كتَاب الأدَب
84- باب الحياء وفضله والحثِّ على التَّخلق به
1/680- عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّه عنهما: أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ في الحَيَاءِ، فَقَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: دَعْهُ، فإِنَّ الحياءَ مِنَ الإِيمانِ متفقٌ عَلَيْهِ.
2/681- وعن عِمْران بن حُصَيْن رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: الحياءُ لا يَأْتي إلَّا بِخَيْرٍ متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: الحَياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ، أَوْ قَالَ: الحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ.
3/682- وعن أَبي هُريرة : أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: الإيمَانُ بِضْعٌ وسبْعُونَ –أوْ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبةً، فَأَفْضَلُها قوْلُ: لا إلهَ إلَّا اللَّه، وَأدْنَاها إمَاطةُ الأَذَى عن الطَّرِيقِ، والحياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ متفقٌ عَلَيْهِ.
4/683- وعن أَبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّه ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ في خِدْرِهَا، فَإذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُه عَرَفْنَاهُ في وَجْهِهِ" متفقٌ عليه.
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث الصحيحة كلها تتعلق بالحياء، والحياء خلق كريم قلبي، من أخلاق القلوب، يحمل على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويزجر عن قبيحها وسفسافها؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام للأنصاري الذي كان يعظ أخاه في الحياء، يعني: يعظه في ترك الحياء؛ يقول له: وأيش هذا الحياء؟! لماذا تستحي؟! قال له: دعه، فإنَّ الحياء من الإيمان يعني: دعه يستحي، فإنَّ الحياء من الإيمان، وفي اللفظ الآخر: الحياء خيرٌ كله، الحياء لا يأتي إلا بخيرٍ؛ لأنه يزجر عن القبائح، ويمنع من سيئ الأخلاق، فهو خيرٌ كله.
وفي الحديث الثاني يقول ﷺ: الإيمان بضعٌ وسبعون -أو قال: بضع وستون- شعبة يعني: قطعة، طائفة فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، شعبة يعني: طائفة.
وقال في حديث أبي سعيدٍ: "كان ﷺ أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، وإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه"، كان يستحي أن يُباشر أصحابه أو يُقابلهم بما لا يحسن، وكان طيب المحادثة، كريم الأخلاق عليه الصلاة والسلام، وكان يستحي أن يصدر منه شيء يُخالف الأخلاق الكريمة والآداب الصالحة ومحبة الإخوان وإكرامهم وما يقدح في ذلك، فهو يُحبب إلى أصحابه ويُحب لهم الخير، ويُباشرهم بالكلمات الطيبة، والألفاظ الحسنة، والدعوات الطيبة، يتألفهم على الإسلام، ويستنزف ما في القلوب من الوحشة أو الكراهة للحقِّ أو المجالسة، فكلما جاء الحياء في طريقٍ نفع الأمة؛ لأنه يزجر عن القبائح، وعن سيئ الكلام، وعن سيئ المحادثة، ويُعين على طيب الكلام، وحسن الأسلوب، وطيب المحادثة، وحسن المعاملة.
أما الحياء الذي يمنع من الحقِّ فهذا ليس بحياءٍ، هذا يُسمَّى: عجزًا وضعفًا، الذي يمنعك من الحقِّ ومن قول الحقِّ والصدع بالحقِّ هذا لا يُسمّى: حياءً، هذا يُسمَّى: ضعفًا، ويُسمّى: عجزًا، وإنما الحياء الذي يُعينك على الخير، ويمنعك من القبائح، ويُعينك على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وطيب الكلام، وحُسن المحادثة، وكرم الضيافة، وغير هذا، هذا هو الحياء، أما حياء يمنعك من قول الحق، ويُثبطك عن قول الحق، ويُجرئك على قول الباطل؛ فهذا ليس بحياءٍ، ولكنه ضعف وعجز وضدّ الكيس. وفَّق الله الجميع.
85- بابُ حفظ السّر
قَالَ الله تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا [الإسراء:34].
1/684- وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: إنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْم الْقِيامَةِ الرَّجُل يُفْضِي إِلَى المَرْأَةِ وَتُفْضِي إلَيهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا رواه مسلم.
2/685- وعن عبدِاللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما: أنَّ عمرَ حِيْنَ تَأَيَّمَتْ بِنْتُهُ حفْصَةُ قَالَ: لقيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّان ، فَعَرَضْتُ علَيْهِ حفصةَ فَقلتُ: إنْ شِئْتَ أنكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمرَ، قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أمْرِي، فَلَبِثْتُ ليَالِيَ، ثُمَّ لَقِيني فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمي هَذَا، فَلَقِيتُ أَبَا بَكْر الصِّديقَ ، فقلتُ: إنْ شِئْتَ أَنكَحْتُكَ حَفْصةَ بنْتَ عُمَر، فصمتَ أَبُو بكْرٍ ، فَلَمْ يَرْجِعْ إليَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوجَد مِنِّي على عُثْمانَ، فَلَبِثْتُ ليَالي، ثُمَّ خطَبهَا النَّبيُّ ﷺ، فَأَنْكَحْتُهَا إيَّاهُ، فلَقِيني أبُو بكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ وجَدْتَ علَيَّ حِينَ عَرَضْتَ علَيَّ حفْصةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيكَ شَيْئًا؟ فقلتُ: نَعمْ، قَالَ: فإنَّه لمْ يَمْنَعْني أنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عرضْتَ عليَّ إلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكرَها، فَلَمْ أَكُنْ لأفْشِي سِرَّ رسول اللَّه ﷺ، ولَوْ تَركَهَا النَّبِيُّ ﷺ لقَبِلْتُهَا. رواه البخاري.
