10 باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أَوْ نهى عن منكر وخالف قولُه فِعله

24- باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أَوْ نهى عن منكر وخالف قولُه فِعله

قَالَ الله تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، وقال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، وَقالَ تَعَالَى إخبارًا عن شعيب ﷺ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود: 88].

1/198- وعن أَبي زيدٍ أُسامة بْنِ زيد بن حَارثَةَ، رضي اللَّه عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيامةِ فَيُلْقَى في النَّار، فَتَنْدلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ في الرَّحا، فَيجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّار فَيَقُولُونَ: يَا فُلانُ مَالَكَ؟ أَلَمْ تَكُن تَأْمُرُ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بالمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيه، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآَتِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

قولُهُ: تَنْدلِقُ هُوَ بالدَّالِ المهملةِ، وَمَعْنَاهُ تَخْرُجُ. وَ الأَقْتابُ: الأَمْعَاءُ، واحِدُهَا قِتْبٌ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فهذه الآيات الكريمات والحديث الشريف كلها تدل على شدة الوعيد لمن خالف قوله فعله، وفعله قوله، وهو الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، يقول الله جل وعلا ذاما لليهود المخالفين لما يقولون ويدعون من الحق أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] يعني أين العقل الرشيد؟! أين الحياء أن يقول الإنسان الخير ثم يخالف، يأمر بالمعروف ويخالف وينهى عن المنكر ويرتكب هذا الخلق الذميم، ذم الله به اليهود وهكذا من شابههم، قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] يخاطب سبحانه من يخالف قوله فعله وفعله قوله، يأمر بالصلاة ويتخلف، ويأمر بالزكاة ولا يزكي، ويأمر بالصوم ولا يصوم، وينهى عن الغيبة ويغتاب الناس، وينهى عن الربا ويأكل الربا، وينهى عن العقوق ويعق والديه، أين العقل؟ وأين البر؟ وأين الهدى؟ وأين الإيمان؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ  كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] الله يمقت هذا العمل ويبغض هذا العمل، فالواجب على من أمر بالمعروف أن يكون من أسرع الناس إليه، وأن يكون من نهى عن منكر من أبعد الناس عنه، هذا هو الواجب أن يأمر بالمعروف ويأتيه، وأن ينهى عن المنكر ويحذره، هذا هو الواجب على كل مؤمن، ويقول جل وعلا عن نبيه شعيب عليه الصلاة والسلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] لما نهى قومه عن الشرك وأمرهم بالوفاء بالكيل والميزان قال وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] يعني حين أمرتكم بالتوحيد والإخلاص ووفاء الكيل والميزان وعدم الفساد في الأرض إنما آمركم بذلك لقصد الإصلاح والهداية لكم وليس قصدي أن أخالفكم في ذلك، ولكني أوافقه وأستعين بالله في ذلك، وعليه توكلت في فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.

وكان قوم شعيب وهم أصحاب الأيكة من أهل الشرك والفساد في الأرض وبخس المكيال والميزان فكان نبيهم شعيب يحذرهم من ذلك ويقول: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ۝ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۝ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ۝ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ  [الشعراء:181-184] فالواجب على الداعي إلى الله أن يقول كما قال الرسل أن ينهاهم عن المنكر ويحذر، وأن يأمر بالمعروف ويكون من أسبق الناس إليه حتى يكون قدوة في القول والعمل.

وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ أنه قال: يؤتى بالرجل يوم القيامة من أهل النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحاء، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: مالك يا فلان؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: نعم كنت آمر بالمعروف ولا آتيه: وأنهى عن المنكر وآتيه هذه حاله فلهذا أدخل النار وافتضح على رؤوس الأشهاد فيها بأن اندلقت أمعاؤه يسحبها بين الناس معذبا، نسأل الله العافية، فالواجب الحذر من هذا الخلق الذميم لبشاعته وشناعته وعظم عقوبته، نسأل الله العافية.

25- باب الأمر بأداء الأمانة

قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، وقال تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].

1/199- عن أَبي هريرة، ، أن رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإِذَا آؤْتُمِنَ خَانَ متفقٌ عَلَيهِ.

وفي رواية: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وزعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ.

2/200- وعن حُذيْفَة بنِ الْيمانِ، ، قَالَ: حدثنا رسولُ اللَّه ﷺ، حَديثْين قَدْ رَأَيْتُ أَحدهُمَا، وَأَنَا أَنْتظرُ الآخَرَ: حدَّثَنا أَنَّ الأَمَانَة نَزلتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرآنُ فَعلموا مِنَ الْقُرْآن، وَعلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ.

