخ: ولكن كما تقدم ما نقله عن أهل السنة ........ ليس بجسمٍ محل نظرٍ، وقد أنكره أبو العباس في كتابه "التدمرية"، وفي مواضع أخرى، وبيَّن أنَّ أهل السنة والجماعة لا ينفون الجسم ولا يُثبتونه؛ لعدم وروده، فلا يقال: هم جسم، ولا ليس بجسمٍ؛ لأنَّ هذه الكلمة محتملة، فيها إجمال، وإنما يقولون ما جاءت به النصوص، فيقولون: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3، 4]، وهكذا ما جاءت به النصوص.
أما هو جسم أو ليس بجسمٍ، هذا لم ترد به النصوص، فلا يجوز نفيه ولا إثباته، ومراد مَن نفاه: ليس بالجسم، يعني: كالأجسام، كما أنَّ له ذاتًا، لكن ليست مثل الذَّوات، بل له ذات حقيقة، وسمع حقيقة، وبصر حقيقة، ولكن ليست مثل ذوات المخلوقين، وأما نفي الجسم وإثبات الجسم فلم ترد به النصوص، فمَن أثبته وقال: هو جسم لا كالأجسام، له سمع وبصر ونحو ذلك، وهو حقيقة. ومَن نفاه، وأنه ليس له ذات؛ هذا كفر وضلال إذا أراد به هذا المعنى؛ ولهذا فالصواب أنه لا يُنفى ولا يثبت، لا يقال: ليس بجسمٍ ولا جسم؛ لعدم وروده في الأدلة؛ لأنَّ الأدلة لم ترد بهذا اللفظ، ولم ينطق به الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ...... بما جاءت به النصوص ويكتفى بذلك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74].
وجاء في الحديث الصحيح: وذلك في ذات الإله، في حديث شعر أُبي، وجاء في حديث كذبات إبراهيم: كلهن في ذات الله، فله ذات لا تُشبه الذَّوات ، ذات موصوفة بالسمع والبصر والوجه واليد وغير ذلك، على الوجه اللائق بالله .
س: وأنَّ له عينين؟
ج: كما جاءت به النصوص؛ لأنه أخبر في كتابه العظيم: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، وجاء في السنة ما يُبين ذلك؛ قال: إنَّ الدجال أعور، وإنَّ ربكم ليس بأعور كما جاء في "الصحيحين"، هذا إثبات للعينين، وأنهما عينان سليمتان، ليسا كالدَّجال.
وقال أيضًا أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سمَّاه "الإبانة في أصول الديانة"، وقد ذكر أصحابُه أنه آخر كتابٍ صنَّفه، وعليه يعتمدون في الذَّبِّ عنه عند مَن يطعن عليه، فقال: "فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة.
فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكلام ربنا، وسنة نبينا، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك مُعتصمون، وبما كان يقول به أبو عبدالله أحمد بن حنبل -نضَّر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحقَّ، ودفع به الضَّلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشَّاكين. فرحمة الله عليه من إمامٍ مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم.
وجملة قولنا: أنا نُقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثِّقات عن رسول الله ﷺ، لا نرد من ذلك شيئًا، وأنَّ الله واحد، لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية، وأن الله يبعث مَن في القبور.
وأنَّ الله مُستوٍ على عرشه، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وأنَّ له وجهًا، كما قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وأنَّ له يدين بلا كيفٍ، كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وكما قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، وأنَّ له عينين بلا كيفٍ، كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]. وأنَّ مَن زعم أنَّ أسماء الله غيره كان ضالًّا.
وذكر نحوًا مما ذكر في الفرق، إلى أن قال: ونقول: إنَّ الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلامٍ إيمانًا.
وندين بأنَّ الله يُقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله ، وأنه يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، كما جاءت الرواية الصَّحيحة عن رسول الله ﷺ.
الشيخ: يعني: يوم القيامة؛ السماوات على أصبع يوم القيامة، والماء والثَّرى على أصبع، والشجر والجبال على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزّهنَّ فيقول: أنا الملك، أنا الجبار، أين الجبَّارون؟ أين المتكبرون؟ كما ثبت في "الصحيحين" من حديث ابن مسعودٍ.
الشيخ: وهذا هو قول أهل السنة والجماعة: الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، يزداد بالطاعات والذكر، وينقص بالمعصية والغفلة.