3/686- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالتْ: كُنَّ أَزْواجُ النَّبِيِّ ﷺ عنْدهُ، فَأَقْبلتْ فَاطِمةُ رضي اللَّه عنها تَمْشِي، مَا تُخْطئ مِنْ مِشْيَةِ رسول اللَّه ﷺ شَيْئًا، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ بِهَا وقال: مرْحبًا بابنَتي، ثُمَّ أَجْلَسهَا عَنْ يمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمالِهِ، ثُمَّ سارَّها فَبَكتْ بُكَاءً شَديدًا، فلَمَّا رَأى جَزَعَها سَارَّها الثَّانِيةَ فَضَحِكَت، فقلتُ لهَا: خصَّك رسولُ اللَّه ﷺ مِن بيْنِ نِسائِهِ بالسَّرارِ، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِين؟! فَلَمَّا قَام رسولُ اللَّه ﷺ سأَلْتُهَا: مَا قَالَ لكِ رسولُ اللَّه ﷺ؟ قالت: مَا كُنْتُ لأفْشِي عَلى رسول اللَّه ﷺ سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ اللَّه ﷺ قلتُ: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنَ الحَقِّ، لَمَا حدَّثْتنِي مَا قَالَ لكِ رسولُ اللَّه ﷺ، فقالتْ: أَمَّا الآنَ فَنعم، أَما حِين سَارَّني في المَرَّةِ الأُولَى فَأَخْبرني: أَنَّ جِبْرِيل كَان يُعارِضُهُ القُرْآنَ في كُلِّ سَنَةٍ مرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن، وأَنَّهُ عَارَضهُ الآنَ مَرَّتَيْنِ، وَإنِّي لا أُرَى الأجَل إلَّا قدِ اقْتَرَب، فاتَّقِي اللَّه واصْبِرِي، فَإنَّهُ نِعْم السَّلَف أَنَا لكِ، فَبَكَيْتُ بُكَائيَ الَّذِي رأيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزعِي سَارَّني الثَّانيةَ فَقَالَ: يَا فَاطمةُ، أَما تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُوني سيِّدَةَ نِسَاء المُؤْمِنِينَ؟ أوْ: سَيِّدةَ نِساءِ هذهِ الأُمَّةِ؟ فَضَحِكتُ ضَحِكي الذي رأَيْتِ. متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالسر، والواجب على المؤمن عدم إفشاء سرِّ أخيه إذا أسرَّ إليه شيئًا؛ لأنه من الأمانات، والأمانة يجب الوفاء بها وعدم الخيانة، ومن العهود التي يجب الوفاء بها؛ فإنه عهد إليه أمرًا سريًّا، فالواجب ألا يُفشي سرَّه، ولا يخون عهده، والله يقول: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا [الإسراء:34]، ويقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، ويقول في وصف المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8] يعني: يرعون العهد والأمانة، فإذا أفشى إليك أخوك سرًّا تعلم أنه لا يرضى بإفشائه، ولا يُحب أن يعلمه أحد، كأن يقول: إنه سيُسافر غدًا أو بعد غدٍ، وقال: هذا سرٌّ بيني وبينك، أو سيتزوج فلانة، أو يُطلق فلانة، فليس لك أن تُفشي ذلك.
ومن الأحاديث في هذا الباب: حديث أبي سعيدٍ: إنَّ من شرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشر سرَّها أو تنشر سرَّه، هذا يدل على الخيانة، وصاحب هذا العمل من شرِّ الناس عند الله منزلةً، الزوج يُفشي سرَّ زوجته، والزوجة تُفشي سرَّ زوجها: كالأحاديث التي تكون عند الجماع أو شبه ذلك من الأشياء السرية، فليس له أن يقول: قالت: كذا، وقالت: كذا، وليس لها هي أن تقول: قال: كذا، وقال: كذا، مما يكون سرًّا بين الزوجين، فهكذا الأسرار الأخرى التي تقع بين الناس.
ومن ذلك قصة عمر وحفصة: لما مات زوجها أنيس بن حُذافة عرضها عمرُ بعد العدة على عثمان، فقال: سأنظر في أمري، ثم اعتذر عثمان عن الزواج، ثم عرضها على الصديق أبي بكر، فصمت ولم يرد شيئًا، فوجد عليه عمرُ بعض الشيء؛ كونه أخاه وصاحبه ولا يردّ عليه شيئًا، ما قال: طيب، وإلا لا، سكت، ثم خطبها النبيُّ ﷺ وتزوَّجها عليه الصلاة والسلام، حفصة بنت عمر إحدى أمهات المؤمنين، ثم إن الصديق قابل عمر وقال: لعلك وجدتَ عليَّ لما عرضتَ عليَّ حفصة ولم أرد عليك؟ قال: نعم، قال: إنَّ الرسول ذكرها وإني كرهتُ أن أفشي سرَّه. يعني: ذكرها الرسول سرًّا للصديق، كأنه قال: شاوره فيها، فرأى الصديقُ أنَّ هذا سرٌّ فلم يُفشه، فهذا شاهد يدل على أن الصديق يعرف أنَّ هذا لا يجوز؛ أن السرَّ لا يجوز إفشاؤه، وهذا من عمل الخلفاء الراشدين، ويتأيد بالحديث السابق: إن شرَّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشر سرَّها، وسبق أنَّ هذا يدخل في الأمانات، والأمانات لا تجوز الخيانة فيها، وتجب رعايتها.
والحديث الثالث: قصة فاطمة بنت النبي ﷺ ورضي الله عنها مع أبيها: دخلت عليه ذات يوم وعائشة عنده، قالت عائشة: وكانت مشيتها تُشبه مشية النبي ﷺ، ولا يُستغرب، كون بنت الرجل أو ولده يُشبهه في بعض الأشياء لا يُستغرب، هذا كثير، كون مشيتها مشيته، ليس للمرأة أن تُشبه بالرجل، لكن إذا كان شيئًا طبعيًّا ما يضرّها، إذا كان شيئًا طبعيًّا كونها مشيتها مشية أبيها، أو صوتها صوت أبيها، أو خلقها خلق أبيها، هذا شيء ما هو في يدها، من أمر الله، لكن ليس للمرأة أن تُشبه بالرجل، وليس للرجل أن يتشبه بالمرأة باختياره: في مشيةٍ، أو كلامٍ، أو لباسٍ، أو غير ذلك، لكن إذا كان ذلك خلقةً لا يضرّ.
