11 من حديث (من استعملناه منكم على عمل..)

13/215- وعن عَدِي بن عُمَيْرَةَ قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه يَقُول: مَن اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَل، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولا يَأْتِي بِهِ يوْم الْقِيامَةِ فقَام إَلْيهِ رجُلٌ أَسْودُ مِنَ الأَنْصَارِ، كأَنِّي أَنْظرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه اقْبل عني عملَكَ قال: ومالكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُك تقُول كَذَا وَكَذَا، قَالَ: وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ: مَنِ اسْتعْملْنَاهُ عَلَى عملٍ فلْيجِيء بقَلِيلهِ وَكِثيرِه، فمَا أُوتِي مِنْهُ أَخَذَ ومَا نُهِى عَنْهُ انْتَهَى رواه مسلم.

14/216- وعن عمر بن الخطاب قَالَ: لمَّا كَانَ يوْمُ خيْبرَ أَقْبل نَفرٌ مِنْ َصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، وفُلانٌ شهِيدٌ، حتَّى مَرُّوا علَى رَجُلٍ فقالوا: فلانٌ شهِيد. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: كلاَّ إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّها أَوْ عبَاءَةٍ رواه مسلم.

15/217-وعن أَبي قَتَادَةَ الْحارثِ بنِ ربعي عن رَسُول اللَّه ﷺ أَنَّهُ قَام فِيهمْ، فذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهادَ فِي سبِيلِ اللَّه، وَالإِيمانَ بِاللَّه أَفْضلُ الأَعْمالِ، فَقَامَ رَجلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه أَرَأَيْت إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّه، تُكَفِّرُ عنِي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رسولُ اللَّه ﷺ: نعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّه وأَنْتَ صَابر مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غيْرَ مُدْبرٍ ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: كيْف قُلْتَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيل اللَّه، أَتُكَفرُ عَنّي خَطَاياي؟ فَقَالَ رسول اللَّه ﷺ: نَعمْ وأَنْت صابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلاَّ الدَّيْن فَإِنَّ جِبْرِيلَ قال لِي ذلِكَ رواه مسلم.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فهذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في تحريم الظلم والغلول، وأن الواجب على كل مؤمن أن يؤدي الحق الذي عليه، وأن ينصف من نفسه، وأن يحذر ظلم العباد في القليل والكثير، وأن يحذر أيضا الغلول وهو كتم شيء من الغنيمة لا يبينه لولي الأمر، فإن الغلول خطره عظيم، قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].

وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: إياكم والغلول، فإنه نار وعار يوم القيامة والغلول هو كتم شيء من الغنيمة قليل أو كثير يسمى غلول، ولهذا يقول ﷺ في حديث عدي بن عميرة: من وليناه شيئا مما ولانا الله فليؤد قليله وكثيره، وفي اللفظ الآخر: فكتمنا خيطا فما فوقه فإنه غلول يأتي به يوم القيامة، وفي اللفظ الآخر: فليؤد قليله وكثيره، فما أعطي منه أخذه، وما نهي عنه انتهى يعني يجب على العامل: أميرا، أو وكيل عمال، أو وكيلا في قبض خراج، أو ما أشبه ذلك، عليه أن يؤدي القليل والكثير، وأن يؤدي الأمانة لولي الأمر، فما أعطاه ولي الأمر من أجرة مساعدة أخذها وما لا فلا، ولهذا قال: مخيطا فما فوقه، فإنه غلول يأتي به يوم القيامة إذا كتمه ولم يؤده.

وفي حديث عمر لما أصيب بعض الناس في قتال اليهود في خيبر في بعض أيامهم، قالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، لأن حصار خيبر مدة؛ لأنها حصون كل حصن يحتاج إلى جهاد، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد حتى ذكروا رجلا، فقال ﷺ: كلا إني رأيته في النار في بردة أو عباءة غلها هذا يدل على أن الشيء الذي يكتمه العامل، ولو كان قليلا فيه خطر عظيم، حتى البردة والعباءة تقدم المخيط وما فوقه، فهذا يفيد الحذر من الغلول قليله وكثيره، وأن الواجب على المؤمن أن يحذر ذلك، وأن يؤدي ما لديه حتى القليل إلا ما أعطاه ولي الأمر.

والحديث الثالث فيه: أن رجلا قال: يا رسول الله، لما سمع الترغيب في الجهاد والحث عليه، كان النبي ﷺ يرغبهم في الجهاد ويحثهم على الجهاد، قال رجل: يا رسول الله أرأيت إن جاهدت فقتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ قال النبي ﷺ: نعم، إذا قتلت وأنت صابر محتسب يعني مخلص لله مقبل غير مدبر مقبل على العدو غير منهزم فإنها تكفر عنك خطاياك إلا الدين أخبر النبي به جبرائيل؛ لأن الدين يبقى لأهله، إذا مات وعليه دين الدين يؤدى لأهله، يقاصونه الدين يبقى لا يضيع على أهله، يعطون عنه ما يقابله لما جاء في الحديث يقول ﷺ: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله فصاحب الدين إن كان أخذها بنية صالحة وأنه سيؤدي الدين أدى الله عنه، وإن أخذها بنية أكل أموال الناس فهو مجرم وعلى خطر، ولا حول ولا قوة إلا الله، نسأل الله العافية.

16/218- وعن أَبي هُريرةَ ، أَن رسولَ اللَّه ﷺ قال: أَتَدْرُون ما الْمُفْلِسُ؟ قالُوا: الْمُفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقيامةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وزَكَاةٍ، ويأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَذَا، وقذَف هذَا، وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسفَكَ دَم هذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فيُعْطَى هذَا مِنْ حسَنَاتِهِ، وهَذا مِن حسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه قَبْلَ أَنْ يقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرحَتْ علَيْه، ثُمَّ طُرِح في النَّارِ رواه مُسلم.

17/219- وعن أُمِّ سَلَمةَ رضي اللَّه عنها، أَن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، فأَقْضِي لَهُ بِنحْو مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

أَلْحَنَ أَيْ: أَعْلَم.

18/220- وعن ابنِ عمرَ رضي اللَّه عنهما قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: لَنْ يَزَالَ الْمُؤمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَالَمْ يُصِبْ دَمًا حَرامًا رواه البخاري.

19/221- وعن خَوْلَةَ بِنْتِ عامِرٍ الأَنْصَارِيَّةِ، وَهِيَ امْرَأَةُ حمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه وعنها، قَالَتْ: سمِعْتُ رسولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامةِ رواه البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالحذر من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وأن الواجب على المؤمن أن يتقي الله في معاملاته وفي جميع شؤونه مع إخوانه حتى لا يظلم أحدا ولا يتعدى على أحد، فإن الدماء والعدوان خطره عظيم، ولهذا تقدم قوله ﷺ: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ويقول الله في كتابه العظيم وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19]. فالواجب على المؤمن أن يحذر الظلم وما يؤدي إليه، ومن هذا أخذ أموال الناس باسم الدين أو باسم القرض وهو يريد إتلافها وإضاعتها عليهم وعدم وفائهم.

من هذا قوله ﷺ لأصحابه: ما تعدون المفلس فيكم؟ يعني من هو المفلس عندكم، قالوا: من لا درهم له ولا متاع، المفلس الذي ما عنده شيء، ما عنده أمتعة ولا عنده نقود هذا المفلس، قال ﷺ: لكن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصوم وزكاة يعني يأتي بأعمال جيدة فيأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وقذف هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا يعني عنده مظالم يأتي وعنده مظالم متنوعة، فيعطى كل واحد من حسناته يعطى هذا من حسناته ويعطى هذا من حسناته لأنه مات وما أعطاهم حقوقهم، توفي وما أعطاهم حقوقهم فيعطون يوم القيامة من حسناته فإذا فنيت حسناته ولم يقض ما عليه، أخذ من سيئاتهم فحمل عليه، ثم طرح في النار نعوذ بالله هذا هو المفلس الذي تذهب أعماله لغيره تذهب حسناته للمظلومين.

وفي الحديث الثاني يقول ﷺ: إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض يعني أقوى وأبلغ في الخصومة فيلتبس الأمر ويكون له الحكم لبلاغته وفصاحته واجتهاده في باطله، والآخر يكون عنده ضعف وإعياء فيغلب، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها يعني إذا حكم الحاكم للخصم بشيء ليس بحق له، فإنه لا يحل له حكم الحاكم إذا كان يعلم أنه مبطل وشهوده زور، أو أنه متعد في هذه الدعوى فإن الإثم عليه عظيم، وإنما يحمل عليه قطعة من النار، فإن بعض الخصوم قد لا يعرف، يدعي وقد لا يعرف، يدافع عن نفسه، فليتق الله الخصم وليحذر أن يأخذ شيئا بغير حقه من أجل شهود زور، أو من أجل ضعف المدعى عليه وخوره وعدم استطاعته الدفاع عن نفسه، فالأمر خطير، فالواجب الحذر من حق الناس ودمائهم وأموالهم.