الشيخ: وهذا يرد به على المعتزلة والجهمية والخوارج؛ الذين يقولون: لا يزيد ولا ينقص. ويقول بعضُهم -كالجهمية- إنه مجرد المعرفة. وأهل السنة والجماعة وسط بين هذه الطوائف الثلاث؛ فهم يقولون: إنَّ الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي. وأما قول الخوارج: أنه لا يزيد ولا ينقص، وأنَّ مَن عصى كفر. فهم ضالُّون في هذا القول، وهكذا المعتزلة، نسأل الله العافية.
ونُسلم الرِّوايات الصَّحيحة عن رسول الله ﷺ التي رواها الثِّقات، عدلًا عن عدلٍ حتى ينتهي إلى رسول الله ﷺ.
إلى أن قال: ونُصدق بجميع الرِّوايات التي أثبتها أهلُ النَّقل: من النزول إلى سماء الدنيا، وأنَّ الرب يقول: هل من سائلٍ؟ هل من مُستغفرٍ؟، وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافًا لما قال أهلُ الزيغ والتَّضليل.
ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم.
ونقول: إنَّ الله يجيء يوم القيامة، كما قال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وإنَّ الله يقرب من عباده كيف شاء، كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وكما قال: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم: 8- 9].
الشيخ: هذه الآية الصواب فيها أنه جبرائيل، الآية في سورة النجم، الصواب فيها أنه جبرائيل عليه الصلاة والسلام.
إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره بابًا بابًا.
ثم تكلم على أنَّ الله يُرى، واستدل على ذلك، ثم تكلم على أنَّ القرآن غير مخلوقٍ، واستدلَّ على ذلك، ثم تكلم على مَن وقف في القرآن وقال: لا أقول: إنه مخلوق، ولا غير مخلوق. وردَّ عليه.
ثم قال: باب ذكر الاستواء على العرش.
فقال: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟
قيل له: نقول: إنَّ الله مُستوٍ على عرشه، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وقال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، وقال تعالى حكايةً عن فرعون: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36- 37]، كذَّب موسى في قوله: إنَّ الله فوق السماوات، وقال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك:16]، فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرشُ فوق السماوات قال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ؛ لأنه مُستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السَّماوات، وليس إذا قال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ يعني: جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى أنَّ الله ذكر السماوات فقال تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [نوح:16]، ولم يُرد أنَّ القمر يملؤهن، وأنه فيهن جميعًا، ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السَّماء؛ لأنَّ الله على عرشه الذي هو فوق السَّماوات، فلولا أنَّ الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطّونها إذا دعوا إلى الأرض.
الشيخ: وهذا يُبين لنا أنَّ المراد في السَّماء، يعني: على السماء؛ لأنَّ المؤلف يُشير إلى أنَّ المراد بالسَّماء: العلو، جنس العلو؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، والعرش فوق السَّماوات، فقوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يعني: في العلو، من العلو العرش، فهو من العلو.
والمعنى الثاني: أنَّ "في" بمعنى "على"، إذا أُريد بالسَّماء السَّماء المبنية القائمة، يعني: مَن على السَّماء، كما قال تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة:2] يعني: على الأرض: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] يعني: على جذوع النخل، والآية فُسرت بهذا وهذا.
فإذا فُسرت "في" بمعنى "على" فالمراد يعني: فوق السَّماوات، فوق العرش جلَّ وعلا، وإذا فُسرت السَّماء بمعنى: العلو، فهي على أصلها ..... في السَّماء يعني: في العلو، والله جلَّ وعلا فوق العرش، وهذا قول أهل السنة والجماعة، وهو الذي جاءت به الرسل، وهو قول أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم بإحسانٍ: أنَّ الله في السَّماء في العلو، فوق العرش، فوق جميع الخلق .
وهكذا أخبر الله عن موسى أنه بلَّغ فرعون وغيره أنَّ الله في السَّماء؛ ولهذا قال فرعون: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر:36- 37]، فبين له أنه في العلو، وأنَّ الله فوقه؛ فلهذا قال الخبيثُ ما قال.
فالرسل جاءوا بأنَّ الله في السَّماء، وفي العلو، وهو يُدعا من أعلى، تُرفع الأيدي إليه طلبًا للمغفرة والعفو والحاجات التي يطلبها الإنسان، وهكذا قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، كل هذا يدل على العلو .........