فجلست، حيَّاها النبيُّ ﷺ وأكرمها وأجلسها عن يمينه أو شماله، هذا فيه دلالة على أنه ينبغي للأب أن يكون طيب الكلام مع البنات، حسن المعاشرة، حسن المقابلة؛ ولهذا كان ﷺ حسن الخلق مع أهله، طيب المعاشرة مع أهله عليه الصلاة والسلام، ومع الناس، كان أحسن الناس خلقًا، وقال الله في حقِّه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فهو أحسن الناس خلقًا، وأكمل الناس خلقًا، وهو أكمل المؤمنين خلقًا، يقول النبي ﷺ: أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، والنبي أكملهم إيمانًا، وأكملهم خلقًا عليه الصلاة والسلام، فكان يحتفي بابنته إذا زارته ويُكرمها، وربما قام إليها وقابلها وأخذ بيدها وقبَّلها، وهكذا كانت؛ إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده وقبَّلته عليه الصلاة والسلام، فكان يعتني بابنته، وكانت تعتني به أيضًا.
وليس له إلا هذه الابنة الواحدة، كل بناته متن في حياته ﷺ، ما بقيت إلا فاطمة في آخر حياته، زينب ماتت، ورقية ماتت، وأم كلثوم ماتت، كنَّ أربعًا، ماتت ثلاث، وبقيت واحدة وهي فاطمة، أمها خديجة.
فسارَّها في زيارتها الأخيرة في حياته، في آخر حياته سارَّها وقال لها: إن جبريل كان يُعارضني القرآن كل سنة مرة، وهذه السنة الأخيرة مرتين يُدارسه القرآن مرتين، وما أرى هذا إلا لقرب أجلي، قال: لأنَّ هذا يدل على قرب أجلي، فبكت بكاءً شديدًا، ولا يخفى ما يقع للأولاد عند وجود ما يدل على موت أبيهم، أو حادث يحدث لأبيهم، أو نحو ذلك ما يُستغرب، فارتاعت من هذا الأمر وبكت، فطمأنها وقال لها: أما ترضين أن تكوني سيدة هذه الأمة -أو سيدة المؤمنين؟، في روايةٍ: سيدة نساء أهل الجنة؟ فضحكت، سرَّها ذلك.
فلما قام النبي ﷺ سألتها عائشةُ عن هذا الأمر، فقالت: ما كنتُ لأفشي سرَّ رسول الله، ما أخبرتها؛ لأنَّ الإخبار بأنَّ أجله قد يقرب يحزن الناس ويشقّ عليهم؛ فلهذا رأت رضي الله عنها ألا تُخبر بهذا؛ لأنه شيء يُحزن؛ يُحزن عائشة وغير عائشة، إذا سمعوا قوله ﷺ: وما أرى هذا إلا لقرب أجلي لا بدَّ أن هذا يُؤثر على الناس، كلٌّ يحب حياته، وأن يفديه بنفسه.
فلما تُوفي النبي ﷺ قالت: أما الآن فلا بأس، بعد الوفاة لا بأس؛ لأنه حينئذٍ لا محظور في الإخبار بالشيء الذي قال فيه: لقرب أجلي؛ لأنه قد تم الأجل وتوفي؛ فلهذا أخبرتها بعد وفاته ﷺ.
فهذا كله يدل على أن السر لا يجوز للمُؤتمن أن يُفشيه: لا عن زوج، ولا عن أب، ولا عن غيرهما، ليس لمن أُسرَّ إليه شيء أن يُفشيه، سواء كان الذي أسرَّه أبوه أو الزوج أو غيرهما، الواجب حفظ السر، إذا عرفت أنَّ صاحبه لا يرضى بإفشائه، أو في إفشائه مضرة فالواجب عليك حفظه وألا تُفشيه؛ دفعًا للمضرة، وحفظًا للأمانة. وفَّق الله الجميع.
86- باب الوفاء بالعهد وَإنجاز الوَعد
قَالَ الله تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا [الإسراء:34].
وقال تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [النحل:91].
وقال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].
وقال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2- 3].
1/688- عن أبي هريرة : أن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّث كَذب، وَإِذَا وَعدَ أخلَف، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ متفقٌ عَلَيهِ.
زَادَ في روايةٍ لمسلم: وإنْ صَامَ وصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مسلِمٌ.
2/689- وعن عبدِاللَّهِ بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما: أنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: أرْبعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَنْ كَانَتْ فِيه خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِن النِّفاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَان، وإذَا حدَّثَ كذَبَ، وَإذا عَاهَدَ غَدَر، وَإذا خَاصَم فَجَرَ متفقٌ عَلَيْهِ.
3/690- وعن جابرٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبيُّ ﷺ: لَوْ قَدْ جاءَ مالُ الْبَحْرَيْن قد أعْطَيْتُكَ هكَذا وهكذا وَهَكَذا، فَلَمْ يَجِئ مالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النبيُّ ﷺ، فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْن أَمَرَ أبُو بَكْرٍ فَنَادى: مَنْ كَانَ لَهُ عنْدَ رسول اللَّه ﷺ عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا. فَأتَيتُهُ وقُلْتُ لَهُ: إنَّ النَّبيَّ ﷺ قَالَ لي كَذَا وكَذَا، فَحثَى لي حَثْيَةً، فَعدَدْتُها، فَإذا هِي خَمْسُمِئَةٍ، فَقَالَ لِي: خُذْ مثْلَيْهَا. متفقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: هذه الآيات الكريمات والأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالوفاء بالعهد والوعد وعدم الغدر وعدم إخلاف الوعد، وتدل على أنَّ إخلاف الوعد وأنَّ الغدر بالعهد والخيانة من صفات أهل النفاق وإن صلَّى الإنسان وصام، فإنها تكون خلة من خلال المنافقين ولو صلَّى وصام، يكون فيه نقص، ويكون في إيمانه ضعف وتشبه بأهل النفاق، قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا [الإسراء:34]، وقال جلَّ وعلا: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:91]، وقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2- 3]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقال جلَّ وعلا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54].
فهذه خصال أهل الإيمان: الوفاء بالعهود والعقود، وعدم الخيانة، وعدم الغدر، فالمؤمن يتعاهد نفسه حتى لا يغدر، ولا يخلّ بالوعد، ولا يخون الأمانة، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، ويقول عن أهل الإيمان وصفاتهم: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8].
فالواجب على المؤمن أن يرى الأمانة والعهد، وأن يتَّقي الله في ذلك، وألا يخون أمانةً اؤتُمنها، سواء سرًّا أو مالًا أو غير ذلك.
