014 فصل في أنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي حال المأمومين وغيرهم

وَقَنَتَ فِي الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، ثُمَّ تَرَكَ الْقُنُوتَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ الْقُنُوتُ فِيهَا دَائِمًا، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ فِي كُلِّ غَدَاةٍ بَعْدَ اعْتِدَالِهِ مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ .. إِلَخْ.

وَيَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ، وَيُؤَمِّنُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ دَائِمًا إِلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا، ثُمَّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْأُمَّةِ، بَلْ يُضَيِّعُهُ أَكْثَرُ أُمَّتِهِ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، بَلْ كُلُّهُمْ، حَتَّى يَقُولَ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: "إِنَّهُ مُحْدَثٌ"، كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ، إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ هَاهُنَا وَبِالْكُوفَةِ مُنْذُ خَمْسِ سِنِينَ، فَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ. رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وأحمد، وَقَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: قال: الترمذي في "الصلاة" باب "ما جاء في ترك القنوت"، وابن ماجه في "الإقامة" باب "ما جاء في القنوت في صلاة الفجر"، وأحمد في "المسند"، والبيهقي في "الصلاة" باب "مَن يرى القنوت في صلاة الصبح"، وإسناده صحيح.

الشيخ: قد رواه الخمسةُ إلا أبا داود كما قال الحافظ، كما قال هنا، والقنوت الذي فعله قنوت في النَّوازل، كان إذا نزلت بالمسلمين نازلةٌ -مثل: عدو نزل بالمسلمين- قنت في الصَّلوات، وغالبًا يكون في الفجر، وربما قنت في غير الفجر بعد الركوع يدعو على الكفرة، ولكنه لا يُديم ذلك، بل يدعو وقتًا معينًا: شهرًا أو أقلّ أو أكثر قليلًا، ثم يُمسِك، أما ما ظنَّه بعضُ أهل العلم أنه يقنت دائمًا في الفجر، فهذا قول ضعيف مرجوح عند أهل العلم؛ ولهذا سمَّاه طارق بن الأشيم الأشجعي سمَّاه: مُحْدَثًا.

وما يُروى عن أنسٍ أنه كان يقنت حتى فارق الدنيا، فهو ضعيف عند أهل العلم، وإنما المحفوظ أنه كان يقنت في النوازل، ولا يُداوم القنوت.

فينبغي لمن تولى الإمامة أن يتأسَّى به ﷺ، وأن يدع القنوتَ في الفجر، وإنما يقنت في الوتر، أو في النوازل إذا نزلت نازلة بالمسلمين لبعض الوقت، ثم يُمسك ولا يُداوم على ذلك.

س: بعد الركوع؟

ج: بعد الركوع نعم، هذا السنة.

س: في الركعة الأولى وإلا الثانية؟

ج: في الأخيرة.

س: قول: "اللهم اهدني فيمن هديت" هل قنت ﷺ بهذا القنوت؟

الشيخ: لا، ما قنت، إنما يقنت يدعو على قومٍ، أو لقومٍ، أما هذا علَّمه النبيُّ ﷺ للحسن في القنوت، ثم كان ﷺ إذا دعا وهو إمام ما يقول بالإفراد، يقول بالجمع، إذا دعا للمسلمين يجمع، وإنما يقول: "اهدني، واغفر لي" إذا كان وحده عليه الصلاة والسلام، وإذا كان في صلاته يدعو لنفسه فيما بينه وبين ربه، كما يقول في السجود: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، أما الدعاء العام في الخطب والقنوت فهذا يعمّ: "اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، اللهم أنجنا، اللهم انصرنا"، ونحو ذلك.

س: الصلاة في النعال يقال له: سنة أو جائزة؟

ج: سنة، مستحب، النبي قال: خالفوهم إنَّ اليهود لا يُصلون في نعالهم فخالفوهم، وكان يُصلي في نعليه إلا في الأحوال القليلة كان يفسخها؛ ليُبين الجواز، ليبين أنه ليس بلازمٍ؛ ولهذا في الغالب يُصلي في نعليه، وفي بعض الأحيان يخلعهما ويُصلي حافيًا عليه الصلاة والسلام؛ للدلالة على أنه جائز، وليس بلازمٍ، ولكن الآن بعدما كانت المساجدُ مفروشةً بالفرش قد يتساهل الناسُ؛ لأنَّ أكثر الخلق لا يعتني بالنَّعلين عند دخول المسجد، لا يُبالي، فربما دخل فيهما أذى، أو طين، أو أوساخ أخرى، فيُوسخ على الناس فرشهم، ويُقذر عليهم موضع سجودهم، فإذا جعلها في مكانٍ عند باب المسجد، أو في مكانٍ آخر؛ حتى لا يُؤذي الناس فهذا حسنٌ إن شاء الله، لا زهدًا في السنة، ولكن لأجل ما هو معروف من العامَّة، والغالب أنهم لا يعتنون بالنِّعال.

س: بالنسبة للقنوت في صلاة الوتر؟

ج: مستحبّ، مستحبّ.

وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "إِنَّ الْقُنُوتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ بِدْعَةٌ".

الشيخ: يعني الدائم، القنوت الدائم. أيش قال المحشي عليه؟

الطالب: رواه الدَّارقطني في "سننه" في "الوتر" باب "صفة القنوت ومواضعه"، وفي سنده عبدالله بن ميسرة، وهو ضعيف.

الشيخ: نعم.

وَذَكَرَ البيهقيٌّ عَنْ أبي مجلز قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمْ يَقْنُتْ، فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَرَاكَ تَقْنُتُ! فَقَالَ: لَا أَحْفَظُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا.

الشيخ: علَّق بشيءٍ؟

الطالب: رواه البيهقي في "السنن الكبرى" في "الصلاة" باب "مَن لم يرَ القنوت في صلاة الصبح"، وإسناده حسن.

الشيخ: نعم.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَوْ كَانَ يَقْنُتُ كُلَّ غَدَاةٍ وَيَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ وَيُؤَمِّنُ الصَّحَابَةُ لَكَانَ نَقْلُ الْأُمَّةِ لِذَلِكَ كُلِّهِمْ كَنَقْلِهِمْ لِجَهْرِهِ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا وَعَدَدِهَا وَوَقْتِهَا، وَإِنْ جَازَ عَلَيْهِمْ تَضْيِيعُ أَمْرِ الْقُنُوتِ مِنْهَا جَازَ عَلَيْهِمْ تَضْيِيعُ ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ.

وَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَدْيُهُ الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا، ثُمَّ يُضِيعُ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ ذَلِكَ وَيَخْفَى عَلَيْهَا، وَهَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ.

بَلْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا لَكَانَ نَقْلُهُ كَنَقْلِ عَدَدِ الصَّلَوَاتِ، وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَالْجَهْرِ وَالْإِخْفَاتِ، وَعَدَدِ السَّجَدَاتِ، وَمَوَاضِعِ الْأَرْكَانِ وَتَرْتِيبِهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَالْإِنْصَافُ الَّذِي يَرْتَضِيهِ الْعَالِمُ الْمُنْصِفُ أَنَّهُ ﷺ جَهَرَ وَأَسَرَّ، وَقَنَتَ وَتَرَكَ، وَكَانَ إِسْرَارُهُ أَكْثَرَ مِنْ جَهْرِهِ.

الشيخ: يعني في البسملة إنما جهر بها بعض الأحيان للتعليم؛ ليعلم الناس أنها تُقرأ، كما فعل أبو هريرة.

وَتَرْكُهُ الْقُنُوتَ أَكْثَرَ مِنْ فِعْلِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَنَتَ عِنْدَ النَّوَازِلِ لِلدُّعَاءِ لِقَوْمٍ، وَلِلدُّعَاءِ عَلَى آخَرِينَ، ثُمَّ تَرَكَهُ لَمَّا قَدِمَ مَنْ دَعَا لَهُمْ، وَتَخَلَّصُوا مِنَ الْأَسْرِ، وَأَسْلَمَ مَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ وَجَاءُوا تَائِبِينَ، فَكَانَ قُنُوتُهُ لِعَارِضٍ، فَلَمَّا زَالَ تَرَكَ الْقُنُوتَ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِالْفَجْرِ، بَلْ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ أنسٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مسلم عَنِ البراء.

وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ". وَرَوَاهُ أبو داود.

الشيخ: علَّق عليه؟ ابن عباس.

الطالب: رواه أبو داود في "الصلاة" باب "القنوت في الصلاة"، وأحمد في "المسند"، وإسناده حسن، وصححه الحاكم في "المستدرك"، ووافقه الذَّهبي.

الشيخ: نعم.

وَكَانَ هَدْيُهُ ﷺ الْقُنُوتَ فِي النَّوَازِلِ خَاصَّةً، وَتَرْكَهُ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَخُصُّهُ بِالْفَجْرِ، بَلْ كَانَ أَكْثَرُ قُنُوتِهِ فِيهَا لِأَجْلِ مَا شُرِعَ فِيهَا مِنَ التَّطْوِيلِ؛ وَلِاتِّصَالِهَا بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَقُرْبِهَا مِنَ السَّحَرِ وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ، وَلِلتَّنَزُّلِ الْإِلَهِيِّ؛ وَلِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الْمَشْهُودَةُ الَّتِي يَشْهَدُهَا اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ.

س: بعض العلماء يقولون: آخر وقت العشاء نصف الليل الأوسط. ويستدلون بحديث المواقيت، وبعضهم يقول: ما بعد نصف الليل يكون وقت ضرورةٍ. يعني: لا قضاءَ، فإذا كان الراجحُ هذا ما هو الدليل عليه؟ إذا كان الراجح الرأي الأخير.

ج: أما النصف فلحديث عبدالله بن عمرو المعروف، رواه مسلم، وأما باقي الليل فلأنه وقت ضرورةٍ مثلما بعد الصُّفرة والشمس بعد العصر؛ لحديث: ليس في النوم تفريطٌ، إنما التَّفريط أن يُؤخر الصلاةَ إلى أن يدخل وقتُ الصلاة التي بعدها، هذا يدل على أنه يمتد الوقت، يمتد إلى ما بعدها، ما عدا الفجر؛ فإنها ليس بعدها شيء، يمتد وقتها إلى طلوع الشمس، أما غيرها فيمتد وقتها إلى وقت الأخرى.

كَانَ هَدْيُهُ ﷺ الْقُنُوتَ فِي النَّوَازِلِ خَاصَّةً، وَتَرْكَهُ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَخُصُّهُ بِالْفَجْرِ، بَلْ كَانَ أَكْثَرُ قُنُوتِهِ فِيهَا لِأَجْلِ مَا شُرِعَ فِيهَا مِنَ التَّطْوِيلِ؛ وَلِاتِّصَالِهَا بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَقُرْبِهَا مِنَ السَّحَرِ وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ؛ وَلِلتَّنَزُّلِ الْإِلَهِيِّ؛ وَلِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الْمَشْهُودَةُ الَّتِي يَشْهَدُهَا اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ، أَوْ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَمَا رُوِيَ هَذَا وَهَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ عبدالله بن سعيد ابن أبي سعيدٍ المقبري، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهَا فَيَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، فَمَا أَبْيَنَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا، وَلَكِنْ لَا يُحْتَجُّ بعبدالله هَذَا، وَإِنْ كَانَ الحاكمُ صَحَّحَ حَدِيثَهُ فِي الْقُنُوتِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ الْمُزَنِيِّ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى: حَدَّثَنَا أحمد بن صالح: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ .. فَذَكَرَهُ.

نَعَمْ، صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: "وَاللَّهِ لَأَنَا أَقْرَبُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَمَا يَقُولُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكَهُ، فَأَحَبَّ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقُنُوتِ سُنَّةٌ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلَهُ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الْقُنُوتَ فِي الْفَجْرِ مُطْلَقًا عِنْدَ النَّوَازِلِ وَغَيْرِهَا.

الشيخ: علَّق عليه بشيءٍ؟

الطالب: على قوله: "عند النَّوازل وغيرها": فيه نظر، وقد قال العلامة الحلبي في "شرح الكبير"، وهو من الحنفية: فتكون شرعية القنوت في النَّوازل مُستمرة، وهو محل قنوتِ مَن قنت من الصحابة بعد النبي ﷺ، وهو مذهب ..... الحنفية، وعليه الجمهور.

وقال الإمامُ أبو جعفر الطَّحاوي: إنما لا يقنت عندنا في صلاة الفجر من غير بليةٍ، فإذا وقعت فتنةٌ أو بليةٌ فلا بأس به، فعله رسولُ الله ﷺ.

وقال الحافظُ ابن حجر في "الدراية": يُؤخذ من أخباره أنه ﷺ كان لا يقنت إلا في النَّوازل، وقد جاء ذلك صريحًا: فعند ابن حبان عن أبي هريرة : كان رسولُ الله ﷺ لا يقنت في صلاة الصبح إلا أن يدعو لقومٍ، أو على قومٍ. وعند ابن خُزيمة عن أنسٍ مثله، وإسناد كلٍّ منهما صحيح.

الشيخ: هذا واضح: القنوت في النوازل، لا ينبغي أن يكون فيه خلاف؛ لأنه واضح من الأدلة، وكون المؤلف عزاه للكوفة، قد يكون بعضُ أهل الكوفة غلط في هذا، والمؤلف لم يقف على القول الثاني، يحتمل أنه خبر به عن ظنٍّ، وعن ..... من كتبهم.

وأما القنوت الدائم في الفجر: تقدم حديث سعد بن طارق الأشجعي، عن أبيه: أنه سأله، سأل أباه قال: يا أبتِ، إنك صليتَ خلف رسول الله ﷺ، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني، مُحدَث. يعني: في غير النَّوازل.

............

س: بعض الناس المقلدين إذا صلَّى وراء مَن لا يقنت يتأخَّر ويقنت في نفسه ويترك الإمامَ يسجد؟

ج: لا، ما ينبغي هذا: إنما جُعل الإمامُ ليُؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه، إذا صلَّى خلف مَن لا يقنت يفعل مثله، يسجد معه، وليترك القنوت؛ لأنَّ القنوت لا أصلَ له في الدوام، إنما هو في النوازل، النبي ما كان يستمرّ عليه.

س: وإذا قنت الإمامُ؟

ج: إذا قنت معه فلا بأس؛ لأنه له شبهة ..... الشافعي وجماعة.

وَهَذَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الْقُنُوتَ فِي الْفَجْرِ مُطْلَقًا عِنْدَ النَّوَازِلِ وَغَيْرِهَا، وَيَقُولُونَ: هُوَ مَنْسُوخٌ. وَفِعْلُهُ بِدْعَةٌ.

فَأَهْلُ الْحَدِيثِ مُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ مَنِ اسْتَحَبَّهُ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ أَسْعَدُ بِالْحَدِيثِ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقْنُتُونَ حَيْثُ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَيَتْرُكُونَهُ حَيْثُ تَرَكَهُ، فَيَقْتَدُونَ بِهِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَيَقُولُونَ: فِعْلُهُ سُنَّةٌ، وَتَرْكُهُ سُنَّةٌ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ دَاوَمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْرَهُونَ فِعْلَهُ، وَلَا يَرَوْنَهُ بِدْعَةً، وَلَا فَاعِلَهُ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ، كَمَا لَا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَلَا يَرَوْنَ تَرْكَهُ بِدْعَةً، وَلَا تَارِكَهُ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ، بَلْ مَنْ قَنَتَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَقَدْ أَحْسَنَ.

الشيخ: هذا فيه نظر هذا الإطلاق، لكن مقصوده عدم التشديد في هذا الشيء، عدم التشديد.

وَرُكْنُ الِاعْتِدَالِ مَحَلُّ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ.