وفي حديث ابن عمر يقول النبي ﷺ: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دما حراما يعني المسلم في رجاء عظيم وخير ما لم يصب دما حراما، يعني ما لم يتعدى بظلم الناس في دمائهم، فينبغي الحذر من حقوق الناس مالية أو بدنية، ليحذر حقوق الناس، وليتق الله في الدنيا، يقول النبي ﷺ: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه إذا أخذها بنية طيبة أدى الله عنه وأعانه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله والعياذ بالله، فالمسلم يحذر ظلم إخوانه بأي حيلة، ليحذر ظلمهم، وليتق الله في إيصال حقوقهم إليهم.

كذلك حديث خولة تقول أنها سمعت النبي ﷺ يقول: إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة يعني ناسا يتصرفون في الأموال بغير حق في المعاصي وظلم الناس في المسكرات، في الربا، في الخيانة، فيما يغضب الله لهم النار يوم القيامة، يعني يتصرفون في الأموال تصرفات غير شرعية فيستحقون بهذا النار يوم القيامة، فالواجب على من لديه مال أن يتقي الله في تصريفه، وأن يصرفه في الوجوه المباحة والشرعية حتى لا يكون شرا عليه يوم القيامة، نسأل الله العافية. وفق الله الجميع.

27- باب تعظيم حُرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم

قَالَ الله تَعَالَى: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]، وَقالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وَقالَ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، وَقالَ تَعَالَى: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].

1/222- وعن أَبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: الْمُؤْمنُ للْمُؤْمِن كَالْبُنْيَانِ يَشدُّ بعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِه. متفق عليه.

2/223- وعنه قال: قال رسول اللَّه ﷺ: مَن مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، ومَعَه نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ لِيَقْبِضْ عَلَى نِصالِهَا بِكفِّهِ أَنْ يُصِيب أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ مُتَّفَقٌ عليه.

3/224- وعن النُّعْمَانِ بنِ بشِيرٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعَى لهُ سائِرُ الْجسدِ بالسهَرِ والْحُمَّى متفقٌ عليه.

الشيخ: هذه الآيات والأحاديث في بيان وجوب تعظيم حرمات المسلمين والحذر من إيذائهم وظلمهم، والحث على أداء حقوقهم والتعاون معهم على البر والتقوى والتواصي بالحق كما قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، والله جل وعلا يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

فالمؤمن أخو المؤمن يعينه على الخير ويثبطه عن الشر، ينصح له إن شهد أو غاب، يوصيه بالخير ويكره له الشر، هكذا المؤمن دائما يحب لأخيه الخير ويكره له الشر، يقول ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه، ويقول ﷺ: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى فالواجب على المؤمنين التراحم والتعاطف والتعاون على الخير، والحذر من كل ما يؤذي المؤمن في نفسه أو ماله أو عرضه أو أهله لأن الله جل وعلا قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، وقال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] فالواجب على المؤمن أن ينصح لأخيه وأن يعطف عليه لأنه وليه وأخوه. وفق الله الجميع.

4/225- وعن أَبي هُريْرَةَ قَالَ: قبَّل النَّبِيُّ ﷺ الْحسنَ بن عَليٍّ رضي اللَّه عنهما، وَعِنْدَهُ الأَقْرعُ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشرةً مِنَ الْولَدِ مَا قَبَّلتُ مِنْهُمْ أَحدًا فنَظَر إِلَيْهِ رسولُ اللَّه ﷺ فقَالَ: مَن لا يَرْحمْ لاَ يُرْحَمْ متفقٌ عَلَيهِ.

5/226- وعن عائشةَ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: قدِم ناسٌ مِن الأَعْرابِ عَلَى رسولِ اللَّه ﷺ، فقالوا: أَتُقبِّلونَ صِبيْانَكُمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ قالوا: لَكِنَّا واللَّه مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَوَ أَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّه نَزعَ مِنْ قُلُوبِكُمْ الرَّحمَةَ متفقٌ عَلَيْهِ.

6/227- وعن جريرِ بنِ عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه ﷺ: مَنْ لاَ يرْحَم النَّاس لاَ يرْحمْهُ اللَّه متفقٌ عَلَيهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على رحمة المسلمين والإحسان إليهم، ونصيحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومواساة فقيرهم ونصر مظلومهم وردع ظالمهم إلى غير ذلك، هكذا المسلمون يتواصون بالحق ويتناصحون ويتعاونون على البر والتقوى، ويرحم غنيهم فقيرهم، ويرحم القوي المنكسر الذي لا يملك نصر نفسه، فيعينه إلى غير ذلك، هكذا المسلمون، ومن ذلك العطف على الأولاد والإحسان إليهم وتربيتهم على التربية الشرعية، من هذا أنه ﷺ قبل بعض الصبيان وكان عنده الأقرع بن حابس والأقرع بن حابس من رؤساء بني تميم من شيوخ بني تميم فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فقال النبي ﷺ: من لا يرحم لا يرحم.

وفي الحديث الآخر أن ناسا من الأعراب سألوا النبي ﷺ: أتقبلون صبيانكم؟ قال النبي ﷺ: نعم، قالوا: ما كنا نقبل صبياننا، قال ﷺ: أو أملك أن نزع الله من قلوبكم الرحمة؟!.

وفي حديث جرير يقول ﷺ: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، وفي الحديث الآخر: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. والله يقول سبحانه: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] فالمشروع للمؤمن والمرغب فيه أن يكون لطيفا رحيما، صناعا للمعروف، عطوفا على الضعفاء، رحيما بالفقراء، هكذا المؤمن، يقول سبحانه وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] الولي يرحم موليه، يعطف عليه ويحسن إليه ضد العدو، الأولياء هم الأحباء المتناصرون المتعاونون هم الأولياء بخلاف الأعداء، ويقول جل وعلا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وقال رجل يا رسول الله: من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك ثم الأقرب فالأقرب فيعطف على أقاربه ويعطف على المسلمين، يعطف على جيرانه، يعطف على فقراء المسلمين حسب طاقته بالمال والنفس والشفاعة والتعليم والتوجيه الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من وجوه الخير، هكذا المؤمن مع المؤمنين، وهكذا المؤمنة مع المؤمنين والمؤمنات. وفق الله الجميع.

7/228- وعن أَبي هُريرةَ ، أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: إِذا صَلَّى أَحدُكُمْ للنَّاسِ فلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسقيمَ والْكَبِيرَ، وإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيطَوِّل مَا شَاءَ متفقٌ عَلَيهِ.

وفي روايةٍ: وذَا الْحاجَةِ.

8/229- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قَالَتْ: "إِنْ كَان رسولُ اللَّه ﷺ لَيدعُ الْعَمَلَ، وهُوَ يحِبُّ أَنَ يَعْملَ بِهِ، خَشْيةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ" متفقٌ عَلَيهِ.

9/230-وعنْهَا رضي اللَّه عنها قالَتْ: نَهَاهُمْ النَّبِيُّ ﷺ عَن الْوِصال رَحْمةً لهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُواصلُ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُني رَبِّي ويَسْقِيني متفقٌ عَلَيهِ.

مَعناهُ: يجعَلُ فيَّ قُوَّةَ مَنْ أَكَلَ وَشَرَبَ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على رحمة المسلمين والرفق بهم، والعناية بأسباب راحتهم والحذر من المشقة عليهم وظلمهم والعدوان عليهم، وأن المسلمين جسد واحد وبناء واحد، يجب أن يتراحموا وأن يتعاطفوا وأن يحسن بعضهم إلى بعض، وأن يبتعد كل واحد عن مشقة أخيه أو إيذاء أخيه أو ظلم أخيه، ومن هذا قول النبي ﷺ: إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء الله هذا فيه عنايته ﷺ برحمة الناس والرفق بهم، وأن الإمام يراعي حال المأمومين فلا يطول على الضعيف وكبير السن والمريض، تكون صلاته معتدلة تأسيا بالنبي ﷺ، وهكذا في التراويح في رمضان والقيام يراعي أحوال المأمومين، أما إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء الله.

وتقول عائشة رضي الله عنها: «إنه ﷺ كان ربما ترك العمل يحب أن يعمل به مخافة أن يفرض عليهم» كما فعل في صلاة الليل في رمضان، صلى بهم ثلاث ليال ثم ترك، وقال: إني أخاف أن تفرض عليكم صلاة الليل، فلما توفي ﷺ وجاءت خلافة عمر جمع الناس على إمام واحد يصلي بهم في التراويح في رمضان، فالمؤمن يراعي -ولاسيما ولي الأمر والمسؤول عن أهل البيت أو عن القبيلة أو عن جماعة في عمل خاص- يراعي الرفق، يراعي الرفق بهم، رحمتهم وعدم المشقة عليهم.

