132- باب كيفية السلام
1/850- عن عِمران بن حصين رضي الله عنهما قَالَ: جاءَ رجُلٌ إِلَى النَّبيِّ ﷺ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيكُم، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ النبيُّ ﷺ: عَشْرٌ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللهِ، فَرَدَّ عليهِ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: عِشْرون، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيكُم وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُه، فَرَدَّ عليهِ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: ثَلاثُونَ رواه أَبُو داود، والترمذي وقال: حديث حسن.
2/851- وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: قَالَ لي رسولُ الله ﷺ: هَذَا جِبرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلامَ، قالَتْ: قُلْتُ: وَعَلَيْه السَّلامُ ورحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. متفقٌ عَلَيْهِ.
3/852- وعن أنسٍ : أن النَّبيَّ ﷺ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلمةٍ أعَادهَا ثَلاثًا حتَّى تُفْهَم عَنْهُ، وَإِذَا أتَى عَلَى قوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيهم سَلَّم عَلَيهم ثَلاثًا. رواه البخاري.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالسلام، فالسلام تقدم أنه قربة وسنة ومشروع للمسلمين رجالًا ونساءً؛ لما فيه من المصالح الكثيرة، وجلب المودة والتآلف، والحذر من الشحناء والتباغض؛ ولهذا حرم على المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام؛ لما في الهجر من العواقب الوخيمة؛ ولما في السلام من الفائدة والمصلحة والأُلفة والمحبة، يقول ﷺ: لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام يعني: إذا كان أمرهما يتعلق بالدنيا كالخصومات ونحوها فليس له أن يهجر فوق ثلاثٍ، أما إذا كان الهجر لله من أجل بدعةٍ أو معصيةٍ ظاهرةٍ فهذا لا يتقيد بثلاثٍ، بل يُهجر حتى يتوب، حتى يُعلن توبته؛ ولهذا لما تخلَّف ثلاثة من الصحابة عن غزوة تبوك بدون عذرٍ هجرهم النبيُّ ﷺ خمسين ليلةً، حتى أنزل الله توبتهم وسلَّم عليهم، وسلَّم عليهم الناس.
وفي هذا الحديث -حديث عمران- الدلالة على أنَّ السلام إذا كان بجملةٍ فهو بعشر حسنات؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وإذا كان بجملتين فعشرون، وإن كان بثلاثٍ فثلاثون، في هذا أنه دخل وسلَّم رجلٌ، قال: السلام عليكم، فردَّ عليه النبيُّ وقال: عشر، ثم دخل آخرُ وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردَّ عليه وقال: عشرون، ثم دخل ثالثٌ وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردَّ عليه وقال: ثلاثون، فدلَّ ذلك على أنَّ الأكمل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإذا اقتصر على واحدةٍ: السلام عليكم فقط، أو رحمة الله فلا بأس، والرد يكون مثل ذلك أو أكثر، إما مثله أو أحسن؛ لأنَّ الله يقول سبحانه: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، فردّها أن تقول مثلما قال هذا الرد، والأحسن أن تزيد، فإذا قال: السلام عليكم، تقول أنت: وعليكم السلام ورحمة الله، تزيد: ورحمة الله، أو تزيد: وبركاته، وهذا أفضل، فالحديث يدل على شرعية إفشاء السلام، وعلى شرعية كون الإنسان يختار على ما هو الأفضل، لكن البدء .....
والحديث الثاني حديث عائشة: في قول النبي ﷺ لها: إنَّ هذا جبرائيل يقرأ عليك السلام، فقالت: وعليه السلام، هذا يدل على فضل عائشة رضي الله عنها، وأنها بمنزلةٍ كبيرةٍ؛ ولهذا ردَّ عليها جبرائيل السلام بواسطة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه منقبة لها رضي الله عنها.
وفيه أن المرأة إذا سُلِّم عليها ردَّت السلام، ولو على غير محرمٍ، بالسلام العادي، ليس فيه خضوع ولا تغنج، بل السلام العادي بالقول المعتاد، أما إذا نقل السلام قال: فلانٌ يُسلِّم عليك. ينقل عنه السلام، فهذا يُقال: وعليك وعليه السلام، لكن النبي قال: هذا جبرائيل يقرأ عليكِ السلام، فإن جبرائيل حاضر؛ ولهذا قالت: وعليه السلام، ما قالت: وعليك وعليه؛ لأنَّ جبرائيل حاضر يرد السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته .....
وفي حديث خديجة: أن جبرائيل سلَّم عليها أيضًا، النبي نقل من ربِّه السلام عليها: إنَّ ربك يقرأ عليك السلام، ويُبشِّرك ببيتٍ في الجنة، لا نصبَ فيه، ولا صخب، بيت من اللؤلؤ، لا صخبَ فيه، ولا نصبَ رضي الله عن الجميع، وفي قصة خديجة زيادة: يقرأ عليها من ربها السلام، هذا فضل خاصٌّ لها رضي الله عنها.
وفيه من الفوائد: أن الإنسان إذا سلَّم يُكرر ثلاثًا إذا كان يخشى أنهم ما سمعوا، وإذا تكلم بفائدةٍ يُكررها حتى تُفهم عنه؛ ولهذا قال أنس أن النبي كان إذا سلَّم سلَّم ثلاثًا، وإذا تكلم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا حتى تُفهم عنه، وهذا معناه أنه ينبغي للواعظ والمعلم أن يعتني بهذا الأمر؛ أن يُكرر الكلمات التي يخشى ألا يفهموها، أو ألا ينتبهوا لها؛ حتى ينتبهوا، وحتى يستفيدوا، وهكذا السلام يُكرره، إذا ما انتبهوا للأولى انتبهوا في الثانية أو في الثالثة، أما إذا انتبهوا في الأولى وردُّوا انتهى، وإذا لم ينتبهوا يُعيد الثانية، وإذا لم ينتبهوا يُعيد الثالثة حتى يحصل المقصود من إبلاغ السلام وإفشائه. وفَّق الله الجميع.