وَدُعَاءُ الْقُنُوتِ دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ، فَهُوَ أَوْلَى بِهَذَا الْمَحَلِّ، وَإِذَا جَهَرَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْيَانًا لِيُعَلِّمَ الْمَأْمُومِينَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَقَدْ جَهَرَ عمرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ لِيُعَلِّمَ الْمَأْمُومِينَ، وَجَهَرَ ابْنُ عباسٍ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّهَا سُنَّةٌ.

وَمِنْ هَذَا أَيْضًا جَهْرُ الْإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ، وَهَذَا مِن الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يُعَنَّفُ فِيهِ مَنْ فَعَلَهُ، وَلَا مَنْ تَرَكَهُ، وَهَذَا كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَتَرْكِهِ، وَكَالْخِلَافِ فِي أَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَأَنْوَاعِ النُّسُكِ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ.

وَلَيْسَ مَقْصُودُنَا إِلَّا ذِكْرَ هَدْيِهِ ﷺ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ هُوَ، فَإِنَّهُ قِبْلَةُ الْقَصْدِ، وَإِلَيْهِ التَّوَجُّهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ التَّفْتِيشِ وَالطَّلَبِ، وَهَذَا شَيْءٌ، وَالْجَائِزُ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ شَيْءٌ، فَنَحْنُ لَمْ نَتَعَرَّضْ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِمَا يَجُوزُ وَلِمَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُنَا فِيهِ هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي كَانَ يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَكْمَلُ الْهَدْيِ وَأَفْضَلُهُ، فَإِذَا قُلْنَا: لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ، وَلَا الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ، لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهِيَةِ غَيْرِهِ، وَلَا أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَكِنْ هَدْيُهُ ﷺ أَكْمَلُ الْهَدْيِ وَأَفْضَلُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أبي جعفر الرازي، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أنسٍ قَالَ: "مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا"، وَهُوَ فِي "الْمُسْنَدِ" وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

فأبو جعفر قَدْ ضَعَّفَهُ أحمدُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: كَانَ يَخْلِطُ. وَقَالَ أبو زرعة: كَانَ يَهِمُ كَثِيرًا. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنِ الْمَشَاهِيرِ.

وَقَالَ لِي شَيْخُنَا ابنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: وَهَذَا الْإِسْنَادُ نَفْسُهُ هُوَ إِسْنَادُ حَدِيثِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف:172]، حَدِيثَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الطَّوِيلَ، وَفِيهِ: "وَكَانَ رُوحُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي أَخَذَ عَلَيْهَا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فِي زَمَنِ آدَمَ، فَأَرْسَلَ تِلْكَ الرُّوحَ إِلَى مريم عَلَيْهَا السَّلَامُ حِينَ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَأَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17]"، قَالَ: "فَحَمَلَتِ الَّذِي يُخَاطِبُهَا، فَدَخَلَ مِنْ فِيهَا"، وَهَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ؛ فَإِنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا الْمَلَكَ الَّذِي قَالَ لَهَا: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [مريم:19]، وَلَمْ يَكُنِ الَّذِي خَاطَبَهَا بِهَذَا هُوَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، هَذَا مُحَالٌ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أبا جعفر الرازي صَاحِبُ مَنَاكِيرَ، لَا يَحْتَجُّ بِمَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْبَتَّةَ وَلَوْ صَحَّ.

الشيخ: لكن وهم في قوله: "لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا"، هذا لعله عند رواية القنوت في النَّوازل، لكنه وهمه بهذه الزيادة؛ لما لديه من المناكير، وضعف في الحديث.

الطالب: في حاشية على الحديث على قوله: وهو في "المسند" والترمذي: لم يُخرجه الترمذي، وإنما هو عند أحمد في "المسند"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، والدارقطني والطحاوي، وفي سنده أبو جعفر الرازي، واسمه عيسى بن ماهان، وهو ضعيف كما ذكر المؤلف.

الشيخ: أظنَّ الحافظ كذلك عزاه للترمذي كما عزاه ابن القيم، ..... الحافظ في "البلوغ" عزاه للترمذي أيضًا.

س: .............؟

ج: فيه نظر، طارق قال لابنه: "يا بني مُحدث"، ..... أنه صلَّى خلف مَن قنت، وإن يكن بدعةً بالنظر إلى أنه لم يكن داومه، لكن له شبهة، له شبهة رواية مَن روى أنه يقنت دائمًا، شبهة تقليد الأئمة الذين قالوا بهذا الشيء، فالأمر في هذا واسع من جهة الاقتداء وعدم الانصراف.

وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْقُنُوتِ الْمُعَيَّنِ الْبَتَّةَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْقُنُوتَ هَذَا الدُّعَاءُ، فَإِنَّ الْقُنُوتَ يُطْلَقُ عَلَى الْقِيَامِ، وَالسُّكُوتِ، وَدَوَامِ الْعِبَادَةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالْخُشُوعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم:26]، وَقَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]، وَقَالَ تَعَالَى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12]، وَقَالَ ﷺ: أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ.

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] أُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ.

وأنس لَمْ يَقُلْ: لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ رَافِعًا صَوْتَهُ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ إِلَى آخِرِهِ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ الَّذِي كَانَ يَقُولُهُ قُنُوتٌ، وَتَطْوِيل هَذَا الرُّكْنِ قُنُوتٌ، وَتَطْوِيل الْقِرَاءَةِ قُنُوتٌ، وَهَذَا الدُّعَاء الْمُعَيَّن قُنُوتٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ أنسًا إِنَّمَا أَرَادَ هَذَا الدُّعَاءَ الْمُعَيَّنَ دُونَ سَائِرِ أَقْسَامِ الْقُنُوتِ؟

وَلَا يُقَالُ: تَخْصِيصُهُ الْقُنُوتَ بِالْفَجْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ الدُّعَاءِ الْمُعَيَّنِ، إِذْ سَائِرُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَقْسَامِ الْقُنُوتِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَجْرِ وَغَيْرِهَا، وأنسٌ خَصَّ الْفَجْرَ دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِالْقُنُوتِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ الدُّعَاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَلَا الدُّعَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ أنسًا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَاوَمَ عَلَيْهِ هُوَ الْقُنُوتَ الْمَعْرُوفَ، وَقَدْ قَنَتَ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَغَيْرُهُمْ.

وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ أنسًا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، فَلَمْ يُخَصِّصِ الْقُنُوتَ بِالْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ سَوَاءً، فَمَا بَالُ الْقُنُوتِ اخْتَصَّ بِالْفَجْرِ؟!

فَإِنْ قُلْتُمْ: قُنُوتُ الْمَغْرِبِ مَنْسُوخٌ. قَالَ لَكُمْ مُنَازِعُوكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: وَكَذَلِكَ قُنُوتُ الْفَجْرِ سَوَاءً، وَلَا تَأْتُونَ بِحُجَّةٍ عَلَى نَسْخِ قُنُوتِ الْمَغْرِبِ إِلَّا كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ قُنُوتِ الْفَجْرِ سَوَاءً، وَلَا يُمْكِنُكُمْ أَبَدًا أَنْ تُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ قُنُوتِ الْمَغْرِبِ وَإِحْكَامِ قُنُوتِ الْفَجْرِ.

فَإِنْ قُلْتُمْ: قُنُوتُ الْمَغْرِبِ كَانَ قُنُوتًا لِلنَّوَازِلِ، لَا قُنُوتًا رَاتِبًا. قَالَ مُنَازِعُوكُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: نَعَمْ كَذَلِكَ هُوَ، وَكَذَلِكَ قُنُوتُ الْفَجْرِ سَوَاءً، وَمَا الْفَرْقُ؟

قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُنُوتَ الْفَجْرِ كَانَ قُنُوتَ نَازِلَةٍ، لَا قُنُوتًا رَاتِبًا: أَنَّ أنسًا نَفْسَهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ، وَعُمْدَتُكُمْ فِي الْقُنُوتِ الرَّاتِبِ إِنَّمَا هُوَ أنس، وأنس أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ قُنُوتَ نَازِلَةٍ ثُمَّ تَرَكَهُ، فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أنسٍ قَالَ: "قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ".