ثم قال: فصل:
وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إنَّ معنى قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أنه استولى وقهر وملك، وأنَّ الله في كل مكانٍ. وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهلُ الحق. وذهبوا في الاستواء إلى القُدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرقَ بين العرش والأرض السَّابعة؛ لأنَّ الله قادر على كل شيءٍ، والأرض فالله قادر عليها، وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مُستويًا على العرش بمعنى: الاستيلاء، وهو مُستولٍ على الأشياء كلها؛ لكان مستويًا على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش والأقذار؛ لأنه قادر على الأشياء، مُستولٍ عليها، وإذا كان قادرًا على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحدٍ من المسلمين أن يقول: إنَّ الله مُستوٍ على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش: الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها.
الشيخ: وهذا قول أهل الحق، وأن قول مَن قال أنَّ "استوى" بمعنى "استولى على العرش، أو قهر عليه، أو غلب عليه" قول باطل؛ لأنه مُستولٍ على كل شيءٍ، وهو بيده كل شيء ، وإنما هذا صفة علو، صفة خاصة للعرش والعلو فوقه والاستواء عليه من الله .........
وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل.
ثم قال: باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين.
وذكر الآيات في ذلك، ورد على المتأولين لها بكلامٍ طويلٍ لا يتسع هذا الموضع لحكايته، مثل قوله: فإن سُئلنا: أتقولون: لله يدان؟ قيل: نقول ذلك، وقد دلَّ عليه قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وقوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75].
ورُوي عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التَّوراة بيده، وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي ﷺ: أنَّ الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده.
وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب: أن يقول القائل: عملتُ كذا بيدي. ويُريد بها النّعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العربَ بلغتها وما يجري مفهومًا في كلامها ومعقولًا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلتُ كذا بيدي. ويعني بها النعمة؛ بطل أن يكون معنى قوله تعالى: بِيَدَيَّ النِّعمة. وذكر كلامًا طويلًا في تقرير هذا ونحوه.
الشيخ: يعني: ردَّ على أهل التأويل من أهل الكلام الذين يُؤولون اليد بالقدرة أو بالنعمة، وأنَّ هذا باطل وغير معروفٍ عند العرب، إذا قالت العرب: فعلتُ بيدي هذا. تريد أنها باشرت الشيء، والله خاطب العرب بما يعقلون ويفهمون؛ ولهذا قال سبحانه: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، إلى غير هذا من النصوص الدالة على إثبات اليدين له سبحانه على الوجه اللائق به، من غير مشابهةٍ للخلق ، وهكذا بقية الصفات: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75]، إنَّ الله ليرضى عن العبد ..، إلى غير هذا، كل هذا على الطريقة المعروفة، وهي إمرارها كما جاءت، مع الإيمان بأنها حقّ، وأنها أوصاف لله تليق به سبحانه، لا يُشابه فيها خلقه جلَّ وعلا.
الشيخ: وهذا أبو بكر الباقلاني مات سنة 403، في أول القرن الخامس.
وقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فأثبت لنفسه وجهًا ويدًا.
فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحةً إن كنتم لا تعقلون وجهًا ويدًا إلا جارحة؟
قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب إذا لم نعقل حيًّا عالمًا قادرًا إلا جسمًا أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله ، وكما لا يجب في كل شيءٍ كان قائمًا بذاته أن يكون جوهرًا؛ لأنا وإياكم لم نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، وكذلك الجواب لهم إن قالوا: يجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضًا. واعتلوا بالوجود.
الشيخ: والمعنى في هذا: أنَّ صفاته جلَّ وعلا ....... فلا يلزم من إثباتها أن يكون مُشابهًا للمخلوقين، فكما لا يلزم في ذاته، ولا في سمعه، ولا في بصره، فكذلك لا يلزم في يده، ولا في أصبعه، ولا في قدمه، ولا في سائر صفاته، كلها بابها واحد: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص]، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، الباب واحد، يجب أن تُمر كلها كما جاءت، مع الإيمان القاطع الجازم أنها تليق به سبحانه، وأنه لا يُشابه فيها خلقه، هكذا قال أهلُ السنة والجماعة في جميع أسمائه وصفاته .
وقال: فإن قال: فهل تقولون: إنه في كل مكانٍ؟
قيل له: معاذ الله، بل مُستوٍ على عرشه، كما أخبر في كتابه فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقال الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ [فاطر:10]، وقال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16].
قال: ولو كان في كل مكانٍ لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش والمواضع التي يُرغب عن ذكرها؛ ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان؛ ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.
