4/63- الرَّابعُ: عنْ أَنَس قالَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْملُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدقُّ في أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، كُنَّا نَعْدُّهَا عَلَى عَهْدِ رسولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْمُوِبقاتِ" رواه البخاري. وَقالَ: "الْمُوبِقَاتُ" الْمُهْلِكَاتُ.
5/64- الْخَامِس: عَنْ أبي هريْرَةَ، ، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، أنْ يَأْتِيَ الْمَرْءُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ متفقٌ عَلَيهِ.
و الْغَيْرةُ بفتحِ الغين: وَأَصلهَا الأَنَفَةُ.
6/65- السَّادِسُ: عَنْ أبي هُريْرَةَ أَنَّهُ سمِع النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ ثَلاَثَةً مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ: أَبْرَصَ، وأَقْرَعَ، وأَعْمَى، أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَليَهُمْ فَبَعث إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حسنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، ويُذْهَبُ عنِّي الَّذي قَدْ قَذَرنِي النَّاسُ، فَمَسَحهُ فذَهَب عنهُ قذرهُ وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبلُ -أَوْ قَالَ الْبَقَرُ، شَكَّ الرَّاوِي- فأُعْطِيَ نَاقَةً عُشرَاءَ، فَقَالَ: بارَك اللَّهُ لَكَ فِيها
فأَتَى الأَقْرعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحب إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حسنٌ، ويذْهبُ عنِّي هَذَا الَّذي قَذِرَني النَّاسُ، فَمسحهُ عنْهُ، أُعْطِيَ شَعرًا حَسَنًا. قالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقرُ، فأُعِطيَ بَقَرَةً حامِلًا، وقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا
فَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَري فَأُبْصِرَ النَّاسَ، فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بصَرَهُ. قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِليْكَ؟ قَالَ: الْغنمُ فَأُعْطِيَ شَاةً والِدًا، فَأَنْتجَ هذَانِ وَولَّدَ هَذا، فكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، ولَهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلَهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَم
ثُمَّ إِنَّهُ أتَى الأْبرص في صورَتِهِ وَهَيْئتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكينٌ قدِ انقَطعتْ بِيَ الْحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلاَّ باللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، والْجِلْدَ الْحَسَنَ، والْمَالَ، بَعيِرًا أَتبلَّغُ بِهِ في سفَرِي، فقالَ: الحقُوقُ كَثِيرةٌ. فَقَالَ: كَأَنِّي أَعْرفُكُ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرصَ يَقْذُرُكَ النَّاسُ، فَقيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ، فقالَ: إِنَّما وَرثْتُ هَذا المالَ كَابرًا عَنْ كابِرٍ، فقالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّركَ اللَّهُ إِلى مَا كُنْتَ
وأَتَى الأَقْرَع في صورتهِ وهيئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لهذَا، وَرَدَّ عَلَيْه مِثْلَ مَاردَّ هَذَّا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيّرَكَ اللهُ إِليَ مَاكُنْتَ
وأَتَى الأَعْمَى في صُورتِهِ وهَيْئَتِهِ، فقالَ: رَجُلٌ مِسْكينٌ وابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ اليَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذي رَدَّ عَلَيْكَ بصرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا في سَفَرِي؟ فقالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصري، فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ ما أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشْيءٍ أَخَذْتَهُ للَّهِ . فقالَ: أَمْسِكْ مالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رضيَ اللَّهُ عنك، وَسَخَطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ متفقٌ عَلَيهِ.
وَالنَّاقةُ الْعُشَرَاءُ بِضم العينِ وفتح الشين وبالمدِّ: هِيَ الحامِلُ. قولُهُ: أَنْتجَ وفي روايةٍ: فَنَتَجَ معْنَاهُ: تَوَلَّى نِتَاجَهَا، والنَّاتجُ للنَّاقةِ كالْقَابِلَةِ لَلْمَرْأَةِ. وقولُهُ: ولَّدَ هَذا هُوَ بِتشْدِيدِ اللام: أَيْ: تَولَّى وِلادَتهَا، وهُوَ بمَعْنَى نَتَجَ في النَّاقَةِ. فالمْوَلِّدُ، والناتجُ، والقَابِلَةُ بمَعْنى، لَكِنْ هَذا للْحَيَوانِ وذاكَ لِغَيْرِهِ. وقولُهُ: انْقَطَعَتْ بِي الحِبالُ هُوَ بالحاءِ المهملةِ والباءِ الموحدة: أَي الأَسْبَاب. وقولُه: لا أَجهَدُكَ معناهُ: لا أَشَقُّ عليْك في رَدِّ شَيْءٍ تَأْخُذُهُ أَوْ تَطْلُبُهُ مِنْ مَالِي. وفي رواية البخاري: لا أَحْمَدُكَ بالحاءِ المهملة والميمِ، ومعناهُ: لا أَحْمَدُكَ بِتَرْك شَيْءٍ تَحتاجُ إِلَيْهِ، كما قالُوا: لَيْسَ عَلَى طُولِ الحياةِ نَدَمٌ أَيْ عَلَى فَوَاتِ طُولِهَا.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه الأحاديث الثلاثة فيها الدلالة على وجوب المراقبة لله، والحذر من الإقدام على السيئات، فالإنسان قد تعرض له الغفلات والسهو، فالواجب الحذر، الواجب أن يراقب الله في جميع أعماله وأقواله حتى يدع ما حرم الله، وحتى يؤدي ما أوجب الله، هذه الفائدة من المراقبة، الفائدة من المراقبة أن تؤدي ما أوجب الله عليك، وأن تحذر ما حرم الله عليك، تكون مراقبا لربك في جميع أوقاتك، تنظر ماذا يجب فتؤديه، تنظر ماذا يحرم عليك فتحذره، هذه المراقبة.
في حديث أنس يقول : "إنكم لتعملون أعمالا" يحاسب بعض التابعين الذين أدركوه "هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها في عهد النبي ﷺ من الموبقات" يعني من المهلكات، يقول لمن أدركه من التابعين يقول لهم: إنكم تساهلون في أشياء تعدونها خفيفة وهي عندنا عظيمة، فالمعنى راقبوا الله وانظروا في أعمالكم، كثير من الناس يتساهل بالمعاصي التي في عينه صغيرة وهي كبيرة، مثل الغيبة، مثل النميمة، مثل عقوق الوالدين، مثل الربا، مثل الغش في المعاملات، الكذب في الدعاوي، كثير من الناس لا يعدها شيئا ولا يبالي، يكذب، ويغش، ويرابي، ولا يبالي، ويغتاب الناس ولا يبالي لأجل ضعف دينه وقلة مبالاته، ولهذا قال أنس: "إنكم لتعملون أعمالا هي في أعينكم أدق من الشعر" يعني خفيفة عندكم "لكنا كنا نعدها في عهد النبي ﷺ من الموبقات" يعني من الكبائر المهلكة، فهذا يدل على وجوب المراقبة والحذر، وأن ينظر الإنسان ماذا يفعل حتى لا يقدم على معصية تغضب الله عليه.