ثُمَّ حَدَّثنا عَنْ رَفْعِ الأَمانَةِ فَقال: يَنَامُ الرَّجل النَّوْمةَ فَتُقبضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيظلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ ينامُ النَّوْمَةَ فَتُقبضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيظَلُّ أَثَرُهَا مِثْل أثرِ الْمَجْلِ، كجَمْرٍ دَحْرجْتَهُ عَلَى رِجْلكَ، فَنفطَ فتَراه مُنْتبرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيءٌ ثُمَّ أَخذَ حَصَاةً فَدَحْرجَهَا عَلَى رِجْلِهِ، فَيُصْبحُ النَّاسُ يَتبايَعونَ، فَلا يَكادُ أَحَدٌ يُؤدِّي الأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ في بَنِي فَلانٍ رَجُلًا أَمِينًا، حَتَّى يُقَالَ لِلَّرجلِ: مَا أَجْلدهُ مَا أَظْرَفهُ، مَا أَعْقلَهُ، وَمَا في قلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلِ مِنْ إِيمانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بايعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلمًا ليردُنَّهُ عَليَّ دِينُه، ولَئِنْ كَانَ نَصْرانيًا أَوْ يَهُوديًّا لَيُرُدنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيه، وأَمَّا الْيَوْمَ فَما كُنْتُ أُبايُعُ مِنْكمْ إِلاَّ فُلانًا وَفلانًا" متفقٌ عَلَيهِ.

قوله: جَذْرُ بفتح الجيم وإسكان الذال المعجمة: وَهُوَ أصل الشيء. وَ الوكت بالتاء المثناة من فوق: الأثر اليسير. والمجل بفتح الميم وإسكان الجيم، وَهُوَ تَنَفُّطٌ في اليدِ ونحوها من أثرِ عمل وغيرِهِ. قوله: مُنْتَبرًا: مرتفِعًا. قوله: ساعِيهِ: الوالي عَلَيهِ.

3/201- وعن حُذَيْفَةَ، وَأَبي هريرة، رضي اللَّه عنهما، قالا: قالَ رسول اللَّه ﷺ: يَجْمعُ اللَّه تَباركَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيُقُومُ الْمُؤمِنُونَ حَتَّى تَزْلفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ صلواتُ اللَّه عَلَيْهِ، فَيَقُولُون: يَا أَبَانَا اسْتفْتحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيقُولُ: وهَلْ أَخْرجكُمْ مِنْ الْجنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ، لَسْتُ بصاحبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إبْراهِيمَ خَلِيل اللَّه، قَالَ: فَيأتُونَ إبْرَاهِيمَ، فيقُولُ إبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بصَاحِبِ ذَلِك إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وراءَ، اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمهُ اللَّه تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فيقُولُ: لسْتُ بِصَاحِب ذلكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسى كَلِمَةِ اللَّه ورُوحِهِ، فَيقُولُ عيسَى: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذلكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الأَمانَةُ والرَّحِمُ فَيَقُومَان جنْبَتَي الصراطِ يَمِينًا وشِمالًا، فيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ قُلْتُ: بأَبِي وَأُمِّي، أَيُّ شَيءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ يمُرُّ ويَرْجعُ في طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الريحِ ثُمَّ كَمرِّ الطَّيْرِ؟ وَأَشَدُّ الرِّجالِ تَجْرِي بهمْ أَعْمَالُهُمْ، ونَبيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصرِّاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعَبَادِ، حَتَّى يَجئَ الرَّجُلُ لا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إلاَّ زَحْفًا، وفِي حافَتَي الصرِّاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمُكَرْدَسٌ في النَّارِ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهنَّم لَسبْعُونَ خَريفًا. رواه مسلم.

قوله: ورَاءَ وَرَاءَ هُو بالْفَتْحِ فِيهمَا. وَقيل: بِالضَّمِّ بِلا تَنْوينٍ، وَمَعْنَاهُ: لسْتُ بتلْكَ الدَّرَجَةِ الرَّفيعَةِ، وهِي كَلِمةٌ تُذْكَرُ عَلَى سبِيل التَّواضُعِ. وَقَدْ بسِطْتُ مَعْنَاهَا في شَرْحِ صحيح مسلمٍ، واللَّه أعلم.

الشيخ: هذه الآيات والأحاديث فيما يتعلق بالأمانة، الأمانة أمرها عظيم، وهي تشمل جميع ما أمر الله به وما نهى عنه، كله أمانة، أداء الفرائض وترك المحارم كله أمانة، كما يدخل فيها أيضا أمانة الناس وودائعهم، فالأمانة شاملة لأمانة الدين وأمانة ودائع الناس، والأهم الأعظم أمانة الدين من توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وترك ما حرم الله، يقول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ويقول سبحانه إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ [الأحزاب:72]، وهي الدين الذي فرض الله على العباد عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ [الأحزاب:72]، ويقول في وصف المؤمنين وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، ويقول محذرا من الخيانة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].

فالواجب أداء الأمانة والعناية بها وحفظها وعدم خيانتها، سواء كانت من حق الله، أو من حق العباد، فيؤدي الصلاة بأمانة وطمأنينة وخشوع، ويؤدي الزكاة بأمانة، والصوم بأمانة، والحج بأمانة، وهكذا بقية ما أوجب الله، وهكذا يحذر المحارم بأمانة وصدق وإخلاص، وهكذا أمانة الناس من أسرارهم وودائعهم تؤدي بغير خيانة، ومن صفات المنافقين الذميمة الخبيثة الخيانة للأمانة، قال النبي ﷺ في وصف المنافقين: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وفي اللفظ الآخر: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر.