4/853- وعن الْمِقْدَاد في حَدِيثه الطويل قَالَ: كُنَّا نَرْفَعُ للنَّبيِّ ﷺ نَصِيبهُ مِنَ اللَّبَن، فَيَجِيئُ مِنَ اللَّيلِ فَيُسَلِّمُ تسليمًا لا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ اليَقْظَان، فَجَاء النَّبِيُّ ﷺ فَسَلَّم كَمَا كَانَ يُسَلِّمُ. رواه مسلم.
5/854- عن أسماء بنتِ يزيد رضي الله عنها: أنَّ رسول الله ﷺ مَرَّ في المَسْجِد يوْمًا وَعصبةٌ مِنَ النِّساء قُعودٌ، فأَلْوَى بِيده بالتَّسْلِيمِ. رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
6/855- وعن أَبي جُرَيٍّ الهُجَيْمِيِّ قَالَ: أتيتُ رسولَ الله ﷺ فقلتُ: عَليكَ السَّلامُ يَا رَسول الله، فقال: لا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلامُ؛ فإنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحيَّةُ المَوتَى رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديث حسن صحيح. وَقَدْ سبق بِطولِه.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالسلام، تقدم في الباب أحاديث كثيرة كلها تدل على شرعية السلام، وأنه من السنة، وعلى المسلمين الأخذ بها والتَّخلق بها، وهو من أسباب الأُلفة والمحبة والإخاء والبُعد عن الشَّحناء والتَّهاجر؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح لما سُئل: أي الإسلام خير؟ قال: تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنةَ حتى تُؤمنوا، ولا تُؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتُم؟ أفشوا السلام بينكم، والله يقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، ويقول: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61]، ويقول جلَّ وعلا: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: 86].
وفي حديث المقداد الدلالة على أن الرجل إذا دخل على قومٍ فيهم نيام وفيهم اليقظان يُسلِّم تسليمًا وسطًا لا يُوقظ النائم، ولكن يُسمع اليقظان؛ مُراعاةً للنائمين، وهكذا إذا كان يقرأ مع قراء لا يجهر عليهم، يُخافت حتى لا يُشوش عليهم، أو بين المصلين يُخافت حتى لا يُشوش عليهم؛ ولما خرج ذات ليلةٍ عليه الصلاة والسلام في رمضان وجماعات يقرؤون، كل واحدٍ يُصلي في جماعةٍ، فقال: كلكم يُناجي الله، فلا يجهر بعضُكم على بعضٍ، وهكذا إذا دخل على جماعةٍ وفيهم أناس نائمون وأناس أيقاظ يُسلِّم عليهم تسليمًا وسطًا يسمعه اليقظان، ولا يُوقظ النائم، ولو مرَّ على نساءٍ يُسلم عليهن كما في هذا الحديث: أن النبي ﷺ مرَّ على جماعةٍ من النساء، فأشار إليهن وسلَّم عليه الصلاة والسلام: السلام عليكم، وهن يقلن: وعليكم السلام، كالرجل، وهذا من السنة التي شرعها الله لعباده، ودعا إليها نبيه ﷺ، تقدم في حديث البراء: أن النبي أمرهم بسبعٍ، ذكر منها إفشاء السلام، وقال ﷺ لما أتى المدينة: يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنةَ بسلامٍ.
كذلك حديث أبي جري الهجيمي فيه الدلالة على أن السنة أن يقول: السلام عليكم، لا يبدأ: عليكم السلام، عليكم السلام يقوله الرادُّ، أما المبتدئ فيقول: السلام عليكم، وأما هو لو ..... لا بأس أن يقول: وعليكم السلام، وعليكم سلام الله ..... لا بأس، لكن أحيانًا يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والمسلَّم عليه يقول: وعليكم السلام، هكذا السنة.
والسلام معناه: السلامة والعافية، عليكم السلام يعني: السلامة والعافية، يقال: سلم فلانٌ أي: سلم من الآفات، سلم من كذا، أو عُوفي من كذا، سلم من المرض، أو شفي من المرض، فالسلام عليكم يعني: العافية والراحة والسلامة من كل سوءٍ عليكم، تحلّ عليكم، وقال بعضهم: معناه: حلَّت بركة السلام عليكم؛ لأنَّ السلام من أسماء الله، ومعنى السلام عليكم يعني: بركة السلام عليك، أو عطف السلام عليك .....، فالمعنى: بركة السلامة وعافيته عليكم. وفَّق الله الجميع.
133- باب آداب السلام
1/856- عن أَبي هريرة : أنَّ رسولَ الله ﷺ قَالَ: يُسَلِّمُ الرَّاكبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشي عَلَى القَاعِدِ، والقليلُ عَلَى الكَثِيرِ متفقٌ عليه.
وفي رواية البخاري: والصغيرُ عَلَى الْكَبِيرِ.
2/857- وعن أَبي أُمامة صُدَيِّ بن عجلان الباهِلِي قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ أَوْلَى النَّاس باللهِ مَنْ بَدَأهم بالسَّلام رواه أَبُو داود بإسنادٍ جيدٍ.
ورواه الترمذي عن أَبي أُمامةَ : قِيلَ: يا رسولَ الله، الرَّجُلانِ يَلْتَقِيان، أيُّهُمَا يَبْدَأُ بالسَّلامِ؟ قَالَ: أَوْلاهُمَا بالله تعالى قال الترمذي: حديث حسن.