والله سبحانه يغار، لا أحد أغير من الله جل وعلا، وغيرته إذا انتهكت محارمه، يغار بمعنى يغضب على من أقدم على محارمه، ولهذا في الحديث الصحيح يقول ﷺ: ما أحد أغير من الله سبحانه أن يزني عبده، أو تزني أمته فالواجب على المؤمن الحذر من السيئات، والحرص على البعد منها، والتوبة إلى الله مما سلف، لأنه ربما أقدم على معصية فيغضب الله عليه ويهلك بسبب ذلك.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله خبر الأبرص والأقرع والأعمى فيمن قبلنا، هؤلاء ثلاثة فيمن قبلنا قص النبي ﷺ علينا قصتهم للحذر والمراقبة والبعد عن أسباب غضب الله، مثل ما قص علينا سابقا خبر الذين آوهم الغار فتوسلوا بأعمالهم الطيبة؛ أحدهم ببر والديه، والآخر بعفته عن الزنا، والآخر بأداء الأمانة، وكانوا قد دخلوا غارا وانطبقت عليهم الصخرة ولم يستطيعوا الخروج حتى توسلوا إلى الله بأعمالهم الطيبة وفرج الله لهم.
هؤلاء الثلاثة أيضا فيمن قبلنا فيهم عبرة؛ واحد أبرص، وواحد أقرع، وواحد أعمى، قص الرسول ﷺ قصتهم علينا لماذا؟ لنعتبر ونأخذ العظة ولا نتشبه بالمخالفين، ثلاثة فيمن قبلنا: واحد أبرص، معروف البرص بياض في جسم الإنسان معروف، والقرع معروف عدم وجود الشعر في الرأس، أقرع ما له رأس ما نبت له شيء، وأعمى معروف قد ذهب بصره، فجاءهم ملك بأمر الله اختبار وامتحان ابتلاء وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35] ويقول سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] ابتلاهم سبحانه بالسراء والضراء، ابتلاهم بالضراء بالبرص والقرع والعمى، ثم ابتلاهم بالنعمة والعافية والمال، جاء الملك إلى الأبرص في صورة إنسان فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يذهب عني هذا البرص الذي قد قذرني الناس به، هذا أحب شيء إليه أن الله يعافيني من البرص، فمسحه الملك وصار في أحسن حاله، ذهب عنه البرص، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأعطي ناقة عشراء في بطنها ولد، وقال له الملك: بارك الله لك فيها -وهو في صورة إنسان، ثم أتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يذهب عني هذا القرع، وأن يحصل لي شعرا حسنا، لأن هذا قد قذرني الناس به وعابني الناس به، فمسح رأسه فأعطاه الله شعرا حسنا، ثم قال له: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملا، ثم أتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، هذا أحب شيء إلي، فمسح على عينيه فرد الله عليه بصره بأمر الله كن فيكون إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا، يعني ولود تنتج.
ثم ذهب عنهم ما شاء الله من الزمان، ثم أرسله الله إليهم بعد مدة، بعدما كثرت أموالهم جاءهم، جاء الأبرص في صورة أبرص، وجاء الأقرع في صورة أقرع، وجاء الأعمى في صورة أعمى، يذكرهم بحالهم الأولى، فجاء إلى الأبرص في صورة أبرص فقال: رجل مسكين وابن سبيل، يعني أنا فقير وعلى الطريق ابن طريق، أبي أروح إلى أهلي قد انقطعت بي الحبال، يعني الأسباب في سفري هذا، أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن، يذكره بحاله الأولى، يذكره ببرصه وفقره، أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن والمال بعير واحد أتبلغ به في سفري؟ فقال الرجل الأبرص: الحقوق كثيرة، يعني ما أنا معطيك، علي واردات كثيرة وعلي حقوق كثيرة، ما نعطيك، ما نقدر نعطيك، قال: ألم تكن أبرص فقير، كأني أعرفك، قال: ما عندك خبر، إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، يعني جدا عن جد، وأنكر نعمة الله عليه بالمال، فقال الملك: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، والظاهر والله أعلم أنه رجع إلى حاله، أجاب الله دعوة الملك فرجع أبرص فقيرا، نسأل الله السلامة.
ثم أتى الأقرع في صورته أقرع يذكره فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وانقطعت بي الحبال الأسباب في سفري هذا، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك الشعر وأعطاك المال بقرة واحدة أتبلغ بها في سفري، فقال مثل الأول: الحقوق كثيرة، ما عندنا شيء، علينا واردات، وعلينا ناس كثيرة يطلبوننا، توكل على الله، الله يغنيك، فقال له: ألم تكن أقرع كأني أعرفك، أنت أقرع في السابق، أنت فقير، قال: إني ورثت هذا المال كابرا عن كابر، مثل ما قال الأبرص، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، دعا عليه، والظاهر والله أن الله أجاب دعوته عبرة.
ثم أتى الأعمى في صورته كفيف فقال: أنا رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري هذا، أريد أن أذهب إلى أهلي فليس عندي شيء، أسألك بالذي رد عليك بصرك وأعطاك المال شاة واحدة أتبلغ بها في سفري؟ يعني أبيعها وأتخرج، قال انتبه وفقه الله، الله شرح صدره قال: نعم، قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، وفقير فأعطاني الله المال، فخذ ما شئت ودع ما شئت، ما هو واحدة خذ ما تريد، هذا السخاء العظيم فوالله لا أجهدك في شيء أخذته لله، ما أمنعك ولا أشق عليك، هذا المال بين يديك خذ ما تشاء ودع ما تشاء، يقوله الأعمى لهذا الملك الذي جاء في صورة فقير أعمى، فقال له الملك: أمسك عليك مالك، مالك لك ما أنا آخذ شيء، إنما هو ابتلاء من الله لكم، أنت والأبرص والأقرع، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك، رضي عنه لأنه أقر بالمال، وأقر بالنعمة، وجاد وتفضل وأحسن، وسخط على صاحبيك لإنكارهما النعمة، وبخلهم بالحق.
فالقصة فيها الحث على الجود والكرم والإحسان، وتذكر نعم الله على الإنسان الذي تفضل عليه في بدنه، في ماله، لا ينس، يتذكر نعم الله ويتصدق على الفقراء والمحاويج، الذي أعطاه هذا المال والذي أعطاه الصحة والعافية يتصدق، يشكر الله، لا يبخل، فالله عنده الخلف وعنده الأجر، فهذه القصة فيها العبر، الأعمى راقب الله واتقى الله فلم يضره شيء، ماله بقي له، وكل شيء بقي له، والأبرص والأقرع لم يراقبا الله بل كذبا وافتريا وجحدا الحق، فرد الله حالهم إلى حالهم الأولى أبرص أقرع فقير، هذه عقوبات الذنوب العاجلة غير الآجلة. نسأل الله العافية والسلامة، وفق الله الجميع.
