13/129-الثَّالثَ عَشر: عنْه أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: إذَا تَوضَّأَ الْعبْدُ الْمُسْلِم، أَو الْمُؤْمِنُ فغَسلَ وجْههُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خطِيئةٍ نظر إِلَيْهَا بعينهِ مَعَ الْماءِ، أوْ مَعَ آخِر قَطْرِ الْماءِ، فَإِذَا غَسَل يديهِ خَرج مِنْ يديْهِ كُلُّ خَطِيْئَةٍ كانَ بطشتْهَا يداهُ مَعَ الْمَاءِ، أَو مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْماءِ، فَإِذَا غسلَ رِجليْهِ خَرجَتْ كُلُّ خَطِيْئَةٍ مشَتْها رِجْلاُه مَعَ الْماءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يخْرُج نقِيًا مِنَ الذُّنُوبِ رواه مسلم.
14/130-الرَّابعَ عشرَ: عنه عن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: الصَّلواتُ الْخَمْسُ، والْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعةِ، ورمضانُ إِلَى رمضانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بينَهُنَّ إِذَا اجْتنِبَت الْكَبائِرُ رواه مسلم
15/131-الْخَامسَ عشر: عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: ألا أدلُّكَم عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطايا، ويرْفَعُ بِهِ الدَّرجاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وكَثْرةُ الْخُطَى إِلَى الْمسَاجِدِ، وانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْدِ الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرّبَاطُ رواه مسلم.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه الأحاديث الثلاثة من جملة الأحاديث السابقة في الدلالة على كثرة طرق الخير، وأن الله جل وعلا شرع لعباده طرقا كثيرا لإدراك الأجر والثواب والحسنات، فينبغي للمؤمن أن يجتهد في فعلها والاستكثار منها؛ لأن ذلك من أسباب رفع الدرجات ومضاعفة الحسنات وتكفير السيئات، والإنسان في هذه الدنيا على خطر دائم من اجتراح السيئات، ومن وقوعه فيما حرم الله إلا من رحم الله، كل بني آدم خطاء، يقول ﷺ: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
فالله جعل سبحانه لعلاج الخطايا أسباب: منها التوبة النصوح، ومنها كثرة الأعمال الصالحات، ومنها المصائب التي تصيب العبد من مرض وفقر وقتل وغير هذا من المصائب، ومنها استغفار المؤمنين له، استغفار الملائكة والدعاء له، فينبغي له أن يجتهد في أسباب الخير لأنه خطاء، فأسباب الخير يرفع الله بها الدرجات ويحط بها السيئات ويضاعف بها الأجور، فليستكثر لعله ينجو، لعله يسلم من هذا، الوضوء -الوضوء الشرعي- من أسباب المغفرة، إذا وضأ يديه، إذا غسل وجهه ووضأ يديه ومسح رأسه وغسل رجليه صار هذا من أسباب تكفير الخطايا التي يصيبها بعينه أو لسانه أو يده أو رأسه أو رجله ما لم تصب المقتلة، ما لم يغش الكبائر، يعني من أسباب تكفير السيئات الصغائر، أما إذا أصاب المقتلة الكبيرة فلا، لا بد من التوبة.
ولهذا في اللفظ الآخر لما ذكر الوضوء قال: ما لم يصب المقتلة يعني الكبيرة كالزنا، والغيبة والنميمة، والعقوق للوالدين أو أحدهما، قطيعة الرحم، أكل الربا، وغير هذا من الكبائر، هذه من أسباب حرمان المغفرة حتى يتوب إلى الله منها، وهكذا قوله ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر، وفي لفظ: مالم تغش الكبائر فالكبائر عقبة تمنع من المغفرة، فالواجب الحذر، قال الله تعالى في كتابه العظيم: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] فعلق التكفير على اجتناب الكبائر، يخاطب المسلمين وغيرهم إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31].
فأكبر الكبائر الشرك، ثم يلي القتل، والعقوق للوالدين، وشهادة الزور، أكل الربا، أكل مال اليتيم إلى غير هذا من المعاصي، فالمؤمن يحذر شر لسانه، وشر بقية جوارحه، ويتقي الله حتى يعمل ما فيه سعادته، ما فيه نجاته، وحتى يحذر من أسباب الحرمان وأسباب العقوبة، ولهذا قال ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر، وفي اللفظ الآخر: مالم تغش الكبائر والكبائر هي الذنوب التي جاء فيها الوعيد بالنار، أو بغضب الله، أو باللعنة، أو بحرمان المغفرة، أو ما أشبه ذلك مما فيه الوعيد.
كذلك يقول ﷺ: ألا أدلكم على ما يمحو به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! قالوا: بلى يا رسول الله، قال: كثرة الخطى إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط هذا فيه الحث على كثرة الخطأ إلى المساجد وإسباغ الوضوء، فإن إسباغ الوضوء من أسباب تكفير السيئات، ولاسيما في شدة البرد كونه يسبغ لا يتساهل، ولهذا قال النبي ﷺ للمسيء في صلاته: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر.
فإسباغ الوضوء في المكاره، وفي اللفظ الآخر: في السبرات يعني في البرد، بعض الناس قد يتساهل ولا يعطي الوضوء حقه، فلا بد من إسباغ الوضوء حتى في حال البرد، إذا كان الماء باردا يدفيه، لا بد من إسباغ الوضوء، تعميمه حتى يعم الوضوء، وكثرة الخطى إلى المساجد كلما كثرت زاد الأجر إلى المساجد في الصلوات الخمس، كلما كان أبعد من المسجد كانت خطاه أكثر أجرا.
كان رجل في عهد النبي ﷺ بعيد من المسجد فقال له بعض إخوانه: يا فلان لو اشتريت حمارا تركبه في الرمضاء وفي الليلة الظلماء أهون عليك، فقال: إني أحب أن يكتب لي خطاي ذاهبا إلى المسجد وراجعا منه، فقيل للنبي ﷺ: إن فلانا كذا وكذا بعيد، وقلنا له: لو تشتري حمارا تركبه في الظلماء وفي حر الرمضاء قال: إني أحب أن يكتب الله لي خطاي ذاهبا وراجعا، فقال النبي ﷺ: إن الله قد جمع له ذلك كله صبر وهو بعيد، صبر على المجيء إلى أداء الجماعة، ولم يشتر منزلا قريبا بل يصبر على البعد، فالمقصود أنه خطاه تكتب مع النية الصالحة، فكثرة الخطى إلى المساجد من أسباب تكفير السيئات ورفع الدرجات.
وهكذا انتظار الصلاة بعد الصلاة، كونه على باله كلما ذهبت صلاة فهو ينتظر الأخرى يهتم بها لا يضيعها، ما هو معناه يجلس في المسجد لا، المراد أنه يهتم بالصلاة ينتظر إذا جاء وقتها بادر إليها، مغرب، عشاء، فجر، ظهر، عصر، إذا صلى ما ينسى على باله الصلاة التي بعدها حتى يؤدي، وهكذا لا يجلس في المسجد يقول: أجلس وأنتظر الصلوات كلها ويضيع أعماله، ويضيع أسباب الرزق ويضيع أهله لا، المراد أنه ينتظرها بقلبه، قلبه مشغول بها، لو راح يشتري حاجة أو يبيع، أو في عمله موظف، أو كذا، لكن قلبه مع الصلاة لا ينساها، إذا سمع الأذان بادر إليها وسارع إلى أدائها في الجماعة، فهذا انتظار الصلاة بعد الصلاة، هذا يدل على أن شأن الصلاة في قلبه عظيم، وأنها على باله وإن كان في عمله، وإن كان في بيعه وشرائه، وإن كان في حاجة أهله، وإن كان في كذا وإن كان في كذا، قلبه معلق بالصلاة كما في الحديث الآخر يقول النبي ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد يعني كلما خرج من الصلاة فهو قلبه معلق حتى يؤدي الصلاة الأخرى، وهكذا لا ينسى بل هي على باله في جميع الأوقات من شدة تعظيمه لها وحرصه عليها، هي على باله كلما فرغ من واحدة ينتظر الأخرى، يسأل ربه أن الله يعينه على أدائها في الجماعة، هكذا المؤمن، وهكذا طالب النجاة، نسأل الله للجميع التوفيق.