يقول النبي ﷺ: آية المنافق يعني: علامة المنافق، الآية: العلامة: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ [فصلت:37] يعني: علامات وجوده وملكه وكماله آيات الليل والنهار، آية المنافق يعني: علامة المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، هذه من صفات المنافقين: حصل كذا، وحصل كذا، وهو يكذب: سوف أفعل كذا، وأفعل كذا، وهو يكذب، وإذا اؤتمن خان الأمانة، فالواجب الحذر من هذه الصفات الذميمة.
وفي الحديث الثاني يقول ﷺ: أربعٌ يعني: أربع خصالٍ مَن كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا يعني: نفاقًا عمليًّا ومَن كانت فيه خصلة منهنَّ كانت فيه خصلة من النِّفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، إذا خاصم فجر في الخصومات وكذب واستحلَّ أموال الناس بالكذب، وإذا عاهد غدر، إذا عاهد غيره من الكفار أو غيرهم غدر، وذاك لضعف إيمانه، أو عدم إيمانه وعدم خوفه من الله ، أو قلة خوفه من الله .
فالواجب الحذر من هذه الخصال، والتواصي بتركها، والإنسان قد يحمله عليها حبُّ المال، قد يحمله عليها البغضاء لقومٍ، والحسد لآخرين، قد يحمله عليها أمور أخرى، فالواجب أن يخاف الله، وأن يُراقبه حتى لا يغدر في عهدٍ، وحتى لا ينقض عقدًا إلا بحقٍّ، وحتى لا يخون الأمانة، وحتى لا يفجر في الخصومة، يتورع إذا خاصم، يتَّقي الله ولا يكذب، ويُقرُّ بالحقِّ الذي عليه، ولا يحوج الناس إلى التعب وهو يعرف أنه كاذب وظالم.
والحديث الثالث: عن جابرٍ : أن الرسول وعده قال: يا جابر، لو جاء مال البحرين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا بيديه، وعده النبي ﷺ إذا جاءه مال البحرين، يعني: الجزية -جزية البحرين- وكان في البحرين ذاك الوقت مجوس، كان النبي ﷺ ضرب عليهم الجزية.
والجزية: مال يُضرب على الكفار كل سنة، يقال له: جزية، كما قال في حقِّ اليهود والنصارى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، الجزية كالأجرة: مال يُضرب عليهم حتى يُسلموا أو يُؤدوا هذا المال للمسلمين؛ عونًا للمسلمين، وهم اليهود والنصارى والمجوس، إذا ظهر عليهم المسلمون فإنَّ المسلمين يُلزمونهم بالإسلام أو بالجزية، إما أن يُسلموا، وإما أن يُؤدوا الجزية، وهي مال يُضرب عليهم كل سنةٍ، كل رأس عليه مئة ريـال، مئتا ريـال، كل رأس من الذكور البالغين هذا المال يُضرب عليهم، يُؤدونه للمسلمين كل سنةٍ؛ ليتقوى به المسلمون على حربهم، وعلى حرب غيرهم، إلا إذا أسلموا سقطت عنهم، إذا أسلموا فلا جزيةَ عليهم.
فقال ﷺ: لو جاء مالُ البحرين يعني: الجزية من البحرين، من المجوس أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا وأشار بيديه -كفَّيه يعني- فتُوفي النبي ﷺ ولم يأتِ مالُ البحرين، ما جاءت الجزية في عهده ﷺ، وجاءت في عهد الصديق، الصديق تولى الإمرة بعد النبي ﷺ، وصار هو خليفة المسلمين ، فجاء مالُ البحرين، فجاءه جابر، وقال جابر: يا أمير المؤمنين، إني قلتُ للنبي ﷺ كذا، وإنه قال لي كذا؛ أن الرسول وعدني.
وكان الصديقُ لما تُوفي النبي ﷺ أمر مَن يُنادي في الناس: مَن كان له عند رسول الله دين أو عدة فليأتنا. الصديق أمر مَن يُنادي في الناس يقول لهم بعد وفاة النبي ﷺ: من كان له عند رسول الله دين أو عدة فليأتنا. وهذا من عناية الصديق وحرصه على براءة ذمة النبي ﷺ.
فجاء جابر من عرض الناس وقال: يا أبا بكر، إنَّ الرسول وعدني إذا جاء مالُ البحرين أن يُعطيني كذا وكذا، وقد جاء مال البحرين. فحثى له الصديقُ بيديه من المال دراهم وقال له: عدّها. فعدَّها فإذا هي خمسمئة، فقال له: خذ مثلها مرتين؛ لأنَّ الرسول قال له: هكذا وهكذا وهكذا ثلاث مرات، خذ مثلها مرتان حتى يحصل لك ثلاث مرات، يعني: ما وعدك به النبي ﷺ، فأوفى له الصديقُ.
فهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يُوفي بالعدة كما يُوفي بالدين، إذا وعد إنسانٌ قال: يا فلان، تجيئنا إن شاء الله نُعطيك كذا وكذا. يُوفي له بالوعد، مثل الدَّين، العدة دين، ولا يتشبَّه بأهل النفاق؛ يوعد ويخلف، إذا وعد يصدق، هذه صفة أهل الإيمان، قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ يعني: نبي الله إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54- 55]، والرسول يقول: آية المنافق ثلاث يعني: علامة المنافق ثلاث خصال إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان.
نسأل الله العافية، وفَّق الله الجميع للخصال الطيبة، وفَّق الله الجميع للتَّخلق بأخلاق المؤمنين، وأعاذ الجميع من أخلاق المنافقين والكافرين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه.
87- باب المُحافظة عَلَى مَا اعتاده من الخير واستحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء
قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
وقال تَعَالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا [النحل:92].
وقال تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88].
وقال تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
1/691- وعن عبداللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ لي رَسُول اللَّه ﷺ: يَا عبْدَاللَّه، لا تَكُنْ مِثل فُلانٍ؛ كَانَ يقُوم اللَّيْلَ فَترَك قيَامَ اللَّيْل متفقٌ عَلَيهِ.
1/692- عَنْ عدِيِّ بنِ حَاتمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ متفقٌ عَلَيْهِ.
2/693- وعن أبي هريرة : أنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: والكلِمةُ الطَّيِّبَةُ صدَقَةٌ متفقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ بعض حديثٍ تقدم بطولِه.
3/694- وعن أَبي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لي رسولُ اللَّه ﷺ: لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أخَاكَ بِوَجْهٍ طَلقٍ رواه مسلم.