7/66- السَّابِعُ: عَنْ أبي يَعْلَى شَدَّادِ بْن أَوْسٍ عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ. رواه التِّرْمِذيُّ، وقالَ: حديثٌ حَسَنٌ.
قَالَ التِّرْمذيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى دَانَ نَفْسَه: حَاسَبَهَا.
8/67- الثَّامِنُ: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالاَ يَعْنِيهِ حديثٌ حسنٌ، رواهُ التِّرْمذيُّ وغيرُهُ.
9/68- التَّاسعُ: عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لاَ يُسْأَلُ الرَّجُلُ فيمَ ضَربَ امْرَأَتَهُ رواه أبو داود وغيرُه.
الشيخ: هذه الأحاديث أيضا تبع المراقبة، وأن المؤمن يراقب نفسه ويحاسبها لعلها تستقيم، لعلها تسير على الحق، أما الغفلة عنها فإنها تسبب وقوعها في أسباب الهلاك من غير محاسبة، ولكن كونه يحاسبها ويراقبها ويجاهدها هذا من أسباب سلامتها ونجاتها، والله أمر العباد بذلك يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] إلى غير هذا، وذلك من أسباب سعادتها ونجاتها، أما الغفلة فهي طريق الهلاك، ولهذا روي عنه ﷺ أنه قال: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني معنى الكيس الحازم الفطن القوي، هو الذي يحاسب نفسه، دان نفسه يعني حاسبها وجاهدها، وعمل لما بعد الموت يعني قدم أعمالا صالحة، اهتم بالآخرة وعمل لها، فهذا من جودة رأيه، ومن جودة عقله، ومن كياسته أن يعمل بعد الموت، وأن يحاسب هذه النفس، والعاجز ضد الكيس، من أعطى نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، هذا هو العاجز الذي يعطي نفسه هواه ويتمنى على الله الأماني، هذا من جهله وعجزه، فهو يتابع هواه في معاصي الله، ولا يردع نفسه عن هواها الباطل، ويتمنى درجات الصديقين والأخيار مع تفريطه وإضاعته، هذا هو الغرور، وإنما الواجب أن تحاسب نفسك وتجاهدها، وتحذر طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، طريق المهملين المضيعين.
ويقول ﷺ: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه يعني من حسن من إسلامه وإيمانه عدم الدخول فيما لا يعنيه، وهذا يتضمن مراقبة النفس وجهادها حتى لا تقدم إلا على شيء لها فيه مصلحة وفائدة، أما الدخول فيما لا فائدة له فيه وليس من شأنه فهذا من ضعف الإيمان، ولكن من حسن إسلام المرء وإيمانه تركه ما لا يعنيه، ترك التشاغل بما لا يعنيه ويهم غيره.
فأنت يا عبد الله لا بد أن تجاهد هذه النفس لعلها تنجو، لعلها تسلم، لعلها تقف عند الحدود، فهي في الحقيقة أمارة بالسوء إلا من رحم الله، فإذا وفق العبد لجهادها وإيقافها عند حدها وتذكيرها بما أوجب الله عليها وما حرم الله عليها كان هذا من أسباب سعادتها، ومتى غفل العبد عن هذا الأمر وقع فيما يضره، وفي أسباب الهلاك، ومن هذا الحديث النهي عن سؤال الرجل لم ضرب زوجته؟ لأنه قد يضربها في أمور خاصة لا يحب أن يطلع عليها، فلا ينبغي سؤاله عن ذلك، أما النصيحة فلا بأس ينصح ألا يضربها إلا عن بصيرة، إلا عن ذنب يوجب ذلك، ولكن لا يقول: لماذا؟ لأنه قد يكون شيئا تبع الجماع، أو ما أشبه ذلك، الله يقول -جل وعلا- في كتابه الكريم: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34]، والنبي ﷺ في حجة الوداع أوصى بالنساء خيرا، وأذن في ضربهن ضربا غير مبرح إذا فعلن ما لا ينبغي، فالمؤمن يتأمل ولا يعجل في الأمور، فإن دعت الحاجة والضرورة إلى الضرب فليكن خفيفا غير مبرح يحصل به التأديب، ولا يسأل لم ضربتها، بل يوصى بالخير والرفق.
وفق الله الجميع.
6- باب التقوى
قَالَ الله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، وَقالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهذه الآية مبينة للمراد مِنَ الأُولى.
وَقالَ الله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدا [الأحزاب:70]، وَالآيات في الأمر بالتقوى كثيرةٌ معلومةٌ، وَقالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَقالَ تَعَالَى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [لأنفال:29] الآيات في البابِ كثيرة معلومة.
1/69- وأَمَّا الأَحَاديثُ: فَالأَوَّلُ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رسولَ اللَّهِ مَن أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ فقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابنِ نَبيِّ اللَّهِ ابنِ خَلِيلِ اللَّهِ. قَالُوا: لَيْسَ عن هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَب تسْأَلُونِي؟ خِيَارُهُمْ في الْجاهِليَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسلامِ إذَا فَقُهُوا متفقٌ عَلَيهِ.
و فَقُهُوا بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهورِ، وحُكِي كسْرُهَا. أَي: عَلِمُوا أَحْكَامَ الشَّرْعِ.
2/70-الثَّانِي: عَنْ أبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ عن النبيِّ ﷺ قَالَ: إنَّ الدُّنْيا حُلْوَةٌ خضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فينْظُر كَيْفَ تَعْمَلُونَ. فَاتَّقوا الدُّنْيَا واتَّقُوا النِّسَاءِ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنةِ بَنِي إسْرَائيلَ كَانَتْ في النسَاء رواه مسلم.
3/71- الثالثُ: عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعفافَ والْغِنَى رواه مسلم.
الشيخ: هذه الآيات الكريمات، والأحاديث النبوية كلها تعلق بالتقوى، والتقوى هي دين الله، وهي الإسلام والهدى، وهي الإيمان، وهي طاعة الله ورسوله، وتوحيده والإخلاص له، هذه هي التقوى، التقوى الدين كله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، الإيمان بضع وسبعون شعبة، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23]، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13] فالمتقون هم الأبرار، وهم المؤمنون، وهم الذين عبدوا الله واستقاموا على دينه وأخلصوا له العبادة، وهم المهتدون، وهم المسلمون، فالتقوى هي دين الله وهي توحيده وطاعته واتباع شريعته، وهي العبادة التي خلق الناس لها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ليتقوني بطاعة أمري وترك نهيي، يقول -جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1] أمر جميع الناس مثل ما قال يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] سواء سواء، اعبدوا ربكم يعني اتقوه ووحدوه وأخلصوا له العمل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33] فأمر جميع الناس بالتقوى، يعني بالعبادة لله والتوحيد، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103] اتقوا الله حق تقاته يعني استقيموا على دينه تاما كاملا بدون نقص، التزموه كله، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فالمراد التقوى حسب الطاقة، فالمريض يتقي الله بأن يصلي كما يستطيع، والفقير يتقي الله بأن يعمل ما يستطيع، والمسافر يتقي الله بأن يعمل بما شرع الله له، والسلطان يتقي الله فيمن وليه عليه، والشاهد يتقي الله في شهادته، والمعامل يتقي الله في معاملته، وولي اليتامى يتقي الله في ولايته، وأمير البلد وشيخ القبيلة يتقي الله في عمله.