وفي حديث حذيفة أن النبي ﷺ أخبرهم عن الأمانة وشأنها وقال: إنها نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل الكتاب والسنة فعلموا من الكتاب وعلموا من السنة، ثم حدثهم عن نزع الأمانة من القلوب بسبب المعاصي والمخالفات ينام الرجل نومة فتنزع الأمانة من قلبه بسبب أعماله الخبيثة فيظل أثرها كأثر الوكت كالأثر اليسير والخدوش اليسيرة لأنها لم تنزع منها إلا القليل، ثم ينام النومة فتنزع أشد فيظل أثرها مثل أثر المجل مثل أثر الخدوش التي تنشأ عن العمل من حفر شيء أو قطع شيء أو ما أشبه ذلك حتى يؤثر في اليد خدوشا وجروحا فيتحدث الناس يعني يظل يتحدث الناس عن الأمانة لقلتها بينهم حتى يقولوا: إن في بني فلان أمينا حق أمين، ويقال فيه: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان مع مدح الناس له لنزع الأمانة من الناس بسبب كثرة المعاصي والمخالفات.

ثم ذكر أيضا حديث تقدم الناس يوم القيامة إلى آدم، بعد انتهاء الحساب وبعد الفصل بين الناس يتقدم الناس إلى آدم ليشفع لهم في دخول الجنة -يعني المؤمنين.

 الرسول ﷺ له شفاعات: الشفاعة العظمى، شفاعته في أهل الموقف حتى يقضى بينهم، والشفاعة الثانية في أهل الجنة ليدخلوها فيأتون آدم فيعتذر، ثم يأتون إبراهيم فيعتذر، ويعتذر موسى وعيسى حتى تنتهي إليه ﷺ فيشفع عليه الصلاة والسلام للمؤمنين في الجنة حتى يفتح لهم، وينصب الصراط، وتنصب الأمانة، والرحم على جنبتي الصراط، ويمر الناس على الصراط المؤمنون كلمح البصر، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، تجري بهم أعمالهم، وعلى الجسر كلاليب معلقة مثل شوك السعدان تخدش من أمرت بخدشه وأخذه، هذا ناج وهذا ساقط في النار بسبب معاصيه حتى ينتهوا إلى قنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون فيما بينهم من أشياء في الدنيا حتى تنقى القلوب، ولا يبقى في القلوب شيء، فيدخلوا الجنة وقد نقوا وهذبوا ولم يبق في قلوبهم شيء من الكدر والشحناء، ويدخلون الجنة على أطهر قلب وعلى أحسن قلب، ويستفتح لهم ﷺ فتفتح لهم الجنة، ويقول له الخازن: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك عليه الصلاة والسلام.

ففي هذا الحث والتحريض على أداء الأمانة والحذر من الخيانة، وأن الواجب على كل مؤمن أن يحرص على أداء الأمانة في عباداته، وفي معاملاته للناس، وفي جميع أحواله، لا يكذب في المعاملة، لا يخون في المعاملة، لا يغش في المعاملة، لا يخون الوديعة والعارية، كما أنه يجب أن يؤدي الفرائض بغاية الإخلاص والإتقان والإكمال، وأن يحذر المعاصي بغاية الحذر أداء للأمانة التي ائتمنه الله عليها من أداء فرائضه وترك محارمه، وهي المذكورة في قوله سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ [الأحزاب:72] يعني الشرائع التي شرعها الله لعباده، ورأسها توحيد الله والإخلاص له. وفق الله الجميع.