الشيخ: يعني ...... أنه يُدعا من أعلى .
وقال أيضًا في هذا الكتاب: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفًا بها هي: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضا.
وقال في كتاب "التمهيد" كلامًا أكثر من هذا، لكن ليست النسخة حاضرة عندي، وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه، وإن كنا مُستغنين بالكتاب والسنة وآثار السَّلف عن كلِّ كلامٍ.
الشيخ: وهذا هو الحقيقة، إنما يُؤخذ كلامهم للرد على الخصوم، وإلا فالمسلمون وأهل السنة مُستغنون بكلام الله وكلام رسوله ﷺ وكلام أصحاب النبي ﷺ عن كل كلامٍ، ولكن يُذكر كلام أهل العلم من باب الاستشهاد والرد على الخصوم، وأنَّ هؤلاء العلماء تلقوا الكتابَ والسنةَ كما جاءت، وآمنوا بها، وصدَّقوا بها، وانقادوا لها، فهم حُجَّة على مَن سواهم.
الشيخ: هذا واقع، فكثير من الناس لتقليده وعماه لو أُتِيَ بكل شيءٍ لا يؤمن حتى إذا جيء بشيءٍ من كلام أئمته أذعن لذلك وقبل؛ فلهذا ينقل كلام أهل العلم للمُقلدين حتى ينقادوا للحقِّ الذي دلَّت عليه الآيات والأحاديث النبوية، لا لأنَّ الحجَّة في كلام المنقول عنهم من العلماء المتأخرين، لا، ولكن لأجل إقناع غيرهم ودعوة غيرهم إلى الحقِّ الذي دلَّ عليه كتابُ الله وسنةُ رسوله عليه الصلاة والسلام.
الشيخ: ولهذا قد حرَّم عليهم ذلك ........
الشيخ: وفَّق الله الجميع، وثبَّت الجميع على الهدى.
وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتابه "الرسالة النِّظامية": اختلف مسالك العلماء في هذه الظَّواهر؛ فرأى بعضُهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن. وذهب أئمَّة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظَّواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب.
فقال: والذي نرتضيه رأيًا، وندين الله به عقيدةً: اتِّباع سلف الأمة، والدليل السَّمعي القاطع في ذلك: إجماع الأمة، وهو حُجَّة مُتبعة، وهو مُستند معظم الشَّريعة، وقد درج صحبُ رسول الله ﷺ على ترك التَّعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشَّريعة، وكانوا لا يألون جهدًا في ضبط قواعد الملة، والتَّواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغًا أو محتومًا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع، فحقٌّ على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تعالى؛ فليُجرِ آية الاستواء والمجيء وقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وقوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] وما صحَّ من أخبار الرسول -كخبر النزول وغيره- على ما ذكرناه.
الشيخ: وهذا هو الحق، الذي قاله أبو المعالي هو الحق، وأنَّ أهل السنة والجماعة -وهم السلف الصالح- مشوا على هذا، وتركوا التأويلَ الذي خاضه الجهمية وأشباههم.
وقوله: "نُفوض المعنى" يعني: الكيفية، المعنى يعني: الكيفية، أما المعاني معلومة، وليس مُراده المفوضة الذين هم شرّ من الجهمية الذين قالوا: إنَّ الله خاطب الناسَ بما لا يفهمون ولا يعقلون ...... أرادوا بأن يُفوضوا المعنى من جهة الكيف، كما قال مالك وغيره، وعبدالله بن المبارك وسفيان وغيرهم: "أمرُّوها بلا كيفٍ" يعني: آمنوا بها، وأمروها من دون أن تُكيفوا الصِّفات، والمعنى معروف، والاستواء معروف معناه، والعلم معروف، والضحك معروف، واليد معروفة، والقدم معروف، والسمع معروف، لكن ليس مثل صفة المخلوقين، نعم.
س: ما وقع في التأويل أبو المعالي؟
ج: يمكن في بعض الكتب الأخرى، وكلامه هنا طيب، كلامه هنا في الرسالة النِّظامية طيب، وإذا أخطأ هو في بعض المسائل يُؤخذ الصواب ويُترك الخطأ.