الثَّانِي: أَنَّ شبابة رَوَى عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: قُلْنَا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: إِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ بِالْفَجْرِ، قَالَ: "كَذَبُوا، وَإِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَهْرًا وَاحِدًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ".

وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَإِنْ كَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ضَعَّفَهُ، فَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ بِدُونِ أبي جعفر الرازي، فَكَيْفَ يَكُونُ أبو جعفر حُجَّةً فِي قَوْلِهِ: "لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا"، وقيس لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَوْثَقُ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ؟!

وَالَّذِينَ ضَعَّفُوا أبا جعفر أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ ضَعَّفُوا قيسًا، فَإِنَّمَا يُعْرَفُ تَضْعِيفُ قيسٍ عَنْ يحيى، وَذَكَرَ سَبَبَ تَضْعِيفِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ: سَأَلْتُ يحيى عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ: ضَعِيفٌ، لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ؛ كَانَ يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ عَنْ عبيدة، وَهُوَ عِنْدَهُ عَنْ منصورٍ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِ الرَّاوِي؛ لِأَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَلِطَ وَوَهِمَ فِي ذِكْرِ عبيدة بَدَلَ منصور، وَمَنِ الَّذِي يَسْلَمُ مِنْ هَذَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ؟!

الثَّالِثُ: أَنَّ أنسًا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْنَتُونَ، وَأَنَّ بَدْءَ الْقُنُوتِ هُوَ قُنُوتُ النَّبِيِّ ﷺ يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ، فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أنسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَبْعِينَ رَجُلًا لِحَاجَةٍ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ، فَعَرَضَ لَهُمْ حَيَّانِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ -رِعْلٍ وَذَكْوَانَ- عِنْدَ بِئْرٍ يُقَالُ لَهُ: بِئْرُ مَعُونَةَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكُمْ أَرَدْنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ مُجْتَازُونَ فِي حَاجَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَتَلُوهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهِمْ شَهْرًا فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَذَلِكَ بَدْءُ الْقُنُوتِ، وَمَا كُنَّا نَقْنُتُ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ الْقُنُوتُ دَائِمًا، وَقَوْلُ أنسٍ: "فَذَلِكَ بَدْءُ الْقُنُوتِ"، مَعَ قَوْلِهِ: "قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ"، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا أَثْبَتَهُ مِنَ الْقُنُوتِ قُنُوتَ النَّوَازِلِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَّتَهُ بِشَهْرٍ، وَهَذَا كَمَا قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ شَهْرًا، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ يَحْيَى ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أبي سلمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ شَهْرًا يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الوليد بن الوليد، اللَّهُمَّ أَنْجِ سلمة بن هشام، اللَّهُمَّ أَنْجِ عياش ابن أبي ربيعة، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَأَصْبَحَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَدْعُ لَهُمْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَوَمَا تَرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا؟! فَقُنُوتُهُ فِي الْفَجْرِ كَانَ هَكَذَا سَوَاءً لِأَجْلِ أَمْرٍ عَارِضٍ وَنَازِلَةٍ؛ وَلِذَلِكَ وَقَّتَهُ أنسٌ بِشَهْرٍ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَنَتَ لَهُمْ أَيْضًا فِي الْفَجْرِ شَهْرًا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَدِيثِ عكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ. وَرَوَاهُ أبو داود وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

الشيخ: عنده شيء؟

الطالب: رواه أبو داود في "الصلاة" باب "القنوت في الصلاة"، وأحمد في "المسند"، وإسناده حسن، وقد تقدم.

وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي "مُعْجَمِهِ" مِنْ حَدِيثِ محمد بن أنس: حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ طَرِيفٍ، عَنْ أبي الجهم، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً مَكْتُوبَةً إِلَّا قَنَتَ فِيهَا.

قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ مطرف إِلَّا محمد بن أنس. انْتَهَى.

وَهَذَا الْإِسْنَادُ وَإِنْ كَانَ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ هُوَ الدُّعَاءُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً إِلَّا دَعَا فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ.

الشيخ: يعني الدعاء المعروف العام في سجوده، وفي آخر الصلاة، وليس معنى الدُّعاء القنوت.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ أنسٌ فِي حَدِيثِ أبي جعفر الرازي إِنْ صَحَّ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَنَحْنُ لَا نَشُكُّ وَلَا نَرْتَابُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ دُعَاءَهُ اسْتَمَرَّ فِي الْفَجْرِ إِلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ طُرُقَ أَحَادِيثِ أَنَسٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا تَتَنَاقَضُ.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ، فَقُلْتُ: كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ، قُلْتُ: وَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: قَنَتَ بَعْدَهُ؟ قَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قُلْتُ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا.

وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ تَفَرَّدَ بِهِ عاصم، وَسَائِرُ الرُّوَاةِ عَنْ أنسٍ خَالَفُوهُ فَقَالُوا: عاصم ثِقَةٌ جِدًّا، غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَ أَصْحَابَ أنسٍ فِي مَوْضِعِ الْقُنُوتَيْنِ، وَالْحَافِظُ قَدْ يَهِمُ، وَالْجَوَادُ قَدْ يَعْثُرُ.

وَحَكَوْا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تَعْلِيلَهُ، فَقَالَ الأثرمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ -يَعْنِي: أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ- أَيَقُولُ أَحَدٌ فِي حَدِيثِ أنسٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ غَيْرَ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ؟ فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا يَقُولُهُ غَيْرُهُ.

قَالَ أبو عبدالله: خَالَفَهُمْ عاصم كُلَّهُمْ: هشام، عَنْ قتادة، عَنْ أنسٍ. والتيمي، عَنْ أبي مجلز، عَنْ أنسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وأيوب، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَأَلْتُ أنسًا. وحنظلة السَّدوسي عَنْ أنسٍ أَرْبَعَة وُجُوهٍ.

وَأَمَّا عاصم فَقَالَ: قُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: كَذَبُوا، إِنَّمَا قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا. قِيلَ لَهُ: مَنْ ذَكَرَهُ عَنْ عاصمٍ؟ قَالَ: أبو معاوية وَغَيْرُهُ، قِيلَ لأبي عبدالله: وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ أَلَيْسَ إِنَّمَا هِيَ بَعْدَ الرُّكُوعِ؟ فَقَالَ: بَلَى، كُلُّهَا عَنْ خفاف بن إيماء بن رحضة، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.

قُلْتُ لأبي عبدالله: فَلِمَ تُرَخِّصُ إِذًا فِي الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَإِنَّمَا صَحَّ الْحَدِيثُ بَعْدَ الرُّكُوعِ؟ فَقَالَ: الْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَفِي الْوِتْرِ يُخْتَارُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَمَنْ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَلَا بَأْسَ؛ لِفِعْلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَاخْتِلَافِهِمْ، فَأَمَّا فِي الْفَجْرِ فَبَعْدَ الرُّكُوعِ.

فَيُقَالُ: مِنَ الْعَجَبِ تَعْلِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَرَوَاهُ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ أَثْبَاتٌ حُفَّاظٌ، وَالِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ حَدِيثِ أبي جعفر الرازي، وَقَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وعمرو بن أيوب، وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، ودينار، وجابر الجعفي، وَقَلَّ مَنْ تَحَمَّلَ مَذْهَبًا وَانْتَصَرَ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا اضْطُرَّ إِلَى هَذَا الْمَسْلَكِ.

فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَحَادِيثُ أنسٍ كُلُّهَا صِحَاحٌ، يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا تَتَنَاقَضُ، وَالْقُنُوتُ الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ غَيْرُ الْقُنُوتِ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَهُ، وَالَّذِي وَقَّتَهُ غَيْرُ الَّذِي أَطْلَقَهُ؛ فَالَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ هُوَ إِطَالَةُ الْقِيَامِ لِلْقِرَاءَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَهُ هُوَ إِطَالَةُ الْقِيَامِ لِلدُّعَاءِ، فَعَلَهُ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى قَوْمٍ، وَيَدْعُو لِقَوْمٍ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ يُطِيلُ هَذَا الرُّكْنَ لِلدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ إِلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ ثابتٍ، عَنْ أنسٍ قَالَ: "إِنِّي لَا أَزَالُ أُصَلِّي بِكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِنَا"، قَالَ: وَكَانَ أنسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ؛ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِمًا حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ يَمْكُثُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ. فَهَذَا هُوَ الْقُنُوتُ الَّذِي مَا زَالَ عَلَيْهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْوُقُوفِ الطَّوِيلِ، بَلْ كَانَ يُثْنِي عَلَى رَبِّهِ وَيُمَجِّدُهُ وَيَدْعُوهُ، وَهَذَا غَيْرُ الْقُنُوتِ الْمُوَقَّتِ بِشَهْرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ دُعَاءٌ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ، وَدُعَاءٌ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ.

وَأَمَّا تَخْصِيصُ هَذَا بِالْفَجْرِ فَبِحَسَبِ سُؤَالِ السَّائِلِ، فَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ قُنُوتِ الْفَجْرِ، فَأَجَابَهُ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيلُ صَلَاةَ الْفَجْرِ دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَيَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِئَةِ، وَكَانَ -كَمَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ- رُكُوعُهُ وَاعْتِدَالُهُ وَسُجُودُهُ وَقِيَامُهُ مُتَقَارِبًا. وَكَانَ يَظْهَرُ مِنْ تَطْوِيلِهِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِذَلِكَ.

الشيخ: والخلاصة في هذا أنَّ المعروف عن النبي ﷺ في الأحاديث الصَّحيحة أنه كان يقنت بعد الركوع، لا قبل الركوع، في النَّوازل، وفي الوتر، قنوته يكون بعد الركوع، وهذا هو المعروف في الأحاديث الصحيحة الكثيرة: من حديث ابن عمر، وأبي هريرة، والبراء، وغيرهم.

وأما رواية أنسٍ التي انفرد بها عاصمُ بن سليمان بن الأحول: أنه قنت قبل الركوع. فهذه إن صحَّت يكون أنسٌ ..... وهم فيها، وقد تأوَّلها ابنُ القيم رحمه الله: أن المراد القنوت الدائم الذي هو الطاعة والتَّنسك لله ، وليس المراد القنوت المعروف الذي هو الدعاء على قومٍ، أو لقومٍ، إنما هو إطالة القيام، وأنه لم يزل يقنت -يعني: يُطيل قيامه- حتى فارق الدنيا، يعني: لم يزل في الطاعة.

ولكن هذا فيه نظر؛ لأنَّ صلاة النبي ﷺ معلومة، كان يُطول في الثنتين الأُوليين، ويقصر في الأُخريين، والقنوت يكون في الأخيرة: في الرابعة في الظهر والعصر والعشاء، وفي الثالثة في المغرب، والثانية في الفجر، والقنوت كان يكون في الأخيرة بعد الركوع حسب المعروف.

فالأقرب -والله أعلم- أنَّ ما قاله أنسٌ مثلما قال الحفَّاظ: وهم من عاصم، خالفه الحفَّاظ الذين رووا أنَّ القنوت كان بعد الركوع، لا قبله، فيكون من أوهامه؛ لأنَّ الجواد قد يعثر، والثقة قد يغلط ويهم، فإن وُجد شيءٌ من ذلك فهو قليل من النبي ﷺ، وهو أنه دعا دعاءً يُسمع قبل الركوع، وإنما المحفوظ والمعروف أنه كان يدعو بعد الركوع، إذا فرغ من الركوع رفع يديه ودعا، كما دعا على رعل وذكوان وعصية، ودعا على كفَّار مكة، كما في الصحيح عن ابن عمر، ومن حديث أبي هريرة، وكما في حديث ابن عباسٍ.

س: .............؟

ج: يحتمل على القاعدة، محتمل أنه فعله بعض الأحيان، ما هناك مانع، لكن الأكثر والأظهر هو أنه بعد الركوع، كما جاءت به الروايات الكثيرة الصحيحة، ويحتمل أنه في بعض الأحيان، أو أن أنسًا نسي، وإلا عاصم ..... على أنسٍ، يحتمل أنَّ النسيان كان من أنسٍ، فقد نسي أنسٌ بعد كبر سنِّه.

س: التفريق بين الوتر والفريضة: في الفريضة يكون بعد الركوع، وفي الوتر قبل الركوع؟

ج: حتى في الوتر القنوت بعد الركوع.

س: رفع اليدين أثناء الدعاء؟

ج: ثبت في القنوت أنه رفع يديه في القنوت في النوازل.

س: قال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يختار بعد الركوع، ومَن قنت قبل الركوع فلا بأس؟

ج: هذا شيء آخر، يعني: كأنه ليس بمعتمدٍ على رواية عاصم، وهم عن بعض الصحابة، وهو معروف أن قنوته ﷺ كان بعد الركوع، هذا الذي نعرف من الروايات.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو رَبَّهُ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُمَجِّدُهُ فِي هَذَا الِاعْتِدَالِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ، وَهَذَا قُنُوتٌ مِنْهُ لَا رَيْبَ، فَنَحْنُ لَا نَشُكُّ وَلَا نَرْتَابُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.

وَلَمَّا صَارَ الْقُنُوتُ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ النَّاسِ هُوَ هَذَا الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ إِلَى آخِرِهِ، وَسَمِعُوا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ حَمَلُوا الْقُنُوتَ فِي لَفْظِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقُنُوتِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، وَنَشَأَ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مُدَاوِمِينَ عَلَيْهِ كُلَّ غَدَاةٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَازَعَهُمْ فِيهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ الرَّاتِبِ، بَلْ وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ.

وَغَايَةُ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا الْقُنُوتِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ كَمَا فِي "الْمُسْنَدِ" وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعِ عَنْهُ قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ.

قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَا نَعْرِفُ فِي الْقُنُوتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا.

وَزَادَ البيهقي بَعْدَ وَلَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ: وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ.

الشيخ: علَّق عليه بشيءٍ؟

الطالب: على الأول: رواه الترمذي في "الصلاة" باب "ما جاء في القنوت في الوتر"، وأبو داود في "الصلاة" باب "القنوت في الوتر"، وابن ماجه في "الإقامة" باب "ما جاء في القنوت في الوتر"، والنَّسائي في "قيام الليل" باب "الدعاء في الوتر"، وأحمد في "المسند"، والدَّارمي، والطيالسي، من طريق بُريد ابن أبي مريم، عن أبي حوراء السعدي قال: قال الحسنُ بن عليٍّ رضي الله عنهما: علَّمني رسولُ الله ﷺ كلمات أقولهنَّ في الوتر .. إلى آخره. وإسناده صحيح، وصححه الحاكم.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي، واسمه: ربيعة بن شيبان، ولا نعرف عن النبي ﷺ في قنوته في الوتر أحسن من هذا.

واختلف أهلُ العلم في القنوت في الوتر: فرأى عبدُالله بن مسعود القنوتَ في الوتر في السَّنة كلها، واختار القنوت قبل الركوع، وهو قول بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وأهل الكوفة.

الشيخ: تم؟

الطالب: نعم، وعلى قوله أيضًا: "كان يقنت .."، وزاد البيهقي بعد ولا يذل مَن واليت، ولا يعزّ مَن عاديتَ، رواه البيهقي في "السنن الكبرى" في "الصلاة" باب "دعاء القنوت"، وهي زيادة حسنة.