4/202- وعن أَبِي خُبَيْبٍ بضم الخاءِ المعجمة عبداللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ، رضي اللَّه عنهما قَالَ: لَمَّا وَقَفَ الزبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلاَّ ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وإِنِّي لا أُرَنِي إِلاَّ سَأُقْتَلُ الْيَومَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَينْيِ أَفَتَرَى دَيْنَنَا يُبْقى مِنْ مالِنا شَيْئًا؟ ثُمَّ قَالَ: يا بني بعْ مَالَنَا واقْضِ دَيْنِي، وَأَوْصَى بالثُّلُثِ، وَثُلُثِهُ لِبَنِيهِ، يَعْنِي لبَنِي عبداللَّه بن الزبير ثُلُثُ الثُّلُث، قَالَ: فَإِن فَضلِ مِنْ مالِنَا بعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيءٌ فثُلُثُهُ لِبَنِيك، قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدُ عبداللَّهِ قَدْ وَازى بَعْضَ بَني الزبَيْرِ خُبيبٍ وَعَبَّادٍ، وَلَهُ يَوْمَئذٍ تَسْعَةُ بَنينَ وتِسعُ بَنَاتٍ. قَالَ عبداللَّه: فَجَعَل يُوصِينِي بديْنِهِ وَيَقُول: يَا بُنَيَّ إِنْ عَجزْتَ عنْ شَيءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بموْلايَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا دَريْتُ مَا أرادَ حَتَّى قُلْتُ يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلاَكَ؟ قَالَ: اللَّه، قَالَ: فَواللَّهِ مَا وَقَعْتُ في كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاَّ قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيَهُ. قَالَ: فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِلاَّ أَرَضِينَ، مِنْهَا الْغَابَةُ وَإِحْدَى عَشَرَةَ دَارًا بالْمَدِينَةِ، وداريْن بالْبَصْرَةِ، وَدَارًا بالْكُوفَة وَدَارًا بِمِصْرَ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الذي كَانَ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ يَأْتَيهِ بِالمالِ، فَيَسْتَودِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبيْرُ: لا وَلَكنْ هُوَ سَلَفٌ إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعةَ، وَمَا ولِي إَمَارَةً قَطُّ وَلا جِبَايةً ولا خَراجًا وَلاَ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ في غَزْوٍ مَعَ رسولِ اللَّه ﷺ، أَوْ مَعَ أَبِي بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، قَالَ عبداللَّه: فَحَسَبْتُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمائَتَيْ أَلْفٍ، فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عبداللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ؟ فَكَتَمْتُهُ وَقُلْتُ: مِائَةُ أَلْفٍ. فَقَالَ: حَكيمٌ: وَاللَّه مَا أَرى أَمْوَالَكُمْ تَسعُ هَذِهِ، فَقَالَ عبداللَّهِ: أَرَأَيْتُكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَي أَلْفٍ؟ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ: مَا أَرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَىْء مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي. قَالَ: وكَانَ الزُّبَيْرُ قدِ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ ومِائَة أَلْف، فَبَاعَهَا عبداللَّهِ بِأْلف ألفٍ وسِتِّمِائَةِ أَلْفَ، ثُمَّ قَامَ فَقالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ شَيْء فَلْيُوافِنَا بِالْغَابَةِ، فأَتَاهُ عبداللَّهِ بْنُ جَعفر، وكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبعُمِائةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لعبداللَّه: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ؟ قَالَ عبداللَّه: لا، قَالَ فَإِنْ شِئْتُمْ جعَلْتُمْوهَا فِيمَا تُؤخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ، فَقَالَ عبداللَّه: لا، قَالَ: فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً، قَالَ عبداللَّه: لَكَ مِنْ هاهُنا إِلَى هاهُنَا. فَبَاعَ عبداللَّهِ مِنْهَا فَقَضَى عَنْهُ دَيْنَه، وَوَفَّاهُ وَبَقِيَ منْهَا أَرْبَعةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدم عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعَنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبيْرِ، وَابْن زَمْعَةَ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قَوَّمَتِ الْغَابَةُ؟ قال: كُلُّ سَهْمٍ بِمائَةِ أَلْفٍ قَالَ: كَمْ بَقِي مِنْهَا؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ونِصْفٌ، فَقَالَ الْمُنْذرُ بْنُ الزَّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ مِنْهَا سَهْمًا بِمائَةِ أَلْفٍ، وقال عَمْرُو بنُ عُثْمان: قَدْ أَخَذْتُ مِنْهَا سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. وَقالَ ابْن زمْعَةَ: قَدُ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ مُعَاوِيةُ: كَمْ بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَ: سَهْمٌ ونصْفُ سَهْمٍ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمسينَ ومائَةِ ألْف. قَالَ: وبَاعَ عبداللَّه بْنُ جَعْفَرٍ نصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ. فَلَمَّا فَرغَ ابنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضاءِ ديْنِهِ قَالَ بَنُو الزُّبْيرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيراثَنَا. قَالَ: وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بيْنَكُمْ حَتَّى أَنَادِيَ بالمَوْسم أَرْبَع سِنِين: أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيَّرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ، فَجَعَلَ كُلُّ سَنَةٍ يُنَادِي في الْمَوسمِ، فَلَمَّا مَضى أَرْبَعُ سِنينَ قَسم بَيْنَهُمْ ودَفَعَ الثُلث وكَان للزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوةٍ، فَأَصاب كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ ومِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْف أَلْفٍ ومِائَتَا أَلْف. رواه البخاري.

الشيخ: في هذا بيان قصة الزبير وما لحقه من الدين، وأن المؤمن قد يبتلى بالدين ويقضيه الله جل وعلا إذا صارت نيته صالحة، فالعبد على حسب الأمانة، فإذا كانت النية صالحة في أخذ الدين قضاه الله عنه كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله.