134- باب استحباب إعادة السلام عَلَى مَن تكرَّر لقاؤه عَلَى قربٍ
بأن دخل ثم خرج ثُمَّ دخل في الحال، أَو حال بينهما شجرة ونحوها
1/858- عن أَبي هريرة في حديثِ المُسِيءِ صَلاتُه: أنَّهُ جَاءَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبيِّ ﷺ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبيِّ ﷺ، حَتَّى فَعَل ذلكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. متفقٌ عَلَيْهِ.
2/859- وعنه، عن رسول اللَّه ﷺ قَالَ: إِذَا لقيَ أَحَدُكُمْ أخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإنْ حالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْه رواه أَبُو داود.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالسلام: الأول والثاني في آداب السلام وما ينبغي للمؤمن من الإكثار منه والحرص عليه، والثالث والرابع فيما يتعلق بتكرار السلام، وتكرار الرد.
الحديث الأول: يقول ﷺ: ليُسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والراكب على الماشي، والصغير على الكبير، فالسنة أن هؤلاء يبدؤون: الصغير يبدأ بالسلام إذا مرَّ على الكبير، والماشي على القاعد، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، فإذا تقابل جماعة فالأقل يبدأ، وإن بدأ الأكثر فازوا بالأجر، تقابل ثلاثة واثنان فالأفضل أن يبدأ الاثنان، فإن بدأ الثلاثة فازوا بالأجر، وهكذا لو مرَّ إنسانٌ على قاعدٍ، السنة أنَّ المارَّ هو الذي يبدأ، فإن بدأه القاعدُ فاز بالأجر، وهكذا الراكبُ إذا مرَّ يبدأ بالسلام على الماشي، وإن بدأه الماشي فاز بالأجر، وهكذا الصغير يبدأ بالسلام على الكبير؛ لأن للكبير حقًّا، هذا من الآداب الشرعية: السلام، وينبغي للمؤمن أن يُلاحظ هذه، وأن يحرص عليها، فإنها آداب صالحة مشروعة، يحصل بها التَّحاب والتَّعاون على الخير.
وفي الحديث الثاني يقول ﷺ: أولى الناس بالله مَن بدأهم بالسلام ..... يلتقيان فأيُّهما يبدأ؟ قال: أولاهما بالله، إن بدأ بالسلام حاز الفضيلة، فمن الحرص أن يبدأ، القليلُ يبدأ، والراكب يبدأ أولى، فإن بدأ العكس: بدأ الكبيرُ على الصغير، أو مثلًا بدأ الكثيرُ على القليل، أو الماشي على الراكب؛ فازوا بالأجر.
وفي حديث المسيء في صلاته أنه يُستحب تكرار السلام إذا تكرر مجيئه، ولو كان ما هو ببعيدٍ، فإن المسيء في صلاته جاء فسلَّم على النبي ﷺ، فردَّ عليه، قال: ارجع فصلِّ فإنك لم تُصلِّ، فتنحَّى عنه قليلًا وصلَّى والنبي يُراقبه، ثم جاء فسلَّم، فردَّ عليه النبيُّ ﷺ وقال: ارجع وصلِّ فإنَّك لم تُصلِّ، فرجع كذلك فصلَّى كما صلَّى، ثم جاء فسلَّم، فردَّ عليه أيضًا، فدلَّ ذلك على أن الإنسان إذا قام من القوم ثم عاد إليهم يُسلم ويردُّون عليه ولو كان ما خرج من المكان؛ يقضي حاجةً ثم عاد، أو قام إلى ناحية المسجد ثم عاد، أو قام ليأخذ حاجةً ثم عاد يُسلِّم ويردُّون عليه.
وهذا كله يدل على أنه ينبغي الإكثار من السلام، والحرص عليه؛ لما فيه من التَّآلف والتَّحاب وإزالة الوحشة والهجر.
وهكذا إذا لقي أخاه يُسلم عليه، الحديث الرابع، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليُسلم عليه، مثلًا في السيارة نزل، ثم تلاقيا من جهةٍ أخرى، هذا نزل من جانبٍ، وهذا نزل من جانبٍ، ثم تلاقيا، مثل الذي حالت بينهما شجرة .....، أو خرج من باب الطائرة والآخر خرج من بابٍ آخر، أو من باب القطار مثل السيارة؛ إذا تلاقيا يُسلم أحدُهما على الآخر؛ لأنه حال إما جنب الطائرة، وإلا جنب السيارة، وإلا أشياء أخرى حالت بينهما.
المقصود من هذا الحثّ على الإكثار من السلام عند أقرب سببٍ؛ لأنه يجلب المحبَّة والأُلفة وتقارب القلوب، ويُبعد الشحناء والعداوة والتَّهاجر، كما تقدم في الحديث يقول ﷺ: والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنةَ حتى تُؤمنوا، ولا تُؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم خرَّجه مسلم في "صحيحه"، هكذا قوله ﷺ: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنةَ بسلام، والله في كتابه العظيم يقول: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]. وفَّق الله الجميع.
135- باب استحباب السلام إِذَا دخل بيته
قَالَ الله تَعَالَى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61].
1/860- وعن أنسٍ قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله ﷺ: يا بُنَيَّ، إِذَا دَخَلْتَ عَلى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَركةً عَلَيْكَ وَعَلَى أهْلِ بَيْتِكَ رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
136- باب السلام عَلَى الصبيان
1/861- عن أنسٍ : أنَّهُ مَرَّ عَلى صِبْيانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وقال: كانَ رسولُ الله ﷺ يَفْعَلُهُ. متفقٌ عَلَيْهِ.