س: الذي لم يصل ...؟
ج: المؤمن هو الذي يصلي، الذي ما يصلي ما هو مؤمن، الذي ما يصلي من إخوان الشياطين.
س: هذا من النفاق؟
ج: لا، ما هو النفاق، المنافق يصلي مع الناس منافق، ولكن هذا لا منافق ولا مؤمن، بل كافر نسأل الله العافية، والمنافق يتظاهر بالإسلام وقلبه مريض، ما يؤمن في الباطن هذا منافق مثل ما قال الله في المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، قلوبهم خربانة، صلاتهم رياء، نسأل الله العافية.
16/132-السَّادسَ عشرَ: عن أَبِي موسى الأشعرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: منْ صلَّى الْبَرْديْنِ دَخَلَ الْجنَّةَ متفقٌ عَلَيهِ.
البرْدَانِ: الصُّبْحُ والْعَصْرُ.
17/133-السَّابِعَ عشَر: عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: إِذَا مرِضَ الْعبْدُ أَوْ سافَر كُتِب لَهُ مثل مَا كانَ يعْملُ مُقِيمًا صحيِحًا رواه البخاري.
18/134-الثَّامنَ عشَرَ: عنْ جابرٍ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: كُلُّ معرُوفٍ صدقَةٌ رواه البخاري، ورواه مسلم مِن رواية حذَيفَةَ .
الشيخ: هذه الأحاديث أيضا فيما يتعلق بكثرة طرق الخير، وأنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في استعمال نفسه فيما يقربه من الله في سائر أنواع الخير، والله جل وعلا شرع لعباده أنواعا من الخير، فينبغي له أن يجاهد نفسه حتى يستعملها فيما ينفعه، ويرضي الله ويقرب لديه، ومن هذا قوله ﷺ: من صلى البردين دخل الجنة وهما الفجر والعصر، يدل على أنه ينبغي أن يكون للإنسان عناية بهذين الفرضين لأن المنافقين يفرطون فيهما، وفي الحديث الصحيح: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ويقول ﷺ: من ترك صلاة العصر حبط عمله. وفي اللفظ الآخر: من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله فالواجب على المؤمن أن يحافظ على الصلوات الخمس غاية المحافظة، وأن يخص الفجر والعصر بمزيد عناية خلافا للمنافقين وخلافا للكسالى.
والحديث الثاني: يقول ﷺ: كل معروف صدقة هذا يدل على كثرة الخير كل معروف، سلام، كلمة طيبة، إرشاد إلى الخير، تنفيس كربة، إصلاح بين اثنين، إلى غير هذا من وجوه الخير كله صدقة، كل ذلك صدقة، فينبغي للمؤمن أن يجتهد في أنواع الخير من أنواع المعروف مع إخوانه، ومع أبناء السبيل، ومع غيرهم كما في الحديث الصحيح لما قيل: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وفي اللفظ الآخر: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
كذلك حديث: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم هذا من فضل الله أيضا كون العبد قد يسافر، قد يمرض وله أعمال صالحة فالله يكتب ما كان يعمله وهو صحيح ومقيم، فإذا كان مثلًا في حال إقامته يصلي الضحى أربع ركعات، أو ثمان ركعات ويوتر في الليل، ولكن في السفر شق عليه ذلك وضعف عمله كتب الله له ما كان يعمل في حال الإقامة وفي حال الصحة، وهذا من فضل الله جل وعلا، الإنسان قد ينقص عمله مع السفر ومع المرض فيكتب الله له أعماله السابقة في حال صحته وفي حال إقامته، وهذا من فضل الله وكرمه ، ولهذا في الحديث الصحيح لما سافر النبي ﷺ لغزو الروم وأقام في تبوك أياما قال ﷺ: إن في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم حبسهم العذر قالوا: يا رسول الله وهم في المدينة؟ قال: وهم في المدينة، في اللفظ الآخر: إلا شركوكم في الأجر لأنهم حبسهم عن الغزو المرض، فدل على أن من تأخر عن الغزو أو عن غيره من الأعمال الصالحات بسبب المرض كتب الله له أجر ذلك العمل بسبب عذره لأن الله يعلم من قلبه أنه إنما تأخر بسبب هذا المرض أو بسبب السفر. وفق الله الجميع.
19/135-التَّاسع عشر: عنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إلاَّ كانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْه لَه صدقَةً، وَلاَ يرْزؤه أَحَدٌ إلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةً رواه مسلم. وفي رواية لَهُ: فَلا يغْرِس الْمُسْلِم غَرْسًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنسانٌ وَلاَ دابةٌ وَلاَ طَيرٌ إلاَّ كانَ لَهُ صدقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامة.
وفي رواية لَهُ: لاَ يغْرِس مُسلِم غرْسًا، وَلاَ يزْرعُ زرْعًا، فيأْكُل مِنْه إِنْسانٌ وَلا دابَّةٌ وَلاَ شَيْءٌ إلاَّ كَانَتْ لَه صَدَقَةً، ورويَاه جميعًا مِنْ رواية أَنَسٍ .
قولُهُ: يرْزَؤُهُ أي: يَنْقُصهُ.
20/136-العْشْرُونَ: عنْهُ قالَ: أَراد بنُو سَلِمَة أَن ينْتَقِلوا قُرْبَ المَسْجِدِ فبلَغَ ذلِكَ رسولَ اللَّه ﷺ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّه قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُربَ الْمَسْجِدِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رسولَ اللَّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذلكَ، فَقالَ: بَنِي سَلِمةَ ديارَكُمْ تكْتبْ آثَارُكُمْ، دِياركُم تُكْتَبْ آثارُكُمْ رواه مسلم.
وفي روايةٍ: إِنَّ بِكُلِّ خَطْوةٍ دَرَجَةً رواه مسلم. ورواه البخاري أيضًا بِمعنَاهُ مِنْ روايةِ أَنَسٍ .
وَبنُو سَلِمَةَ بكسر اللام: قبيلة معروفة مِنَ الأَنصار ، وَ آثَارُهُمْ خُطاهُمْ.
21/137-الْحَادي والْعِشْرُونَ: عنْ أَبِي الْمُنْذِر أُبيِّ بنِ كَعبٍ قَالَ: كَان رجُلٌ لا أَعْلمُ رجُلا أَبْعَدَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ، وكَانَ لاَ تُخْطِئُهُ صلاةٌ فَقِيل لَه، أَوْ فقُلْتُ لهُ: لَوْ اشْتَريْتَ حِمارًا ترْكَبُهُ في الظَّلْماءِ، وفي الرَّمْضَاءِ، فَقَالَ: مَا يسُرُّنِي أَن منْزِلِي إِلَى جنْب الْمسْجِدِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَب لِي ممْشَايَ إِلَى الْمَسْجد، ورُجُوعِي إِذَا رجعْتُ إِلَى أَهْلِي، فقالَ رَسُولَ اللَّه ﷺ: قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لكَ ذلِكَ كُلَّهُ رواه مسلم.
وفي روايةٍ: إِنَّ لَكَ مَا احْتسَبْت.
الرمْضَاءُ الأَرْضُ الَّتِي أَصَابَهَا الْحرُّ الشَّديدُ.