فالعبد متى نوى النية الصالحة قضى الله دينه ويسر أمره، وكان الزبير ابن العوام الأسدي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة الذين شهد لهم النبي ﷺ بالجنة لإيمانهم العظيم وإخلاصهم وصدقهم وصحبتهم للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو ابن عمة رسول الله عليه الصلاة والسلام وقتل يوم الجمل مظلوما، فأوصى ابنه عبدالله بقضاء دينه، كان عليه دين كثير، وكان أسباب ذلك أنه يأتيه الناس لأمانته وإمامته وعدالته يأتونه بالودائع يودعون عنده بعض الأموال فيقول لهم: لا أرضاها أمانة، تكون قرضا سلفا لأني أخشى عليها الضيعة، كوني أحفظها عندي أخشى عليها الضيعة، يعني اجعلوها قرضا تكون مضمونة علي حتى إذا طلبتموهما أعطيتكم إياها، فيأخذها على أنها قرض حتى إذا أصحابها سلمها إليهم، فاجتمعت عليه ديون، وكان لم يتول إمارة ولا جباية، ولكن كانت أمواله من طريق الغنائم في غزوه مع النبي ﷺ، ومع الصديق ومع عمر وعثمان، فاجتمعت عنده أموال عقارية، ما كان عنده ذهب ولا فضة، كان عنده عقار: أرض في المدينة، وإحدى عشر دارا في المدينة، وداران في البصرة، ودار في الكوفة، ودار في مصر، فلما توفي قتل وقام عبدالله في قضاء دينه، كان كلما حزبه أمر قال: يا مولى الزبير -يعني يا الله- اقض دين الزبير، وكان الزبير أوصاه بذلك إذا حزبه أمر يستعين بالله في قضاء دينه، وكان عبدالله كلما اشتد به أمر سأل الله أن يعينه على قضاء دين أبيه، فأعانه الله على قضاء دين أبيه، كان دينه ألفي ألف ومائتي ألف، يعني مليونين وخمس، فباع الغابة -قطعة الأرض التي في المدينة- بمليون وستمائة ألف، بألف ألف وستمائة ألف، وأوفت غالب الدين وباع ما باع من الدور، ثم بقي أموال كثيرة وزعها بين الورثة حتى صار لزوجاته الأربع على مليون ومائتي ألف، يعني حتى صار نصيب زوجاته وهو الثمن أربعة ملايين وثمانمائة ألف من البقية بعد الدين، وهذا من بركة الله ومن إجابة الله دعوة الزبير حتى قضى الله دينه بنيته الصالحة وصدقه في إخلاصه لله وصدقه في حفظ الأمانة، وهكذا كل مؤمن يصدق في الأمانة ويعتني بحفظها حسب طاقته وينوي في الدين قضاءه يؤدي الله عنه كما قال عليه الصلاة والسلام: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله فالذي يأخذ الأمانة ونيته حفظها والعناية بها وأداؤها لأصحابها يعينه الله عليها، وفق الله الجميع.

26- باب تحريم الظلم والأمر بردِّ المظالم

قَالَ الله تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غافر:18]، وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71].

وأمّا الأحاديث فمنها حديث أبي ذر المتقدم في آخر باب المجاهدة.

1/203- وعن جابر أَن رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ منْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حملَهُمْ عَلَى أَنْ سفَكَوا دِماءَهُمْ واسْتَحلُّوا مَحارِمَهُمْ رواه مسلم.

2/204- وعن أَبِي هريرة أَن رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقيامَةِ حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاء رواه مسلم.

3/205- وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: كُنَّا نَتحدَّثُ عَنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيْن أَظْهُرِنَا، وَلاَ نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوداع، حَتَّى حمِدَ اللَّه رَسُول اللَّه ﷺ، وَأَثْنَى عَليْهِ، ثُمَّ ذَكَر الْمسِيحَ الدَّجَالَ فَأَطْنَبَ في ذِكْرِهِ، وَقَالَ: مَا بَعَثَ اللَّه مِنْ نَبيٍّ إلاَّ أَنْذَرَهُ أُمَّتهُ: أَنْذَرَهُ نوحٌ وَالنَّبِيُّون مِنْ بَعْدِهِ، وَإنَّهُ إنْ يَخْرُجْ فِيكُمْ فَما خفِيَ عَليْكُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَلَيْسَ يَخْفِي عَلَيْكُمْ، إِنَّ رَبَّكُمْ لَيس بأَعْورَ، وَإِنَّهُ أَعورُ عَيْن الْيُمْنَى، كَأَنَّ عيْنَهُ عِنبَةٌ طَافِيَةٌ، ألا إنَّ اللَّه حرَّم علَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوالكُمْ، كَحُرْمَةِ يوْمكُمْ هَذَا، في بلدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُم هَذَا ألاَ هَلْ بلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلاثًا ويْلَكُمْ أَوْ: ويحكُمْ، انظُرُوا: لا ترْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضِ رواه البخاري، وروى مسلم بعضه.