وهكذا كل واحد يتقي الله فيما أسند إليه يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] سواء كان غنيا أو فقيرا، قرشيا أو هاشميا أو عربيا أو أعجميا، أكرم الناس أتقاهم كائنا من كان، ولهذا لما قيل: يا رسول الله أي الناس أكرم؟ قال: أكرم الناس أتقاهم يعني أتقاهم لله وأقومهم بحقه، وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] يعني نورا وهدى وبصيرة، لأن من التقوى طلب العلم والتفقه في الدين، وسئل ﷺ: أي الناس أكرم؟ قال: أتقاهم، ومن دعائه: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى هذا من دعائه عليه الصلاة والسلام: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وأكرم الناس على الله جل وعلا أتقاهم له وأقومهم بحقه ، وقال لمعاذ: اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.
ولما قيل له: ليس عن هذا نسألك، قال: عن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وذكر عن يوسف أنه أكرم الناس بالنسبة إلى وقت زمانه، هو أكرم الناس بالنسبة إلى زمانه لأنه رسول الله، وهو أكرم الناس في زمانه عليه الصلاة والسلام.
فعلى كل مسلم أن يتقي الله، وأن يراقب الله في أعماله حتى يكون ممن قال الله فيهم: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور:17]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:34].
وقال ﷺ: إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء فهذه الدنيا حلوة خضرة، الكل يحبها دراهمها ودنانيرها ومتاعها، كل يحبها حتى يقضي حاجته، والله استخلف الناس فيها من عرب وعجم، من جن وإنس لينظر كيف يعملون، ثم قال: فاتقوا الدنيا يعني اتقوا شرها وفتنتها، لا تغرنكم، استعينوا بها على طاعة الله ولا تغتروا بها، فتقوى الدنيا بتصريفها في طاعة الله وعدم إيثارها على الآخرة، هذه التقوى، اتقوا الدنيا يعني اصرفوها في طاعة الله، واحذروا أن تصدكم عن طاعة الله، وعما شرع الله، ثم اتقوا النساء أيضا فإنهن فتنة، يقول ﷺ: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء فتنة للفاحشة، للزنا، لقضاء الوطر، فالواجب الحذر، وأن تكتفي بما أحل الله لك من زوجتك، وأن تحذر الحرام، فقد تبتلى بالنساء، قد تدعوك إلى نفسها، قد تتزين لك، قد تخلو بها، فاتق الله في ذلك، ولاسيما يبتلى الناس بهذا يبتلى بالخلوة بزوجة أخيه، بزوجة عمه، زوجة ولده، إلى غير ذلك، فليتق الله وليحاسب نفسه حتى لا يقع فيما حرم الله عليه، ويروى في الإسرائيليات أن بني إسرائيل ابتلوا بالنساء، فبرز لهم نساء كثير في بعض الغزوات، فوقعوا بهن بالفاحشة، فمات منهم في يوم واحد بسبب العقوبة سبعون ألفا.
المقصود أن الزنا من الجرائم التي قد تعم بها العقوبات، دخل النبي ﷺ يوما على زينب أم المؤمنين فقال: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا، وحلق بين أصبعيه قالت له زينب: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث إذا كثر الخبث جاء الهلاك، والخبث المعاصي والشرور، الخبث أعظمه الشرك، ومن الخبث الزنا، والسرقة، واللواط، والربا، والغيبة، والنميمة، شرب المسكر، كل هذا من الخبث، إذا فشا في الناس فهم على خطر من العقوبات العامة، ويقول ﷺ: إذا الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه فالله يحذرنا مما أصاب من قبلنا من الشرور بسبب التساهل والتهاون في أمر الله، ويدعو عليه الصلاة والسلام إلى التقوى، وهي الاستقامة على الحق والثبات عليه، والحذر مما ينقصه، وفق الله الجميع.
4/72- الرَّابعُ: عَنْ أبي طَريفٍ عدِيِّ بْنِ حاتمٍ الطائِيِّ قالَ: سَمِعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقُولُ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يمِين ثُمَّ رَأَى أتقَى للَّهِ مِنْها فَلْيَأْتِ التَّقْوَى رواه مسلم.
5/73- الْخَامِسُ: عنْ أبي أُمَامَةَ صُدَيَّ بْنِ عَجْلانَ الْباهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يَخْطُبُ في حَجَّةِ الْودَاع فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّه، وصَلُّوا خَمْسكُمْ، وصُومُوا شَهْرَكمْ، وأَدُّوا زكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ رواه التِّرْمذيُّ، في آخر كتابِ الصلاةِ، وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيح.
الشيخ: هذان الحديثان يتعلقان بالتقوى، تقدم في هذا آيات كثيرات فيها الحث على التقوى والوصية بها، وحقيقة التقوى هي دين الله، هي الإسلام والإيمان والهدى، قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] فالتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:70-71]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18] فالمعنى وحدوه وعظموه وأدوا حقه وابتعدوا عن نهيه، هذه التقوى تقواه أن يعبد وحده، وأن يطاع أمره، وأن ينتهى عن نهيه، هذه هي التقوى، توحيد الله وطاعته، ومن الأحاديث قوله ﷺ: من حلف على يمين فرأى غيرها أتقى الله منها فليأت التقوى كأن يقول مثلا: والله ما أسلم على فلان، أو: والله ما أزور فلان من أقاربه، أو من أهل الصلاح، ثم يتبين له أنه غلطان أن زيارته والسلام عليه حق، فيكفر عن يمينه لأن كونه يكفر عن يمينه أتقى لله، أو قال: والله ما أصل أرحامي، أو: والله ما أبر والدي، يكفر عن يمينه لأن التقوى في بر الوالدين وصلة الرحم، أو قال: والله ليشربن الخمر، أو: والله ليشربن الدخان، أو: والله ليحلقن لحيته، يترك هذه اليمين، غيرها أتقى لله، يتقي الله ويجتنب الخمر، ويتجنب الدخان، ويتجنب حلق اللحى إلى غير ذلك. والمقصود أنه متى حلف يمينا ورأى غيرها أصلح منها يكفر عن يمينه، هذا هو المشروع للمؤمن، إذا رأى غيرها أتقى لله تركها وأخذ بالتقوى.
وفي الحديث الآخر أنه ﷺ خطب الناس وقال لهم: أيها الناس: اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم فالاستقامة على التقوى منها المحافظة على الصلوات الخمس، ومنها أداء الزكاة، ومنها صوم رمضان، ومنها طاعة ولاة الأمور في المعروف، طاعة ولاة الأمور وعدم شق العصا هذه من التقوى كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن:16]، قال النبي ﷺ: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة يعني لولاة الأمور بالمعروف لأن شق العصا واختلاف الكلمة من أسباب الفساد في الأرض، ومن أسباب اختلال الأمن وقتل الأبرياء وضياع الحق، فالسمع والطاعة في المعروف تجمع المسلمين وتمنع المخربين وتعين على الحق، ولهذا يقول ﷺ: من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، ومات فميتته ميتة جاهلية ولما سئل عن ولاة الأمور، قال: من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة.