ولما واصل ﷺ في رمضان أحب بعض الصحابة أن يواصلوا فنهاهم عن الوصال وقال: لست مثلكم، إني أطعم وأسقى يعني أن الله جل وعلا يجعل فيه من القوة ما يعينه على الوصال، مما يجعل في نفسه من قوة الآكل الشارب مما يفتح الله عليه من مواد الأنس ونفحات القدس والتلذذ بالطاعة، فنهاهم عن الوصال لئلا يشق عليهم، والوصال كونه يصوم اليومين والثلاثة ما يفطر في الليل، يصوم الليل والنهار، هذا الوصال يعني لا يأكل في الليل شيئا كالنهار هذا منهي عنه، لا ينبغي مكروه، السنة الإفطار، إذا غابت الشمس يفطر، فإن واصل إلى السحر فلا بأس، أما أن يواصل النهار مع النهار ويصوم الليل مع ذلك فهذا نهاهم النبي ﷺ عن ذلك رحمة لهم ودفعا للمشقة، فلا ينبغي للشخص أو للمسؤول أن يتساهل في هذا الأمر ويقول: إنه لا يشق علي، بل ينبغي الأخذ بالسنة وتحري السنة والإفطار عند غروب الشمس حذرا من المشقة، فإذا دعت الحاجة إلى الوصال فلا مانع أن يكون عشاؤه سحورا. وفق الله الجميع.

13/234- وعن أَبي هريرةَ قَالَ: قالَ رسول اللَّه ﷺ: المُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم لاَ يخُونُه وَلاَ يكْذِبُهُ وَلاَ يخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حرامٌ عِرْضُهُ ومالُه ودمُهُ التَّقْوَى هَاهُنا، بِحسْبِ امْرِئ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخاهُ المُسْلِم رواه الترمذيُّ، وَقالَ: حديث حسن.

14/235- وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لا تَحاسدُوا وَلاَ تناجشُوا وَلاَ تَباغَضُوا وَلاَ تَدابرُوا وَلاَ يبِعْ بعْضُكُمْ عَلَى بيْعِ بعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللَّه إِخْوانًا، المُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم لاَ يَظلِمُه وَلا يَحْقِرُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ، التَّقْوَى هَاهُنا ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مرَّاتٍ بِحسْبِ امْرِئ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِر أَخاهُ المُسْلِمَ، كُلَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حرامٌ دمُهُ ومالُهُ وعِرْضُهُ رواه مسلم.

النَّجَش أَنْ يزِيدَ فِي ثَمنِ سلْعةٍ يُنَادِي عَلَيْهَا فِي السُّوقِ ونحْوهِ، وَلاَ رَغْبةَ لَه فِي شِرائهَا بَلْ يقْصِد أَنْ يَغُرَّ غَيْرهُ، وهَذا حرامٌ. والتَّدابُرُ: أَنْ يُعرِض عنِ الإِنْسانِ ويهْجُرَهُ ويجعلَهُ كَالشَّيءِ الَّذِي وراءَ الظهْر والدُّبُرِ.

15/236- وعن أَنسٍ عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ متفقٌ عليه.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في وجوب احترام المسلمين والإحسان إليهم وكف الأذى عنهم، فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يكذبه ولا يخذله كما قاله النبي ﷺ، وقال: لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض لأن هذه تكسب الشحناء، هذه المعاملات تسبب الشحناء والعداوة التحاسد والتناجش، التناجش كونه يزيد في السلعة وهو ما يريد شراءه، يزيد في الثمن وهو لا يريد الشراء، ولكن يريد مضرة المشتري أو منفعة البائع، فليس له قصد في الشراء، ولا تباغضوا يعني لا تعاطوا أسباب البغضاء من الغيبة والنميمة والشتم والإيذاء مما يسبب البغضاء، ولا تدابروا يعني لا يدبر بعضكم عن بعض في التهاجر، ولكن يسلم بعضكم على بعض ويأنس بعضكم ببعض إلا من استحق الهجر لإظهاره المعاصي، ولا يبع بعضكم على بيع بعض لأن بيع البعض على البعض يسبب الشحناء أيضًا، ومثال ذلك أن ترى إنسانا باع سلعة على آخر مثلا بمئة تقول له: أعطيك مثلها بتسعين، تقول للمشتري: أعطيك مثلها بتسعين أو أحسن منها حتى يهون وتبيع على بيع أخيك، هذا يسبب الشحناء والعداوة ...، وهكذا الشراء على شرائه، كونه يبيعها بمئة ثم تجي للبائع تقول له أشتريها بأكثر حتى يهون عن بيعها للأول، كل هذا لا يجوز لأن هذا يسبب الشحناء والعداوة، ولهذا قال بعده: وكونوا عباد الله إخوانا يعني كونوا متحابين متباعدين عن أسباب الشحناء والعداوة والبغضاء، المسلم أخو المسلم لا يظلمه لا في نفسه ولا في ماله ولا في عرضه، ولا يخذله حيث يحتاج للنصرة لا يخذله، ولا يكذبه يخبره بالكذب، ولا يحقره يتعاظم عليه ويتكبر عليه، بل الواجب عليه أن يعرف له قدره، وأن ينصفه من نفسه، ولهذا قال بعده: التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره يعني التقوى في القلب، متى استقام القلب انقادت الجوارح للخير، متى استقام القلب على الخير واستقر فيه الإيمان والتقوى انقادت الجوارح واستقامت الجوارح.

بحسب امرئ من الشر يعني يكفيه من الشر أن يحقر أخاه المسلم، لأن احتقاره لأخيه شر كبير، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه فالواجب على المسلمين التباعد عن هذه الخصال الذميمة، والحرص على الإخوة الإيمانية، والمحبة والتعاون على البر والتقوى، والتناصح والتواصي بالحق، هكذا المؤمنون، ولهذا يقول ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لا يؤمن يعني الإيمان الواجب الكامل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ما هو معناه أنه يكون كافرا، معناه ناقص الإيمان لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه فالمؤمن ليس بغشاش ولا خائن، بل يحب لأخيه الخير كما يحب لنفسه، يحب لأخيه أن يكون ذا علم، ذا بصيرة، ذا غنى عن غيره، ذا سمت حسن، ذا خلق حسن، ذا سمعة طيبة، يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه هذا من كمال الإيمان ومن تمام الإيمان، مثل قوله ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين يعني من كمال المحبة، كمال الإيمان أن يكون الرسول أحب إليك من نفسك ومالك ومن الناس أجمعين، وفق الله الجميع.

16/237- وعن أنس قال: قال رسول اللَّه ﷺ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّه أَنْصرهُ إِذَا كَانَ مَظلُومًا أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذلِك نَصْرُهْ رواه البخاري.

17/238- وعن أَبي هريرة أَنَّ رسول الَّه ﷺ قَالَ: حقُّ الْمُسْلمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خمسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمرِيضَ، واتِّبَاعُ الْجنَائِزِ، وإِجابة الدَّعوةِ، وتَشمِيت العْاطِسِ مُتَّفَقٌ عليه.

وفي رواية لمسلمٍ: حق الْمُسْلمِ سِتٌّ: إِذا لقِيتَهُ فسلِّم عليْهِ، وإِذَا دَعاكَ فَأَجبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصحْ لهُ، وإِذا عطَس فحمِد اللَّه فَشَمِّتْهُ. وَإِذَا مرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا ماتَ فاتْبعهُ.

18/239- وعن أَبي عُمارة الْبراءِ بنِ عازبٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: "أَمرنا رسولُ اللَّه ﷺ بِسبْعٍ: أَمرنَا بِعِيادة الْمرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجنازةِ، وتَشْمِيتِ الْعاطِس، وَإِبْرارِ الْمُقْسِمِ، ونَصْرِ المظْلُومِ، وَإِجابَةِ الدَّاعِي، وإِفْشاءِ السَّلامِ. وَنَهانَا عَنْ خواتِيمَ أَوْ تَختُّمٍ بالذَّهبِ، وَعنْ شُرْبٍ بالفَضَّةِ، وعَنِ المياثِرِ الحُمْرِ، وَعَنِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ". مُتَّفَقٌ عليه.

وفي روايةٍ: وإِنْشَادِ الضَّالةِ فِي السَّبْعِ الأُولِ.

"المياثِرِ" بيَاء مُثَنَّاةٍ قبْلَ الأَلِفِ، وَثَاء مُثَلَّثَة بعْدَهَا، وَهِيَ جمْعُ مَيْثِرةٍ، وَهِي شَيْءٌ يتَّخَذُ مِنْ حرِيرٍ وَيُحْشَى قُطْنًا أَوْ غَيْرَهُ ويُجْعلُ فِي السُّرُجِ وكُورِ الْبعِيرِ يجْلِسُ عَلَيْهِ الرَّاكِبُ. "والقَسيُّ" بفتحِ القاف وكسر السينِ المهملة المشدَّدةِ: وَهِيَ ثِيَابٌ تُنْسَجُ مِنْ حَرِيرٍ وكَتَّانٍ مُخْتَلِطَيْنِ. "وإِنْشَادُ الضَّالَّةِ": تَعرْيفُهَا.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على احترام حقوق المسلمين، والتعاون على الخير، والتواصي بالحق والصبر عليه، ورحمة الفقير والإحسان إليه، ونصر المظلوم وردع الظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير هذا من وجوه الخير، هكذا بين المسلمين يكون بينهم التعاطف والتراحم، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والنصر للمظلوم وردع الظالم، وإفشاء السلام، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، وإجابة الداعي، إلى غير هذا من حقوق المسلمين، بعضهم على بعض.