الشيخ: هذه الأحاديث فيها التحذير من الظلم، وفي الآيات الكريمات كذلك، يقول الله جل وعلا: وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [الشورى:8]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19] فتوعد الظالمين بالعذاب الكبير، وأنه لا ولي لهم ولا نصير، والظلم هو التعدي على الناس بنفوسهم أو أبشارهم أو أموالهم أو أعراضهم، ولهذا قال ﷺ في حديث أبي ذر: إن الله يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا الله حرم الظلم على نفسه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، هكذا يقول جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، وقال جل وعلا: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وقال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وقال : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، ويقول ﷺ: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ظلمات على أهله يوم القيامة سواء كان في النفس: في القتل، أو في الأبشار: بالضرب، أو الجراحات، أو في الأموال: بالسرقة، أو النهب، أو الغصب، أو في الأعراض: بالغيبة والنميمة فيجب الحذر، وهكذا الشح وهو الحرص على المال، والبخل الشح، هو الحرص على المال وطلبه بغير الحق والبخل به، ولهذا قال: اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم فالحرص على المال بكل طريق ولو بغير الطريق الشرعي مع البخل وسيلة إلى شر كثير، ويقول عليه الصلاة والسلام: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يعني يوم القيامة سوف تؤدى الحقوق سواء كان لبني آدم أو لغيرهم، حتى للبهائم لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى إنه ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء الجلحاء الجماء التي ما لها قرون من الشاة، القرناء ذات القرون التي تظلم أختها، تعزها وتظلمها فيقتص لهذه من هذه يوم القيامة، ثم يقال لها: كوني ترابا فلا عذاب عليها ولا جنة ولا نار ولكن قصاص، فالشاة التي تتعدي على الشاة، والبقرة التي تتعدي على البقرة، والناقة التي تتعدي على الناقة، والحيوان الآخر كالأسد والنمر وغير هذا كل شيء يتعدى على غيره يقتص لصاحبه يوم القيامة، فالواجب الحذر.

وخطبهم ﷺ في حجة الوداع، وهي الحجة التي حجها في آخر حياته، لم يحج غيرها بعد الهجرة، سميت حجة الوداع لأنه ودع الناس قال: خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا فسميت حجة الوداع قال فيها: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا يوم النحر، في شهركم هذا شهر ذي الحجة، في بلدكم هذا مكة، شدد التحريم، وأن أعراضهم وأموالهم ودماءهم عليهم حرام كحرمة يوم النحر في ذي الحجة، في مكة، وذكر لهم الدجال وأن الدجال أنذره كل رسول قومه، حتى نوح أنذره قومه، كل نبي أنذره قومه، وهو الكذاب الذي يخرج في آخر الزمان سمي دجالا لكثرة كذبه، وعظم كذبه، يخرج في آخر الزمان، يأتي من جهة الشرق من جهة العراق، فيعيث يمينا وشمالا في آخر الزمان، وهو من أشراط الساعة عند نزول عيسى ابن مريم، يعيث يمينا وشمالا ويدعي أنه نبي، ثم يدعي أنه رب العالمين، فينزل الله عيسى ابن مريم في آخر الزمان ويقتله بباب لد في فلسطين، فإنه يتبعه اليهود، الدجال يتبعه اليهود وهم قومه وهو منهم، يتبعونه ويتوجه إلى فلسطين، ويحصره المسلمون في فلسطين، ويقتله عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو أعور، يقول النبي ﷺ: إنه أعور وربكم ليس بأعور ، عينه اليمنى كأنها عنبة طافية هذه من علاماته، وله فتنة عظيمة، ولهذا يقول ﷺ: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أعظم من فتنة الدجال رواه مسلم في الصحيح لأن فتنته كبيرة، يمر على الخربة فيها الكنوز فيقول: أخرجي كنوزك فتخرج الكنوز تبعه، ويمر على القوم فيكذبونه فيمحلون ويقل المطر عندهم، ويمر على القوم فيستجيبون له فيمطرون فتنة وابتلاء وامتحانا، ليميز الله الصادق من الكاذب، يبتلي هؤلاء ويبتلي هؤلاء، فمن صدق الكذاب هلك، ومن كذبه نجا، فالواجب على المؤمن أن يحذر فتنة الكذابين الدجال وغير الدجال من الكذابين، وليتق الله بالتمسك بالقرآن العظيم والسنة المطهرة، هذان طريق النجاة، التمسك بالقرآن وبأحاديث الرسول ﷺ، هذا هو طريق النجاة، هذا طريق السعادة، توحيد الله والإخلاص له وطاعة أوامره وترك نواهيه حسب ما جاء في القرآن العظيم والسنة المطهرة، فمن دعا إلى خلاف ذلك فهو الكذاب، لا يطاع من دعا إلى خلاف ذلك، سواء كان الدجال أو غير الدجال، فإنه لا يطاع ولا يتبع بل يجب أن يحذر ويحذر منه. وفق الله الجميع.

4/206- وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رَسُول الله ﷺ قَالَ: مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقَهُ منْ سَبْعِ أَرَضِينَ متفقٌ عليه.