فالمؤمن يتقي ربه في جميع الأحوال، ويؤدي ما أوجب الله عليه من صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، وغير ذلك، ويطيع ولاة الأمور في المعروف، ولا يشق العصا، ويحذر محارم الله كلها، يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، هذه هي التقوى التي قال فيها سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، وقال فيها سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وكان يقول في خطبه عليه الصلاة والسلام: أوصيكم بتقوى الله.
وفق الله الجميع.
7-بَابُ اليقين وَالتوكّل
قَالَ الله تَعَالَى: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، وَقالَ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174]، وَقالَ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، وَقالَ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[إبراهيم:11]، وَقالَ تَعَالَى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] والآيات في الأمرِ بالتوكلِ كثيرةٌ معلومةٌ.
وَقالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافِيهِ، وَقالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة.
وأمّا الأحاديث:
1/74- فَالأوَّلَ: عَن ابْن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: عُرضَت عليَّ الأمَمُ، فَرَأيْت النَّبِيَّ وَمعَه الرُّهيْطُ، والنَّبِيَّ ومَعهُ الرَّجُل وَالرَّجُلانِ، وَالنَّبِيَّ وليْسَ مَعهُ أحدٌ إِذْ رُفِعَ لِى سوادٌ عظيمٌ فظننتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِى: هَذَا مُوسَى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فَإِذا سَوادٌ عَظِيمٌ فقيلَ لي انْظُرْ إِلَى الأفُقِ الآخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظيمٌ فقيلَ لِي: هَذه أُمَّتُكَ، ومعَهُمْ سبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة بِغَيْرِ حِسَابٍ ولا عَذَابٍ ثُمَّ نَهَض فَدَخَلَ منْزِلَهُ، فَخَاض النَّاسُ في أُولَئِكَ الَّذينَ يدْخُلُون الْجنَّةَ بِغَيْرِ حسابٍ وَلا عذابٍ، فَقَالَ بعْضهُمْ: فَلَعَلَّهُمْ الَّذينَ صَحِبُوا رسولَ اللَّه ﷺ، وقَال بعْضهُم: فَلعَلَّهُمْ الَّذينَ وُلِدُوا في الإسْلامِ، فَلَمْ يُشْرِكُوا باللَّه شَيئًا -ذَكَروا أشْياء- فَخرجَ عَلَيْهمْ رسولُ اللَّه ﷺ فَقَالَ: مَا الَّذي تَخُوضونَ فِيهِ؟ فَأخْبَرُوهُ فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ لا يرقُونَ، وَلا يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطيَّرُون، وَعَلَى ربِّهمْ يتَوكَّلُونَ فقَامَ عُكَّاشةُ بنُ مُحْصِن فَقَالَ: ادْعُ اللَّه أنْ يجْعَلَني مِنْهُمْ، فَقَالَ: أنْت مِنْهُمْ ثُمَّ قَام رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّه أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ متفقٌ عَلَيهِ.
الرُّهَيْطُ بِضمِّ الرَّاء: تَصغيرِ رَهْط، وهُم دُونَ عشرةِ أنْفُس. والأفُقُ: النَّاحِيةُ والْجانِب. وعُكاشَةُ بِضَمِّ الْعيْن وتَشْديد الْكافِ وَبِتَخْفيفها، والتَّشْديدُ أفْصحُ.
2/75- الثَّانِي: عَنْ ابْن عبَّاس رضي اللَّه عنهما أيْضًا أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ كانَ يقُولُ: اللَّهُم لَكَ أسْلَمْتُ وبِكَ آمنْتُ، وعليكَ توَكَّلْتُ، وإلَيكَ أنَبْتُ، وبِكَ خاصَمْتُ. اللَّهمَّ أعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لا إلَه إلاَّ أنْتَ أنْ تُضِلَّنِي أنْت الْحيُّ الَّذي لاَ تمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يمُوتُونَ متفقٌ عَلَيهِ.
وَهَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَاخْتَصرهُ الْبُخَارِيُ.
3/76- الثَّالِثُ: عن ابْنِ عَبَّاس رضي اللَّه عنهما أيضًا قَالَ: "حسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الْوكِيلُ قَالَهَا إبْراهِيمُ ﷺ حينَ أُلْقِى في النَّارِ، وَقالهَا مُحمَّدٌ ﷺ حيِنَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]" رواه البخارى.
وفي رواية لَهُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: "كَانَ آخِرَ قَوْل إبْراهِيمَ ﷺ حِينَ ألْقِي في النَّارِ حسْبي اللَّهُ وَنِعمَ الْوَكِيلُ".
الشيخ: هذه الآيات والأحاديث كلها تتعلق بالتوكل واليقين، الواجب على جميع المسلمين ذكورا وإناثا جنا وإنسا الواجب عليهم التوكل على الله والإيقان بأنه سبحانه مدبر الأمور ومصرفها، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهو الذي بيده تصريف الأمور شفاء ومرضا، وحياة وموتا، سفرا وإقامة، شدة وعسرا إلى غير ذلك، كله بيده هو مصرف العباد ومدبر الأمور، فالواجب على جميع المكلفين التوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه مع الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله في كل شيء، يأكل ويشرب ويصلي ويصوم ويسافر ويجاهد، يبيع ويشتري، ومع هذا هو يتوكل على الله في كل شيء، يوقن أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، ولن يضره إلا ما كتب الله له، فهو يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله في كل شيء يعتمد عليه كما قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] يعني فهو كافيه، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] فالواجب على كل مؤمن الثقة بالله والتوكل عليه والتفويض إليه مع الأخذ بالأسباب، ومن هذا حديث السبعين أن النبي ﷺ قال: عرضت علي الأمم -يعني يوم الإسراء والمعراج- فرأيت النبي ومعه الرهط، وفي رواية الرهيط -العدد القليل من العشرة- والنبي معه الرجل والرجلان، النبي وليس معه أحد يعني عرض عليه الأمم يوم القيامة، مجيئهم يوم القيامة، بعض الأنبياء ما معه إلا الرهيط دون العشرة، وبعض الأنبياء ليس معه إلا واحد رجل أو رجلان والبقية كذبوه، وبعض الأنبياء ما معه أحد لم يجبه أحد، ولم يستجب له أحد، ولم يؤمن به أحد، بل يأتي يوم القيامة وحده، جميع قومه كفروا به نسأل الله العافية.
إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل هذا موسى وقومه يعني الذين تابعوا موسى عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل ثم رفع له سواد عظيم قد سد الأفق، ثم الأفق الآخر، فقيل هذه أمتك المتبعون له، الأمة أمتان: أمة متبعة له وهم المستجيبون، وأمة الدعوة ليسوا من المتبعين له وهم الأكثرون، فعرض عليه من استجاب له، فقيل له هذه أمتك قد سدوا الأفق ومعهم سبعون ألف يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب في رواية فسألت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا وفي لفظ مع كل واحد سبعين ألف فخاض الصحابة في ذلك، لما قام ﷺ وأخبرهم خاضوا من هم هؤلاء السبعون؟ ما هي أعمالهم؟ فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله، يعني هم الصحابة خاصة، وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون في لفظ لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون لفظ يرقون غلط في الرواية عند أهل العلم الصواب يسترقون فقط، أما الرقية شرعية كونه يرقي أخاه أمر شرعي عبادة ... لكن الرواية المحفوظة يسترقون يطلبون من يرقيهم، ترك هذا أفضل، ترك الاسترقاء أفضل، وإن دعت إليه الحاجة فلا بأس، والعمدة في السبعين أعمالهم الطيبة، أداؤهم فرائض الله وتركهم محارم الله، ومع ذلك يستغنون عن الناس، لا يسألونهم حاجة ولا يكتوون إلا عند الحاجة، ولا يتطيرون، الطيرة الشرك، التطير هو التشاؤم بالمرئي أو المسموع حتى يرده عن حاجته، وهي شرك أصغر، والكي مكروه إلا عند الحاجة لهذا الحديث، والاسترقاء مكروه وهو طلب الرقية، يقول له: اقرأ علي، تركه أفضل إلا عند الحاجة، إذا دعت الحاجة فلا بأس، ولهذا أمر النبي ﷺ أم أولاد جعفر بن أبي طالب لما أصابهم بعض المرض أمرها أن تسترقي لهم، وأمر عائشة أن تسترقي في المرض، فدل على جواز الاسترقاء وهو طلب من يرقيهم، وهذا لا ينافي كونه من السبعين ألف، لكن هذه من أعمالهم وليس كل أعمالهم واجبة، هذه من المستحب، والعمدة على العمل الواجب، والشاهد قوله: وعلى ربهم يتوكلون يعني يعملون الأسباب ويتوكلون على الله ويعتمدون عليه ، فلا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، تركه أفضل الكي، إذا تيسر دواء آخر ودواء غير الاسترقاء يكون أفضل إذا تيسر، فإن لم يتيسر فقد كوى النبي ﷺ بعض أصحابه، وقد كوى الصحابة من المرض، لا بأس من الكي عند الحاجة لقول النبي ﷺ: الشفاء في ثلاثة: شرطة محجم، وشربة عسل، وكية من نار، وما أحب أن أكتوي إذا دعت إليه الحاجة فلا بأس، لكن هذه أفضلية، تركها أفضل إلا عند الحاجة.
ومن توجهاته ﷺ يقول: اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، فاغفر لي ما قدمت إلى آخره، وفي رواية: أعوذ بعزتك أن تضلني، لا إله إلا أنت فمن توجه النبي ﷺ إلى ربه يقول: عليك توكلت، ومما جاء في هذا قول إبراهيم لما ألقي في النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وقالها محمد ﷺ حين قيل له إن الناس قد جمعوا لكم بعد أحد، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، يعني كافينا الله، حسبنا يعني كافينا الله ونعم الوكيل الله ، فهذا هو السنة عند عظائم الأمور حسبنا الله ونعم الوكيل مع الأخذ بالأسباب، فالإنسان يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل ويأخذ بالأسباب، يعني يطلب حقه بالبينة الشرعية، يدافع عن نفسه، يخاصم إذا دعت الحاجة إلى ذلك، يتخذ الحرس إذا دعت الحاجة إلى ذلك مع قوله حسبنا الله ونعم الوكيل، مع الأدوية الأخرى، فهو يقول ما شرعه الله، ويعمل بالأسباب الشرعية أيضا، فالمؤمن يقول: على الله توكلنا، حسبنا الله ونعم الوكيل، ومع هذا يأخذ العدة في الجهاد: السلاح والقوة في الجهاد، ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا، يقفل باب بيته عند النوم، يتخذ الحرس عند الحاجة لا بأس، فالمقصود أن هذه الأشياء لا تمنع التوكل، التوكل التفويض إلى الله والاعتماد عليه مع الأخذ بالأسباب، فالمتوكل هو الذي يجمع بين الأمرين: يعتمد على الله ويفوض إليه، مع الأخذ بالأسباب، لا يعطل الأسباب يأخذ بها، فالله وعد أهل الجنة الجنة بالأسباب، يؤمن، يصلي، يصوم، يزكي، يتقي الله، يدع محارم الله، فهو موعود بالجنة إذا أخذ بهذا، ويتوكل على الله في ذلك، يتوكل على الله ويعتمد عليه أن الله يعينه على هذا الشيء.
كذلك يقول الله جل وعلا: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17] فهو مأمور بابتغاء الرزق، وأن يتوكل على الله يطلب الرزق، يبيع يشتري، يتخذ مزرعة، منجرة، حدادة، خياطة، وهو متوكل على الله، يأخذ بالأسباب كذلك يتجر يبيع ويشتري ويتوكل على الله، فالتوكل لا يمنع الأسباب، والأسباب لا تمنع التوكل، والتوكل يجمع بينهما، التوكل اعتماد على الله بالقلب مع الأخذ بالأسباب، هذا هو التوكل.
وفق الله الجميع.
4/77- الرَّابعُ: عَن أبي هُرَيْرةَ عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أقْوَامٌ أفْئِدتُهُمْ مِثْلُ أفْئِدَةِ الطَّيْرِ رواه مسلم.
قيل معْنَاهُ مُتوَكِّلُون، وقِيلَ قُلُوبُهُمْ رقِيقةٌ.
5/78-الْخَامِسُ: عنْ جَابِرٍ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ فَلَمَّا قَفَل رَسُول اللَّه ﷺ قَفَل مَعهُمْ، فأدْركتْهُمُ الْقائِلَةُ في وادٍ كَثِيرِ الْعضَاهِ، فَنَزَلَ رسولُ اللَّهِ ﷺ، وتَفَرَّقَ النَّاسُ يسْتظلُّونَ بالشَّجَرِ، ونَزَلَ رسولُ اللَّه ﷺ تَحْتَ سمُرَةٍ، فَعَلَّقَ بِهَا سيْفَه، ونِمْنَا نوْمةً، فَإِذَا رسولُ اللَّهِ ﷺ يدْعونَا، وإِذَا عِنْدَهُ أعْرابِيُّ فقَالَ: إنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سيْفي وأَنَا نَائِمٌ، فاسْتيقَظتُ وَهُو في يدِهِ صَلْتًا، قالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ منِّي؟ قُلْتُ: اللَّه -ثَلاثًا- وَلَمْ يُعاقِبْهُ وَجَلَسَ. متفقٌ عليه.
