بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحديثي معكم أيها المسلمون فيما يتعلق بشهر رمضان -شهر الصيام والقيام- إن من نعم الله ل وإحسانه إلى عباده أن شرع لهم صيام شهر رمضان، تزكية لنفوسهم، وتطهيرا لها من الأخلاق المنحرفة والمواد الرديئة، وتعويدا للنفوس على مخالفة الهوى في طاعة الرب ، وترغيما لها في الصبر على ترك شهواتها وأهوائها، إذا كان في ذلك طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك أيضاً حث لها على النظر في العواقب وإيثار الآخرة على شهوات الدنيا العاجلة، قال الله جل وعلا في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة: 183-184] فخاطب سبحانه عباده المؤمنين بأنه كتب الصيام عليهم كما كتب على من قبلهم ليعلموا أنهم مسبوقون، فيكون ذلك أخف عليهم وأقرب إلى نشاطهم في التأسي بمن قبلهم في هذه العبادة العظيمة، وأخبر سبحانه أنه مكتوب يعني مفروض علينا كما فرض على من قبلنا، وبين أن في ذلك تقواه سبحانه قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] المعنى لتتقون بهذه العبادة العظيمة، وهي الصوم، فإن فيها تعويد النفوس ترك محارم الله طاعة لله ، وفي ذلك أيضاً تطهير النفوس من الأخلاق المنحرفة التي يحاربها الصوم ويدعو الصوم إلى تركها، وفي ذلك أيضا كما تقدم تعويد للنفوس على الصبر على ما أوجب الله إذا كان في ذلك الخير العظيم والعاقبة الحميدة، ولا شك أن أداء ما أوجب الله فيه الخير العظيم والعاقبة الحميدة والحسنات المضاعفة والدرجات العالية، والصوم يذكر بذلك فإن فيه مخالفة الهوى وشهوات النفوس في الأكل والشرب ونحو ذلك طاعة لله وطمعا في مرضاته وحسن ثوابه في الدنيا والآخرة.
ثم بين جل وعلا أن هذا الصوم ليس دهرا طويلا ولكنه أيام معدودات، فربنا لم يثقل على عباده بل يسر عليهم وجعل الصوم أياما معدودات، وهذه الأيام هي تسعة وعشرون يوما إن نقص الشهر، أو ثلاثون إن تم الشهر، فإن الشهر القمري لا يزيد على ثلاثين ولا ينقص عن تسع وعشرين، وهذا من رحمة الله ، فلم يجعل الصوم شهرين ولا ثلاثة ولا أكثر من ذلك بل جعله شهرا واحدا من السنة تخفيفا منه على عباده ورحمة لهم وإحسانا منه ، وجدير بهم أن يسارعوا إلى هذه العبادة وأن يبادروا إليها وأن يصبروا عليها طاعة لله سبحانه وتعظيما لأمره ورجاء ثوابه .
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يرغب أصحابه في الصيام ويبشرهم بما لهم فيه من الخير العظيم ويقول لهم: إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة، وفي رواية: فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك يغشاكم الله فيه بالرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وكان يحثهم على قيام لياليه ويرغبهم في ذلك، ويقول عليه الصلاة والسلام: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكان عليه الصلاة والسلام يتهجد في ليالي رمضان ويقوم العشر الأخيرة من رمضان قياما عظيما ويحيي الليل فيها، وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا" فهذا يدل على شرعية قيام رمضان مع صيامه، فصيامه مفترض وأحد أركان الإسلام الخمسة، أما قيامه فهو مستحب وقربة وطاعة، ولهذا جاء في الحديث عنه ﷺ أنه قال: إن الله فرض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وقيام الليل موسع فيه فقد كان عليه الصلاة والسلام في الغالب يصلي إحدى عشرة ركعة في رمضان وفي غيره، وربما صلى ثلاث عشرة وربما نقص عن ذلك وصلى تسعا، وربما صلى سبعا، وربما صلى خمسا، وربما أوتر بثلاث عليه الصلاة والسلام، فالأمر في هذا واسع ولم يحدد في رمضان ركعات محدودة لا يزاد عليها ولا ينقص، بل وسع للأمة في ذلك لأن الصلاة النافلة موسع فيها ولاسيما في هذا الشهر العظيم، فقال عليه الصلاة والسلام: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى.
فبين عليه الصلاة والسلام أن الصلاة بالليل مثنى مثنى ولم يحدد ركعات محدودة، لا إحدى عشرة ولا أكثر من ذلك، فمن صلى إحدى عشرة أو ثلاث عشرة أو عشرين ركعة أو أكثر من ذلك وختم صلاته بالوتر فقد وافق السنة، ولكن الأفضل إحدى عشرة أو ثلاث عشرة تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام، مع العناية بالطمأنينة في الركوع والسجود وترتيل القراءة والحرص على الخشوع في الصلاة وإحضار القلب فيها تأسيا برسول الله عليه الصلاة والسلام، هكذا ينبغي.