137- باب سلام الرجل على زوجته والمرأة من محارمه
وعلى أجنبيةٍ وأجنبيات لا يخاف الفتنةَ بهن وسلامهنَّ بهذا الشَّرط
1/862- عن سهل بن سعدٍ قال: كانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ -وفي روايةٍ: كانَتْ لَنا عَجُوزٌ- تأْخُذُ منْ أُصُولِ السِّلْقِ فتَطْرَحُهُ فِي القِدْرِ، وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ منْ شَعِيرٍ، فَإذَا صَلَّيْنا الجُمُعَةَ وانْصَرَفْنَا نُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقدِّمُهُ إليْنَا. رواه البخاري.
2/863- وعن أُم هانئٍ فاخِتَةَ بِنتِ أَبي طَالبٍ رضي الله عَنْهَا قَالت: أتيتُ النبيَّ ﷺ يَوْمَ الفَتْح وَهُو يَغْتَسِلُ، وَفاطِمَةُ تَسْتُرهُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ. وذَكَرَت الحديث. رواه مسلم.
3/864- وعن أسماءَ بنتِ يزيدَ رضي الله عنها قالت: مَرَّ عَلَيْنَا النَّبيُّ ﷺ فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا. رواه أَبُو داود، والترمذي وقال: حديث حسن. وهذا لفظ أَبي داود.
ولفظ الترمذي: أنَّ رسول الله ﷺ مَرَّ في المَسْجِدِ يوْمًا وعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُود، فَأَلْوَى بِيَدِهِ بالتَّسليمِ.
الشيخ: هذه الأحاديث والآية الكريمة فيها الترغيب في إفشاء السلام عند دخول البيت على الأهل وعلى مَن في البيت، والسلام على الصبيان وعلى النساء أيضًا؛ لأنَّ السلام يحصل به من الخير الكثير ما لا يُحصى من التآلف والتَّحاب والتَّعارف وإزالة الوحشة وغير هذا من مصالح السلام؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النور:61] يعني: فليُسلم بعضُكم على بعضٍ.
فالمؤمن يُسلم على أهله، وهو دعاء لهم بالسلامة والرحمة والبركة، ودعاء أنَّ الله يُنزل عليهم السلامة، فقوله: "السلام عليكم" معناه: السلامة عليكم، أي: تنزل وتحل، أو معناه: بركة السلام الذي هو اسم من أسماء الله، بركة السلام عليكم تحلّ ورحمته وبركاته، وإذا دخل الإنسانُ بيته وسلَّم كان ذلك بركةً عليه وعلى أهله؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ أنسًا إذا دخل على أهله أن يُسلم عليهم؛ يكون بركةً عليه وعليهم.
ومرَّ على الصبيان فسلَّم عليهم؛ حتى يتمرَّنوا ويعتادوا السلام، فإذا مرَّ الرجلُ على الصبيان سلَّم عليهم؛ ليعتادوا السلام ويعرفوا شرعيته.
وهكذا مرَّ على نسوةٍ فسلَّم عليهن، قال وبيده يُشير إلى أنه يُسلم عليهم حتى يفطنوا، والإنسان إذا سلَّم على بعيدٍ تلفظ وأشار حتى يفطن البعيدُ أنه يُسلم عليه، أو الذي عنده ثقلٌ في السمع يُصرح بالكلام ويُشار أيضًا؛ لينتبه المسلَّم عليه.
وكانت امرأةٌ من الأنصار تصنع لجماعةٍ من الأنصار طعامًا بعد صلاة الجمعة من الشعير، فإذا صلوا جاءوا إليها وقدَّمته لهم، وأم هانئٍ دخلت على النبي ﷺ وعنده فاطمة، فسلَّمت عليه.
فدلَّ ذلك على أنه لا مانع من التَّسليم من النساء على الرجال، والرجال على النساء، وكان ﷺ يُسلم على أهله، ويُسلم على النساء، ويسمع كلامهنَّ ويُجيبهنَّ عن أسئلتهنَّ، وهكذا الصحابة يُسلمون على النساء، ويسمعون أسئلتهنَّ، ويُجيبون عن أسئلتهنَّ، فليس في هذا محظور مع أمن الفتنة، أما إن كانت هناك فتنة يخشى منها على الشخص، أو يخشى أن يُتَّهم بشيءٍ ..... فليس له ذلك، يعني: يجتنب المواضع التي يخشى فيها التهمة، أما إذا كان الموضع الذي فيه السلام أو سماع السلام ليس فيه ريبة فلا حرج؛ يُسلم عليهنَّ، ويُسلمنَ عليه، ويسألهن، ويسألنه، ويُجيبهن، ويُجيبنَّه، إلى غير ذلك، هذا المعروف بين الصحابة مع النبي ﷺ، وهكذا إلى زماننا هذا. وفَّق الله الجميع.
138- باب تحريم ابتداء الكافر بالسلام وكيفية الرد عليهم
واستحباب السلام عَلَى أهل مجلسٍ فيهم مسلمون وكفار
1/865- وعن أبي هريرة : أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: لا تَبْدَؤوا اليَهُودَ ولا النَّصَارى بالسَّلام، فَإِذَا لَقِيتُم أحَدَهُم في طَرِيقٍ فَاضطَرُّوهُ إلى أضْيَقِهِ رواه مسلم.
2/866- وعن أنس ٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذَا سَلَّمَ عَلَيكُم أهلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وعَلَيْكُمْ متفقٌ عَلَيْهِ.
3/867- وعن أُسامة : أنَّ النَّبيَّ ﷺ مَرَّ عَلَى مَجْلسٍ فِيهِ أخلاطٌ مِنَ المُسلِمِينَ والمُشْرِكِين عَبَدةِ الأوثَانِ واليَهُودِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِم النبيُّ ﷺ. متفق عليه.