الشيخ: والمعنى في هذا أن لا يظن أنَّ ما ذكرناه عنهم أنه موافقٌ لهم في كل شيءٍ، لكن ينقل عنهم ما أصابوا فيه الحقّ، وما وافقوا فيه الحقّ، وإذا وُجد من فلانٍ أو فلانٍ أو فلانٍ أغلاط فهذه تُرد عليه، كما تُرد على غيره، فينبغي لمن نقل عن الشَّخص كلامًا حقًّا أن يعرف أنه إذا قال قولًا آخر باطلًا فالباطل يُردّ، يُقبل الحقّ ممن جاء به، ويُرد الباطل على مَن جاء به، هذا هو المقصود، سواء كان كبيرًا أو متوسطًا أو صغيرًا، ما قاله من الحقِّ قُبِل على العين والرأس؛ لأنه الحق، وما قاله من الباطل رُدَّ؛ لأنه باطل، وإن كان مَن قاله عظيمًا فالحق فوق ذلك وأعظم.
وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه -الذي رواه أبو داود في "سننه"- "اقبلوا الحقَّ من كلِّ مَن جاء به وإن كان كافرًا -أو قال: فاجرًا- واحذروا زيغة الحكيم"، قالوا: كيف نعلم أنَّ الكافر يقول كلمةَ الحقِّ؟ قال: "إنَّ على الحقِّ نورًا"، أو قال كلامًا هذا معناه.
فأما تقرير ذلك بالدليل، وإماطة ما يعرض من الشُّبَه، وتحقيق الأمر على وجهٍ يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامة؛ فما تتسع له هذه الفتوى، وقد كتبتُ شيئًا من ذلك قبل هذا، وخاطبتُ ببعض ذلك بعض مَن يُجالسنا، وربما أكتب -إن شاء الله- في ذلك ما يحصل به المقصود.
وجماع الأمر في ذلك: أنَّ الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحقِّ، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته ............
ولا يحسب الحاسبُ أنَّ شيئًا من ذلك يُناقض بعضه بعضًا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أنَّ الله فوق العرش يُخالفه الظاهر من قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقوله ﷺ: إذا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ ونحو ذلك.
فإنَّ هذا غلط، وذلك أنَّ الله معنا حقيقةً، وهو فوق العرش حقيقةً، كما جمع الله بينهما في قوله : هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيءٍ، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبيُّ ﷺ في حديث الأوعال: وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وذلك أنَّ كلمة "مع" في اللغة إذا أُطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسّة أو مُحاذاة عن يمينٍ أو شمالٍ، فإذا قُيدت بمعنًى من المعاني دلَّت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يُقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، أو والنجم معنا. ويقال: هذا المتاع معي. لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك.
الشيخ: كلٌّ بحسبه؛ "القمر معنا" يعني: نور القمر، "النجم معنا" نراه ......، وهكذا: وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد:35] يعني: بعلمه، واطِّلاعه علينا، ورُؤيته لنا، وأنه لا يخفى عليه منا خافية ، وهو فوق العرش، هكذا فلانة مع فلان، وإن كانت في بلادٍ وهو في بلادٍ، يعني: زوجة له، في عصمته، وإن كانت في الشرق وهو في الغرب، يُقال: فلانة مع فلان، يعني: زوجةً له، وإن كانت ما هي عنده -إن كانت بعيدةً عنه- كما يُقال: فلان مع معاوية، وإن كان في أقصى الدنيا، وفلان مع عليٍّ، وإن كان في أقصى الدنيا، يعني: معه في النُّصرة والحماية والتَّأييد، وهكذا ما أشبه ذلك: فلان مع الخوارج، وإن كان بعيدًا عنهم، فلان مع الرافضة، وإن كان بعيدًا عنهم، يعني: في عقيدته، وفي حمايته لهم، وفي نصره لهم، إلى غير ذلك، كل مقامٍ له ما يُناسبه.
س: ..............؟
ج: نعم، يعني: معنا بعلمه واطِّلاعه علينا، كل مقارنةٍ لها معناها اللائق بها.
س: حديث الأوعال ثابت؟
ج: منهم مَن حسَّنه، حسَّنه جماعة، وبعضهم أعلَّه؛ لأنَّ بعض رواته لم يسمع من الأحنف، الراوي عن الأحنف لم يسمع منه، لكن معناه صحيح من حيث العلو والفوقية، وأنَّ الله مع عباده بعلمه .
فالله مع خلقه حقيقةً، وهو فوق عرشه حقيقة.
ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد؛ فلما قال: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلى قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] دلَّ ظاهر الخطاب على أنَّ حكم هذه المعية ومُقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومُهيمن، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه. وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
وكذلك في قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ إلى قوله: هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا الآية [المجادلة:7].