وبعض الناس يصلي صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها في صلاة التراويح، وهذا لا يجوز بل ذلك يبطل الصلاة، فكل صلاة ليس فيها طمأنينة فهي باطلة سواء كانت نافلة أو فريضة، فالمشروع لنا العناية بالتأسي برسول الله عليه الصلاة والسلام في الخشوع في الصلاة والطمأنينة فيها والإقبال عليها والحذر من كل ما نهى الله عنه فيها، ومن ذلك العجلة والنقر، فإن ذلك محرم ويبطل الصلاة، فعلينا معشر المسلمين أن نعنى بصيامنا وأن نجتهد في إكماله وإتمامه والحذر مما حرم الله علينا فيه ، وأن نعلم أن المطلوب هو صيانة النفوس عن محارم الله والامتثال بطاعة الله والإقبال عليها بالقلب والقالب رجاء ما عند الله من المثوبة وحذر عقابه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه فالمقصود هو الإقبال على الله وصيانة النفوس عن محارم الله والتقرب إليه بما شرع بترك الطعام والشراب والجماع وغيرها من المفطرات في نهار الصوم، وليس المقصود ترك الطعام والشراب لا، فعلينا معشر المسلمين أن نعنى بما شرع الله لنا وأن نعظم هذا الشهر الكريم وأن نصون صيامنا وقيامنا عما حرم الله، وأن نستكثر من العبادات في هذا الشهر الكريم من القراءة -قراءة القرآن الكريم- بالتدبر والتعقل، والاستكثار من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والاستغفار والدعاء الكثير ولاسيما جوامع الدعاء، وكذلك نستكثر من الصدقات على الفقراء والمحاويج، وهكذا العمرة في رمضان فقد قال النبي ﷺ: عمرة في رمضان تعدل حجة، وفي لفظ: حجة معي عليه الصلاة والسلام، فعليك يا عبدالله أن تستكثر من الطاعات والعبادات في هذا الشهر الكريم، وأن تصون صيامك عما حرم الله عليك، وأن تجتهد في قيام هذا الشهر الكريم بما يسر الله لك، والأفضل أن تقوم مع الإمام حتى ينصرف سواء صلى إحدى عشرة أو ثلاث عشرة أو عشرين ركعة أو أكثر من ذلك، لأنه صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلته وهذا فضل عظيم، فإذا قمت مع الإمام حتى ينصرف كتب الله لك قيام الليلة كلها، هذا الخير العظيم ينبغي الحفاظ عليه والحرص عليه، وأن تقوم مع الإمام من أول الصلاة، وأن تبقى معه حتى تختمها معه بالوتر، هذا هو الأفضل لك كما جاء في الحديث الذي سمعت.
وشهر رمضان شهر عظيم شهر مبارك، منَّ اللهُ به على عباده ورتب لهم عليه خيرا عظيما وفضلا كبيرا من تكفير السيئات وحط الخطايا ورفع الدرجات، فجدير بالأمة أن تفرح به وأن تستبشر به وأن تحرص على صيامه إيمانا واحتسابا وعلى قيامه إيمانا واحتسابا، وأن تجتهد في حفظ الصيام والقيام عن كل ما حرم الله ، هكذا ينبغي للمؤمن.
والمشروع لنا أيضا العناية بنشر العلم في هذا الشهر الكريم، وتوجيه الناس إلى الخير ودعوة الناس إلى ما أوجب الله عليهم وتحذيرهم مما حرم الله عليهم، فإن النفوس في هذا الشهر العظيم قابلة للتوجيه، قابلة للدعوة، فينبغي لك يا عبدالله -ولاسيما أهل العلم- العناية بهذا الأمر العظيم وتوجيه الناس إلى الخير وإرشادهم إلى ما أوجب الله عليهم وتحذيرهم مما حرم الله عليهم، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن صبر واحتساب وعن إخلاص لله .
كذلك مواساة الفقير وإعانته، كل هذا من المهمات، فالفقير في حاجة إلى مواساته والإعانة على صيامه وقيامه من الزكاة وغيرها، فينبغي اغتنام الفرصة في هذا الشهر الكريم لمضاعفة الأجور وكثرة الحسنات المضاعفة في هذا الشهر الكريم، ولسد حاجات المعوزين وإعانتهم على طاعة الله .
وينبغي لك أيضا أن تجتهد في أكل الحلال وكسب الحلال وأن تحذر أن تصوم على حرام أو تفطر على حرام، بل اجتهد غاية الاجتهاد بأن يكون كسبك حلالا، فتصوم على حلال وتفطر على حلال، واحذر أن تصوم عما حرم الله لك وتفطر عما حرم الله عليك، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: إن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك هذا وعيد عظيم لمن تعاطى الحرام، وينبغي لك يا عبدالله حفظ لسانك عما حرم الله من الكذب والغيبة والنميمة والسباب والشتم وغير هذا مما حرم الله صيانة لصيامك عن ما ينقصه ويفسده وحرصا على أسباب قبوله، وقد سبق الحديث وهو قول النبي ﷺ: من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
وأسأل الله أن يوفقنا والمسلمين جميعا لصيام هذا الشهر الكريم وقيامه إيمانا واحتسابا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يتقبل منا جميعا، وأن يعيننا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.سأل الله أ