139- باب استحباب السلام
إِذَا قام منَ المجلس وفارق جُلساءه أَوْ جليسه
1/868- وعن أَبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذَا انْتَهَى أحَدُكُم إِلَى المَجْلسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإذَا أرَادَ أنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيسَت الأُولى بأَحَقّ مِنَ الآخِرَة رواه أَبُو داود، والترمذي وقال: حديث حسن.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالسلام على المسلمين والكفار والمختلطين، وفي صفة السلام عند البدء وعند القيام يقول عليه الصلاة والسلام: لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتُم أحدَهم في طريقٍ فاضطرُّوه إلى أضيقه، هذا فيه أنَّ الكافر لا يُبدأ بالسلام، وهذا إظهار لهجره، وإظهار لأنه ليس على دين الإسلام، وهذا من الدَّواعي إلى دخوله في الإسلام وتركه دينه الباطل.
وأما معنى: "إذا لقيتُموهم فاضطرُّوه إلى أضيقه" معناه: أن المسلمين يوسطون وسط الطريق، ويتحققون الطريق، ويأخذون الكفار إذا قابلوهم على الحافة، على حافة الطريق، يعني: لا يجعل لهم الوسط، فالمسلمون يمشون في الوسط، ومَن قابلهم من الكفرة -مَن يكون في بلادهم من الكفرة- يكونون على الجوانب، هذا إذا تيسر ذلك وأمكن ذلك؛ إظهارًا لعز الإسلام وظهوره .....، ودعوة إلى التَّخلص من الكفر؛ ولهذا تُضرب عليهم الجزية: أهل الكتاب ومَن أُلحق بهم كالمجوس، يستعين بها المسلمون، ولتكون ذلًّا عليهم لعلهم يستجيبون لداعي الحقِّ ويتركون دينهم الباطل فيسلمون من الجزية.
وقال عليه الصلاة والسلام: إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم يعني: إذا بدأونا نرد عليهم، ولا نبدأهم، وهكذا جميع الكفرة لا نبدأهم، ولكن متى بدأونا نقول: وعليكم؛ لأنه قد يأتي بشيءٍ ليس بواضحٍ، كما تقول اليهود: السام عليكم، السام يعني: الموت، يأتون بعبارةٍ مجملةٍ مبهمةٍ، يحسب السامعُ أنهم يقولون: السلام، وهم يقولون: السام؛ فلهذا يقول: وعليكم، يعني: وعليكم ما قلتُم، قال النبي: فإنه يُستجاب لنا فيهم، ولا يُستجاب لهم فينا يعني: يُستجاب دعاؤنا فيهم، ولا يُستجاب دعاؤهم علينا؛ ولهذا نقول: وعليكم، ولا نزيدهم، ما نقول: وعليكم السلام ورحمة الله، لا، فقط: وعليكم، يعني: عليكم ما قلتُم.
والحديث أنَّ الرسول ﷺ مرَّ على مجلسٍ فيه بعض المسلمين، وفيه أخلاطٌ من اليهود والمشركين في المدينة، بعدما هاجر عليه الصلاة والسلام بلغه أنَّ سعد بن عبادة مريض، فركب دابته وتوجَّه إلى سعدٍ للعيادة، فمرَّ على المجلس فيه أخلاط: فيه مسلمون، وفيه يهود من يهود المدينة، وفيه بعض عباد الأوثان الذين ما أسلموا، فسلَّم عليهم جميعًا، هذا يدل على أنه إذا مرَّ على مجلسٍ فيه أخلاط يُسلِّم وينوي بسلامه للمسلمين، ما ينوي الكفار؛ لأنه هو البادئ، فينوي بسلامه مَن معه من المسلمين، كما فعل ﷺ لما مرَّ على هؤلاء الجماعة فسلَّم لوجود المسلمين بينهم، أما إذا كانوا كلهم كفارًا لا يُبدؤون بالسلام، لا يُبدؤون بالسلام إذا كانوا كلهم كفارًا، أما إذا كان فيهم مسلمون فإنه يبدأ وينوي المسلمين في إطلاق السلام.
والحديث الرابع يدل على أن المسلم إذا دخل على قومٍ فسلَّم عليهم ثم أراد أن يقوم فإنه يُسلم أيضًا، يقول النبي ﷺ: فليست الأولى بأحقّ من الآخرة يعني: كلتاهما حقّ، يُسلم عند الدخول وعند القيام من المجلس، يبدأ بالسلام ويختم بالسلام، هذا هو السنة. وفَّق الله الجميع.
140- باب الاستئذان وآدابه
قَالَ الله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].
وقال تَعَالَى: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59].
1/869- وعن أَبي موسى الأشعري قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: الاستِئْذانُ ثَلاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإلَّا فَارْجِع متفق عليه.
2/870- وعن سهلِ بنِ سعدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: إنَّمَا جُعِلَ الاستئذانُ منْ أَجْلِ البَصَر متفقٌ عَلَيْهِ.
3/871- وعن رِبْعِيِّ بن حِرَاشٍ قَالَ: حدَّثنا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامرٍ أنَّهُ استَأْذَنَ عَلَى النَّبيِّ ﷺ وهو في بيتٍ فَقَالَ: أَأَلِج؟ فَقَالَ رسولُ الله ﷺ لخادِمِهِ: اخْرُج إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاستئذَانَ، فَقُل لَهُ: قُل: السَّلامُ عَلَيكُم، أأدْخُلُ؟ فَسَمِعهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: السَّلام عَلَيكم، أأدخُلُ؟ فَأذن لَهُ النَّبيُّ ﷺ فَدَخَلَ. رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيحٍ.