يقول ﷺ: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ يعني استغربوا كيف نصر الظالم؟ فقال النبي ﷺ: نصر الظالم منعه من الظلم حجزه عن الظلم، هذا نصرة المظلوم، ينصر ويعان على أخذ ظلامته، والظالم يمنع، نصره المنع، منعه والأخذ على يديه.

والحديث الآخر أنه ﷺ أخبرهم بحق الطريق وبحق المسلم على أخيه، يعود المريض، ويتبع الجنازة إذا مات، ويشمته إذا عطس وحمد الله، ويعوده إذا مرض، كل هذا من حق المسلم على أخيه، ورد السلام عليه، وفي اللفظ الآخر: للمسلم على المسلم ست خصال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس وحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه كل هذه من حق المسلم على أخيه، من حقه عليه رد السلام، يبدأ وإن بدأ رد السلام، كذلك يعوده إذا مرض، يتبع الجنازة إذا مات، ينصحه ولا يغشه في المعاملة، بل ينصح له، وإذا استنصحه تأكد النصح، وفي المعاملات ينصح ولا يغش، ولا يخون الأمانة، هكذا المؤمن.

وفي حديث البراء أن الرسول ﷺ أمرهم بسبع خصال ونهاهم عن سبع خصال، هي داخلة أكثرها فيما تقدم، أمرهم بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس إذا حمد الله، وإبرار القسم إذا أقسم عليك أخوك يقول: والله تشرب قهوتي تبرر قسمته إذا استطعت، تقدر حلفه، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، كل هذه أمور مأمور بها حسب الطاقة، إذا تيسر للمؤمن يجيب الدعوة.

ونهى عن سبع: عن التختم بالذهب للرجال، وعن الشرب في الفضة، وفي الذهب من باب أولى، يقول ﷺ: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحفاهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة، ويقول ﷺ: الذي يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. وعن المياثر الحمر، المياثر شيء يوضع في الشداد يركب عليه الراكب من الحرير، وعن لبس الحرير والاستبرق والديباج أنواع الحرير، الاستبرق نوع من الحرير، والديباج نوع من الحرير، هذا كله محرم على الرجال لكنه مباح على النساء، الذهب تجعله في يديها وفي حلقها، الحلي والفضة كذلك لبس الحرير بأنواعه مباح للنساء خاصة أما الرجال لا، في الحرير يقول ﷺ: أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورهم، ويقول حذيفة : «نهانا رسول الله ﷺ عن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه» فالرجل يمنع من لبسه والجلوس عليه جميعا إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة، إذا احتاج إلى ذلك لا بأس أن يأخذ قطعة للحاجة قدر أصبعين أو ثلاثة أو أربعة، إما يرقع بها ثوب أو زرار، يتخذ منها زرار أو ما أشبهه أو علامة الشيء القليل من الحرير. وفق الله الجميع.

28- باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة

قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور:19].

1/240-وعن أَبي هريرة عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: لاَ يسْتُرُ عَبْدٌ عبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرهُ اللَّه يَوْمَ الْقيامَةِ رواه مسلم.

2/241-وعنه قَالَ: سمِعت رَسُولَ اللَّه ﷺ يقول: كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ المُجاهرينَ، وإِنَّ مِن المُجاهرةِ أَن يعمَلَ الرَّجُلُ بالليلِ عمَلًا، ثُمَّ يُصْبحَ وَقَدْ سَتَرهُ اللَّه عَلَيْهِ فَيقُولُ: يَا فلانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْترهُ ربُّهُ، ويُصْبحُ يَكْشفُ سِتْرَ اللَّه مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

3/242-وعنه عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: إِذَا زَنَتِ الأَمةُ فَتبينَ زِناهَا فَليجلدْها الحدَّ، وَلا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّانية فَلْيجلدْها الحدَّ وَلا يُثرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنتِ الثَّالثةَ فَلْيبعَها ولوْ بِحبْلٍ مِنْ شعرٍ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

التَّثْرِيبُ: التَّوْبيخُ.

4/243-وعنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِرجلٍ قَدْ شرِب خَمْرًا قَالَ: اضْربُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرةَ: فمِنَّا الضَّارِبُ بِيدهِ والضَارِبُ بِنَعْله، والضَّارِبُ بِثوبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال بعْضُ الْقَومِ: أَخْزاكَ اللَّه، قَالَ: لا تقُولُوا هَكَذا، لا تُعِينُوا عليه الشَّيْطان رواه البخاري.

الشيخ: في هذه الآية الكريمة والأحاديث المذكورة وغيرها دلالة على وجوب الستر على المسلمين وعدم إظهار الشرور والفاحشة التي قد تقع من بعضهم، فإن ذلك من باب إشاعة الشر، ومن باب إظهار السوء على المسلمين، فإنهم الواحد منهم غير معصومين، كل واحد له خطر وعلى خطر فليس بمعصوم، فالواجب الستر على المسلمين وعدم إظهار عيوبهم؛ لأن هذا يسر أعداءهم ويسبب أيضا ظهور الفحشاء بين الناس، ويتأسى بعضهم ببعض، والستر فيه شر على المسلمين ،وفي غيظ الأعداء، وفي سد باب الشر، ولهذا يقول جل وعلا في سورة النور إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور:19] هذا وعيد عظيم، كونه إذا وقع من إنسان أو من امرأة إشاعة زنا، فلان أو زنت فلانة، بل الواجب متى ثبت ذلك يقام الحد من غير إشاعة ذلك يقام الحد على من أصابه ذلك، ولا يحتاج إلى إشاعة، بل الواجب إقامة الحد إذا ثبت ذلك بالبينة الشرعية وبالإقرار الشرعي، ولهذا يقول ﷺ: لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله في الآخرة، وفي اللفظ الآخر: من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة فالستر مطلوب والنصيحة والتوجيه والإرشاد، فإذا كان ولا بد وثبتت المعصية بالبينة الشرعية أقيم حدها من غير حاجة إلى إشاعتها بين الناس؛ لأن إشاعتها فتح للأبواب وجر للناس إليها ودعوة إليها، فيتأسى بعض الناس ببعض، وفيه أيضا فرحة للأعداء، فإن الأعداء يسرهم ما يقع بين المسلمين من الشر، وما يظهر بينهم من الشر الذي يسبب الفرقة والاختلاف.

ويقول عليه الصلاة والسلام: كل أمتي معافى إلا المجاهرين يعني كلهم من أهل العافية والستر إلا من جاهر فقد ترك العافية، يعني: المجاهرين المجاهر بالمعاصي ليس من أهل العافية بل هو فضح نفسه ودعا إلى أن يشمت به الأعداء ويتحدثون به في كل مكان، والله قد شرع له التستر والحذر، فإذا كان هناك معصية فالواجب الستر وعدم إظهارها حتى يتوب الله عليه، حتى ينزع من ذلك، وإن من الإجهار أن يفعل الإنسان العمل بالليل معصية ثم يصبح وقد ستره الله فيتحدث ويقول: يا فلان فعلت البارحة كذا، فعلت كذا، شربت الخمر، زنيت بفلانة، فعلت كذا، نسأل الله العافية، فيبيت وقد ستره الله ثم يصبح يفضح نفسه ويعلن معصيته، وهذا من الشر العظيم، ومن طاعة الشيطان، ومن الإجهار بالمعصية، ومن أسباب عدم العافية وألا يوفق، نسأل الله العافية.

وهكذا يقول ﷺ: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها يعني لا يعيرها في المجالس، يفضحها في المجالس، فلانة فعلت وفعلت لا، يكفي إقامة الحد أما تعييرها والتثريب عليها أمر لا ينبغي، يكفي إقامة الحد والنصيحة في المرة الأولى والثانية والثالثة، وفي لفظ: والرابعة فليبعها ولو بحبل من شعر، وفي لفظ: في الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر يعني لما استمرت في المعصية دل على أنها شريرة فليبعها ولو برخص، وهذا يدل على أنه يعلم المشتري ما تباع برخص إلا إذا علم المشتري حالها فإنه لا يشتريها إلا برخص، يبيعها ولو بثمن قليل، ولعله تصلح عند السيد الثاني، لعل السيد الثاني يكون أقوى وأهيب فيؤدبها ويقوم عليها فربما صلحت عنده.