وفي رواية: قَالَ جابِرٌ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللِّهِ ﷺ بذاتِ الرِّقاعِ، فإذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجرةٍ ظَلِيلَةٍ تركْنَاهَا لرسول اللَّه ﷺ، فَجاء رجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِين، وَسَيفُ رَسُول اللَّه ﷺ مُعَلَّقٌ بالشَّجرةِ، فاخْترطهُ فَقَالَ: تَخَافُنِي؟ قَالَ:لا قَالَ: فمَنْ يمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّه.
وفي رواية أبي بكرٍ الإِسماعيلي في صحيحِهِ: قَالَ منْ يمْنعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّهُ قَالَ: فسقَطَ السَّيْفُ مِنْ يدِهِ، فَأخَذَ رسَول اللَّه ﷺ السَّيْفَ فَقال: منْ يمنعُكَ مِنِّي؟ فَقال: كُن خَيْرَ آخِذٍ، فَقَالَ: تَشهدُ أنْ لا إلَه إلاَّ اللَّهُ، وأنِّي رسولُ اللَّه؟ قَالَ: لاَ، ولكِنِّي أعاهِدُك أنْ لا أقَاتِلَكَ، وَلاَ أكُونَ مَعَ قَومٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخلَّى سبِيلهُ، فَأتى أصحابَه فقَالَ: جِئتكُمْ مِنْ عِندِ خيرِ النَّاسِ.
قَولُهُ: قَفَل أيْ: رجع. وَالْعِضَاهُ الشَّجر الَّذِي لَه شَوْك. والسَّمُرةُ بِفَتْحِ السينِ وضمِّ الْميمِ: الشَّجَرةُ مِن الطَّلْحِ، وهِي الْعِظَام منْ شَجرِ الْعِضاهِ. وَ اخْترطَ السَّيْف أي: سلَّهُ وهُو في يدِهِ. صَلْتًا أيْ: مسْلُولًا، وهُو بِفْتح الصادِ وضمِّها.
6/79-السادِسُ: عنْ عمرَ قالَ: سمعْتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقُولُ: لَوْ أنَّكم تتوكَّلونَ عَلَى اللَّهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرزَقكُم كَما يرزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِماصًا وترُوحُ بِطَانًا رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ.
معْناهُ تَذْهَبُ أوَّلَ النَّهَارِ خِماصًا: أي ضَامِرةَ الْبُطونِ مِنَ الْجُوعِ، وترْجِعُ آخِرَ النَّهَارِ بِطَانًا: أيْ مُمْتَلِئةَ الْبُطُونِ.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها فيما يتعلق بالتوكل وفضله، وأن المتوكلين على الله هم خيار الناس، وهم سادات الناس من الرسل وأتباعهم، وحقيقة التوكل التفويض إلى الله والاعتماد عليه مع الأخذ بالأسباب، والمتوكلون هم الذين أخلصوا لله في اعتمادهم عليه، وإيمانهم بأنه جل وعلا قادر على كل شيء، وأن ما دفعه الله لا يقدر أحد على إيصاله، وما أراده الله لا يقدر أحد على منعه، كل شيء بيده ، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، فهذا واجب على جميع المؤمنين أن يعتمدوا عليه، وأن يتوكلوا عليه مع الأخذ بالأسباب التي شرعها وبينها لعباده، ولهذا قال : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] يعني كافيه.
ولما قاد المسلمين ﷺ ذات يوم في بعض أسفاره وغزواته نزلوا في واد كثير الشجر وهم في تعب، فنزلوا تحت الشجر واستظلوا وناموا، ومنهم النبي ﷺ نزل تحت شجرة واستظل تحتها وعلق سيفه على أنهم آمنون ما بينهم عدو، فجاء أعرابي من الكفرة فاستل سيف النبي ﷺ فاستيقظ النبي ﷺ وهو في يده صلت، قال: من يمنعك مني؟ قال النبي ﷺ: الله لأنه يعلم أنه سبحانه هو الكافي المانع، وعليه التوكل، فالسيف في يده لا أحد يمنعه سواه ، فسقط السيف من يده فأخذه النبي ﷺ وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وفي اللفظ الآخر: كن خير آخذ. قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال: لا، نسأل الله العافية، ولكني أعاهدك ألا أقاتلك، وألا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلا سبيله، عفا عنه عليه الصلاة والسلام لأن في ذلك ترغيبا لغيره في الإسلام وله في الإسلام، ولأن الله منعه منه، فذلك آية من آيات الله كون الله أسقط السيف من يده والناس نيام ما يدرون عنه، والنبي ﷺ عفا عنه بعد ذلك، كل هذا من آيات الله.
ومن أسباب الدخول في دين الله، ومن أسباب نشر الإسلام، ونشر كرامات النبي ومعجزاته عليه الصلاة والسلام، فهذا ذهب إلى قومه يدعوهم مع أنه لم يؤمن، ذهب إلى قومه يقول: جئتكم من عند خير الناس، إنسان أخذت سيفه وتهددته ثم بعد ذلك أخذ السيف هو وعفا عني، هذه آية من آيات الله، ومعجزة وكرامة وآية في العفو والفضل، فهذا من أسباب الدخول في الإسلام، هذا العفو والصفح والكرم من أسباب الدخول في الإسلام، ومن أسباب انتشار الإسلام ما جرى من عفوه وكرمه وجوده على أعدائه.
وفيه أيضا دلالة على قدرة الله، وأنه سبحانه مصرف الأمور، وبيده كل شيء، نزع السيف من هذا حتى سقط وأخذه النبي ﷺ، وشرح صدره للعفو، كل هذا من عفوه وإحسانه، ومن حكمته البالغة.
وفي الحديث الثاني: أنه يدخل الجنة أناس قلوبهم مثل أفئدة الطير، يعني من شدة ثقتهم بالله وتوكلهم على الله وانكسارهم إليهم ، فهم في غاية من رقة القلوب وصفائها، واعتمادها على الله وثقتها به، فهم من أهل الجنة لسلامة قلوبهم وصلاح قلوبهم وصفائها من كل شرك ودنس.
كذلك حديث عمر يقول ﷺ: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله يعني لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل الكامل والثقة العظيمة والصدق في التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا فالإنسان إذا توكل على الله وأخذ بالأسباب صادقا فالله يرزقه، لكن المصيبة ضعف التوكل وضعف الإيمان، أو قلة الأسباب، أما من اعتمد على الله صادقا وأخذ ما تيسر له من الأسباب وما استطاع من الأسباب فإن الله يرزقه، هذا خراز، هذا نجار، هذا حداد، هذا يبيع ويشتري إلى غير هذا يرزقه الله سببا يقوم بحاله إذا صدق مع الله.