4/872- عن كِلْدَةَ بن الحَنْبل قَالَ: أتَيْتُ النَّبيَّ ﷺ فَدَخَلْتُ عَلَيْه وَلَمْ أُسَلِّم، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ: ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلامُ عَلَيكُم، أَأَدْخُلُ؟ رواه أَبُو داود، والترمذي وقال: حديث حسن.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالسلام والاستئذان، وأنه يُشرع للمؤمن إذا دخل على قومٍ أن يستأذن قبل الدخول، وأن صفة الاستئذان أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ويُكرر ذلك ثلاثًا، فإن أُذن له وإلا رجع؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: الاستئذان ثلاث، فإن أُذن لك وإلا فارجع؛ لأنه قد يكون شغل، قد يكون ما يمنع، فلا ينبغي إحراجهم، لكن إذا كان المكان واسعًا قد يكونوا ما سمعوا، فلا مانع من الزيادة إذا خشي أنهم لم يسمعوا .....، أما إذا كانوا يسمعون فالاستئذان ثلاث كما قال النبي ﷺ.
وفي حديث سهل: إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر هذا يُفيد أن الاستئذان من أجل الرؤية، فإنَّ الأعمى لو دخل بغير استئذانٍ لا بأس، لكن يُسلم لأنه لا يرى؛ ولهذا قال: إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر؛ لئلا يرى ما ينبغي من العورات الناس، ولكن السلام لا بدَّ منه، مشروع السلام عند الدخول، كما قال جلَّ وعلا: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النور:61]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، فالاستئناس يعني: الاستئذان، فيستأذن ويُسلم.
وفيه من الفوائد: أنه ينبغي أن يُعلم الجاهل؛ ولهذا لما سمعه النبيُّ يقول: ألج؟ ألج؟ قال: علِّمْهُ، فعلَّمه أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فدلَّ على أنَّ الجاهل إذا أساء في السلام أو في أشياء أخرى في السنة: كتشميت العاطس وغيرها يُعلَّم حتى يعرف السنة، هكذا يُعلم الأشياء الأخرى: من عيادة المريض، واتباع الجنائز، ورد السلام، إلى غير ذلك.
وفي الحديث الرابع الدلالة على أنَّ مَن دخل ولم يُسلم يُؤمر بأن يُعيد فيُسلم، يقول: السلام عليكم ..... يستأذن، وإذا كان هناك مانع من العودة فيُسلم يقول: السلام عليكم، حتى يفعل السنة ..... فقط، أو يتكلم بدون سلامٍ، يقول: السلام عليكم، ثم يتكلم في حاجته، وإذا أمكن أن يرجع إلى الباب ويقول: السلام عليكم كما في حديث ..... رجع فقال: السلام عليكم، حتى يُؤذن له، ولا يدخل بغير إذنٍ، فالناس في بيوتهم عورات؛ قد تكون عنده نساء، وقد يكون عنده أشياء ما يُحب أن يراها الآخرون، فالناس عندهم أشياء قد لا يُحبون أن يطلع عليها الدَّاخلون، سواء كانوا من أقاربهم أو من غيرهم، والله شرع الاستئذان لما فيه من الحيطة.
والأطفال لهم استئذان في أوقات العورات كما بيَّن الله جلَّ وعلا، كما قال: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59]، أما إذا كانوا قبل ذلك فيستأذنون في أوقات العورات ..... قبل الفجر وبعد العشاء، أوقات خلوة الإنسان بأهله يستأذن، وإذا بلغوا الحلم استأذنوا في كل وقتٍ كلما أرادوا، والاستئذان يكون: السلام عليكم، أأدخل؟ وفَّق الله الجميع.
141- باب بيان أنَّ السنة إِذَا قيل للمُستأذن: مَن أنت؟
أن يقول: فلان، فيُسمي نفسه بما يُعرف به من اسمٍ أَوْ كنيةٍ
وكراهة قوله "أنا" ونحوها
1/873- عن أنسٍ في حديثه المشهور في الإسراءِ قَالَ: قَالَ رسولُ الله ﷺ: ثُمَّ صَعِدَ بي جِبْريلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنيا، فَاسْتَفْتَحَ، فقِيلَ: مَنْ هذَا؟ قَالَ: جبْريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَك؟ قَالَ: مُحمَّدٌ، ثمَّ صَعِدَ إلى السَّماء الثَّانية وَالثَّالِثَةِ والرَّابعة وَسَائرهنَّ، وَيُقالُ فِي بَابِ كُلِّ سَمَاءٍ: مَنْ هَذَا؟ فَيقُولُ: جِبْريلُ متفقٌ عَلَيْهِ.
2/874- وعن أَبي ذرٍّ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلةً مِنَ اللَّيَالِي فَإذَا رسول الله ﷺ يَمْشِي وَحْدَهُ، فجَعلتُ أَمْشِي فِي ظلِّ القمَر، فَالْتَفَتَ فَرَآنِي فَقَالَ: مَنْ هذا؟ فقلتُ: أبو ذَرٍّ. متفق عليه.
3/875- وعن أُمِّ هانئٍ رضي الله عنها قالت: أتيتُ النبيَّ ﷺ وَهُوَ يَغْتَسِلُ، وفاطمةُ تَسْتُرُهُ، فقال: مَنْ هذه؟ فقلت: أنا أُم هَانئ. متفق عليه.