الشيخ: هذه الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ كلها تتعلق بالحثِّ على الاستقامة على الخير الذي اعتاده مما شرعه الله، وعدم التفريط فيه، كما تتضمن أيضًا الحثّ على حُسن الخلق، وطيب الكلام، وطلاقة الوجه من المؤمن مع أخيه، إلا إذا وجدت أسباب تمنع ذلك، إذا وجدت أسباب تُوجب الهجر والشدة فلا بأس، وإلا فالأصل أن المؤمن مأمور بحُسن الخلق وطلاقة الوجه وطيب الكلام، والحذر من ضدِّ ذلك، يقول الله جلَّ وعلا في كتابه الكريم: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا، ويقول جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، ويقول جلَّ وعلا: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
وكان حسن الخلق عليه الصلاة والسلام، طيب الكلام، قال : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فكان طيب الكلام، طليق الوجه عليه الصلاة والسلام، وقال جلَّ وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، ولما بعث موسى وهارون إلى فرعون قال لهما: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].
فالمؤمن مأمور بطيب الكلام ولين الجانب مع إخوانه، ومع أهل بيته، ومع جيرانه، إلا مَن اقتضى الشرع الإغلاظ له وهجره؛ لإظهاره المنكرات، هذا شيء آخر، مثلما قال جلَّ وعلا في أهل الكتاب: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ.
ويقول النبي ﷺ لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: يا عبد الله، لا تكن مثل فلانٍ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل يحثّه على الاستمرار والثبات على قيام الليل ولو قليلًا، قال الله في صفة المتقين: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17- 18]، هذه من صفات أولياء الله، وقال في صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64]، هكذا صفاتهم وأخلاقهم العظيمة.
وقال لعبدالله بن عمر: نعم الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل، فقالت حفصة: فما زال عبدالله يُصلي من الليل منذ سمع من النبي هذا. ما كان ينام من الليل إلا قليلًا رضي الله عنه وأرضاه.
وفي "الصحيحين" أنه ﷺ أوصى أبا هريرة بصلاة الضحى: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والوتر قبل النوم، وأوصى أبا الدرداء بذلك أيضًا: بصلاة الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والوتر قبل النوم، وقال لأبي ذرٍّ: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ طلق يعني: منبسط، وقال لعدي بن حاتم : ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ.
فالإنسان يفعل الخير ولو قليلًا، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ، الإنسان يحرص على الخير: إما بالصدقة والمعروف ولو قليلًا، وإما بالكلام الطيب، كما في حديث أبي هريرة: يقول ﷺ: الكلمة الطيبة صدقة التسبيحة صدقة، التحميدة صدقة، التهليلة صدقة، الكلمة الطيبة صدقة، فهكذا الصدقة القليلة تنفع، تقدم قوله ﷺ: كل معروفٍ صدقة.
وفي "صحيح البخاري" عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان تشحذ –تسأل- فلم أجد في البيت إلا ثلاث تمرات، فدفعتُها إليها، فأعطت كل واحدةٍ من ابنتيها تمرةً، ورفعت الثالثة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها التمرة الثالثة –يعني: أكلتا تمرتين، كانتا أسرع منها، واستطعمتاها التمرة الثالثة- فشقَّتها بينهما نصفين ولم تأكل شيئًا، قالت عائشة: فأعجبني شأنها، فلما جاء النبي ﷺ أخبرته بشأنها فقال: إنَّ الله أوجب لها بها الجنة يعني: أوجب لها بهذه الرحمة لهاتين الطفلتين.
فهذا يدل على فضل الصدقة والرحمة والإحسان، وأن الله جلَّ وعلا يأجر على هذا، ويُثيب على هذا الثواب الجزيل.
وفي هذا الدلالة على أنه ينبغي للمؤمن القناعة والصبر على الشدة، بيت النبي ﷺ ما وُجد فيه إلا ثلاث تمرات في بعض الأحيان، وهو بيت أفضل الخلق، فهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن التصبر والتحمل، ولو أصابه الفقر لا يجزع، بل يتحمل ويأخذ بالأسباب التي شرعها الله، فله أسوة في نبي الله ﷺ، وربما ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع عليه الصلاة والسلام، وهكذا كثير من الصحابة أصابتهم شدة في المدينة، ثم وسَّع الله عليهم والحمد لله.
نسأل الله للجميع التوفيق وصلاح النية والعمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
89- باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمُخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك
1/695- عن أنسٍ : أنَّ النَّبيَّ ﷺ كانَ إِذَا تَكَلَّم بِكلِمَةٍ أعَادها ثَلاثًا حَتَّى تُفْهَم عَنهُ، وَإِذَا أتَى عَلى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ علَيْهِمْ ثَلاثًا. رواه البخاري.
2/696- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كَانَ كلامُ رسول اللَّه ﷺ كَلامًا فَصْلًا، يَفْهَمُهُ كُلُّ مَن يَسْمَعُهُ. رواه أَبُو داود.
1/697- عن جَرير بن عبدِاللَّه قَالَ: قَالَ لي رَسُول اللَّه ﷺ في حجَّةِ الْوَدَاع: اسْتَنْصِتِ النَّاسَ، ثمَّ قَالَ: لَا تَرْجِعُوا بعْدِي كُفَّارًا يضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ متفقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: هذه الأحاديث في بيان العناية بالكلام وإيضاحه؛ حتى لا يبقى اشتباه على المخاطب والمستمع، ينبغي للواعظ والمحدث والناصح أن يُبين الكلام ويُوضحه بعبارات يفهمها المخاطب؛ حتى لا يلتبس عليه الأمر؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، فجعل كلامه بلاغًا؛ لما فيه من التفصيل والإيضاح، وقال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، وقال: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، وقال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44].
فالواجب على أهل العلم وعلى الوعاظ والمذكرين والناصحين والدارسين أن يُوضحوا ما يقومون به؛ حتى يبقى المخاطب على بينةٍ وعلى شيءٍ واضحٍ؛ ولهذا قال أنس : كان النبي ﷺ إذا تكلَّم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا حتى تُفهم عنه؛ لأنه يُبلغ عن الله أحكامه، فكان يُعيدها حتى يفهمها الناس وينتبهوا لها.