س: دعاء ختم القرآن قبل الركوع؟

ج: دعاء ختم القرآن يُروى عن بعض السلف، لم يُرو عن النبي ﷺ، يُروى عن بعض السَّلف.

س: بعض الشافعية يرون القنوت في النصف الأخير في شهر رمضان؟

ج: يُروى عن أُبي بن كعب أنه كان يقنت في النصف الأخير، لكن الأثر .....

س: .............؟

ج: لا، إذا دخل الفجر انتهى الوتر: أوتروا قبل أن تُصبحوا، لكن إذا خشي الوقت يُبادر بركعةٍ.

س: في كتابٍ يقول أنه كان يُصليها قبل صلاة الفجر؟

ج: لا، غلط، النبي قال: أوتروا قبل أن تُصبحوا عليه الصلاة والسلام، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدةً تُوتر له ما قد صلَّى، الوتر يكون في آخر الليل، فإذا جاء الصبحُ -تحقق الصبح- أمسك، لكن إذا أوتر وهو يُؤذن؛ لأنَّ الناس يُؤذنون على ظنِّ الفجر على التقويم، إذا أوتر وهو يُؤذن لا حرجَ إن شاء الله.

س: اللهم إنا نستعينك ونستهديك؟

ج: هذا جاء عن عمر، ولا بأس، من قنوت عمر، لا بأس به.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ أنسٍ بِالْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ هُوَ الْقِيَامُ لِلدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ: مَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا أبو هلال: حَدَّثَنَا حنظلة إمام مسجد قتادة -قلت: هو السَّدوسي- قَالَ: اخْتَلَفْتُ أَنَا وقتادةُ فِي الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ قتادةُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَقُلْتُ أَنَا: بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَأَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَكَبَّرَ وَرَكَعَ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فِي الثَّانِيَةِ فَكَبَّرَ وَرَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَامَ سَاعَةً، ثُمَّ وَقَعَ سَاجِدًا.

وَهَذَا مِثْلُ حَدِيثِ ثابتٍ عَنْهُ سَوَاء، وَهُوَ يُبَيِّنُ مُرَادَ أنسٍ بِالْقُنُوتِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ دَلِيلًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَهَذَا الْقِيَامُ وَالتَّطْوِيلُ هُوَ كَانَ مُرَادَ أنسٍ، فَاتَّفَقَتْ أَحَادِيثُهُ كُلُّهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ فَنَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: قُنُوتٌ عِنْدَ النَّوَازِلِ، كَقُنُوتِ الصِّدِّيقِ فِي مُحَارَبَةِ الصَّحَابَةِ لمسيلمة، وَعِنْدَ مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ قُنُوتُ عمر، وَقُنُوتُ عليٍّ عِنْدَ مُحَارَبَتِهِ لمعاوية وَأَهْلِ الشَّامِ.

الثَّانِي: مُطْلَقٌ، مُرَادُ مَنْ حَكَاهُ عَنْهُمْ بِهِ تَطْوِيلُ هَذَا الرُّكْنِ لِلدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

س: القنوت في النَّوازل أصبح من السنن المهجورة؟

ج: بعض أهل العلم يرى أنه منسوخ، ولكن ما هو بصحيح؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا قال: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] لما قنت، والصواب أنه ليس بمنسوخٍ، وإنما بيَّن له الرب جلَّ وعلا أنَّ عليه فعل الأسباب، وعليه الدعاء، والله هو الهادي ، فقد دعا على قومه فلم يستجب له فيهم، وهداهم الله، وأنزل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، مثل: الحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، والأظهر بقاؤه في النوازل، ولكن مثلما قال ..... قلَّما يفعله، قال: والقنوت في مثل نازلة جهاد الأفغان، وبعض النوازل الأخرى جديرٌ فيها الدُّعاء.

س: ..... كما في الحديث أنَّ الرسول ﷺ نهى رجلًا من أن يُصلي السنة بعد الفجر، فهل يعني علمتَ شيئًا عن مدى هذا الحديث؟

ج: ..... نهى عن الصلاة بعد الصبح، ويُستثنى من ذلك سنة الفجر، إن صلَّاها فلا بأس، أو صلَّاها بعد طلوع الشمس فهو أفضل.

س: ورد فيها رخصة؟

ج: نعم، ورد فيها رخصة ..... بعد صلاة الصبح، رواه ابن حبان وغيره.

س: .............؟

ج: نعم، إذا صلَّى السنة في بيته ثم جاء وصلَّى تحية المسجد أفضل .....، لكن لو جاء وما صلَّى سنة الفجر لا شكَّ أنها تُغني عن التحية، سنة الفجر تكفي عن التحية .....

س: الصحابة الذين رووا الحديثَ منهم؟

ج: ما أتذكر الآن.

الطالب: عبدالرحمن السلمي.

الشيخ: عبدالرحمن، كذا؟

الطالب: نعم.

الشيخ: كلها سلمي؟

الطالب: نعم.

الشيخ: يُراجع ترجمة أسانيد .....، يُراجع ترجمة الأشعث، مَن روى عنه.

............

فَصْلٌ

فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي سُجُودِ السَّهْوِ

ثَبَتَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي.

وَكَانَ سَهْوُهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى أُمَّتِهِ وَإِكْمَالِ دِينِهِمْ؛ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِيمَا يَشْرَعُهُ لَهُمْ عِنْدَ السَّهْوِ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمُنْقَطِعِ الَّذِي فِي "الْمُوَطَّأ": إِنَّمَا أَنْسَى، أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ.

وَكَانَ ﷺ يَنْسَى، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى سَهْوِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ تَجْرِي عَلَى سَهْوِ أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

الشيخ: لأنه مُعلم بالفعل والقول عليه الصلاة والسلام.

فَقَامَ ﷺ مِنِ اثْنَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، وَلَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَأُخِذَ مِنْ هَذَا قَاعِدَةُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَرْكَانٍ سَهْوًا سَجَدَ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ.

الشيخ: مثل التشهد الأول، أو التكبير، أو التسميع.

وَأُخِذَ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ ذَلِكَ وَشَرَعَ فِي رُكْنٍ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمَتْرُوكِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ سَبَّحُوا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أَنْ قُومُوا.

وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي مَحَلِّ هَذَا السُّجُودِ: فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ عبدالله ابن بحينة: أَنَّهُ ﷺ قَامَ مِنِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَلَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا: يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ.

وَفِي "الْمُسْنَدِ" مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ المسعودي، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَلَاقَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ، فَسَبَّحَ بِهِ مَنْ خَلْفَهُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أَنْ قُومُوا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ". وَصَحَّحَهُ الترمذي.

وَذَكَرَ البيهقي مِنْ حَدِيثِ عبدالرحمن بن شماسة المهري قَالَ: صَلَّى بِنَا عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ، فَقَامَ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، فَلَمْ يَجْلِسْ وَمَضَى عَلَى قِيَامِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي سَمِعْتُكُمْ آنِفًا تَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ لِكَيْمَا أَجْلِسَ، لَكِنَّ السُّنَّةَ الَّذِي صَنَعْتُ".

وَحَدِيثُ عبدالله ابن بحينة أَوْلَى لِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ المغيرة.

الثَّانِي: أَنَّهُ أَصْرَحُ مِنْهُ، فَإِنَّ قَوْلَ المغيرة: "وَهَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَا فَعَلَ المغيرة، وَيَكُونُ قَدْ سَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا السَّهْوِ مَرَّةً قَبْلَ السَّلَامِ، وَمَرَّةً بَعْدَهُ، فَحَكَى ابنُ بحينة مَا شَاهَدَهُ، وَحَكَى المغيرةُ مَا شَاهَدَهُ، فَيَكُونُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ المغيرةُ أَنَّهُ ﷺ قَامَ وَلَمْ يَرْجِعْ، ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ المغيرة لَعَلَّهُ نَسِيَ السُّجُودَ قَبْلَ السَّلَامِ وَسَجَدَهُ بَعْدَهُ، وَهَذِهِ صِفَةُ السَّهْوِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: وهناك علَّة أخرى: وهي أنَّ المسعودي يضعف في الحديث، وقد اختلط، فلعله وهم فأخَّر السجدة، وكان الصوابُ تقديمها، يعني: إذا ترك التَّشهد الأول وقام، من السنة أن يسجد قبل السلام؛ لحديث عبدالله بن بحينة في "الصحيحين"، فلعلَّ هذا الواقع في حديث المغيرة، ولكن وهم المسعودي وجعلها بعد السلام، والأمر في هذا واسع: سجد قبل السلام، أو بعد السلام أجزأ، لكن الأفضل قبل السلام.