22/138-الثَّاني والْعشْرُونَ: عنْ أَبِي محمدٍ عبداللَّهِ بنِ عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: أَرْبعُونَ خَصْلةً أَعلاها منِيحةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عامَلٍ يعملَ بِخَصْلَةٍ مِنْها رجاءَ ثَوَابِهَا وتَصْدِيقَ موْعُودِهَا إِلاَّ أَدْخلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجنَّةَ رواه البخاري.
الْمنِيحةُ: أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا ليأْكُل لبنَهَا ثُمَّ يَردَّهَا إِليْهِ.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق ببيان الكثير من طرق الخير، تقدمت أحاديث كثيرة وآيات تحث على طرق الخير، وأنه ينبغي للمؤمن أن يستكثر منها، وأن يجتهد فيما أمكنه منها حتى تكثر حسناته وأعماله الصالحة، وتقل سيئاته بذلك، وهذه الدار هي دار العمل، هي دار الزرع، دار الجد، يزرع للآخرة، فكلما أكثر من الأعمال الصالحات فقد زرع خيرا كثيرا وقدم خيرا كثيرا، والله يقول: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:223]، فالمؤمن يقدم لنفسه وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، ومن ذلك قوله ﷺ: ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه دابة أو طير أو إنسان إلا كان له صدقة هذا أيضا فيه فضل عظيم، غرس الأشجار من النخيل وغيرها وزرع الحبوب كلما ذهب منها صار له صدقة، طير يأكل، دابة تأكل، ريح تقصف شيئا منها، كلما ذهب عليه شيء صار له صدقة، كل مصيبة ترزأه فيها يكون له صدقة، هذا يبين لنا أن المزارعين على خير عظيم ولاسيما مع الاحتساب وقصد وجه الله جل وعلا، مع الاحتساب والرغبة فيما عند الله يكون للعبد في هذا خير كثير.
ومن هذا قوله ﷺ لبني سلمة لما أرادوا القرب من المسجد، وهم من الأنصار، وهم رهط كعب بن مالك الأنصاري الذي جرى له ولصاحبيه قصة يوم تبوك، هم بنو سلمة بالكسر أرادوا أن يقربوا من المسجد فقال لهم النبي ﷺ: يا بني سلمة الزموا دياركم تكتب آثاركم يعني خطاكم، وفي الحديث الصحيح: إن العبد إذا ذهب إلى المسجد لا يخطو خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة كلما زادت الخطى زادت الدرجات وحط الخطايا، ولهذا قال لهم: دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم يعني الزموها، وهكذا الرجل الذي كان له محل بعيد من المسجد يقول: أبي أنه ما يعلم أحدا أبعد منه من المسجد، ومع هذا لا تخطئه صلاة، كل صلاة حاضر فيها مع بعد داره من شدة رغبته في الخير وحرصه على الصلاة، فقال له بعض الصحابة: لو اشتريت حمارا تركبه في الرمضاء وقت القائلة، وفي الظلماء في الليل، قال: ما أحب أن يكون منزلي قريبا من المسجد، إني أحب أن تكتب لي خطاي ذاهبا وراجعا، فأخبر النبي ﷺ بذلك فقال: إن الله جمع له هذا كله أي جمع له آثار خطاه ورفع درجاته وحط خطاياه، فالإنسان إذا خرج إلى المسجد، أو إلى عيادة المريض، أو اتباع جنازة، أو لدعوة إلى الله ونصيحة، أو لغير هذا من وجوه الخير تكتب له هذه الآثار رفع درجات وحط خطايا.
الحديث الرابع: حديث عبدالله بن زيد فيه أن الرسول ﷺ قال: أربعون خصلة أعلاهما منيحة العنز، ما من عبد يأتي بخصلة منها تصديق موعودها ورجاء ثوابها إلا أدخله الله بها الجنة هذه أربعون خصلة، كل مؤمن ينافس يلتمس هذه الخصال لعله يصيبها، أعلاها منيحة العنز، عمل خفيف منيحة العنز، كونك تعطي جارك أو آخر من المسلمين عنزا أو شاة أو بقرة أو خلفة يشرب لبنها ويعيدها إليك في هذا فضل العنز، على رخصها وتيسرها أعلاها منيحة العنز، كيف إذا منح بقرة أو خلفة أو عنزين أو ثلاثة يكون الأجر أعظم، يدخل في هذه الأربعين خصالا كثيرة من الصدقات، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتفريج كربة المكروبين، إنظار المعسر، الشفاعة في الخير، إلى غير هذا من وجوه الخير، هذه أربعون خصلة ما هي سهلة عظيمة كثيرة يتحرى الإنسان في أعمال الخير أن تكون منها، كل واحد يقول: لعلها من الأربعين فينافس فيها رجاء ثوابها وتصديق موعودها، وهذا من فضل الله ورحمته حتى يكون المؤمن في عمل دائم من الخير، وفي مجاهدة، كل ساعة يقول: هذه خصلة طيبة، هذه خصلة طيبة، وينافس في الخيرات في ليله ونهاره ينفع العباد وينفع نفسه، فإذا سعى لإنقاذ إنسان من كربة بقضاء دينه لإخراجه من الحبس -إذا كان محبوسا بغير حق، لعيادة مريض، اتباع جنازة، نصر مظلوم، إلى غير هذا من وجوه الخير يتحرى هذه الخصال الأربعين له فيها خير عظيم، نسأل الله للجميع التوفيق.
23/139-الثَّالثُ والْعشْرونَ: عَنْ عدِيِّ بنِ حاتِمٍ قَالَ: سمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يقول: اتَّقُوا النَّارَ وَلوْ بِشقِّ تَمْرةٍ متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لهما عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سيُكَلِّمُه ربُّه لَيْس بَيْنَهُ وبَينَهُ تَرْجُمَان، فَينْظُرَ أَيْمنَ مِنْهُ فَلا يَرى إِلاَّ مَا قَدَّم، وينْظُر أشأمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إلاَّ مَا قَدَّمَ، وَينْظُر بَيْنَ يدَيْهِ فَلا يَرى إلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فاتَّقُوا النَّارَ ولوْ بِشِقِّ تَمْرةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ فَبِكَلِمَة طيِّبَةٍ.
24/140-الرَّابِعِ والْعشرونَ: عنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ اللَّه لَيرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فيحْمدَهُ عليْهَا، أَوْ يشْربَ الشَّرْبَةَ فيحْمدَهُ عليْهَا رواه مسلم.
وَالأَكْلَة بفتح الهمزة: وَهيَ الْغَدوة أَوِ الْعشوة.
25/141-الْخَامِسُ والْعشْرُونَ: عن أَبِي موسى رضي اللَّه عنه، عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صدقةٌ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجدْ؟ قالَ: يعْمَل بِيَديِهِ فَينْفَعُ نَفْسَه وَيَتَصدَّقُ قَال: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يسْتطِعْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْملْهوفَ قالَ: أَرأَيْت إِنْ لَمْ يسْتَطِعْ؟ قالَ: يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ قالَ: أَرأَيْتَ إِنْ لَمْ يفْعلْ؟ قالْ: يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صدَقةٌ متفقٌ عليه.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في بيان كثرة طرق الخير، وهذا من فضل الله جل وعلا أن نوع طرق الخير وكثرها ليكثر أجر الإنسان وتكثر حسناته ويعظم نفعه، كلما زاد في اكتساب الخيرات زادت حسناته وارتفعت درجاته وعظم نعيمه، والله يقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7]، ويقول جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] فاكتساب الخيرات والأعمال الصالحات من النعم العظيمة، ولهذا يقول ﷺ في حديث عدي بن حاتم: اتقوا النار ولو بشق تمرة، ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه -يعني يوم القيامة- ليس بينه وبينه ترجمان يعني مشافهة من غير واسطة، هذا يدل على عظم الأمر، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم من خير وشر، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة.