5/207- وعن أَبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

6/208- وعن مُعاذٍ قَالَ: بعَثَنِي رسولُ اللَّه ﷺ فَقَالَ: إنَّكَ تَأْتِي قوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب، فادْعُهُمْ إِلَى شَهَادة أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللَّه، وأَنِّي رَسُول اللَّه، فإِنْ هُمْ أَطاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمهُمْ أَنَّ اللَّه قَدِ افْترضَ علَيْهم خَمْسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يومٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذلكَ، فَأَعلِمْهُمْ أَنَّ اللَّه قَدِ افْتَرَضَ عَلَيهمْ صدَقَةً تُؤْخذُ مِنْ أَغنيائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرائهم، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذلكَ، فَإِيَّاكَ وكَرائِمَ أَمْوالِهم، واتَّقِ دعْوةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْس بَيْنَها وبيْنَ اللَّه حِجَابٌ متفقٌ عليه.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالتحذير من الظلم، الظلم عاقبته وخيمة، وهو محرم وكبير من الكبائر، ومستقبح في كل عقل وفطرة، وعاقبته وخيمة، وقد قال الله : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19]، وقال وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [الشورى:8]، فالواجب على كل مؤمن وكل مؤمنة الحذر من الظلم في المال والأنفس والأعراض، يجب الحذر من ذلك.

في حديث عائشة رضي الله عنها يقول النبي ﷺ: من ظلم شبرا من أرض طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين إذا ظلم شبر من أرض بغير حق طوق هذا الشبر، يخسف به إلى سبع أرضين، من سبع أرضين يكون طوقا له يعذب به يوم القيامة، وهذا وعيد شديد نعوذ بالله، أنه يحمل ما ظلم عقوبة غير أنواع العذاب الآخر، نسأل الله العافية.

ويقول ﷺ: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته الظالم قد يملى له، قد لا يعجل بالعقوبة، قد يظلم ومع هذا يملى له، يمهل لحكمة بالغة لأسباب، ثم إذا أخذ لم يفلت بل ينال عقوبته الشديدة كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فلا ينبغي أن يغتر العاقل بمهل الله، لا يغتر كونه يظلم الناس ويأخذ أموالهم ويغشهم ويخونهم، يسرق أموالهم يأخذها بقوته وضعفهم، لا ينبغي أن يغتر بإمهال الله فربك سبحانه يملي ولا يغفل لحكمة بالغة، قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42] قد يكون هذا الظالم سلط على المظلومين بذنوبهم وأعمالهم السيئة، سلط عليهم هذا الظالم، فالواجب الحذر من الظلم، والواجب على كل إنسان أن يحاسب نفسه، وأن يحذر من معصية ربه، ومن أسباب الوقوع في عذاب الناس له وإيذائهم له بأعماله السيئة، وربك سبحانه لا يظلم مثقال ذرة إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فأنت يا عبدالله حاسب نفسك وجاهدها لعلك تنجو، لعلك تسلم من شر الظلم وعاقبته الوخيمة.

ولما بعث النبي ﷺ معاذا إلى اليمن، وقد بعثه داعيا إلى الله ومعلما ومرشدا، وكانت اليمن ذاك الوقت في يد اليهود، فقال له ﷺ: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب يعني عندهم علوم، عندهم اعتراضات، عندهم شبهات، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم، فإن هم أجابوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم إذا أجابوا للدعوة إياك وكرائم أموالهم، يعني خذ الوسط، خذ الزكاة من الوسط، لا تأخذ كرائم الأموال ولا تأخذ اللئام ولكن من الوسط، فالزكاة تكون من الوسط لا من شر المال ولا من أعلاه، ولكن من الوسط إلا أن يسمح رب المال بالإخراج من الأعلى، فذلك أفضل له، إذا صاحب المال سمح بإخراج زكاته من أعلى إبله، من أعلى غنمه، من أعلى بقره، من أعلى طعامه، فهذا خير له.

ثم قال ﷺ: واتق دعوة المظلوم احذر دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب يعني تقبل دعوة المظلوم، تقبل وترفع إلى السماء ويقبلها الله فاتقها، يعني احذر أيها المرسل، ومعاذ احذر دعوة المظلوم، وهو تحذير لمعاذ ولغير معاذ، لجميع الناس، تحذير النبي ﷺ لشخص معين تحذير للأمة كلها، يخاطب معاذا والمراد الأمة كلها، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب نسأل الله العافية والسلامة.

7/209-وعن أَبِي حُميْد عبدالرَّحْمن بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتعْملَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا مِن الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهدِيَ إِلَيَّ، فَقَامَ رسولُ اللَّه ﷺ عَلَى الْمِنبرِ، فَحمِدَ اللَّه وأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بعْدُ فَإِنِّي أَسْتعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعمَلِ مِمَّا ولاَّنِي اللَّه، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَت إِلَيَّ، أَفَلا جَلَسَ في بيتِ أَبيهِ أَوْ أُمِّهِ حتَّى تأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا، واللَّه لا يأْخُذُ أَحدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حقِّهِ إلاَّ لَقِيَ اللَّه تَعالَى، يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَلا أَعْرفَنَّ أَحدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّه يَحْمِلُ بعِيرًا لَهُ رغَاءٌ، أَوْ بَقرة لَهَا خُوارٌ، أَوْ شَاةً تيْعَرُ ثُمَّ رفَعَ يَديْهِ حتَّى رُؤِيَ بَياضُ إبْطيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثلاثًا، متفقٌ عليه.

8/210- وعن أَبي هُرِيْرَةَ عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيتَحَلَّلْه ِمنْه الْيوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَملٌ صَالحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقدْرِ مظْلمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ رواه البخاري.