ولما قال النبيُّ ﷺ لصاحبه في الغار: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] كان هذا أيضًا حقًّا على ظاهره، ودلَّت الحال على أنَّ حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنَّصر والتَّأييد.
وكذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وكذلك قوله لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن: النصر والتأييد.
وقد يدخل على صبي مَن يُخيفه فيبكي، فيُشرف عليه أبوه من فوق السَّقف فيقول: لا تخف؛ أنا معك، أو أنا هنا، أو أنا حاضر، ونحو ذلك. يُنبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه.
ففرق بين معنى المعية وبين مُقتضاها، وربما صار مُقتضاها من معناها، فيختلف باختلاف المواضع؛ فلفظ "المعية" قد استُعمل في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضعٍ أمورًا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدرٍ مُشتركٍ بين جميع مواردها -وإن امتاز كل موضعٍ بخاصيةٍ- فعلى التقديرين ليس مُقتضاها أن تكون ذات الرب مختلطةً بالخلق حتى يُقال: قد صُرفت عن ظاهرها.
ونظيرها من بعض الوجوه "الربوبية والعبودية"، فإنهما وإن اشتركتا في أصل الربوبية والعبودية فلما قال: بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121- 122] كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامَّة للخلق؛ فإنَّ مَن أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره فقد ربَّاه ربوبيةً وتربيةً أكمل من غيره.
وكذلك قوله: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6]، و سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1]، فإنَّ العبد تارةً يعني به المعبد، فيعم الخلق، كما في قوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، وتارةً يعني به العابد فيخص، ثم يختلفون: فمَن كان أعبد علمًا وحالًا كانت عبوديته أكمل؛ فكانت الإضافةُ في حقِّه أكمل.
الشيخ: والمعنى: عبودية خاصَّة، وعبودية عامة، وربوبية عامة، وربوبية خاصة، وهذا واضح المعنى؛ فإنَّ الربوبية مع التربية لخواص العباد من الرسل والأولياء وعباد الله الصَّالحين، غير الربوبية العامَّة لبقية البشر، وهكذا العبودية الخاصَّة للأنبياء والرسل وعباد الله الصَّالحين، غير العبودية العامَّة، وهذا كله واضح في الكتاب والسنة، وفي كلام الناس أيضًا، فهكذا المعية تنوعها أمر معلوم.
الشيخ: والمتواطئة هي التي تشترك في أصل المعنى، بخلاف المشتركة؛ فإنها لا تشترك في المعنى، بل تُطلق على معانٍ كثيرةٍ يُقال لها أسماء مُشتركة، وأما المتواطئة فهي التي تتحد في أصل المعنى، وتتفاوت في معانٍ كثيرةٍ؛ لأنها ترد في كل مكانٍ بما يُناسبه، هكذا المعية مع العباد؛ معية الله مع عباده، ومعية الرجل مع عباده: معية الرجل مع زوجته، معية الرجل مع ولي الأمر كلمة، وإن كان أصل المعنى نوع المقارنة، بخلاف الكلمات التي تُطلق على أشياء كثيرةٍ مشتركةٍ لا تتحد في معنًى.
ومَن علم أنَّ "المعية" تُضاف إلى كل نوعٍ من أنواع المخلوقات -كإضافة الربوبية مثلًا- وأنَّ الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش، وأنَّ الله يُوصف بالعلو والفوقية الحقيقية، ولا يُوصف بالسُّفول ولا بالتحتية قط، لا حقيقة ولا مجازًا؛ علم أنَّ القرآن على ما هو عليه من غير تحريفٍ.
ثم مَن توهم أنَّ كون الله في السَّماء بمعنى أن السماء تُحيط به وتحويه، فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضالٌّ إن اعتقده في ربِّه، وما سمعنا أحدًا يفهم هذا من اللَّفظ، ولا رأينا أحدًا نقله عن واحدٍ، ولو سُئل سائر المسلمين: هل تفهمون من قول الله ورسوله أنَّ الله في السماء، وأنَّ السماء تحويه؟ لبادر كل أحدٍ منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا.