أقل شيء كلمة طيبة: عافاك الله، بارك الله فيك، جزاك الله خيرا، أحسن الله إليك، السلام عليكم وعليكم السلام، كيف حالك، كيف أولادك، وفقك الله، نوصيك بتقوى الله، كلمات تنفع طيبة، ما تيسر كله صدقة، كله خير، إذا قلت لأخيك: كيف حالك؟ كيف أولادك؟ بارك الله فيك، يسر الله أمرك، أعانك الله على الخير، نوصيك بتقوى الله، وما أشبه ذلك كل معروف صدقة.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها صحيح البخاري قالت: جاءت امرأة تشحذ ومعها ابنتان، فلم أجد في البيت إلا ثلاث تمرات فأعطيتها التمرات الثلاث؛ فدفعت إلى كل واحدة من بنتيها تمرة، ورفعت الثالثة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها -التمرة الثالثة- فشقتها بينهما نصفين، قالت: فأعجبني شأنها، فلما جاء النبي ﷺ أخبرته فقال: إن الله أوجب لها بها الجنة يعني بهذه الرحمة وهذا الإحسان.
وحديث أنس يقول ﷺ: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها هذا أيضا من العمل الصالح، كون الإنسان إذا أكل شيئا حمد الله، شرب حمد الله، أكل تمرة، فاكهة، غداء، عشاء، شرب لبن، شرب ماء، شرب شاي، شرب قهوة يقول: الحمد لله، الله يرضى عن العبد، يحب هذا من عبيده أن يحمدوه عند الأكل والشرب، وكان النبي ﷺ يحمد الله بعد الأكل والشرب يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا كل هذه الألفاظ جاءت في الحمد، الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي يستحب أن يقال هذا أيضا عند النوم: الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغ وجعل له مخرجا هذه الكلمات وما أشبهها كلها يحبها الله، يرضاها الله، إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها، يقال أكلة واحدة، الأكلات: كالغداء والعشاء ونحو ذلك، أما الأكلة بالضم فهي اللقمة، بحسب ابن آدم لقيمات اللقمة الواحدة من اللقم التي يأخذها بيده، لقمة من طعام، لقمة من خبز، لقمة من فاكهة، من تمر.
الحديث الثاني: يقول ﷺ: على كل مسلم صدقة كل واحد يتصدق بما يسر الله له، وفي اللفظ الآخر: على كل سلامى من الناس صدقة يعني على كل مفصل صدقة، وتقدم أن الإنسان خلق على ثلاثمائة وستين مفصل، كل مفصل عليه صدقة شكرا لله على هذه النعم، قالوا: يا رسول الله فإن لم يجد؟ ما عنده شيء يتصدق؟ قال: يعمل بيديه ويتصدق يعمل نجارا، حدادا، بناء، خرازا، كاتبا، يعمل شيئا غارسا، زارع، يعمل شيئا يدر عليه، لا يجلس، يدور الرزق، يطلب الرزق، لا يتساهل في هذا، والإنسان أطيب ما يكون يكون من عمل يده، قالوا: يا رسول الله فإن لم يجد؟ قال: يعمل بيديه ويتصدق يعني بالكسب يدور العيشة يتسبب، قالوا: فإن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف يعني أخاه المحتاج يعينه، واحد عجز أن ينوخ بعيره ينوخ بعيره، واحد ما عرف يشغل السيارة يساعده في تشغيل السيارة، إنسان ما عرف يخيط ثوبه يخيط ثوبه، وأشباه ذلك، إنسان انغلق عليه الباب يفتح له الباب، إنسان معه حاجة ما استطاع يرفعها في السيارة يرفعها له في السيارة، يعين ذا الحاجة، قالوا فإن لم يستطع؟ قال: يأمر بمعروف وينهى عن منكر، قالوا: فإن لم يستطيع؟ قال: يكف شره عن الناس أقل شيء يكف شره فإنها صدقة منه على نفسه، إذا كان ما عنده نفع للناس ولا فائدة أقل شيء يكف شره لا يؤذي أحدا لا بلسانه، ولا بفعاله، إما أن يعين على الخير ويفعل، وإما أن يكف شره، هكذا المؤمن إما أن ينفع أخاه، وإما أن يكف شره، لا يوصل شره إلى الناس بل ينفعهم ويعينهم على الخير، أو على الأقل يكف شره، وفق الله الجميع.
14-باب في الاقتصاد في العبادة
قَالَ الله تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2]، وَقالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].
1/142- وعن عائشةَ رضي اللَّهُ عنها أَن النَّبيّ ﷺ دخَلَ عليْها وعِنْدها امْرأَةٌ قَالَ: منْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: هَذِهِ فُلانَة تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا قالَ: مَهُ عليكُمْ بِما تُطِيقُون، فَوَاللَّه لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حتَّى تَمَلُّوا وكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ ما داوَمَ صَاحِبُهُ علَيْهِ متفقٌ عليه.
ومهْ كَلِمة نَهْى وزَجْرٍ. ومَعْنى لاَ يملُّ اللَّهُ أي: لاَ يَقْطَعُ ثَوابَهُ عنْكُمْ وَجَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ، ويُعَامِلُكُمْ مُعاملَةَ الْمالِّ حَتَّى تَملُّوا فَتَتْرُكُوا، فَينْبَغِي لكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَا تُطِيقُونَ الدَّوَامَ علَيْهِ لَيَدُومَ ثَوَابُهُ لَكُمْ وفَضْلُه عَلَيْكُمْ.
2/143- وعن أَنسٍ قَالَ: جاءَ ثَلاثةُ رهْطِ إِلَى بُيُوتِ أَزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ يسْأَلُونَ عنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخبِروا كأَنَّهُمْ تَقَالَّوْها، وقالُوا: أَين نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ غُفِر لَهُ مَا تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فأُصلِّي اللَّيلَ أَبدًا، وَقالَ الآخَرُ: وَأَنا أَصُومُ الدَّهْرَ أَبَدًا وَلا أُفْطِرُ، وقالَ الآخرُ: وأَنا أعْتَزِلُ النِّساءَ فَلاَ أَتَزوَّجُ أَبدًا، فَجاءَ رسولُ اللَّه ﷺ إلَيْهمْ فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وكذَا؟، أَما واللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للَّهِ وَأَتْقَاكُم لَهُ، لكِني أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصلِّي وَأَرْقُد، وَأَتَزَوّجُ النِّسَاءَ، فمنْ رغِب عَنْ سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّى متفقٌ عَلَيهِ.
3/144-وعن ابن مسعودٍ أن النبيَّ ﷺ قَالَ: هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قالَهَا ثَلاثًا، رواه مسلم.
الْمُتَنطِّعُونَ: الْمُتعمِّقونَ الْمُشَدِّدُون فِي غَيْرِ موْضَعِ التَّشْدِيدِ.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة مع الآيتين الكريمتين فيها الدلالة على الاقتصاد في العبادة، وأنه ينبغي للمؤمن ألا يتكلف وألا يتشدد في العبادة، بل يتحرى ما يطيق ولا يشق عليه لأنه سبحانه يحب من عباده الاقتصاد في العمل، وألا يتكلفوا، يقول جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، ويقول سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول جل وعلا: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ويقول جل وعلا: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] فالمؤمن لا يتكلف، يصلي ما يسر الله، يصوم ما يسر الله له، يتصدق بما يسر الله له، لا يتكلف، لا يشق على نفسه، فالدين يسر وليس بعسر مثل ما قال ﷺ: إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فهو سبحانه جعله يسرا ولم يجعله حرجا ومشقة وآصارا، ولهذا يقول جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] فالمريض إذا شق عليه الصيام أفطر، شق عليه القيام في الصلاة صلى قاعدا، شق عليه القعود صلى على جنبه أو مستلقيا على حسب قدرته، وهكذا في بقية الأعمال يتقي الله ما استطاع.