وإذا سلَّم على قومٍ سلَّم عليهم ثلاثًا حتى يفهموا ما قال، وهذا عند أهل العلم إذا لم يفهموا السلام الأول، إذا كانوا كثيرين وقد لا يبلغهم فيُكرر حتى يعمَّهم السلام وينتبهوا له جميعًا، وهذا كله من باب الحيطة؛ حتى لا يغلط الناس في فهم الكلام، فإذا أمرهم بأمرٍ أعاده ثلاثًا، وإذا نهاهم عن شيءٍ كرره حتى يفهموا، وحتى يتَّضح الأمرُ ولا يبقى هناك شيء من الخفاء، بل يكون المخاطب على بينةٍ، وعلى أمرٍ واضحٍ.
وهكذا معنى كلام عائشة رضي الله عنها: أنه كان كلامه فصلًا عليه الصلاة والسلام، يعني: أنه واضح، ليس بمعقدٍ، ولكنه كلام فصل، مبين، واضح؛ حتى يفهمه مَن سمعه، والله جلَّ وعلا أرسله مبلغًا للناس، ومُرشدًا إليهم، ويبين لهم ما أنزل إليهم، كما قال تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل:64]، فهو عليه الصلاة والسلام مأمور بالبلاغ والبيان والإيضاح.
وفي حديث جرير : أن النبي ﷺ أمره في حجة الوداع أن يستنصت الناس، يعني: أن يأمرهم بالإنصات والاستماع حتى يفهموا ما يُقال لهم، وفي الحديث الآخر: أنَّ الله فتح أسماعهم حتى فهموا كلامه عليه الصلاة والسلام، وأمره لهم بالإنصات يدل على أن الواعظ والمذكر يجتهد في هذا، فيقول لهم إذا سمع شيئًا من الغوغاء أو الكلام الذي قد يُشوش يقول: أنصتوا، استمعوا، انتبهوا؛ حتى يعدوا أسماعهم ويعدوا قلوبهم لما يُقال لهم، إذ المقصود هو النصيحة والبيان، هذا هو مقصود ما يتكلم به ﷺ، مقصوده أن يُعلمهم وأن يُفهمهم ما أوجب الله عليهم وما حرَّم عليهم، فإذا لم يكن الإصغاء الكامل لم يحصل المقصود.
فهكذا أهل العلم بعده؛ مقصود أهل العلم بعده البيان والإيضاح، فإذا لم يصغِ المخاطب ولم يحضر قلبه لم تكن الفائدة كاملةً، قد يغلط، قد يفهم بعضًا ويُخطئ بعضًا، فالواجب عند النصيحة وعند التذكير وعند الدرس أن يُصغي المخاطب، والمقصود أن الطالب يُصغي، والموعوظ والمنصوح يصغي؛ حتى تكون الفائدة في محلِّها. وفَّق الله الجميع.
91- بابُ الوَعظ والاقتصاد فِيهِ
قَالَ الله تَعَالَى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].
1/698- عن أَبي وائِلٍ شَقِيقِ بنِ سَلَمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ مسْعُودٍ يُذكِّرُنَا في كُل خَمِيسٍ، فَقَالَ لهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عبْدِالرَّحْمنِ، لوددْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: أمَا إِنَّهُ يَمنعني مِنْ ذلكَ أنِّي أَكْرَهُ أنْ أُمِلَّكُمْ، وإِنِّي أتخَوَّلُكُمْ بِالمَوْعِظةِ كَما كَانَ رَسُول اللَّه ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخافَةَ السَّآمَةِ علَيْنَا. متفقٌ عليه.
2/699- عن أَبي الْيَقظان عَمَّار بن ياسر رضي اللَّه عنهما قَالَ: سمِعْتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقول: إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ وَقِصر خُطْبتِه مِئنَّةٌ مِنْ فقهِهِ، فَأَطِيلوا الصَّلاةَ، وَأَقْصِروا الخُطْبةَ رواه مسلم.
3/700- عن مُعاويةَ بنِ الحَكم السُّلَمِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنا أُصَلِّي مَع رسول اللَّه ﷺ إذْ عطسَ رجُلٌ مِنَ القَوْمِ فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّه، فَرَماني القَوْمُ بأبصارِهمْ، فقلت: واثُكل أُمَّيَاه! مَا شَأنُكُمْ تَنْظُرُونَ إليَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأيديهم عَلَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأيْتُهُمْ يُصَمِّتُونني لكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رسول اللَّه ﷺ، فَبأبي هُوَ وأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْله وَلا بَعْدَه أَحْسنَ تَعْلِيمًا مِنْه، فَوَاللَّه مَا كَهَرنَي، وَلا ضَرَبَني، وَلا شَتَمَني، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقرَاءَةُ الْقُرآنِ، أَوْ كَمَا قَالَ رسول اللَّه ﷺ، قلتُ: يَا رسول اللَّه، إنِّي حَدِيثُ عهْدٍ بجَاهِليةٍ، وقدْ جاءَ اللَّه بِالإِسْلامِ، وإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: فَلا تأْتهِمْ، قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطيَّرونَ، قَالَ: ذَاكَ شَيْء يَجِدونَه في صُدورِهِم، فَلا يصُدَّنَّهُمْ رواه مسلم.
4/701- وعن العِرْباض بنِ سَاريةَ قَالَ: وَعظَنَا رسولُ اللَّه ﷺ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنها القُلُوب، وَذَرفَتْ مِنْها العُيُون. وَذَكَرَ الحدِيثَ، وَقدْ سَبق بِأكملِهِ في باب الأَمْر بالمُحافَظةِ على السُّنَّةِ.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة تتعلق بالاقتصاد في الموعظة وعدم التطويل الذي يشقّ على الناس؛ لأنها إذا طالت ملَّ الناس، وقلَّت الفائدة، ولكن متى اختُصرت صار ذلك أقرب إلى أن يحفظوها، وإلى أن يستفيدوا منها أكثر، هذا هو المشروع، إلا إذا دعت الحاجة إلى الطول فلا بأس، إذا دعت الحاجة إلى الطول في بعض الأحيان فلا بأس، وإلا فالسنة الاقتصاد وعدم التطويل؛ حتى لا يملَّ الناس.