وإذا كان الأمر هكذا: فمن التَّكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئًا محالًا لا يفهمه الناس منه، ثم يُريد أن يتأوَّله؛ بل عند الناس أنَّ الله في السَّماء، وهو على العرش واحد؛ إذ السَّماء إنما يُراد بها العلو، فالمعنى: أنَّ الله في العلو، لا في السفل، وقد علم المسلمون أنَّ كرسيه وسع السَّماوات والأرض، وأنَّ الكرسي في العرش كحلقةٍ مُلقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ، وأنَّ العرش خلق من مخلوقات الله، لا نسبةَ له إلى قُدرة الله وعظمته، فكيف يُتوهم بعد هذا أنَّ خلقًا يحصره ويحويه؟! وقد قال سبحانه: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، وقال: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [آل عمران:137] بمعنى: على. ونحو ذلك، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازًا، وهذا يعلمه مَن عرف حقائق معاني الحروف، وأنها مُتواطئة في الغالب لا مُشتركة.
س: قوله: "في السَّماء" يعني: على السَّماء، أو فوق السَّماء؟
ج: له معنيان "في السَّماء" إذا أُريد الموجودة فهو على السماء: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة:2] يعني: على الأرض، وإذا أُريد جنس العلو فالمراد أنه في العلو، وأنه على العرش في العلو.
الشيخ: المعنى من هذا أن جميع الروايات ...... في العلو، وهي أنَّ الله قبل وجه المصلي، وأنَّ الله معنا: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وما أشبه ذلك: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19]، كله لا يُنافي العلو، وهو فوق العرش، فوق جميع الخلق، وهو مع عباده بعلمه واطلاعه، وهو قبل وجوه المصلين؛ لأنهم يعبدونه ويقصدونه ويُقبلون عليه ، فهو قبل وجوههم وإن كان فوق العرش، فوق جميع الخلق ، لا تنافي بين هذه الصِّفات وبين علوه واستوائه على عرشه جلَّ وعلا؛ لأنه لا يُقاس بخلقه، ولا يُشبه بخلقه جلَّ وعلا.
الشيخ: وهذا مثال واضح، والأمثلة كثيرة: كالقمر والشمس والنجوم، يراها الناس، كلٌّ يراها في مكانه، وفي بيته، وفي سطحه، وفي جبله، وفي مرعاه، وفي كل مكانٍ كل واحدٍ يراها ......، والله فوق ذلك وأعظم ، فيراه المؤمنون يوم القيامة وهم على أسرتهم وعلى أماكنهم إذا تجلَّى لهم ، وهذا بفضله وإحسانه إليهم؛ حيث يتجلَّى لهم ويُريهم وجهه الكريم ويُكلمهم ويُسلم عليهم ويقول: هل رضيتُم؟ ......
الشيخ: يعني: أنها رؤية حقيقة، تشبيه الرؤية بالرؤية يعني أنها رؤية حقيقة، ليست خيالًا ولا كذبًا، ولكن حقيقة، كما أنَّ رؤية الشمس والقمر والنجوم وأشباهها حقيقة، فهكذا المؤمنون يوم القيامة وفي دار الكرامة يرون ربهم حقيقةً ، ويكشف لهم الحجاب عن وجهه الكريم فيرونه، فما أعطاهم شيئًا أحبّ إليهم من النَّظر إلى وجهه ، ولا يلزم من هذا تشبيه ولا تكييف: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11].
ومَن كان له نصيب من المعرفة بالله والرُّسوخ في العلم بالله: يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد.
واعلم أنَّ من المتأخرين مَن يقول: مذهب السَّلف إقرارها على ما جاءت به، مع اعتقاد أنَّ ظاهرها غير مراد. وهذا اللَّفظ مجمل؛ فإن قوله: "ظاهرها غير مراد" يحتمل أنه أراد بالظاهر: نعوت المخلوقين وصفات المحدثين، مثل أن يُراد بكون "الله قبل وجه المصلي" أنه مُستقرٌّ في الحائط الذي يُصلي إليه، و إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] ظاهره أنه إلى جانبنا، ونحو ذلك. فلا شكَّ أن هذا غير مراد.
ومَن قال: إنَّ مذهب السَّلف أنَّ هذا غير مرادٍ، فقد أصاب في المعنى، لكن أخطأ بإطلاق القول بأنَّ هذا ظاهر الآيات والأحاديث؛ فإنَّ هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيَّناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس؛ فيكون القائل لذلك مُصيبًا بهذا الاعتبار، معذورًا في هذا الإطلاق؛ فإنَّ الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النِّسبية. وكان أحسن من هذا أن يُبين لمن اعتقد أنَّ هذا هو الظاهر: أنَّ هذا ليس هو الظاهر؛ حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقَّه لفظًا ومعنًى.