قال المحشي عليه شيئًا، حديث المسعودي؟

الطالب: رواه الإمامُ أحمد في "المسند"، وأبو داود في "الصلاة" باب "مَن نسي أن يتشهد"، والترمذي في "الصلاة" باب "ما جاء في الإمام ينهض"، والمسعودي هو عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، صدوق، اختلط قبل موته، لكن تابعه عند الترمذي عبدالرحمن ابن أبي ليلى، عن الشعبي، فهو حسن؛ ولذلك صحَّحه الترمذي كما قال المصنف.

الشيخ: ويبقى الثاني، وهو أن يُقال أنه فعل هذا مرة، وهذا مرة؛ ليُبين للأمة جواز الأمر: مرة سجد قبل السلام، ومرة سجد بعد السلام؛ لتعلم الأمةُ جواز الأمرين، وهذا لا يُستغرب، حتى أنَّ هذا قد وقع له أمثاله عليه الصلاة والسلام.

فَصْلٌ

وَسَلَّمَ ﷺ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ: إِمَّا الظُّهْرُ، وَإِمَّا الْعَصْرُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ، ثُمَّ أَتَمَّهَا، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ، يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ.

وَذَكَرَ أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى بِهِمْ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ. وَقَالَ الترمذي: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَصَلَّى يَوْمًا فَسَلَّمَ وَانْصَرَفَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةٌ، فَأَدْرَكَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللَّهِ فَقَالَ: نَسِيتَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَأَمَرَ بلالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى لِلنَّاسِ رَكْعَةً. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ.

الشيخ: وهكذا ذكره النَّسائي أيضًا، أيش قال المحشي عليه؟

الطالب: رواه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود في "الصلاة" باب "إذا صلَّى خمسًا" من حديث معاوية بن حديج، وإسناده صحيح.

الشيخ: وفي النَّسائي، نعم.

الإشكال في هذا قوله: "فأمره أن يُقيم الصلاة"، هذا هو محل الإشكال، المعروف في "الصحيحين" من حديث عمران بن حصين، بل في مسلم من حديث عمران بن حصين: أنه دخل في الصلاة ولم يقم، ولم يأمر بالإقامة، لم سلَّم من ثلاثٍ قام إلى بعض حجر نسائه، فنبّه، تبعه ذو اليدين ونبَّهه، فرجع وأكمل الصلاة، ولم يقل في الصحيح: أنه أمر بالإقامة، لكن جاء في رواية أحمد وأبي داود والنَّسائي أيضًا، وفيها إشكال؛ لأنَّ الصلاة قد أُقيمت، فهذا تمام لها، فرواية الصحيح لعلها أظهر أنَّ الإقامة وهم، لعله وهم؛ لأنَّ الصلاة قد أُقيمت، وإنما بقي تمامها .....

س: إذا صلَّى خمسًا، وواحد فاتته ركعة؟

ج: لا يعتد بها، يجلس، لا يقوم معه، إن كان الإمامُ زاد يجلس ثم يُسلم معه.

س: وإن صلَّى وما علم بها إلا بعد؟

ج: الأظهر أنها تكفي، لكن إذا عاد يكون أحوط، إذا ما علم إلا بعد، إذا طال الفصل.

س: .............؟

ج: من جنس هذا وأمثاله ما يُعدّ طولًا، فعل النبي يُفسر الطول والقصر.

............

وَصَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَصَلَّى الْعَصْرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَذَكَّرَهُ النَّاسُ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ.

فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا حُفِظَ عَنْهُ ﷺ مِنْ سَهْوِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ خَمْسَةُ مَوَاضِعَ، وَقَدْ تَضَمَّنَ سُجُودَهُ فِي بَعْضِهِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَفِي بَعْضِهِ بَعْدَهُ.

فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ.

وَقَالَ أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ.

وَقَالَ مالكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ سَهْوٍ كَانَ نُقْصَانًا فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكُلُّ سَهْوٍ كَانَ زِيَادَةً فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ سُجُودَهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ سَهْوَانِ: زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ، فَالسُّجُودُ لَهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِالْبَرِّ: هَذَا مَذْهَبُهُ لَا خِلَافَ عَنْهُ فِيهِ، وَلَوْ سَجَدَ أَحَدٌ عِنْدَهُ لِسَهْوِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَجَعَلَ السُّجُودَ كُلَّهُ بَعْدَ السَّلَامِ، أَوْ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ؛ لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ وَالسَّلَفِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ.

الشيخ: وهذا هو الصواب، كيفما فعل أجزأ: سجد قبل السلام، أو بعد السلام، لكن الأرجح أن يتأسَّى المؤمنُ بما فعله النبي ﷺ، فلا يقال: قبل السلام كله، ولا بعد السلام كله، ولا يقال: ما كان عن نقصٍ كذا، وما كان عن زيادةٍ كذا، كما قال مالك، ولكن قال: يتحرى ما فعله النبيُّ ﷺ، فما سلَّم عنه النبيُّ ﷺ قبل السلام فهو قبل السلام، وما كان بعد السلام فهو بعد السلام، فإذا لم يحفظ هذا في الأحاديث كان قبل السلام؛ لأنه من تمام الصلاة، فيكون قبل السلام، يعني: من تمامها وكمالها، والسلام هو آخرها، فما كان من تمامها يكون فيها، لا خارجًا عنها، إلا ما جاء به النص، فما جاء به النص أنه بعد السلام فيما إذا سلَّم عن نقص ركعةٍ فأكثر، أو بنى على غالب ظنِّه، فهذه حالتان، وما سوى ذلك جاء فيه قبل السلام: كنقص التشهد الأول، ونحو ذلك، نعم.

وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ الأثرم: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُسْأَلُ عَنْ سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ أَمْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: فِي مَوَاضِعَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَفِي مَوَاضِعَ بَعْدَهُ، كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ سَلَّمَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذي اليدين.

وَمَنْ سَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ سَجَدَ أَيْضًا بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَفِي التَّحَرِّي يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي الْقِيَامِ مِنِ اثْنَتَيْنِ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابن بحينة، وَفِي الشَّكِّ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَحَدِيثِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.

الشيخ: وهذا هو الأصل: متابعة للسنة.

قَالَ الأثرم: فَقُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: فَمَا كَانَ سِوَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؟ قَالَ: يَسْجُدُ فِيهَا كُلِّهَا قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُتِمُّ مَا نَقَصَ مِنْ صَلَاتِهِ.

قَالَ: وَلَوْلَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَرَأَيْتُ السُّجُودَ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، فَيَقْضِيهِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَكِنْ أَقُولُ: كُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ سَجَدَ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِنَّهُ يَسْجُدُ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَسَائِرُ السَّهْوِ يَسْجُدُ فِيهِ قَبْلَ السَّلَامِ.

الشيخ: إلا ما كان من باب التَّحري إن بنى على غالب ظنِّه مثلما تقدم في رواية ..... في حديث ابن مسعودٍ الذي رواه البخاري، قال: ثم ليتحرى الصواب ويتم عليه، ثم يُسلم، ثم يسجد سجدتين ..... التَّحري بعد السلام، نعم.

..............