في الحديث الأول: أنَّ ابن مسعودٍ ، وهو عبدالله بن مسعود الهذلي، أحد علماء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وأحد السابقين من المهاجرين، كان يعظ أصحابه في الكوفة، وكان أميرًا على الكوفة، وكان يعظهم في كل خميسٍ، يعني في الأسبوع مرة، فقال له بعضهم: يا أبا عبدالرحمن، لو وعظتنا كل يوم؛ لأننا في حاجةٍ، قال: إنه لا يمنعني من ذلك إلا أني أخاف أن أُملكم، وكان الرسول ﷺ يتخوَّلنا بالموعظة مخافة السآمة علينا، يعني: يعظنا بين وقتٍ وآخر، يخشى أن يُملنا، فأنا أفعل كما فعل عليه الصلاة والسلام، يعني: أتخولكم بين وقتٍ وآخر حتى لا تملوا، والله يقول جلَّ وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فالحكمة هي الكلام الطيب: قال الله، وقال رسوله، مع تحري الأوقات المناسبة، والكلمات المناسبة؛ ولهذا قال: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يعني: الترغيب والترهيب، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من غير تكلفٍ؛ حتى لا ينفروا من الدعوة.
وفي الحديث الثاني -حديث عمار بن ياسر العبسي - يقول ﷺ: إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنةٌ من فقهه يعني: علامة ودليل على فقهه، طول صلاته وقصر خطبته دليل على فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، هذا يدل على أن السنة قصر الخطبة وعدم التطويل؛ حتى لا يملَّ الناس، خطبة الجمعة وخطبة العيد والمواعظ تكون مختصرةً، ليس فيها طول يملّ الناس، إلا إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك؛ كأن تكون حوادث تحتاج إلى طولٍ فلا بأس أن يُطيل عند الحاجة، وقد أطال النبي في بعض الأحيان ﷺ، في بعض الأيام خطبهم بعد الصبح إلى الظهر، وبعد الظهر إلى العصر، وبعد العصر إلى غروب الشمس؛ لحوادث أوجبت ذلك.
والحديث الثالث حديث العرباض بن سارية: فيه أن الرسول وعظهم موعظةً بليغةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، هذا فيه الحثّ على العناية بالموعظة، يكون فيها: قال الله، قال رسوله، ذكر الجنة، ذكر النار؛ حتى تتحرك القلوب، وحتى تتجه إلى الله جلَّ وعلا؛ لأنه إذا ذكر الجنة والنار والترغيب والترهيب صار من أسباب خشوع القلوب وذرف العيون، ينبغي للواعظ أن يتحرى ذلك حتى تُؤثر موعظته.
والحديث الرابع حديث معاوية بن الحكم السلمي : أنه عطس رجلٌ حوله وهو يُصلي، فقال له: يرحمك الله، فاستنكر عليه الناس ذلك؛ كونه يتكلم في الصلاة، وأشاروا إليه بالصمت، فلما سلَّم من صلاته أتى النبيَّ ﷺ وأخبره بالواقع، قال: فما كهرني، ولا زجرني، ولا ضربني، بل قال: يا معاوية، إنَّ الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن يعني: الصلاة ما هي محل كلام، علَّمه أنَّ الصلاة ليس فيها كلام، ولم يأمره بالإعادة، فدلَّ على أن الكلام من الجاهل أو الناسي في الصلاة لا يُبطلها، إذا كان جاهلًا وتكلم صلاته صحيحة، أو ناسيًا صلاته صحيحة؛ لأن الرسول ﷺ ما أمر معاوية أن يُعيد؛ لأنه جاهل، فدل على أن الجاهل إذا تكلَّم في الصلاة أو سهى وتكلم فصلاته صحيحة، فقد سهى النبيُّ ﷺ وتكلم ولم يُعدها، وهكذا معاوية تكلم جاهلًا قال: يرحمك الله، ولم يأمره النبي بالإعادة، فدلَّ على أن الجاهل إذا تكلم يُعفى عنه، ولا تبطل صلاته.
وفيه أنه سأله قال: إنا منا -من الناس- مَن يأتون الكهَّان، قال النبي ﷺ: لا تأتوهم؛ لأن الكهان يدَّعون علم الغيب، ويسمعون من الشياطين؛ فلهذا نهى النبي عن إتيانهم، وهم العرَّافون، يقول ﷺ: مَن أتى كاهنًا أو عرَّافًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ ﷺ، وفي اللفظ الآخر: مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة، هذا فيه التحذير من إتيان الكهان والمنجمين والعرَّافين، لا يجوز إتيانهم، ولا سؤالهم، ولا تصديقهم؛ لأنهم كذبة، يدَّعون علم الغيب، ويكذبون على الناس ويأخذون أموالهم بالباطل ويضرونهم.
قال: وإن أناسًا يتطيرون يعني: يتشاءمون بالطيور وغيرها، فقال له النبي ﷺ: ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم يعني: الطيرة لا حقيقةَ لها؛ ولهذا قال في الحديث الصحيح: الطيرة شرك، الطيرة شرك، وقال عليه الصلاة والسلام: مَن وجد ذلك فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفي لفظٍ: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك، فلا يجوز له أن تُمضيه الطيرة أو تردّه، بل إذا أحسَّ بشيءٍ من ذلك فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك، ويمضي في حاجته ولا يرجع، مثل: خرج يُسافر وصادفه ناس يتنازعون أو يُطالقون أو يتضاربون، لا يتطير، يمشي في حاجته، أو قابله إنسانٌ مكروه، عدو له، أو قابله حيوانٌ ما هو بطيب: مقطع الأطراف، أو أسود، كان الجاهلية يتشاءمون من هذا؛ إذا خرج أحدهم ووافى إنسانًا ما هو بطيبٍ رجع عن حاجته، أو سمع الغراب ينعق رجع، هذا من جهلهم، نهى النبي عن هذا عليه الصلاة والسلام.
فالإنسان إذا خرج لحاجته لا يرجع ولو رأى ما يكره، لو خرج يريد أن يُسافر أو يريد أن يزور واحدًا وصادفه إنسان ما يبغيه، أو رأى حيوانًا ما فيه خير، أو رأى شيئًا آخر، أو سمع صوتًا يكرهه؛ لا يرجع، يمشي في حاجته ويقول: اللهم لا يأتِ بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك. ولا يتشاءم، الواجب عدم التَّشاؤم، أما إذا رجع فهذا التَّشاؤم وهذه الطيرة الشركية التي ما تجوز، كونه يرجع إذا رأى شيئًا ما يُعجبه رجع، لا، يمشي في حاجته. وفَّق الله الجميع.