كذلك حديث أن النبي ﷺ أتي بشارب خمر فضربه هذا بثوبه، وهذا بيده، وهذا بعصاه، فقال رجل: أخزاه الله، وفي لفظ: لعنه الله، فقال: لا تعينوا الشيطان على أخيكم، وفي لفظ: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله، هذا يفيد أن الرجل إذا جيء به قد فعل ما يوجب الحد فإنه يقام عليه الحد ولا حاجة إلى إشهاره بين الناس أو لعنه، ولكن يدعى له بالهداية، يدعى له بالتوبة ويستر عليه ولا يفضح، من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية.

29- باب قضاء حوائج المسلمين

قَالَ الله تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].

1/244- وعن ابن عمرَ رضي اللَّهُ عنهما أَن رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: المسلمُ أَخو المسلم لا يَظلِمُه ولا يُسْلِمُهُ، ومَنْ كَانَ فِي حاجةِ أَخِيهِ كانَ اللَّهُ فِي حاجتِهِ، ومنْ فَرَّجَ عنْ مُسلمٍ كُرْبةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بها كُرْبةً مِنْ كُرَبِ يومَ القيامةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ الْقِيامَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

2/245- وعن أَبي هريرة ، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ نَفَّس عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبة منْ كُرب الدُّنْيا، نفَّس اللَّه عنْه كُرْبة منْ كُرَب يومِ الْقِيامَةِ، ومنْ يسَّرَ عَلَى مُعْسرٍ يسَّرَ اللَّه عليْه في الدُّنْيَا والآخِرةِ، ومنْ سَتَر مُسْلِمًا سَترهُ اللَّه فِي الدنْيا وَالآخِرَةِ، واللَّه فِي عوْنِ العبْد مَا كانَ العبْدُ في عوْن أَخيهِ، ومنْ سَلَكَ طَريقًا يلْتَمسُ فيهِ عِلْمًا سهَّل اللَّه لهُ به طَريقًا إِلَى الجنَّة، وَمَا اجْتَمَعَ قوْمٌ فِي بيْتٍ منْ بُيُوتِ اللَّه تعالَى، يتْلُون كِتَابَ اللَّه، ويَتَدارسُونهُ بيْنَهُمْ إلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمةُ، وحفَّتْهُمُ الملائكَةُ، وذكَرهُمُ اللَّه فيمَنْ عِندَهُ، ومنْ بَطَّأَ بِهِ عَملُهُ لمْ يُسرعْ به نَسَبُهُ رواه مسلم.

الشيخ: هذه الآية الكريمة والحديثان في فضل قضاء حاجات المسلمين، وأن المؤمن يستحب له أن يقضي حاجات إخوانه حسب طاقته في أمور الدين والدنيا، في أمور دنياهم ودينهم لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، ومن التواصي بالخير، قال تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].

فالمؤمن يجتهد في فعل الخير العاجل والآجل، ويتعاون مع إخوانه في كل خير يرجو ثواب الله ويخشى عقاب الله، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه معنى لا يسلمه أي لا يخذله، لا يظلمه في نفس ولا في مال ولا في عرض، ولا يسلمه يعني لا يخذله، يعني لا يسلمه لخصومه وأعدائه بل ينصره ويحميه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته حاجة أخيه في قضاء دين، في سقي مزرعة، في سقي مواشٍ، في علاج مريض، في قضاء دين إلى غير هذا من وجوه الخير، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته الجزاء من جنس العمل هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، ومن فرج عن مسلم كربة فرح الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة، وفي حديث أبي هريرة: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وهذا من جوامع الكلم، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه هذا من جوامع الكلم.

يقول ﷺ: لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يكذبه ولا يخذله، التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، ويقول ﷺ: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة فإذا أنت على طرق الجنة، طرق العلم بالكتب، بالتفقيه والتوجيه، بمساعدة بمال، أنت على خير، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يعني في مسجد من مساجد الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده فضل عظيم إذا اجتمعوا للدراسة والمذاكرة، لهم هذا الفضل العظيم، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه من تأخر به العمل ما نفعه النسب ولو كان من أولاد الأنبياء، ما ينفع الأنساب ما تغني شيء، قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] فالعبرة بالعمل، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، فليست المفاضلة بالأنساب ولا بالأموال ولكنها بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ولهذا يقول ﷺ: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده عجما أو عربا، جنا أو إنسا، هذا الفضل العظيم، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه من تأخر به العمل لم يسرع به النسب، من تأخر به العمل ما نفعه النسب، أبو لهب وأبو طالب من أهل النار وهما عما النبي ﷺ، وبلال وعمار بن ياسر وأشباههم من الموالي، من أفضل الناس، ومن خير الناس، وقد رأى النبي ﷺ وقد شهد لبلال بالجنة عليه الصلاة والسلام، وعمار من أفضل الناس قتل شهيدا، فالمقصود أن التفضيل والدرجات وكثرة الحسنات ورفع الدرجات كله من أسباب الأعمال الصالحة والتقوى لله، لا بالأنساب والأموال، وفق الله الجميع.

30- باب الشفاعة

قَالَ الله تَعَالَى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85].

1/246- وعن أَبي موسى الأَشعري قَالَ: كَانَ النَّبيّ ﷺ إِذَا أَتَاهُ طالِبُ حاجةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلسائِهِ فَقَالَ: اشْفَعُوا تُؤجَرُوا ويَقْضِي اللَّه عَلَى لِسان نَبِيِّهِ مَا أَحبَّ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وفي رواية: مَا شَاءَ.

2/247- وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قِصَّة برِيرَةَ وزَوْجِها. قَالَ: قَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: لَوْ راجَعْتِهِ؟ قَالتَ: يَا رَسُولَ اللَّه تأْمُرُنِي؟ قَالَ: إِنَّما أَشفعُ قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ. رواه البخاري.

الشيخ: هذه الآية الكريمة والحديثان الشريفان كلها تدل على فضل الشفاعة في الخير، وأنه يستحب للمؤمن أن يشفع لأخيه في الخير، يشفع له في قضاء دينه، يشفع له في دفع الظلامة عنه، مظلوم حتى يردع الظالم عنه، يشفع له في إنظاره إن كان معسرا، يشفع له في الزواج من امرأة صالحة وما أشبه ذلك، يشفع له في الخير، في المعروف، كل هذا أمر مطلوب، ولهذا يقول جل وعلا: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85] أما في الشر لا، لا يشفع في الشر لكن يشفع في الخير، ومعنى يشفع يعني يطلب، من يقدر أن يفعل كذا هذه الشفاعة، تقول لمن له الدين: يا أخي جزاك الله خيرا أمهل هذا المعسر، أنظره أو سامحه جزاك الله خيرا، أو تقول للظالم: اتق الله دعه، إياك والظلم، لا تظلم أخاك، أو تشفع له عند ولي المرأة أن يزوجه امرأة صالحة أو ما أشبه ذلك من الخير.

ومن هذا يقول ﷺ: اشفعوا تؤجروا كان إذا جاءه طالب حاجة قال لجلسائه: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب، وفي اللفظ الآخر: ما شاء، جاء إنسان للسلطان يقول له: أنا كذا وأنا كذا، أنا مظلوم وأنت تعرف الحقيقة، تشفع له عند السلطان تقول: هذا مظلوم، الواجب نصره، فقير تشفع له أن يجعله له راتبا، يساعد عند السلطان أو عند أصحاب الزكاة، جاء إلى السلطان يشفع في أن يرسل إلى قومه معلم ومرشد تقول: جزاك الله خيرا هؤلاء جماعة محتاجين ينبغي أن يرسل لهم معلمون مرشدون، يحتاجون إلى قاض يرسل لهم قاض، عندهم بدع أرسل لهم من يعلمهم ويرشدهم، بينهم مشاكل أرسل لهم من يصلح بينهم، ناس بينهم مشاكل أقارب تشفع إلى أعيانهم من يصلحها ويزيلها، تشفع إلى رئيسهم -رئيس القبيلة، رئيس الجماعة- أن يزيل هذا الشيء الذي حصل به الشر والفرقة، تشفع إلى أمير البلد غير السلطان في أمر يصلح الله به البلد وأهلها، عندهم منكرات تقدم إلى من له قدرة تنصحه وتوصيه لعله يقوم بالواجب، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الشفاعة، إنسان مسجون بغير حق تشفع في إخراجه من السجن، معسر تشفع في إخراجه لأن المعسر ما يسجن، تشفع إلى صاحب الدين أن يسامحه وما أشبه ذلك.