4/876- وعن جابرٍ قَالَ: أتَيتُ النبيَّ ﷺ فَدَقَقْتُ البَابَ، فقال: مَن ذا؟ فَقُلتُ: أَنَا، فَقَالَ: أنَا! أنَا! كأنهُ كَرهَهَا. متفق عليه.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كلها تدل على شرعية أن يُسمي الإنسان نفسه إذا سُئل: مَن؟ أن يقول: فلان ابن فلان، لا يقول: أنا ونحوها؛ لأنَّ هذه ما تُفيد، وليس كل أحدٍ يعرف صوته إذا قال: أنا، ولكن يُجيب باسمه المعروف أو كنيته المعروفة؛ ولهذا لما عرج بالنبي ﷺ إلى السماء وكان معه جبرائيل، وكان كلما استأذن على سماءٍ يقولون: مَن أنت؟ فيقول: جبرائيل، ما يقول: أنا، فيقول: جبرائيل، وهم يعرفونه ويقولون: مَن معك؟ قال: محمد، حتى كمل السبع سماوات، فدلَّ ذلك على أنه ينبغي التَّسمية لمن سُئل عند الباب، أو في التليفون، يقول: أنا فلان ابن فلان.
وهكذا حديث أبي ذرٍّ أنه خرج في بعض الليالي، وسار مع النبي ﷺ في ظل القمر، يعني: في ظل النبي ﷺ الذي نشأ عن القمر، فالتفت إليه النبيُّ ﷺ وقال: مَن هذا؟ فقال: أبو ذرٍّ، ما قال: أنا، قال: أبو ذرٍّ؛ لأن هذا يُعطي المطلوب من دون حاجةٍ إلى استفهام.
كذلك أم هانئٍ بنت أبي طالب لما زارت النبيَّ ﷺ وسلَّمت عليه قال: مَن أنت؟ قالت: أم هانئ، يعني: بنت أبي طالب، أخت عليٍّ رضي الله تعالى عنه، ولم تقل: أنا، أنا، بل قالت: أم هانئ؛ لأنَّ هذا هو الذي يحصل به التَّعريف.
ولما استأذن جابرٌ على النبي ﷺ قال: مَن؟ قال: أنا، كره النبيُّ ﷺ ذلك وقال: أنا! أنا! كأنه كره ذلك، يعني: ينبغي للمُستأذن ألا يقول: أنا، ولكن يقول: فلان ابن فلان، أنا فلان ابن فلان، أو أبو فلان، وما أشبه ذلك؛ لأنَّ هذا تحصل به المعرفة، بخلاف "أنا"، فليس كل أحدٍ يعرف الصوت حتى يعرف مَن قال: أنا. وفَّق الله الجميع.
142- باب استحباب تشميت العاطس إِذَا حمد الله تَعَالَى
وكراهة تشميته إذا لَمْ يحمد الله تَعَالَى
وبيان آداب التَّشميت والعطاس والتَّثاؤب
1/877- عن أَبي هريرة : أن النَّبيَّ ﷺ قَالَ: إنَّ الله يُحِبُّ العطاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثاؤبَ، فَإذَا عَطَس أحَدُكُم وَحَمِدَ الله تَعَالَى كانَ حقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سمعهُ أنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، وأما التَّثاؤب فَإنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإذَا تَثَاءَبَ أحَدُكُمْ فليردَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإنَّ أحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ رواه البخاري.
2/878- وعنه، عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا عَطَسَ أحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ للهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ الله، فإذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَليَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بالكم رواه البخاري.
3/879- وعن أَبي موسى قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يقولُ: إِذَا عَطَس أحدُكُم فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتُوهُ، فإنْ لَمْ يَحْمَدِ الله فَلا تُشَمِّتوه رواه مسلم.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بآداب العطاس، وما ينبغي للعاطس ومَن سمع العاطس، النبي ﷺ أخبر أنَّ العطاس يُحبه الله؛ لما فيه من التَّنشيط وإزالة بعض الفضلات التي تنزل من الأنف، وهو شيء نافع للعبد، ويترتب عليه مصالح ونشاط، وربما خرجت بسببه فضلات ينفع خروجها، أما التثاؤب فهو من الشيطان، وهو في الغالب ينشأ عن الكسل والانفلات، فإذا عطس الإنسان فليحمد الله، وإذا تثاءب فليردّه ما استطاع، يعني: يكظم ما استطاع، فإن غلبه فيضع يده على فيه هكذا، ورد في الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وذكر أنَّ الشيطان يضحك منه، وفي اللفظ الآخر: ولا يقول: هاه، هاه؛ لأنَّ الشيطان يدخل في فيه، فيكظم ما استطاع، ولا يتكلم بشيءٍ وهو يتثاءب.
وفي الحديث الثاني يقول ﷺ: إذا عطس أحدُكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه: يرحمك الله، وإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويُصلح بالكم، وفي حديث ثوبان: فإذا حمد الله كان حقًّا على كل مسلمٍ سمعه أن يقول له: يرحمك الله، هذا يدل على أنه يتأكد في حقِّ المؤمن إذا سمع أخاه عطس وحمد الله أن يقول له: يرحمك الله، وهذا من نعم الله عليه، لما شكر الله وحمده دعا له إخوانه بأن يرحمه الله، هذا من نعم الله على العبد، ومن فضل الله عليه؛ أنه متى شكره في الحمد فالله ندب العباد أن يدعوا له بالرحمة إذا سمعوه يحمد الله، وهو يُقابل هذا فيقول: "يهديكم الله ويُصلح بالكم"، هكذا السنة: "يهديكم الله ويُصلح بالكم"، بالكم يعني: شأنكم.