س: التطير شرك أكبر؟
ج: شرك أصغر، شرك أصغر، من باب الشرك الأصغر.
92- باب الوقار والسكينة
وباب الندب إلى إتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار
قَالَ الله تَعَالَى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63].
وقَالَ الله تَعَالَى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
1/702- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: مَا رَأَيْتُ رسول اللَّه ﷺ مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حتَّى تُرى مِنه لَهَوَاتُه، إِنَّما كانَ يَتَبَسَّمُ. متفقٌ عَلَيْهِ.
1/703- وعن أَبي هريرة قالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقول: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاة فَلا تَأْتُوهَا وأنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وأتُوهَا وَأَنتُمْ تَمْشُونَ وعَلَيكم السَّكِينَة، فَما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا متفقٌ عليه.
زاد مسلِمٌ في روايةٍ لَهُ: فَإنَّ أحدَكُمْ إِذَا كانَ يعمِدُ إِلَى الصلاةِ فَهُوَ في صلاةٍ.
2/704- وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما: أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبيِّ ﷺ يَوْمَ عرَفَةَ، فَسَمع النبيُّ ﷺ وَرَاءه زَجْرًا شَديدًا وَضَرْبًا وَصوْتًا للإِبلِ، فَأَشار بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وقال: أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ رواه البخاري، وروى مسلم بعضَه.
الشيخ: هذه الآيات والأحاديث في الحثِّ على السكينة والوقار والخشوع في العبادات وسائر أعمال العبد التي يعملها مع الله ومع عباده، وأن يكون بعيدًا عن العجلة والطيش، بل يتحرى الرفق في أموره كلها، والرأفة والرحمة، وفي العبادة، والخشوع بين يدي الله، والتواضع، وعدم التَّكلف.
قال الله جلَّ وعلا في كتابه الكريم: مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [الحج:30]، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وقال سبحانه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا يعني: متواضعين وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1- 2]، هكذا المؤمنون؛ عندهم التواضع والهدوء والرفق.
وقال النبي ﷺ: عليكم بالرفق، فإنَّ الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه، تقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيتُ النبي ﷺ مُستجمعًا ضاحكًا حتى تبدو لهواته، إنما كان يتبسم"، هذا هو الغالب، قد يضحك حتى تبدو أنيابه ﷺ في بعض الأحيان عندما يتحدث وأصحابه عن بعض الأشياء التي تكون في الجاهلية، ولكن في الغالب أنه يكتفي بالتبسم عليه الصلاة والسلام كما قالت عائشة رضي الله عنها، وهذا يدل على أن الأولى بالمؤمن عدم التوسع في الضحك، بل إذا حصل موجب لذلك تبسم، وإذا ضحك فلا بأس، الضحك المعتاد، إذا دعت الأسباب إلى ذلك، فقد ضحك النبي في مواضع كثيرة: في قصة الذي جامع زوجته في رمضان، وقال له النبي ﷺ: عليك أن تعتق، قال: لا أستطيع، قال: عليك أن تصوم، قال: لا أستطيع، قال: عليك أن تُطعم ستين مسكينًا، قال: ما عندي شيء أُطعم منه، فلما جيء للنبي ﷺ بمكتلٍ فيه طعام أمره أن يتصدق به، فقال الرجل: أعلى أهل بيتٍ أفقر مني؟! والله ما بين لابتيها أفقر مني، فضحك النبي حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك، وقد جاء هذا في عدة أحاديث.
فالمقصود إذا وُجدت أسباب تقتضي ذلك فلا بأس، وإلا فالأولى التَّبسم وعدم التوسع في الضحك؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: إذا أتيتُم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتُم فصلوا، وما فاتكم فأتموا يعني: الإنسان في خروجه إلى الصلاة، في خروجه إلى الحج، في خروجه إلى عملٍ صالح: زيارة أخيه، عيادة المريض، طلب العلم؛ يكون عنده الهدوء والتواضع وعدم العجلة، وعدم الضحك إلا لأسبابٍ تقتضي ذلك، فما أدرك من الصلاة صلَّى، وما فاته قضى، ولا يعجل، ولا يركض؛ ولهذا قال: فإنَّ أحدكم في صلاةٍ ما دام يعمد إلى الصلاة، ما دام يعمد إليها ويقصدها فهو في صلاةٍ، فليخشع وليطمئن ولا يعجل، وهذا من أسباب أدائه العبادة على وجهها، إذا اطمأنَّ خشع واستحضر عظمة الله، وكان هذا من أسباب أن يُؤدي العبادة على خير وجهٍ.
كذلك حديث: لما أفاض من عرفات عليه الصلاة والسلام فسمع الناس يضربون الإبل، والإبل لها رغاء وشدة، قال لهم: أيها الناس، السكينة، السكينة، فإنَّ البر ليس بالإيضاع يعني: ليس بالإسراع، هكذا روى ابن عباس وجابر وغيرهما: لما أفاض من عرفة في حجة الوداع سمع عند الناس جلبة وحرصًا وعجلة وضربًا للإبل، فجعل يُشير إليهم بسوطه ويقول: أيها الناس، السكينة، السكينة، فإنَّ البر ليس بالإيضاع يعني: ليس بالإسراع، هذا هو السنة؛ إذا أفاض من عرفات، من مزدلفة، من منى، في أي مكانٍ الواجب السكينة والهدوء؛ حتى لا يضرَّ بعضهم بعضًا، سواء بالسيارات أو بالإبل أو بالأقدام، الواجب الهدوء والطمأنينة وعدم العجلة؛ حتى لا يضرَّ بعضُهم بعضًا بالزحمة. وفَّق الله الجميع.
س: ماذا إذا ضحك بالصلاة؟
ج: إذا ضحك بطلت صلاته، الذي يضحك في الصلاة تبطل صلاته بإجماع المسلمين، يُعيدها، إذا كانت فريضةً يلزمه إعادتها، أما التبسم لا يضرّ إذا كان ما له صوت، تبسم ولكن ما له صوت ما تبطل، أما إذا ضحك صار له صوت تبطل بإجماع المسلمين، عليه أن يُعيد الفريضة.