وَقَالَ داود بن علي: لَا يَسْجُدُ أَحَدٌ لِلسَّهْوِ إِلَّا فِي الْخَمْسَةِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَجَدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. انْتَهَى.

...............

وَأَمَّا الشَّكُّ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ ﷺ، بَلْ أَمَرَ فِيهِ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِسْقَاطِ الشَّكِّ، وَالسُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ.

فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الشَّكُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْيَقِينُ، وَالتَّحَرِّي. فَمَنْ رَجَعَ إِلَى الْيَقِينِ أَلْغَى الشَّكَّ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى التَّحَرِّي -وَهُوَ أَكْثَرُ الْوَهْمِ- سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي يَرْوِيهِ منصور. انْتَهَى.

وَأَمَّا حَدِيثُ أبي سعيدٍ فَهُوَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى: أَثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُد سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ.

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

وَفِي لَفْظِ "الصَّحِيحَيْنِ": تُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُد سَجْدَتَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى التَّحَرِّي سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ.

وَالْفَرْقُ عِنْدَهُ بَيْنَ التَّحَرِّي وَالْيَقِينِ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ إِمَامًا بَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ وَأَكْثَرِ وَهْمِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّحَرِّي، فَيَسْجُدُ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، وَسَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ عَلَى حَدِيثِ أبي سعيدٍ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ فِي تَحْصِيلِ ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ.

وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ومالك.

وَالْأُخْرَى: عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ مُطْلَقًا، وَظَاهِرُ نُصُوصِهِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّكِّ، وَبَيْنَ الظَّنِّ الْغَالِبِ الْقَوِيِّ، فَمَعَ الشَّكِّ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، وَمَعَ أَكْثَرِ الْوَهْمِ أَوِ الظَّنِّ الْغَالِبِ يَتَحَرَّى، وَعَلَى هَذَا مَدَارُ أَجْوِبَتِهِ.

وَعَلَى الْحَالَيْنِ حَمْلُ الْحَدِيثَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الشَّكِّ: إِذَا كَانَ أَوَّلَ مَا عَرَضَ لَهُ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ كَثِيرًا: فَإِنْ كَانَ لَهُ ظَنٌّ غَالِبٌ بَنَى عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ظَنٌّ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ.

الشيخ: هذا القول لأبي حنيفة ليس بجيدٍ، صوابه خلافه: لا يستأنف الصلاة أبدًا، لكن إن كان شكُّه مُترددًا، ليس فيه راجحٌ بنى على اليقين، وكمَّل صلاته، وإن كان عنده ظنٌّ غالبٌ وراجحٌ بنى على ظنِّه الراجح، وكمَّل على ذلك، كما جاء في حديث ابن مسعودٍ وأبي سعيدٍ.

س: التَّفريق بين الإمام والمنفرد؟

ج: كذلك .....، الصواب أنه عامّ، يعمّ المنفرد، نعم.

س: الصلاة الجهرية إذا سها وما جهر بها؟

ج: الأمر فيها واسع؛ لأنَّ الجهر في الصلاة من السنن، ولكن إن سجد له فحسن.

فَصْلٌ

وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ: تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي التَّشَهُّدِ يُومِئُ بِبَصَرِهِ إِلَى أُصْبُعِهِ فِي الدُّعَاءِ، وَلَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ.

وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ أنسٍ قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لعائشة سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَمِيطِي عَنِّي قِرَامَكِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ لَا تَزَال تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي، وَلَوْ كَانَ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ فِي صَلَاتِهِ لَمَا عَرَضَتْ لَهُ فِي صَلَاتِهِ.

وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَعْرِضُ لَهُ فِي صَلَاتِهِ: هَلْ تَذَكُّرُ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا، أَوْ نَفْسُ رُؤْيَتِهَا؟

هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَأَبْيَنُ دَلَالَةً مِنْهُ حَدِيثُ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أبي جهم، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أبي جهم؛ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا أَيْضًا مَا فِيهِ؛ إِذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ إِلَيْهَا، فَشَغَلَتْهُ تِلْكَ الِالْتِفَاتَةُ.

وَلَا يَدُلُّ حَدِيثُ الْتِفَاتِهِ إِلَى الشِّعْبِ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْفَارِسَ طَلِيعَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النَّظَرَ وَالِالْتِفَاتَ مِنْهُ كَانَ لِلْحَاجَةِ؛ لِاهْتِمَامِهِ بِأُمُورِ الْجَيْشِ.

الشيخ: وهذه الملاحظات فيها نظر؛ فإنَّ ظاهر الحديث أنه كان ﷺ لا يُغمض عينيه، كان يُصلي وهو مفتوح العينين ينظر؛ ولهذا نظر إلى التَّصاوير وقال: إنها شغلته عن صلاته. ونظر إلى أعلام الخميصة، ونظر إلى الشِّعْب، وهكذا في قوله ﷺ: أقيموا صفوفَكم، فإنه لا يخفى عليَّ ركوعكم ولا سجودكم ولا خشوعكم؛ فإني أراكم من وراء ظهري.

فهذا كله يدل على أنه ﷺ ما كان يُغمض عينيه في الصلاة، بل كان ينظر، وليس هذا من الخشوع فيها، الخشوع فيها يكون بالقلب والجوارح، لا بالتَّغميض، فإذا خشع قلبه خشعت جوارحه بترك الحركة والعبث.

س: ........ الآيات القرآنية تُكتب في بعض مُقدمات بعض المساجد؟

ج: لا، ما ينبغي، مكروه عند أهل العلم؛ لأنها قد تشغل المصلي، ينبغي أن تكون سادةً، ما فيها شيء، لا قرآن، ولا غيره، ما يكون فيه نقوش تُلهي المصلي، ولا يكون فيه آيات، ولا أحاديث؛ لأنَّ هذه تشغل المصلين.

وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَدُّ يَدِهِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ لِيَتَنَاوَلَ الْعُنْقُودَ لَمَّا رَأَى الْجَنَّةَ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ النَّارَ وَصَاحِبَةَ الْهِرَّةِ فِيهَا، وَصَاحِبَ الْمِحْجَنِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُدَافَعَتِهِ لِلْبَهِيمَةِ الَّتِي أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَدُّهُ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ، وَحَجْزُهُ بَيْنَ الْجَارِيَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ رَدِّ السَّلَامِ بِالْإِشَارَةِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُشِيرُ إِلَى مَنْ يَرَاهُ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ تَعَرُّضِ الشَّيْطَانِ لَهُ، فَأَخَذَهُ فَخَنَقَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ رُؤْيَةَ عَيْنٍ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَجْمُوعِهَا الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ فِي الصَّلَاةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَرَاهَتِهِ: فَكَرِهَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: هُوَ فِعْلُ الْيَهُودِ. وَأَبَاحَهُ جَمَاعَةٌ وَلَمْ يَكْرَهُوهُ، وَقَالُوا: قَدْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ الْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَسِرُّهَا وَمَقْصُودُهَا.

وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ تَفْتِيحُ الْعَيْنِ لَا يُخِلُّ بِالْخُشُوعِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُشُوعِ؛ لِمَا فِي قِبْلَتِهِ مِنَ الزَّخْرَفَةِ وَالتَّزْوِيقِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، فَهُنَالِكَ لَا يُكْرَهُ التَّغْمِيضُ قَطْعًا، وَالْقَوْلُ بِاسْتِحْبَابِهِ فِي هَذَا الْحَالِ أَقْرَبُ إِلَى أُصُولِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: الأظهر أنه لا يصحّ مطلقًا، بل يُكره حتى ولو كان في قبلته شيء، يطرح بصره، إذا طرح بصره كفى.

س: .............؟

ج: مثلما أنه يستطيع أن يُغمض، يستطيع يطرح بصره .....

س: .............؟

ج: شيء لم يفعله السلف، ولا فعله النبي ﷺ، ما ينبغي أن يُقال باستحبابه، ولا له أصل في الشَّريعة.