هذه الطيور ما لها مخازن، ما أحد ينفق عليها من الناس، طيور البر تصبح في أوكارها طاوية خامصة ضعيفة فقيرة جائعة، ثم تطير تطلب الرزق من هنا ومن هنا، في هذه الشجرة وفي هذه الشجرة، وفي هذا الجبل وفي هذه الأرض، ثم ترجع آخر النهار وقد رزقها الله، ترجع بطانا قد شبعت مما رزقها الله من هنا ومن هنا، هو الذي ساق الرزق إليها ، لكنها فعلت الأسباب؛ طارت، دورت الرزق ما قعدت في أوكارها، طارت ها هنا وها هنا، تقع على هذه الشجرة وعلى هذا المكان، وعلى هذه الشجرة حتى رزقها الله ما سد حاجتها، وهكذا المسلم الصادق يفعل الأسباب ويأخذ بالأسباب ويرزقه الله.
وفق الله الجميع.
7/80- السَّابِعُ: عن أبي عِمَارةَ الْبراءِ بْنِ عازِبٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: يَا فُلان إذَا أَويْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُل: اللَّهمَّ أسْلَمْتُ نفْسي إلَيْكَ، ووجَّهْتُ وجْهِي إِلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أَمْري إِلَيْكَ، وألْجأْتُ ظهْرِي إلَيْكَ، رغْبَة ورهْبةً إلَيْكَ، لا ملجَأَ ولا منْجى مِنْكَ إلاَّ إلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذي أنْزَلْتَ، وبنبيِّك الَّذي أرْسلتَ، فَإِنَّكَ إنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، وإنْ أصْبحْتَ أصَبْتَ خيْرًا متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية في الصَّحيحين عن الْبرَاء قَالَ: قَالَ لي رَسُول اللَّه ﷺ: إذَا أتَيْتَ مضجعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ وقُلْ: وذَكَر نحْوَه ثُمَّ قَالَ وَاجْعَلْهُنَّ آخرَ ما تَقُولُ.
8/81-الثَّامِنُ: عنْ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق عبداللَّه بنِ عثمانَ بنِ عامِرِ بنِ عُمَرَ بن كعب بنِ سعدِ بْنِ تَيْمِ بْن مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْن لُؤيِّ بْنِ غَالِب الْقُرَشِيِّ التَّيْمِيِّ -وهُو وأبُوهُ وَأُمَّهُ صحابَةٌ - قَالَ: نظرتُ إِلَى أقْدَامِ المُشْرِكِينَ ونَحنُ في الْغَارِ وهُمْ علَى رُؤُوسِنا فقلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أحَدَهمْ نَظرَ تَحتَ قَدميْهِ لأبصرَنا فَقَالَ: مَا ظَنُّك يَا أَبا بكرٍ باثْنْينِ اللَّهُ ثالثِهْما متفقٌ عَلَيهِ.
9/82-التَّاسِعُ: عَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ أُمِّ سلَمَةَ، واسمُهَا هِنْدُ بنْتُ أَبي أُمَيَّةَ حُذَيْفةَ المخزومية رضي اللَّهُ عنها أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ إذَا خَرجَ مِنْ بيْتِهِ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ، توكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بِكَ أنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أوْ أُزلَّ، أوْ أظلِمَ أوْ أُظلَم، أوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجهَلَ عَلَيَّ حديثٌ صحيحٌ رواه أبو داود والتِّرمذيُّ وَغيْرُهُمَا بِأسانِيدَ صحيحةٍ. قالَ التِّرْمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وهذا لَفظُ أبي داودَ.
الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في شرعية التوكل على الله والاعتماد عليه بغاية اليقين والثقة والطمأنينة؛ فإنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير، وهو القادر على كل شيء، وهو العالم بأحوال عباده، فالواجب على العباد أن يتوكلوا عليه، وأن ينيبوا إليه، وأن يعتمدوا عليه في كل أمورهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] هكذا يأمرهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] هكذا المؤمن يتوكل على الله، ويعتمد عليه مع أخذه بالأسباب: أسباب السعادة، وأسباب الرزق، فهو يعتمد على الله، ويعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله، وأنه لن ينجح في شيء إلا بتوفيق الله، فهو يعتمد على الله، ويتوكل عليه، ويتيقن أن الأمور بيده، وأنه مصرفها جل وعلا في الخير والشر، فيعمل ما شرع الله ويدع ما نهى الله عنه، ويتعاطى الأسباب مع اعتماده على الله، ومع ثقته به ومع توكله عليه.
ومن هذا الباب ما جاء في هذا الحديث عن النبي ﷺ لما أوصى البراء أو غيره إذا أراد أن ينام أن يتوضأ الوضوء الشرعي، هذه السنة عند النوم يتوضأ، ينام على طهارة ثم يقول: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت هذا معناه الاعتماد على الله في كل شيء قال: واجعلهن آخر ما تقول يعني يختم بها أوراده قبل أن ينام وهو متوضئ، هذا هو الأفضل اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت هذا غاية في التوكل على الله والإقرار بأنه هو الملجأ، وهو الذي إليه المنتهى، وهو مصرف الأمور ، لا ملجأ منه إلا إليه، فالمؤمن يقول هذا بلسانه ويصدقه بقلبه، يكون في قلبه معتمدا على الله جل وعلا واثقا به، وهكذا بكلامه وأفعاله يعلم أنه سبحانه مصرف الأمور، وأنه قاضي الحاجات، وأنه على كل شيء قدير، فيلجأ إليه في كل أموره مع فعل الأسباب، والأخذ بالأسباب، هكذا المؤمن أبدا دائما.
كذلك إذا خرج من المنزل، يستحب للمؤمن إذا خرج من المنزل حديث أم سلمة يقول: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل أو أُضَل، أو أَزِل أو أُزَل، أو أَظْلِم أو أُظْلَم، أو أَجْهَل أو يُجْهَل علي يستحب له عند خروجه من منزله للصلاة وغيرها بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي اعتمادا على الله وتفويضا إليه، وسؤال الله أن يكفيه شر نفسه وشر غيره، فهذا معناه التوكل والاعتماد على الله جل وعلا بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله هكذا في رواية ... ذكر لا حول ولا قوة إلا بالله.
كذلك قصة هجرة النبي ﷺ لما هاجر إلى المدينة، وكان ﷺ معه الصديق وعامر بن فهيرة مولى الصديق، ودليلهم عبدالله بن أريقط الديلي، فلما خرج النبي والصديق التجأ إلى غار ثور، فجاء طلب المشركين حول الجبل ولا يرونهم، أخذ الله بأبصارهم، فقال الصديق: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال النبي ﷺ: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما يعني يدل على الثقة بالله والاعتماد عليه، وأنه سبحانه هو الذي حفظهما، ولهذا قال ﷺ: ما ظنك باثنين الله ثالثهما كما جاء ذلك في القرآن الكريم، كما قال له لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] قال للصديق لا تحزن إن الله معنا إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40] فالله هو الذي يحمي عباده، وهو وليهم من كيد أعدائهم، فأنت عليك الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، وأبشر بالخير إذا صدقت، فالله -جل وعلا- يغلب ولا يُغلب، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم العليم، وهو القادر على كل شيء ، ولكن يؤتى العبد من جهة تقصيره وتفريطه وإضاعته وتساهله. ولا حول ولا قوة إلا بالله.