 في قصة بريرة كانت بريرة تحت رقيق، كانت تحت عبد فأعتقت، فجعل لها النبي ﷺ الخيار: إن شاءت بقيت عند زوجها المملوك، وإن شاءت اختارت نفسها، فاختارت نفسها، قالت: ما لي به من حاجة، لما خيرها النبي ﷺ اختارت نفسها، دل ذلك على أن المملوكة إذا أعتقت تحت عبد لها الخيار: إن شاءت بقيت معه، وإن شاءت فارقته، وكان زوجها يحبها ويسمى مغيث، وكان يحبها كثيرا، ويروى أنه كان يبكي في الأسواق من شدة وجده عليها، فشفع له، قال: يا فلانة لو أنك راجعتيه وصبرتي، قالت رضي الله عنها: يا رسول الله تأمرني أو تشفع؟ قال: أشفع ما آمر، قالت: ما لي فيه حاجة، كان عندها فقه، يعني إن كان أمرا فسمعا وطاعة، وإن كان شفاعة ما لي فيه حاجة، فهذا يدل على أن الشفاعة لا يجب قبولها ولكن يستحب قبولها، أما الأمر من النبي ﷺ الأمر يجب امتثاله، وهكذا من السلطان يجب امتثاله إذا لم يكن في معصية، إذا أمر السلطان وجب الامتثال لأنه ينظر في مصالح المسلمين إلا في المعصية فلا لا سمع ولا طاعة في المعصية، أما الشفاعة ما يجب، ما يلزم قبولها، لكن يستحب قبولها فيما ينفع المسلمين في التنفيس عن المعسر، في وضع بعض الدين، في إخراجه من السجن، في غير هذا من الأمور الجائزة، أو الطيبة المباحة، أو المستحبة، وفق الله الجميع.

س: دفع المال للشافع من أجل أن يشفع؟

ج: لا، ما يأخذ شيئا، الشافع ما يعطى مالا، يشفع من دون مال، ما يجوز، يقول النبي ﷺ: من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا يشفع بدون شيء، ولا يقبل شيئا، يشفع لله، يطلب الأجر من الله.

31-باب الإصلاح بَيْنَ الناس

قَالَ الله تَعَالَى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، وَقالَ تَعَالَى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وَقالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].

1/248-وعن أَبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: كُلُّ سُلامى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بيْن الاثْنَيْنِ صَدقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعهُ صَدقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيبةُ صدقَةٌ، وبكُلِّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

ومعنى تَعْدِلُ بَيْنَهُمَا تُصْلحُ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ.

2/249- وعن أُمِّ كُلْثُومٍ بنتِ عُقْبَةَ بن أَبي مُعَيْطٍ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: سمِعْتُ رسولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وفي رواية مسلمٍ زيادة، قَالَتْ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ في شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ النَّاسُ إِلاَّ في ثَلاثٍ، تَعْنِي: الحَرْبَ، وَالإِصْلاَحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَديثَ المَرْأَةِ زَوْجَهَ.

3/250- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قَالَتْ: سمِع رسولُ اللَّه ﷺ صَوْتَ خُصُومٍ بالْبَابِ عَالِيةٍ أَصْواتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شيءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: واللَّهِ لا أَفعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رسولُ اللَّه ﷺ فَقَالَ: أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّه لاَ يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟ فَقَالَ: أَنَا يَا رسولَ اللَّهِ، فَلهُ أَيُّ ذلِكَ أَحَبَّ. متفقٌ عليه.

معنى يَسْتَوْضِعُهُ: يَسْأَلهُ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ دينِهِ. وَيَسْتَرفقُهُ: يَسْأَلَهُ الرِّفْقَ. والْمُتأَلي: الحَالِفُ.

4/251-وعن أَبي العباس سهلِ بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ ، أَن رسولَ اللَّه ﷺ بلَغهُ أَنَّ بَني عَمْرِو بن عوْفٍ كَانَ بيْنهُمْ شَرٌّ، فَخَرَجَ رسولُ اللَّه ﷺ يُصْلِحُ بَيْنَهمْ فِي أُنَاسٍ مَعَه، فَحُبِسَ رَسُول اللَّه ﷺ وَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ بِلالٌ إِلَى أَبي بَكْرٍ رضي اللَّه عنهما فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ حُبِسَ، وَحَانَتِ الصَّلاةُ، فَهَلْ لكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاس؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَأَقَامَ بِلالٌ الصَّلاةَ، وَتقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَبَّرَ وكبَّرَ النَّاسُ، وَجَاءَ رَسُول اللَّه يمْشِي في الصُّفوفِ حتَّى قامَ في الصَّفِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ، وكَانَ أَبُو بَكْر لا يَلْتَفِتُ فِي صلاتِهِ، فَلَمَّا أَكَثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ، فَإِذَا رسولُ اللَّه ﷺ، فَأَشَار إِلَيْهِ رسولُ اللَّه ﷺ، فَرَفَعَ أَبْو بَكْر يدَهُ فَحمِد اللَّه، وَرَجَعَ القَهْقَرَى وَراءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَتَقدَّمَ رَسُول اللَّه ﷺ، فَصَلَّى للنَّاسِ، فَلَمَّا فرغَ أَقْبلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مالَكُمْ حِين نَابَكُمْ شَيْءٌ في الصَّلاَةِ أَخذْتمْ فِي التَّصْفِيقِ؟، إِنَّما التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، منْ نَابُهُ شيءٌ فِي صلاتِهِ فَلْيَقلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ؟ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمعُهُ أَحدٌ حِينَ يَقُولُ: سُبْحانَ اللَّهِ، إِلاَّ الْتَفَتَ. يَا أَبَا بَكْرٍ: مَا منعَك أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ حِينَ أَشرْتُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ أَبُو بكْر: مَا كَانَ ينبَغِي لابْنِ أَبي قُحافَةَ أَنْ يُصلِّيَ بِالنَّاسِ بَيْنَ يَدَيْ رسولِ اللَّه ﷺ. متفقٌ عَلَيهِ.

معنى حُبِس: أَمْسكُوهُ لِيُضيِّفُوه.

الشيخ: هذه الآيات الكريمات والأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالصلح، والصلح جائز بين المسلمين وفيه خير كثير ومصالح جمة؛ لأن بالصلح تجتمع القلوب ويزول التنافر والشحناء، وتعود الألفة والمحبة، فالصلح فيه خير كثير، ولهذا ندب الله إليه، وندب إليه رسوله عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال سبحانه: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، وقال جل وعلا: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] فالصلح فيه خير كثير ومصالح جمة، قال سبحانه: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114].

وفي الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: كل سلامى من الناس عليه صدقة فالسلامى المفصل، والإنسان خلق على ثلاثمائة وستين مفصلا كما في الصحيح عن عائشة رضي عنها أن النبي قال: إن ابن آدم خلق على ثلاثمائة وستين مفصلا، فإذا سبح الله وحمد الله وكبر الله وهلل الله واستغفر الله وعزل حجرا عن الطريق أو شوكة بعدد تلك السلاميات أصبح قد زحزح نفسه عن النار في هذا، كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تعدل فيه بين اثنين أو ترفع لأخيك متاعه يكون صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، وهكذا التسبيح والتهليل والتحميد صدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها صدقات، والشاهد قوله: تعدل بين اثنين يعني تصلح بينهما صدقة، يعني تشير عليهما بالعدل، وتوفق بينهما بالعدل حتى يصطلحا.

والحديث الثاني: حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أنها سمعت النبي ﷺ يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينمي خيرا ليس بكذاب المصلح بين الناس محسن، قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وفي حديث الرجل امرأته والمرأة زوجها.

لا بأس أن يكذب في الحرب لمصلحة الحرب، خدعة من غير أن يغدر بعهد، من غير نقض عهد ولا غدر لكن كذبا ينفع الأمة، مثل إنسان حاصر قوما قد تحصنوا ولم يتيسر القدرة على قتالهم، فيقول للجيش: إنا قافلون حتى يخرج هؤلاء من حصونهم، فإذا قفلوا ومشوا على مهل مسافة رجعوا إلى العدو فقاتلوه بعد خروجه من حصونه، وما أشبه ذلك من الكذب الذي ليس فيه نقض عهد ولا غدر، وهكذا الإصلاح بين الناس، الكذب فيه لا بأس.

مثل قبيلتان بينهما خصومة فيصلح بينهما، فيأتي هذه القبيلة ويقول: جماعتكم يحبون لكم الخير، ويحبون الصلح معكم، ويدعون لكم بالتوفيق، ولا يكرهون أن يتم الصلح بينكم، وأنا واسطة بينكم وبينهم، وهم لا وسطوه ولا قالوا له شيئا، لكن أراد الخير، ثم يأتي هؤلاء ويقول كذلك حتى يجمع بينهم، حتى يوفق بينهم ويصلح بينهم، ويكذب كذبا لا يضر أحدا، كذبا ينفع ولا يضر، كل واحدة يقول لها: جماعتكم يحبون لكم الخير ويحبون أن يصطلحوا معكم، ويحبون لكم كل خير، ويدعون لكم، ويقولون: إننا نحب الصلح مع إخواننا، وهكذا حتى يقرب بينهم، أو بين جماعتين أهل بيتين أو حمولتين أو شخصين كل هذا خير يصلح بينهم، وهكذا المرأة مع زوجها لا بأس أن تكذب عليه ويكذب عليها فيما يتعلق بهما ولا يضر غيرهما، الكذب فيما يتعلق بهما خاصة ولا يتعلق بغيرهما لا بأس، يقول: سوف أشتري لك كذا، وسوف أصنع لك كذا، وسوف أعطيك كذا وإن لم يصدق حتى ترضى وحتى تقبل وتعود المحبة، وتقول له: أنا سوف أفعل كذا، وسوف أفعل كذا، ولا أعصي لك أمرا، ولا ولا حتى تجلب مودته لا بأس وإن حصل فيه كذب، حتى تجتمع الكلمة وتعود الألفة بينهما.