الشيخ: ولهذا بيَّن سبحانه لما أخبرهم بسمعه وبصره وغضبه ورضاه قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فعُلم بذلك أنَّ الظاهر الذي أخبر به هو الظاهر الذي يليق به، ليس الظاهر الذي يُشابه العباد، فظاهر النصوص هو الشيء يُوافق ما أخبر به سبحانه، وهو أنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، فهي صفات ظاهرة معلومة، ليس ظاهرها الذي يظنه المخلوق الجاهل أنها من جنس صفاته، لا، بل ظاهرها هو الذي يليق بالله؛ لأنَّ الله بيَّنه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، فإذا قال: إنه سميع بصير، فليس الظاهر من جنس صفات المخلوقين، بل الظاهر يليق بالله ويُناسبه كما أخبر .
وإن كان النَّاقل عن السَّلف أراد بقوله: "الظاهر غير مراد عندهم" أنَّ المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، ولا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله، أو جائزة عليه جوازًا ذهنيًّا، أو جوازًا خارجيًّا غير مرادٍ، فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السَّلف، أو تعمد الكذب؛ فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحدٍ من السلف ما يدل -لا نصًّا ولا ظاهرًا- أنهم كانوا يعتقدون أنَّ الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة.
وقد رأيتُ هذا المعنى ينتحله بعض مَن يحكيه عن السَّلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف. بمعنى أنَّ الفريقين اتَّفقوا على أنَّ هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله ، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحةَ في تأويلها؛ لمسيس الحاجة إلى ذلك.
ويقولون: الفرق بين الطريقين: أن هؤلاء قد يُعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يُعينون؛ لجواز أن يُراد غيره.
وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف: أما في كثيرٍ من الصفات فقطعًا، مثل: أن الله تعالى فوق العرش، فإن مَن تأمل كلام السلف المنقول عنهم -الذي لم يحك هنا عشره- علم بالاضطرار أنَّ القوم كانوا مُصرحين بأنَّ الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثيرٍ من الصِّفات بمثل ذلك.
والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف: ما رأيتُ كلام أحدٍ منهم يدل -لا نصًّا ولا ظاهرًا ولا بالقرائن- على نفي الصِّفات الخبرية في نفس الأمر، بل الذي رأيته أنَّ كثيرًا من كلامهم يدل -إما نصًّا وإما ظاهرًا- على تقرير جنس هذه الصِّفات، ولا أنقل عن كل واحدٍ منهم إثبات كل صفةٍ، بل الذي رأيته أنهم يُثبتون جنسها في الجملة، وما رأيتُ أحدًا منهم نفاها، وإنما ينفون التَّشبيه، ويُنكرون على المشبهة الذين يُشبهون الله بخلقه، مع إنكارهم على مَن ينفي الصِّفات أيضًا؛ كقول نعيم بن حماد الخزاعي -شيخ البخاري- "مَن شبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومَن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهًا". وكانوا إذا رأوا الرجلَ قد أغرق في نفي التَّشبيه من غير إثبات الصِّفات قالوا: هذا جهمي مُعطل، وهذا كثير جدًّا في كلامهم، فإنَّ الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يُسمون مَن أثبت شيئًا من الصِّفات: مُشَبِّهًا. كذبًا منهم وافتراءً، حتى إنَّ منهم مَن غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك.
الشيخ: يعني: رماهم بأنهم مُشبهة، وهذا أعظم الجهل والكفر -نسأل الله العافية- إلى يومنا هذا من بقايا المعتزلة والجهمية وغيرهم من الإباضية والرافضة وغيرهم، يرمون مَن وصف الله بصفاته وسمَّاه بأسمائه يُسمونه: مُشَبِّهًا ومُجَسِّمًا وحشويًّا، نسأل الله السلامة.
حتى قال ثمامة بن الأشرس -من رؤساء الجهمية- "ثلاثة من الأنبياء مُشبهة: موسى حيث قال: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الأعراف:155]، وعيسى حيث قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، ومحمد ﷺ حيث قال: ينزل ربُّنا".
وحتى إن جُلَّ المعتزلة تُدخل عامَّة الأئمة -مثل: مالك وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم- في قسم المشبهة.
الشيخ: وفَّق الله الجميع، وثبَّت الجميع على الهدى.