في حديث عائشة رضي الله عنها: أن امرأة دخلت على عائشة تذكر من صلاتها وتهجدها، فدخل النبي ﷺ فأخبرته عائشة بذلك فقال ﷺ: مه اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا حثهم على أن يعملوا ما يستطيعون ولا يتكلفوا ولا يشددوا على أنفسهم، لا في الصلاة، ولا في غيرها من التطوعات: صيام، صلاة، صدقة وحج، وغير ذلك، المشروع لهم عدم التكلف، وقوله: فإن الله لا يمل حتى تملوا هذا وصف من أوصاف الله يجرى على ظاهره، على الكيفية التي تليق بالله، لا يشابه خلقه، بل مللا يليق بالله ليس فيه نقص ولا عيب خلاف ملل المخلوقين وتعبهم، والمؤلف أوله بقطع الثواب، والأولى إجرائه على ظاهره، يقال: إنه وصف يليق بالله، لا يكيف، بل وصف يليق به سبحانه لا يشابه ملل المخلوقين، فإنه سبحانه هو القادر على كل شيء، العظيم الذي لا أعظم منه، ولا يشق عليه شيء ، لكن من مقتضى هذا الوصف أنه لا يقطع ثوابه ولا يوقف عنكم فضله إلا إذا قطعتم أنتم، فالمؤمن يواصل العمل ويجتهد في الخير يرجو ما عند الله من المثوبة، ولكن لا يشق على نفسه، يصوم وهو ما يستطيع الصيام التطوع، يواصل الصيام وهو يشق عليه، يتصدق بشيء ما يقدره يشق عليه، عليه بتقوى الله وأن يتحرى ما لا يشق عليه.
من هذا قول جماعة من الصحابة لما سألوا عن عمل النبي ﷺ في السر كأنهم تقالوه، فقال بعضهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، فبلغ النبي ذلك ﷺ فأخبرهم وأنكر عليهم هذا العمل، وقال: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له -ولكني لا أفعل فعلكم- أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني المعنى لا يجوز للإنسان يتعب نفسه ويصلي أبدا ولا ينام، ويصوم أبدا ولا يفطر، لا ولكن يصلي ما فرض الله عليه، يتطوع بما ييسر الله له، ولكن ينام ويستريح، هكذا يصوم ما يسر الله له ويفطر، يصوم الفريضة، يحج حج الفرض وما تيسر من التطوع ولا يكلف نفسه، ولهذا قال: أما والله حلف وهو الصادق وإن لم يحلف إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، فالرسول ﷺ هو أخشى الناس لله، وأتقى الناس، وأعلم الناس ﷺ، ومع هذا يصلي وينام، ينام بعض الليل ويصلي، يصوم بعض الأيام ويفطر، يتزوج كان عنده تسع ﷺ، وفي اللفظ الآخر: وآكل اللحم لأن بعضهم قال: لا آكل اللحم، فقال: وأنا آكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني، بعضهم قال: أما أنا فلا أنام على فراش، قال: أما أنا أتزوج النساء، وآكل اللحم، وأنام على الفراش، فمن رغب عن سنتي فليس مني، ويقول ﷺ: هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون يرددها ثلاثا، المتنطع: المتشدد، يعني الذي يتشدد ويتنطع في أعماله ويزيد، هذا هلك بدعة ومشقة على النفوس، ولكن يقتصد يتحرى الخير ولا يغلو، يقول ﷺ: إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين، قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء: 171] ... والغلو هو الزيادة في الدين، الزيادة في الأفعال أو في الأقوال، ما شرعها الله، هذا الغلو والتنطع هو الزيادة مثل أن يقول: أنا أصوم أبدا، أنا أقوم الليل أبدا لا أنام هذا تنطع وغلو لا يجوز. وفق الله الجميع.
4/145- عن أَبِي هريرة النَّبيّ ﷺ قَالَ: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولنْ يشادَّ الدِّينُ إلاَّ غَلَبه، فسدِّدُوا وقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، واسْتعِينُوا بِالْغدْوةِ والرَّوْحةِ وشَيْءٍ مِن الدُّلْجةِ رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ: سدِّدُوا وقَارِبُوا واغْدوا ورُوحُوا، وشَيْء مِنَ الدُّلْجةِ، الْقَصْد الْقصْد تَبْلُغُوا.
قوله: الدِّينُ هُو مرْفُوعٌ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وروِي مَنْصُوبًا، وروِيَ: لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ، وقوله ﷺ: إِلاَّ غَلَبَهُ: أَيْ: غَلَبَه الدِّينُ وَعَجزَ ذلكَ الْمُشَادُّ عنْ مُقَاومَةِ الدِّينِ لِكَثْرةِ طُرقِهِ. والْغَدْوةُ سيْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ. وَالرَّوْحةُ: آخِرُ النَّهَارِ. والدُّلْجَةُ: آخِرُ اللَّيْلِ. وَهَذا استَعارةٌ، وتَمْثِيلٌ، ومعْناهُ: اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعةِ اللَّهِ بالأَعْمالِ فِي وقْتِ نشاطِكُمْ، وفَراغِ قُلُوبِكُمْ بحيثُ تًسْتلذُّونَ الْعِبادَةَ ولا تسأَمُونَ وتبلُغُونَ مقْصُودَكُمْ، كَما أَنَّ الْمُسافِرَ الْحاذِقَ يَسيرُ في هَذهِ الأَوْقَاتِ وَيستَريِحُ هُو ودابَّتُهُ فِي غَيْرِهَا، فيصِلُ الْمقْصُود بِغَيْرِ تَعبٍ، واللَّهُ أَعلم.
5/146-وعن أَنسٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمسْجِدَ فَإِذَا حبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فقالَ: مَا هَذَا الْحبْلُ؟ قالُوا، هَذا حبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَترَتْ تَعَلَقَتْ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: حُلُوهُ، لِيُصَل أَحدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذا فَترَ فَلْيرْقُدْ متفقٌ عَلَيهِ.
6/147- وعن عائشة رضي اللَّه عنها أنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِذَا نَعَسَ أَحدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فإِن أَحدَكم إِذَا صلَّى وهُو نَاعَسٌ لا يَدْرِي لعلَّهُ يذهَبُ يسْتَغْفِرُ فيَسُبُّ نَفْسَهُ. متفقٌ عليه.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها فيها الحث على الاقتصاد في العبادة، والحرص على أوقات النشاط وعدم التكلف لقوله جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، وقوله سبحانه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فالمؤمن يجتهد في العبادة من دون مشقة، يعني النوافل: نوافل الصدقة، نوافل الصلاة، نوافل الصيام، يعمل ما تيسر من دون مشقة، ولهذا قال ﷺ: إن هذا الدين يسر يعني ميسر للعباد بحمد الله كما قال جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، وقال النبي ﷺ: يسروا ولا تعسروا.
إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه يعني ما يشاد الدين أحد ويغالب الدين إلا غلبه الدين؛ لأن الدين أوسع وأقوى وأكثر، والإنسان من طبيعته الضعف وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28] فإذا داوم على الشيء المتعب تعب، إذا داوم على الصيام، أو على الصلاة، أو على غيرها مما يشق يتعب، فلا بد يعطي نفسه شيئا من الراحة حتى ينشط، ولهذا قال النبي ﷺ للذين قالوا فيما بينهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، والآخر قال: أصلي ولا أنام، والآخر قال: لا أنام على فراش، وقال الآخر: لا آكل اللحم، قال: لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني فهكذا بقية الدين لا بد من ملاحظة عدم التشدد وعدم التكلف، ولهذا قال: اغدوا وروحوا، وعليكم بشيء من الدلجة، وقال: يسروا ولا تعسروا كل هذا من باب الإعانة بأوقات النشاط، كون الإنسان في أوقات النشاط يعمل في الغدوة والروحة أول النهار، وآخر النهار شيء من الدلجة في آخر الليل، يكون الإنسان تهجده بالليل أو في آخر الليل حسب الطاقة، حسب التيسير، يستغل وقته في أول النهار، وفي آخر النهار، وفي جميع الأوقات حسب النشاط.