وهكذا الرجل الذي تنازل عن مال صاحبه في الدين، وصاحبه يسترفقه ويقول له: سامحني في كذا، ضع عني كذا، ويقول: لا والله ما أسامحك، والله ما أسامحك، فخرج عليهم النبي ﷺ وقال: من ذا الذي يتألى على الله ألا يفعل خيرا؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، وله ما يريد، يعني ندم وتأسف قال: له ما يريد، فأصلح بينهما النبي ﷺ، وفي الرواية الأخرى: أن القصة كانت بين ابن أبي حدرد وبين كعب بن مالك، وكان كعب يطب ابن أبي حدرد دينا، فقال النبي ﷺ لكعب: ضع الشطر يعني اسمح عن الشطر، فقال كعب بن مالك: لا بأس، فقال لابن أبي حدرد: قم فأعطه الشطر الآخر وهذا من باب الصلح، أصلح بينهما بالنصف.

والحديث الرابع: حديث خروج النبي ﷺ إلى بني عمرو بن عوف من الأنصار، كان بينهم شر ونزاع فخرج إليهم يصلح بينهم في قباء، فحضرت الصلاة وتأخر النبي ﷺ، حبسوه على طعام يقدمونه لهم فتأخر عن الصلاة، فقال بلال لأبي بكر: هل لك أن تصلي بالناس، الصلاة حضرت وقد تأخر النبي ﷺ، فقال: لا بأس، فأقامها بلال وتقدم الصديق وكبر وكبر الناس، ثم جاء النبي ﷺ وهم في الركعة الأولى، فشق الصفوف حتى وقف خلف أبي بكر، فأكثر الناس التصفيق، وكان الصديق لا يلتفت لأن الالتفات مكروه في الصلاة إلا من عذر، فلما أكثروا التصفيق التفت فرأى النبي ﷺ فأشار له النبي ﷺ أن يستمر وأن يصلي بالناس، فرفع يديه وحمد الله، ثم تأخر وتقدم النبي ﷺ فصلى بالناس، فلما سلم عليه الصلاة والسلام قال: مالكم لما نابكم شيء أخذتم بالتصفيق، إنما التصفيق للنساء، من نابه شيء فليسبح يقول: سبحان الله سبحان الله، وقال: مالك يا أبا بكر لم تستمر بالصلاة بالناس لما أشرت لك؟ فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله ﷺ، أبوه يسمى أبو قحافة، أبو الصديق يسمى أبو قحافة فدل ذلك على مسائل:

منها: أن من نابه شيء يسبح يقول: سبحان الله، والمرأة تصفق لا تسبح تصفق.

ومنها: أن الالتفات للحاجة لا بأس، إذا التفت لحاجة لا بأس، وإن لم يكن هناك حاجة فهو مكروه الالتفات كما في الحديث الصحيح يقول ﷺ: الالتفات اختلاس من الشيطان يختلسه من صلاة العبد يكره إلا من حاجة بالرأس يعني.

وفيه من الفوائد: أن المرأة تصفق إذا نابها شيء أو ناب الإمام شيء وهي مع الإمام، والرجل يقول: سبحان الله سبحان الله.

وفيه من الفوائد: أنه لا بأس أن يصلي بعض أفراد الأمة إماما والنبي ﷺ خلفه لا بأس؛ لأن النبي ﷺ أشار إلى الصديق أن يستمر، فدل على أنه يجوز أن يكون بعض أفراد الأمة إماما والنبي مأموما لا بأس، لا حرج، وقد وقع هذا في غزوة تبوك، فإن النبي ﷺ ذهب يقضي حاجته في الفجر ومعه المغيرة بن شعبة فتأخر في قضاء حاجته والناس ينتظرون، فلما تأخر عن وقته أقاموا الصلاة وتقدم عبدالرحمن بن عوف -أحد العشرة المشهود لهم بالجنة- فكبر وصلى بهم، ثم جاء النبي ﷺ وقد صلى ركعة، فأراد عبدالرحمن أن يتأخر فأشار له النبي ﷺ أن كمل صلاتك، فكمل عبدالرحمن بالناس وصف النبي ﷺ والمغيرة مع الناس، فلما سلم عبدالرحمن قام النبي ﷺ والمغيرة فقضيا الركعة التي فاتتهما، فدل ذلك على أنه لا بأس أن يصلي أحد الأمة إماما والنبي ﷺ خلفه، إذا وقع ذلك لبعض الحاجات لا حرج لأن الرسول ﷺ أشار إليه وأمره أن يستمر حتى كمل صلاته، وهكذا أشار للصديق لكن الصديق تأخر وعبدالرحمن استمر لأنه قد صلى ركعة.

وفيه من الفوائد: أنه إذا وقع مثل هذا فالإمام ينبغي له أن يشير للنائب أن يستمر لا يتقدم، إذا تأخر عن وقته المعتادة وقدموا من يصلي بهم ثم جاء يصلي مع الناس مأموما ويكفي، فإن كان في الركعة الأولى وتقدم فلا بأس، لكن الأفضل عدم التقدم وأنه يخلي النائب يكمل، وإن كان قد صلى ركعة فالسنة أن يخليه يكمل ولا يتقدم حتى لا يحصل تشويش، وفق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

س: .....؟

ج: ما دام تصح صلاته بنفسه تصح صلاته بغيره الحمد لله، أما إذا كان كافرا ما تصح صلاته ما يجوز تقديمه، أما إذا كانت تصح صلاته في نفسه الحمد لله.

س: فيه معاصٍ ظاهرة؟

ج: ولو تصح صلاته ولو عاصٍ.

س: الالتفات المقصود به في الصلاة؟

ج: بالرأس يعني.

32-باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء الخاملين

قَالَ الله تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28].

1/252- عن حَارِثَة بْنِ وهْب قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقولُ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجنَّةِ؟ كُلُّ ضَعيفٍ مُتَضَعّفٍ لَوْ أَقْسَم عَلَى اللَّه لأبرَّه، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بَأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ. متفقٌ عَلَيهِ.

الْعُتُلُّ: الْغَلِيظُ الجافِي.والجوَّاظُ بفتح الجيم وتشدِيدِ الواو وبِالظاءِ المعجمة وَهُو الجمُوعُ المنُوعُ، وَقِيلَ: الضَّخْمُ المُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وقيلَ: الْقَصِيرُ الْبَطِينُ.

2/253- وعن أَبي العباسِ سهلِ بنِ سعدٍ الساعِدِيِّ قَالَ: مرَّ رجُلٌ عَلَى النَبيِّ ﷺ فقالَ لرجُلٍ عِنْدهُ جالسٍ: مَا رَأَيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَريٌّ إِنْ خَطَب أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَع أَنْ يُشَفَّعَ. فَسَكَتَ رسولُ اللَّه ﷺ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخرُ، فَقَالَ لَهُ رسولُ اللَّه ﷺ: مَا رأُيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّه هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هذَا حريٌّ إِنْ خطَب أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَع أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمع لِقَوْلِهِ. فَقَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: هَذَا خَيْرٌ منْ مِلءِ الأَرْضِ مِثْلَ هذَا متفقٌ عَلَيهِ.

قوله: حَرِيُّ هُوَ بفتحِ الحاءِ وكسر الراءِ وتشديد الياءِ: أَيْ حقِيقٌ. وقوله: شَفَعَ بفتح الفاءِ.

3/254- وعن أَبي سعيدٍ الخدري عن النبي ﷺ قَالَ: احْتجَّتِ الجنَّةُ والنَّارُ فقالتِ النَّارُ: فيَّ الجبَّارُونَ والمُتَكَبِّرُونَ، وقَالتِ الجَنَّةُ: فيَّ ضُعفَاءُ النَّاسِ ومسَاكِينُهُم، فَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُما: إِنَّك الجنَّةُ رحْمتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَإِنَّكِ النَّارُ عَذابِي أُعذِّب بِكِ مَنْ أَشَاءُ، ولِكِلَيكُمَا عَلَيَّ مِلؤُها رواه مسلم.