وفي حديث أبي موسى: إذا عطس أحدُكم فحمد الله فشمِّتوه، وإذا لم يحمد الله فلا تُشمِّتوه، التَّشميت يعني أن يقال له: يرحمك الله، هذا التشميت، فإذا حمد الله كان جديرًا بأن يُشمَّت، يقال: يرحمك الله؛ لأنه أثنى على ربِّه، فإذا غفل وسكت فلا يقال: يرحمك الله؛ لأنه لم يأتِ بالعمل الصالح الذي يستحق عليه أن يُشمت ويُدعى له.
ففي هذا الحثّ والتَّحريض على حمد الله بعد العطاس، وأنه ينبغي للمؤمن أن يُلاحظ هذا ويحرص عليه، وإذا سمعه قال: الحمد لله، يقول له: يرحمك الله، وهذا يشمل الرجال والنساء جميعًا، الصغير والكبير، يُعلَّم الصغير حتى يعتاد ذلك. وفَّق الله الجميع.
4/880- وعن أنسٍ قَالَ: عَطَسَ رَجُلانِ عِنْدَ النبيِّ ﷺ، فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ، فَقَالَ الَّذِي لَمْ يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلانٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعطستُ فَلَم تُشَمِّتني؟! فَقَالَ: هَذَا حَمِدَ الله، وإنَّك لَمْ تَحْمَدِ الله متفقٌ عَلَيْهِ.
5/881- وعن أبي هريرةَ قَالَ: كَانَ رَسُول الله ﷺ إذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ أوْ ثَوبَهُ عَلى فيهِ، وَخَفَضَ أوْ غَضَّ بها صَوْتَهُ. شكَّ الراوي. رواه أَبُو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
6/882- وعن أَبي موسى قَالَ: كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَاطسُونَ عندَ رسول اللهِ ﷺ يَرْجُونَ أنْ يَقولَ لهم: يَرْحَمُكُم الله، فيقولُ: يَهْدِيكمُ اللهُ ويُصْلِحُ بالَكم رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديث حسن صحيح.
7/883- وعن أَبي سعيدٍ الخدري قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: إذَا تَثاءَبَ أحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بيده عَلَى فِيهِ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخل رواه مسلم.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة فيما يتعلق بالعطاس وآدابه والتثاؤب، تقدمت بعض الأحاديث في ذلك، وقوله ﷺ: إنَّ الله يُحب العطاس، ويكره التَّثاؤب، فإذا عطس أحدُكم فليحمد الله، فإذا حمد الله كان حقًّا على كل مسلمٍ سمعه أن يقول له: يرحمك الله، وتقدم قوله ﷺ: إذا عطس أحدُكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه: يرحمك الله، فإذا قال: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويُصلح بالكم.
وفي هذه الأحاديث أن رجلين عطسا عند النبي عليه الصلاة والسلام، فشمَّت أحدَهما، ولم يُشمت الآخر، شمَّته يعني قال له: يرحمك الله، فقال الذي لم يُشمت: إن فلانًا عطس فشمته، وأنا لم تُشمتني؟! فقال له الرسول ﷺ: إنه حمد الله، وأنت لم تحمد الله، فدلَّ ذلك على أنَّ الذي يعطس ولا يحمد لا يُشمت حتى يحمد ربَّه، وهذا نوع من العقوبة، نوع من التعزير، إذا ترك حمد الله يُترك تشميته، ولا مانع من تذكيره وتعليمه؛ يقال له: إذا عطست قل: الحمد لله، حتى يتنبَّه؛ لغلبة الجهل على الناس.
كذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه؛ لئلا يخرج شيء قد يُؤذيه أو يُؤذي غيره، وكان يخفض صوته بالعطاس، فهذا يدل على أنه يُستحب خفض الصوت، بعض الناس صوته مُزعج، فينبغي له أن يحاول خفض الصوت؛ حتى لا يُزعج مَن حوله، مع وضع يده أو ثوبه على وجهه، على أنفه وما حوله؛ حتى لا يقع شيء يُؤذيه، أو ينتشر إلى غيره، وهذا من الآداب الشرعية التي ينبغي للمؤمن أن يعتني بها ويحرص عليها؛ عملًا بالأخلاق الكريمة، وحرصًا على اتباع السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
والحديث الآخر في التَّثاؤب: كان إذا تثاءب وضع يده على فيه وقال: إن الشيطان يدخل، وتقدم قوله ﷺ: إذا تثاءب أحدُكم فليكظم ما استطاع؛ فإنَّ الشيطان يدخل في فيه، ولا يقول: هاه، فالسنة إذا تثاءب أن يضع يده على فيه، وأن يكظم ما استطاع، ولا يتكلم في التَّثاؤب.
كذلك فيه أنَّ اليهود كانوا إذا أتوا إليه يتعاطسون رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله، وكان يقول لهم: يهديكم الله ويُصلح بالكم، إذا عطسوا وحمدوا الله يقول لهم: يهديكم الله ويُصلح بالكم، فهذا فيه جواز إدخال الكافر على الإنسان في مجلسه أو في مكتبه إذا كان لمصلحةٍ شرعيةٍ أو لحاجةٍ إذا كان من الرعية يقضي حاجته، وأنه إذا عطس وحمد الله يقال له: يهديكم الله ويُصلح بالكم، هذه ميزة للمؤمن؛ يقال له: يرحمك الله، والكافر يقال له: يهديكم الله ويُصلح بالكم؛ لأنه في أشد الحاجة، بل في أشد الضَّرورة إلى الهداية، وليعلم أنه ضالٌّ، إذا قيل له: يرحمك الله، قد يتوهم أنه على هدى، وأنه على خيرٍ، لكن إذا قيل له: يهديكم الله، فيه إشعار بأنه ليس بمُهتدٍ، لعله ينتبه، ولعلَّ الله يُجيب الدَّعوة فيهديه إلى الحق والهدى. وفَّق الله الجميع.