ورأى يوما في المسجد حبلا معلقا فقال: ما هذا؟ قالوا: فلانة تصلي، فإذا تعبت تعلقت بالحبل، قال: اقطعوه، اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا فالمؤمن يكلف من العمل ما يطيق يعمل طاقته، أما كونه يتعلق بالحبال ويطول القيام هذا مشقة لا تليق، ثم بعد هذا يمل ويتعب ويترك لكن يصلي في الليل يتهجد، نشاطه يقرأ ما تيسر يركع ويسجد من دون تطويل يشق عليه حتى يصلي ما كتب الله له في تهجده لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وهكذا قوله ﷺ: إذا نعس أحدكم وهو يصلي يعني في تهجده في الليل فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإذا أراد التهجد وعنده ضعف ونعاس يرقد حتى يقوم في وقت النشاط، في آخر الليل يصلي قبل أن ينام، يعالج الأمر لا يكلف نفسه شيئا ما تطيقه، إما من أجل ضعفها ومرضها، أو من جهة النعاس، أو من جهة كثرة العمل، فينبغي أن يكون طبيب نفسه، فإنه إذا أكثر عليها فقد تمل وتضعف وتترك العمل بالكلية، قد يرتد الإنسان عن العمل بالكلية، لكن إذا عالج الأمور بالحكمة وأخذ ما يستطيع صار ذلك أقرب إلى أن يستمر، ولهذا قال: القصد القصد، تبلغوا: يعني ارفقوا بأنفسكم، فإذا رفق الإنسان بنفسه ولم يكلفها ما لا يطيق صار أقرب إلى أن يستمر، وإلى أن يثبت بالعمل، وينشط في العمل.
وفق الله الجميع.
س: أنا أعلم أن السعادة الحقيقية في تقوى الله والزهد في هذه الدنيا، وأريد أن أتواضع في مأكلي وملبسي ومشربي ومركبي، ولكن لا أستطيع بسبب الواقع المترف الذي نعيش فيه، فما نصيحتكم؟
ج: نصيحتنا لك ألا تتكلف، وعليك بالوسط، لا تفعل ما تزدرى فيه، تلبس الملابس الرديئة وأنت لا يليق بك ذلك، وهكذا الطعام تكون وسطا في أمورك لا تفعل فعل الفقراء وأنت غني، ولا تطلب فعل الأغنياء وأنت فقير، فعليك بقدر استطاعتك، ويقول: الله يحب من عبده أن يرى أثر نعمته عليك، فإذا كان الله وسع عليك تطعم وتلبس الوسط الذي ليس فيه التكلف وليس فيه جحد لنعم الله، وانظر إلى من دونك، لا تنظر إلى من فوقك حتى لا تزدري نعم الله عليك، أما التكلف في الملابس والمشارب والمآكل فلا يليق، لكن الإنسان ينظر الوسط ولباس أمثاله وأكل أمثاله حتى لا يزدري نعمة الله عليه.
7/148- وعن أَبِي عبداللَّه، جابر بن سمُرَةَ رضي اللَّهُ عنهما قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النبيِّ ﷺ الصَّلَوَاتِ، فَكَانَتْ صلاتُهُ قَصدًا وخُطْبَتُه قَصْدًا رواه مسلم.
قولُهُ: قَصْدًا: أَيْ بَيْنَ الطُّولِ وَالْقِصَرِ.
8/149- وعن أَبِي جُحَيْفَةَ، وَهبِ بْنِ عبداللَّه قَالَ: آخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْن سَلْمَانَ وأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاء مُتَبَذِّلَةً، فقالَ: مَا شَأْنُكِ؟ قالَتْ: أَخْوكَ أَبُو الدَّرداءِ ليْسَ لَهُ حَاجةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدرْدَاءِ فَصَنَعَ لَه طَعَامًا، فقالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قالَ: مَا أَنا بآكلٍ حَتَّى تأْكلَ، فَأَكَلَ، فَلَّمَا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْداءِ يقُوم فَقَالَ لَه: نَمْ فَنَام، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُوم فقالَ لَه: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخرِ اللَّيْلِ قالَ سلْمانُ: قُم الآنَ، فَصَلَّيَا جَمِيعًا، فقالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأهلِك عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَذَكر ذلكَ لَه، فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: صَدَقَ سلْمَانُ رواه البخاري.
9/150- وعن أَبِي محمد، عبداللَّهِ بنِ عَمْرو بنِ العاص رضي اللَّه عنهما قال: أُخْبرَ النَّبِيُّ ﷺ أنِّي أَقُول: وَاللَّهِ لأَصومَنَّ النَّهَارَ، ولأَقُومنَّ اللَّيْلَ مَا عشْتُ، فَقَالَ رسُول اللَّه ﷺ: أَنْتَ الَّذِي تَقُول ذلِكَ؟ فَقُلْت لَهُ: قَدْ قُلتُه بأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رسولَ اللَّه. قَالَ: فَإِنكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذلِكَ، فَصُمْ وأَفْطرْ، ونَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحسنَةَ بعَشْرِ أَمْثَالهَا، وذلكَ مثْلُ صِيامٍ الدَّهْرِ قُلْت: فَإِنِّي أُطيق أفْضَلَ منْ ذلكَ قالَ: فَصمْ يَوْمًا وَأَفْطرْ يَوْمَيْنِ، قُلْت: فَإِنِّي أُطُيق أفْضَلَ مِنْ ذلكَ، قَالَ: فَصُم يَوْمًا وَأَفْطرْ يوْمًا، فَذلكَ صِيَام دَاود ﷺ، وَهُو أَعْدَل الصِّيَامِ . وَفي رواية: هوَ أَفْضَلُ الصِّيامِ فَقُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلكَ، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لا أَفْضَلَ منْ ذلِكَ وَلأنْ أَكْونَ قَبلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيَّامِ الَّتِي قالَ رسولُ اللَّه ﷺ أَحَبُّ إِليَّ منْ أَهْلِي وَمَالِي.
وفي روايةٍ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصومُ النَّهَارَ وتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَالَ: فَلا تَفْعل: صُمْ وأَفْطرْ، ونَمْ وقُمْ، فَإِنَّ لجَسَدكَ علَيْكَ حَقًّا، وإِنَّ لعيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لزَوْجِكَ علَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لزَوْركَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإِنَّ بحَسْبكَ أَنْ تَصْومَ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنةٍ عشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِن ذلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ فشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّه إِنّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: صُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ داوُدَ وَلا تَزدْ عَلَيْهِ قُلْتُ: وَمَا كَان صِيَامُ داودَ؟ قَالَ: نِصْفُ الدهْرِ فَكَان عبداللَّهِ يقول بعْدمَا كَبِر: يا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصةَ رَسُول اللَّه ﷺ.
وفي رواية: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّك تصُومُ الدَّهْرِ، وَتْقَرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَة؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رسولَ اللَّهِ، ولَمْ أُرِدْ بذلِكَ إِلاَّ الْخيْرَ، قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ نَبِيِّ اللَّهِ داودَ، فَإِنَّه كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ، واقْرأْ الْقُرْآنَ في كُلِّ شَهْرٍ قُلْت: يَا نَبِيِّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيق أَفْضل مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ: فَاقْرَأه فِي كُلِّ عِشرِينَ قُلْت: يَا نبيِّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيق أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْر قُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيق أَفْضلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ: فَاقْرَأْه في كُلِّ سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، وقَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي لَعلَّكَ يَطُول بِكَ عُمُرٌ قالَ: فَصِرْت إِلَى الَّذِي قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ قَبِلْت رخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ.