الشيخ: هذه الآية الكريمة والأحاديث تدل على فضل الضعفة والمساكين إذا استقاموا على دين الله وصبروا على هذه المصائب، وأن لهم عند الله منزلة لما حرموا من حظ الدنيا وزينتها وصبروا واحتسبوا فلهم عند الله أجر عظيم، ولهذا يقول جل وعلا: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبس نفسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]

فالضعفاء والمساكين المستقيمون على دين الله ينبغي أن يعرف لهم فضلهم وقدرهم، وأن يكونوا من الأصحاب ومن الأحبة لما عندهم من الدين والإيمان ولجبرهم فيما أصابهم من المصائب والفقر والحاجة، فالمؤمن يجبرهم بمحبتهم والدنو منهم ومجالستهم والعطف عليهم رحمة لحالهم وتقديرا لإيمانهم وأعمالهم الصالحة، وهكذا ما أخبر به النبي ﷺ عن أهل الجنة: كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، وهكذا قوله ﷺ لما مر عليه من هو من أشراف الناس فسأل الحاضرين؟ قالوا: هذا حري إن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، ثم مر به بعض ضعفاء المسلمين فسألهم عنه؟ فقالوا: هذا حري إن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا المقصود أن فقراء المسلمين لهم شأن ولهم فضل إذا احتسبوا واستقاموا على دين الله، هذه مصائب ترفع شأنهم عند الله، ويسبقون أهل الثروة إلى الجنة بنصف يوم لما أصابهم من هذه المصيبة وهي حرمانهم من زينة الدنيا وأموالها، فصبروا واحتسبوا واستقاموا على دين الله، وفي تهنئة لهم وتسلية وتعزية لما أصابهم من الحاجة والفقر أن يصبروا وأن يحتسبوا، ولله الحكمة البالغة جل وعلا فيما يقضي ويقدر من غنى هذا وضعف هذا، واستقامة هذا وانحراف هذا.

فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله، وأن يستقيم على دين الله، وأن يحذر الجفاء والتكبر، وعلى كل مسلم أن يصبر على ما أصابه من فقر أو مرض أو غير ذلك، ولا يجزع ويعلم أن له عند الله خيرا عظيما، وأن أهل الجنة هكذا فيهم الفقراء والمساكين والمحرومون من متاع هذه الدنيا، وهم أسبق إلى الجنة من غيرهم لأن أهل الجد والمال لهم تبعات يتأخر دخولهم إلى الجنة بعد أولئك، ولهذا في الحديث أنهم يسبقون أهل المال بنصف يوم وأهل الجد محبوسون، يعني الجد يعني أهل الغنى والثروة والأموال، فهذه فيها تسلية وتعزية لهؤلاء المصابين والمحرومين، وأن عليهم الصبر، وأن يحتسبوا، وأن الله وعدهم بالجنة والخير العظيم.

رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

لكن ينبغي ألا يعزب على البال، وأن العبد إذا رزقه الله الغنى والمال ثم صبر واحتسب وأنفق الأموال واتقى الله واستقام على دينه فذلك فضل الله، قد تكون له المنزلة العالية العظيمة مثل ما في حديث الفقراء لما سألوا النبي ﷺ قالوا: يا رسول الله سبق أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق؟ قال: أفلا أدلكم على شيء تسبقون به من سواكم ولا يسبقكم من بعدكم قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ففعلوا، فسمع الأغنياء ذلك ففعلوا مثل ما فعله الفقراء، فجاء الفقراء فقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله؟ فقال النبي ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فإذا عمل الأغنياء بالأعمال الصالحة وشاركوا الفقراء في أعمالهم الطيبة، وشكروا الله على ما أعطاهم من النعم فلهم أيضا منزلة عظيمة لأنهم فعلوا عن قدرة، أحسنوا وجادوا وفعلوا الخير عن قدرة وعن احتساب فلهم منزلة عند الله عظيمة ورفيعة.

وقد اختلف الناس في تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر؟ فقال قوم: الفقير الصابر أفضل، وقال قوم: الغني الشاكر أفضل، والأظهر في الأدلة الشرعية أن الغني الشاكر أفضل لأنه ابتلي بالنعم وصبر واحتسب وأنفقها في وجوه الخير، ولم يطغ بالمال بل نفعه المال ونفع الناس، فهذا نفعه متعد شارك الفقراء في الخير والعمل الصالح، وزاد عليهم بالنفع المتعدي والأعمال الصالحة النافعة التي تفضل بها على الناس المحتاجين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

4/255-وعن أَبي هُريرةَ عن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّهُ لَيأتِي الرَّجُلُ السَّمِينُ العْظِيمُ يَوْمَ الْقِيامةِ لاَ يزنُ عِنْد اللَّه جنَاحَ بعُوضَةٍ متفقٌ عَلَيه.

5/256- وعنه أَنَّ امْرأَةً سوْداءَ كَانَتَ تَقُمُّ المسْجِد، أَوْ شَابًّا، فَفقَدَهَا، أَوْ فَقَدَهُ رسولُ اللَّه ﷺ، فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عنْهُ، فقالوا: مَاتَ. قَالَ: أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي فَكَأَنَّهُمْ صغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرهُ، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ؟ فدلُّوهُ فَصلَّى عَلَيه، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُور مملُوءَةٌ ظُلْمةً عَلَى أَهْلِهَا، وإِنَّ اللَّه تعالى يُنَوِّرهَا لَهُمْ بصَلاتِي عَلَيْهِمْ متفقٌ عَلَيهِ.

قوله: تَقُمُّ هُوَ بفتحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْقَافِ: أَيْ تَكنُسُ. وَالْقُمَامةُ: الْكُنَاسَةُ. وَآذَنْتُمونِي بِمدِّ الهَمْزَةِ: أَيْ: أَعْلَمتُمُونِي.

6/257- وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: رُبَّ أَشْعثَ أغبرَ مدْفُوعٍ بالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسمَ عَلَى اللَّهِ لأَبرَّهُ رواه مسلم.

الشيخ: هذه الأحاديث فيها الحث على رحمة الفقراء والإحسان إليهم، وأنه ينبغي للمؤمن أن يعطف عليهم، وأن يعرف قدرهم وفضلهم، وقد ابتلاهم الله بالحاجة والفقر، وسوف يعوضهم خيرا عظيما برفع المنازل والسبق إلى الجنة إذا استقاموا على الحق، ولا عبرة بالمال ولا بالسمن ولا بالصيت والجاه، إنما العبرة بالعمل والإيمان والتقوى، ولهذا يقول النبي ﷺ: يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة يعني ما له عمل صالح، ليس له عمل صالح كما قال جل وعلا: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] المقصود الذين ضيعوا الآخرة ولم يعملوا بها لا قيمة لهم ولا وزن لهم، ولو عظمت أموالهم، ولو كثرت أموالهم، ولو عظمت أجسامهم، فلا قيمة لهم لأنهم فقدوا أسباب الترجيح، أسباب السعادة، أسباب ثقل الميزان، وهو طاعة الله ورسوله والعمل الصالح.

وفي الحديث الثاني: أن امرأة كانت تقم المسجد، خادمة كانت تقم المسجد سوداء فماتت، فصلى عليها الصحابة ولم يعلموا النبي ﷺ بذلك، فقال: أفلا كنتم آذنتموني حتى أصلي عليها! فكأنهم صغروا أمرها، في رواية أنها ماتت بالليل، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه على قبرها فصلى عليها عليه الصلاة والسلام، وهذا فيه التواضع ورحمة الفقراء والمساكين والإحسان إليهم، ومعاملتهم بالمعاملة الطيبة، فهو سيد الخلق، وأفضل الخلق ذهب يصلي على قبر الخادمة التي كانت تقم المسجد تقديرا لعملها الطيب وعملها الصالح، ويقول ﷺ: إن هذه القبور مملؤة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم هذا يفيد أنه صلاته عليهم ﷺ نور لهم في قبورهم، نور لهم في آخرتهم، فينبغي للمؤمن أن يعرف قدر الضعفاء وحاجتهم حتى لا يتنقصهم، بل يعرف لهم قدرهم وفضلهم ويحسن إليهم، يرجو ما عند الله من المثوبة، يرجو ما عند الله من الأجر.

كذلك يقول ﷺ: رب أشعث في الرواية الأخرى أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره يعني رب وجود شخص ضعيف فقير أشعث أغبر من قلة المال، رأسه أشعث وثيابه وسخة فيها الغبرة من التراب لفقره وحاجته، مدفوع بالأبواب هذا يدفعه، وهذا يعطيه يسأل، لو أقسم على الله لأبره لإيمانه وصدقه وتقواه لله لكنه فقير، فلا ينبغي للمؤمن أن يغتر بالسمن أو بالمال أو بالغنى أو بالصيت لا، العبرة بالعمل الصالح والتقوى، ولو كان صاحبها فقيرا يسأل عند الأبواب، ولو كان لا يعرف، ولو كان مملوكا، متى استقام على دين الله وأدى حق ربه فهو العزيز عند الله، والرفيع عند الله، وإن كان أشعث أغبر مدفوع بالأبواب.

رزق الله الجميع التوفيق والهداية.