9/211- وعن عبداللَّه بن عَمْرو بن الْعاص رضي اللَّه عنهما عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ، والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في التحذير من الظلم وبيان سوء عاقبته، الواجب على المسلم أن يحذر الظلم كله دقيقه وجليله، في النفس والمال والعرض كما تقدم في قوله جل وعلا: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19]، وقال جل وعلا: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، وقال تعالى: وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [الشورى:8]، وقال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، وقال الرب جل وعلا فيما رواه عنه نبيه ﷺ يقول الله: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا الله حرمه على نفسه، قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] فالواجب على كل مسلم أن يحذر الظلم، قال النبي ﷺ: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

وفي هذا الحديث يقول ﷺ لما بعث ابن اللتبية على الصدقة، ثم قدم ابن اللتبية ودفع إلى النبي ﷺ ما قبضه من الزكاة، وقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، الناس قد يعطون العامل هدايا غير الصدقة، في الغالب يتقون بها شره، يعطونه الهدية يتقون شره لئلا يظلمهم، أو ليخون ويترك لهم بعض الشيء، فلما قدم ابن اللتبية قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فغضب النبي ﷺ وقال: ما بال الرجل نبعثه على العمل مما ولانا الله، فإذا قدم يقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه فنظر هل يهدى إليه أو حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، والله لا يغل أحد منكم شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله، وخطب الناس وحذرهم من هذا قال: إن كان بعيرا يأتي يحمله له رغاء، وإن كان بقرة لها ثغاء، وإن كان شاة تيعر، وفي اللفظ الآخر يقول: يا محمد، يا محمد أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك.

فالمقصود أن الواجب على الأمير -أمير العمال- أو غيرهم من المسؤولين ألا يقبلوا الهدايا، فإن قبلوها فهي لبيت المال ليست لهم، إن قبلوها فتكون لبيت المال، إذا رأوا المصلحة في قبولها تكون تبع الزكاة، تبع بيت المال، تسلم لبيت المال لأن الناس إنما يهدون لهم يخافون من شرهم لئلا يظلموهم أو يخونوا، فليردوا الهدية ولا يقبلوها، ويأخذوا المال المطلوب فقط، فإن كان ولا بد ولزم صاحب الهدية تكون الهدية لبيت المال ليست للعمال، ليست لأمير العمال، ولا لأمير البلد، ولا لأمير الجماعة المأمورين بتصريف أمور أو تقسيم أموال، بل هي لبيت المال، هذا هو طريق النجاة، ولهذا يقول ﷺ: ألا جلس في بيت أبيه أو أمه، فنظر هل يهدى إليه إن كان صادقا يعني إنما أهدي إليه من أجل أنه أمير على العمال، فالناس يدفعون له الهدية: إما لاتقاء شره، وإما لطلب تهاونه وتساهله معهم حتى لا تؤخذ منهم الصدقة كاملة.

والحديث الثاني يقول ﷺ: من كان عنده مظلمة لأخيه فليتحلله اليوم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن لم يكن له حسنات أخذت من سيئات صاحبه فحمل عليه والمعنى أن الواجب على من كان له مظلمة أن يأخذها اليوم، أو يتحللها من صاحبها، إذا كان عنده مظلمة لأحد: إما يؤديها، وإما يتحلله، يقول: يا أخي سامحني، أبحني، أو يرضيه بما يسامحه في عرض أو مال أو نفس قبل يوم القيامة، فإن يوم القيامة ما فيه دراهم ولا دنانير، فيه الحسنات والسيئات، إن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.

وفي الحديث الثاني يقول ﷺ: ما تعدون المفلس فيكم؟ يسأل الصحابة: ما تعدون المفلس فيكم؟، قالوا: من لا درهم له ولا متاع، يعني المفلس الذي ما عنده أموال، لا نقود ولا غيرها، قال عليه الصلاة والسلام: لكن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصوم وصدقة، ويأتي وقد ظلم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وأكل مال هذا، وشتم هذا، فيعطى هذا من حسناته، ويعطى هذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته ولم يؤد ما عليه حمل من سيئاتهم عليه، ثم طرح في النار نسأل الله العافية. يعني إذا أتى بالمظالم يوم القيامة يجزى أهلها من حسناته، فإن فنيت الحسنات التي له حمل من سيئاتهم بقدر المظالم التي عليه، ثم طرح في النار، نسأل الله العافية.

هذا فيه الحذر من الظلم وأن عاقبته وخيمة، وأن الواجب على المؤمن أن يحذره غاية الحذر لعله ينجو.

كذلك حديث عبدالله بن عمرو يقول النبي ﷺ: المسلم يعني الكامل من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه فالمسلم الكامل الذي يلقى الله جل وعلا وليس عليه حقوق لا لله ولا للناس قد سلم المسلمون من لسانه ويده، وأتى بحق الله الذي عليه، هذا المسلم الكامل، والمهاجر الكامل من هجر ما نهى الله عنه من السيئات، وفق الله الجميع.