وفي رواية: وَإِنَّ لوَلَدِكَ علَيْكَ حَقًّا وفي روايةٍ: لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ ثَلاثًا. وفي روايةٍ: أَحَبُّ الصَّيَامِ إِلَى اللَّه تَعَالَى صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى صَلاةُ دَاوُدَ: كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يوْمًا ويُفْطِرُ يَوْمًا، وَلا يَفِرُّ إِذَا لاقَى.
وفي رواية قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حسَبٍ، وكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتهُ أي: امْرَأَة ولَدِهِ فَيسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ لَهُ: نِعْمَ الرَّجْلُ مِنْ رجُل لَمْ يَطَأْ لنَا فِرَاشًا ولَمْ يُفتشْ لنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طالَ ذَلِكَ عَلَيهِ ذكَرَ ذلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ. فقَالَ: الْقَني بِهِ فلَقيتُهُ بَعْدَ ذلكَ فَقَالَ: كيفَ تَصُومُ؟ قُلْتُ كُلَّ يَوْم، قَالَ: وَكيْفَ تَخْتِم؟ قلتُ: كُلَّ لَيلة، وذَكَر نَحْوَ مَا سَبَق، وكَان يقْرَأُ عَلَى بعْض أَهْلِه السُّبُعَ الَّذِي يقْرؤهُ، يعْرضُهُ مِن النَّهَارِ لِيكُون أَخفَّ علَيِهِ بِاللَّيْل، وَإِذَا أَراد أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَر أَيَّامًا وَأَحصَى وصَام مِثْلَهُنَّ كَراهِيةَ أَن يتْرُك شَيئًا فارقَ علَيهِ النَّبِي ﷺ.
كُلُّ هذِه الرِّوَايات صحيِحةٌ مُعْظَمُهَا فِي الصَّحيحيْنَ، وقليلٌ منْهَا في أَحَدِهِما.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالاقتصاد في العبادة، وأنه ينبغي للمؤمن أن يقتصد، وألا يشق على نفسه، بل يقتصد في صومه وصلاته وغير ذلك بعد أداء الفرائض، تقدم جملة من ذلك، والله سبحانه يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولهذا قال جابر ابن سمرة أنه صلى مع النبي ﷺ فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا، يعني وسط، صلاته وسط، وخطبته وسط، في الجمعة وغيرها لا يطول ولا يخفف بل يصلي صلاة قصدا ليس فيها مشقة على الناس، وهكذا يخطب خطبة وسطا ليس فيها مشقة، تفيد الناس ولكن لا تشق عليهم، وهذا هو السنة للإمام أن يتحرى الاقتداء بالنبي ﷺ في صلاته، والتوسط في ذلك، وهكذا في خطبته في الجمعة والعيد ونحو ذلك لا يطول ولا يخفف تخفيفا يزيل الفائدة، ولكن يتوسط حتى تحصل الفائدة من دون مشقة.
وفي حديث سلمان أنه زار أبا الدرداء سلمانُ الفارسي ممن هاجر إلى النبي ﷺ من بلد فارس هاجر إلى المدينة، وأبو الدرداء من الأنصار، وكان متعبدا مجتهدا في العبادة يقوم الليل ويستمر في الصيام، فجاء سلمان زارهم يوما فسأل أم الدرداء عن حاله؟ فقالت: إنه ما يريد الدنيا، تريد أنه لا يلتفت إليها ولا ينظر في أمرها، فلما قدم الطعام، قال له سلمان: كل. قال: إني صائم. قال: لا آكل حتى تأكل، فأفطر أبو الدرداء لأنه صوم نافلة لا بأس أن يفطر إذا رأى المصلحة، فأفطر أبو الدرداء لأجل متابعة ضيفه فأكلا، ثم لما جاء الليل وأراد أن يقوم من أول الليل يتهجد لليل قال: لا، نم، ثم أراد أن يقوم فقال له: نم، فلما جاء آخر الليل قال: قم، وقال سلمان: إن لنفسك عليك حقا، ولعينك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، ولضيفك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، يعني لا تسهر للعبادة، نم مع أهلك وقم بعض الوقت، وصم وأفطر ما هو بدائم الصيام، فلما أصبحا أتى النبي ﷺ أبو الدرداء فقال: يا رسول الله إن هذا كلام سلمان قال لي كذا، فقال النبي ﷺ: صدق سلمان، صدق سلمان.
يعني أن الواجب عليك الإنصاف من نفسك وعدم هجر زوجتك، نم معها بعض الوقت وقم في آخر الليل تعبد، صم بعض الأيام وأفطر بعض الأيام، شارك ضيفك، شارك أهلك في طعامك، وهذا هو السنة، لا يستمر في الصيام دائما، ولا يقوم الليل دائما، بل بعض الليل، ولهذا تقدم قوله ﷺ لما جاء ناس إلى أبيات النبي ﷺ وسألوهم عن عبادته في البيت كأنهم تقالوها، فقال بعضهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال بعضهم: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش، وقال الآخر: أنا لا آكل اللحم، فلما بلغ النبي ﷺ ذلك خطبهم؛ حمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، الرسول ﷺ أخشى الناس لله، وأتقاهم لله، وأعلمهم بالله، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، وأنام على فراش، فمن رغب عن سنتي فليس مني. فهذا فيه المنع من التكلف والتشدد، والمعنى أنه لا يتشبث بالصوم، يصوم ويفطر، ولا يقوم الليل كله ينام بعض الليل ويقوم بعض الليل، يقوم ما تيسر ولا ينسى أهله، يتصل بهم ويكرمهم ويجامعهم ويؤنسهم، العبادة لها وقت والأهل لهم وقت، وهكذا قال لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، كان عبدالله مجتهدا متعبدا منقطعا في العبادة، يصوم النهار، ويقوم الليل، ويختم كل يوم القرآن، فقال له النبي ﷺ: ألم أحدث أنك تصوم النهار، وتقوم الليل، وتختم القرآن في كل ليلة؟ قال: نعم، وما أردت إلا خيرا، قال: لا إن لنفسك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، صم من الشهر ثلاثة أيام تكفي، صم من الشهر ثلاثة أيام، الحسنة بعشر أمثالها، واقرأ القرآن في كل شهر ختم، ونم وقم فقال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اختمه في عشرين قال: أطيق أفضل من ذلك، اختمه في سبع ولم يزال بالصوم حتى قال: صم يوما وأفطر يوما صيام داود.
هذا أفضل الصيام: صيام داود التطوع، وفي الليل قال: قم ونم تنام بعض الليل وتقوم بعض الليل حتى تعطي زوجك حقها، ونفسك حقها، وجسدك حقه، وضيفك حقه، هذا أفضل الصيام: صيام داود، يصوم يوما ويفطر يوما، وأفضل الصلاة: صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، يعني ثلثين، ويقوم ثلث ﷺ، فالمؤمن يتحرى ما فيه الخير والرحمة وعدم التشديد في تطوعاته، الفريضة لا بد منها أداء الفرائض هذا أمر لا بد منه، الصلوات الخمس، ورمضان، والجمعة، لكن التطوعات لا يشدد على نفسه، إذا شدد قد يمل ويترك العمل، يتوسط لا شدة ولا جفاء مثل ما قال ﷺ، لا شدة ولا جفاء يصوم ويفطر في التنفل، يقوم من الليل وينام يقرأ القرآن في كل شهر ختمة في العشرين، ختمة في سبعة أيام، ختمة لا بأس، أقل شيء ثلاث حتى يتدبر، وحتى يتعقل القرآن، وحتى يستفيد فائدة أكثر، والله بعباده أرحم منهم بأنفسهم، الله سبحانه بعبادة أرحم منهم بأنفسهم، وهو أرحم بعباده من المرأة بولدها، فلهذا شرع لهم ما يستطيعون، ونهاهم عما يضرهم، ونهاهم عن التكلف. وفق الله الجميع.
س: امرأة أسقطت جنينا يبلغ من العمر شهرين منذ أكثر من اثنين وعشرين عامًا، واليوم هي لا تستطيع الصيام، ولذلك أنا أريد استبداله بإخراج مبلغ من المال فما نوع الصدقة، وهي يجوز إخراج ثمنها لفرد واحد أو عائلة محتاجة يصرف لها ضمان اجتماعي، أو إعطاؤها لإحدى الجمعيات الخيرية، أو إخراجها خارج البلد وذلك بسبب عجزي عن تفريقها على المحتاجين؟
ج: الجنين الذي دون الأربعة ما يسمى جنينا، ولا فيه شيء، إذا سقط لأقل من أربعة شهر، وشهرين وثلاثة، هذا ما فيه شيء، يدفن في محل طيب، والحمد لله ما فيه شيء، أما إذا أسقطت قد نفخ فيه الروح فهذا فيه تفصيل: إن كانت متعمدة فهي تأثم وعليها التوبة إلى الله، وعليها الكفارة، وعليها ديته عشر دية أمه، أما إن كان خطأ، سقط خطأ منها فهذا فيه الكفارة فقط والدية، وليس فيه إثم إذا كان ما تعمدت، بل للأسباب الأخرى، أما ما دون ذلك قبل أن تنفخ فيه الروح، ما دام علقة أو مضغة هذا ما فيه شيء، ما فيه كفارة، ولا يصلى عليه، ولا يسمى، ليس بولد حتى تنفخ فيه الروح حتى يكمل أربعا ويدخل في الخامس.
س: انتشرت بين النساء ظاهرة لبس البنطلونات الضيفة والتي تصف شكل أرجل المرأة بحيث تظهر هذه البنطلونات من أسفل العبايات القصيرة، وذلك في الأسواق والأماكن العامة مما يسبب فتنة للرجال والباعة، فما نصيحتكم؟
ج: لا يجوز للمرأة أن تلبس شيئا يسبب الفتنة، ولا تلبس شيئا يخالف لباس أهل بلدها لأن هذا من ثوب الشهرة، ثوب الشهرة ممنوع فليس لها أن تلبس ما تتشبه فيه بالرجال، أو يبدي بعض عورتها، أو يخالف زي بلدها، بل عليه أن تكون مثل أهل بلدها في ملابسهن مع التستر والعناية بالحذر من التشبه بالرجال، لا في بنطلونات ولا غير بنطلونات، تلبس الملابس العادية التي اعتادها بلدها وأخواتها في الله. والله المستعان.
10/151-وعن أَبِي ربْعِيٍّ حنْظَلةَ بنِ الرَّبيع الأُسيدِيِّ الْكَاتِب أَحدِ كُتَّابِ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: لَقينَي أَبُو بَكْر فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حنْظلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحانَ اللَّه مَا تقُولُ؟ قُلْتُ: نَكُونُ عِنْد رَسُول اللَّه ﷺ يُذكِّرُنَا بالْجنَّةِ والنَّارِ كأَنَّا رأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرجنَا مِنْ عِنْدِ رسولِ اللَّهِ ﷺ عافَسنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعاتِ نَسينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بكْر : فَواللَّهِ إِنَّا لنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فانْطلقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْر حَتَّى دخَلْنَا عَلى رَسُولِ اللَّه ﷺ. فقُلْتُ: نافَقَ حنْظَلةُ يَا رَسُول اللَّه، فقالَ رسولُ اللَّه ﷺ: ومَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّه نُكونُ عِنْدكَ تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ والْجنَةِ كَأَنَّا رأْيَ العَيْنِ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسنَا الأَزوَاج والأوْلاَدَ والضَّيْعاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ أن لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْر لصَافَحتْكُمُ الملائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُم وَفي طُرُقِكُم، وَلَكِنْ يَا حنْظَلَةُ سَاعَةً وسَاعَةً ثَلاثَ مرَّاتٍ، رواه مسلم.
قوله: رِبْعِيٌّ بكسر الراء.الأسيِّدي بضم الهمزة وفتح السين وبعدها ياء مكسورة مشدَّدة، وقوله: عَافَسْنَا هُوَ بِالعينِ والسينِ المهملتين، أي: عالجنا ولاعبنا. الضَّيْعاتُ: المعايش.
11/152- وعنِ ابن عباس رضي اللَّه عنهما قَالَ: بيْنما النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرجُلٍ قَائِمٍ، فسأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرائيلَ نَذَر أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْس وَلا يقْعُدَ، وَلاَ يستَظِلَّ وَلاَ يتَكَلَّمَ، ويصومَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ولْيَستَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ ولْيُتِمَّ صوْمَهُ رواه البخاري.
الشيخ: هذه الأحاديث فيما يتعلق بالاقتصاد في العبادة وعدم التكلف، تقدم أن الواجب على أهل الإيمان الاقتصاد في العبادة وعدم التكلف؛ لأن التكلف يفضي إلى الملل وإلى الترك وكراهة العمل، فالواجب على المؤمن أن يقتصد، وأن يحذر أسباب الإعراض وأسباب الغفلة وأسباب الملل.
في حديث حنظلة الأسيدي أنه قابله الصديق فقال: كيف حالك يا حنظلة؟ فقال: نافق حنظلة، فقال له الصديق: وما ذاك؟ قال: نكون عند النبي ﷺ يذكرنا بالجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عند النبي ﷺ عافسنا النساء والأولاد والضيعات، ونسينا كثيرا، فقال الصديق: هذا واقع، ثم أتيا النبي ﷺ فذكرا له ذلك، فقال: يا حنظلة، لو أنكم تدومون على ما أنتم عليه عندي يعني من الخشوع وحضور القلب والرغبة في الآخرة لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقاتكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة.
يعني ساعة للعبادة وساعة لأمور الدنيا والأهل والأولاد، هذه سنة الله في عبادة، تارة وتارة، هذا هو الواجب فتارة للعبادة والقراءة وأمر الآخرة، وتارة لحاجات الأولاد والأهل والضيعات مزرعته دوابه غير ذلك، ولهذا قال: ساعة وساعة يعني ساعة لدينك وساعة لدنياك، أما كون الإنسان يستمر في العبادة ويضيع دنياه لا ليس من الشرع، هذا الله جل وعلا أمر بطلب الرزق، فالواجب على المؤمن أن يعمل بهذا وهذا، يتقي الله فيما يتعلق بآخرته، ويتقي الله فيما يتعلق بدنياه، وطلب الرزق وطلب الحلال خير ما أكل الإنسان، وأفضل ما أكل الإنسان من عمل يده من زرع وبيع مبرور ونجارة وحدادة وغير ذلك.
في الحديث الصحيح: ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ﷺ.
وهكذا أبو إسرائيل كان النبي ﷺ يخطب ذات يوم، فرأى رجلا قائما في الشمس، فسأل عنه، قال: ما شأنه؟ قالوا: إنه نذر أنه يصوم ويبقى في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم، فأنكر عليه النبي ﷺ ذلك قال: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه لأن هذا نذر غلط، كونه ينذر يبقى في الشمس واقف ولا يستظل ولا يقعد ولا يتكلم مع أحد ويصوم هذا غلط، تكلف ما شرعه الله لعباده، ولهذا قال: مروه فليتكلم، وليقعد، وليستظل، وليتم صومه هذا التكلف لا خير فيه، وهذا مما يمل من العبادة ويزهد في العبادة وينفر منها. وفق الله الجميع.
س: ما صحة قول: ساعة لربك، وساعة لقلبك؟
ج: ما أتذكره، لكن معناه صحيح ساعة للعبادة، وساعة لطلب الرزق.