فصلٌ
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ تَسْجِيَةُ الْمَيِّتِ إِذَا مَاتَ، وَتَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ، وَتَغْطِيَةُ وَجْهِهِ وَبَدَنِهِ.
وَكَانَ رُبَّمَا يُقَبِّلُ الْمَيِّتَ، كَمَا قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَبَكَى.
الشيخ: وهذا السنة: أن يُسجَّى الميت ويُغطَّى حتى يُغسل، فإذا فُرغ منه نُقل إلى الصلاة ما دام ..... التغسيل يُسجى ويُغطَّى، ثم بعد ذلك يشتغل بتغسيله، ولا مانع أن يُقَبَّل بعد الموت، فقد قبَّل النبيُّ عثمان بن مظعون، وقبَّل الصديقُ النبيَّ ﷺ قبل أن يُغسل عليه الصلاة والسلام، وقال: "بأبي أنت، طبتَ حيًّا وميتًا"، اللهم صلِّ عليه وسلم.
س: إذا طلبتْ والدتُه أن تراه، أن ترى الميِّت؟
ج: ما في شيء، والدته، أو أخته، أو زوجته، ما في شيء، اللهم إلا أن يكون هناك شيء يمنع: من تغير وجهه وتغير حاله؛ لئلا يحزنوا؛ لأنَّ الميت قد يتغير بعض الأحيان، ولا سيما أهل المعاصي قد تتغير وجوههم، نسأل الله العافية، لكن إذا رأى مَن حوله ألا يروه لأنه تغير بشيءٍ مما يُحزن، يعتذر بشيءٍ من الأعذار التي تمنع رؤيتهم؛ لئلا يُصيبهم في هذا حزنٌ شديدٌ؛ لأنَّ بعض الأموات تتغير أحوالهم بعد الموت، وبعضهم تتغير إلى .....
الشيخ: هذه السنة: الميت يُغسل ثلاثًا، يعني: يُعمم بالماء ثلاث مرات، أو خمسًا، أو سبعًا، حسب الحاجة؛ ولهذا قال للمُغسلات ابنته زينب: اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتنَّ ذلك، وفي اللفظ الآخر: أو سبعًا، فإذا كان الميتُ فيه أوساخ، وفيه أشياء تحتاج إلى تكرارٍ، أما إن كان الميتُ نظيفًا فثلاث تكفي، ولو غسلة واحدة كفى، الواحدة كافية؛ ولهذا قال في قصة الذي سقط عن دابَّته: اغسلوه بماءٍ وسدرٍ، ولم يقل: ثلاثًا، وكفِّنوه في ثوبيه، ولم يأمر بالثلاث، فدلَّ على إجزاء الواحدة، إذا عمَّمه بالماء -عمم الميت بالماء- أجزأه، ولكن تكرار الثلاث أفضل مطلقًا، تكرارها أفضل، فإن دعت الحاجةُ إلى خمسٍ لا بأس، أو إلى سبعٍ فلا بأس، والماء يكون وسطًا، ليس هناك حاجة إلى الحار إلا إذا كانت هناك أوساخ، وإلا فالماء الدَّافئ والعادي يكفي، ويكون بالماء والسِّدر، ويكون في الغسلة الأخيرة شيء من الكافور؛ لأنَّ الكافور يُصلِّب الجسد، ويُطيب الرائحة.
س: ينوب عنه الصَّابون والشَّامبو؟
ج: هو الأفضل إذا تيسَّر، وإن ما تيسر بأي شيءٍ يُزيل الوسخ: أشنان، أو صابون، أو غيره، لكن السِّدر أولى إذا تيسر؛ لأنَّ الرسول وصَّى عليه، قال: بماءٍ وسدرٍ.
ثم أيضًا الميت يُراعى أن يُوضَّأ الوضوء الشَّرعي، الغاسل أولًا يرفعه قليلًا حتى يخرج ما في بطنه، إن خرج شيء، ثم يُنجيه بالماء، بخرقةٍ يُنجيه حتى يُزيل ما خرج من ذكره وفرجه، ثم يُوضئه وضوء الصلاة ..... ويغسله: وجهه، ويديه، ويمسح رأسه وأذنيه، ويغسل قدميه، ثم يغسل رأسه بالماء والسِّدر، ثم يغسل جنبه الأيمن، ثم جنبه الأيسر، ثم يمرّ الماء على بقية جسده ثلاث مرات، هذا هو الأفضل.
الشيخ: وهذا السنة: الشُّهداء -قتلى المعركة- لا يُغسَّلون، ولا يُصلَّى عليهم؛ ولهذا لما قُتِل جماعةٌ من الصحابة يوم أحدٍ لم يُغسلهم، ولم يُصلِّ عليهم، ودفنهم في ثيابهم ودمائهم، فالشَّهيد لا يُغسل، شهيد المعركة الذي مات في المعركة، لكن الذي نُقل، يعني ..... ونقل عن المعركة، ثم مات بعد ذلك يُغسل ويُكفن.
س: .............؟
ج: لا، الصواب أنه لا يُغسل ولا يُصلَّى عليه؛ لأنه هو المحفوظ في قتلى أُحد، أما الروايات أنه صلَّى عليهم فليست بمحفوظةٍ.
الطالب: في الهامش ..... وكون الشَّهيد لا يُصلَّى عليه مذهب مالك والشافعي وأحمد، وذهب قومٌ إلى أنه يُصلَّى عليه، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي وإسحاق؛ لما روى الحاكم من طريق أبي حامد الحنفي عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابرٍ: أنه ﷺ .....
الشيخ: ليس هذا بجيدٍ، الصواب أنه لا يُصلَّى عليه؛ لأنَّ هذا محفوظ، قد رواه البخاري في "صحيحه" عن جابرٍ، وهو المحفوظ، تلقته الأمة عن .....
وأما الطرق الأخرى فيُنظر فيها، يُنظر ما تقدم في القاعدة من أنَّ الأحاديث التي تُعارض الأحاديث الصَّحيحة لو صحَّت أسانيدها تُعتبر شاذَّةً، يُعتبر ما صحَّ سنده واشتهر مُقدَّمًا على ما كان دون ذلك إذا لم يمكن الجمع ولا النَّسخ، فالواجب التَّرجيح، الحكم بما هو أصحّ وأثبت، والحكم على الآخر بالشُّذوذ.
الشيخ: ولعلَّ الحكمة في ذلك أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وأنَّ فيهم حياةً خاصَّةً؛ لقتلهم في سبيل الله، أو لتبقى هذه الآثار -آثار الدماء- والثياب التي أصابها ما أصابها كشاهدٍ لهم يوم القيامة، فلعلَّ العِلَّة والحكمة في هذا: هذا أو هذا أو كلاهما.
وَكَانَ يَنْزِعُ عَنْهُمُ الْجُلُودَ وَالْحَدِيدَ، وَيَدْفِنُهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ أَمَرَ أَنْ يُغَسَّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَيُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ، وَهُمَا ثَوْبَا إِحْرَامِهِ: إِزَارُهُ، وَرِدَاؤُهُ. وَيَنْهَى عَنْ تَطْيِيبِهِ وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ.
الشيخ: وهذا هو السنة، في الحديث الذي ذُكر، أثر ابن مسعودٍ الذي تقدم في الصلاة على الشَّهيد، لو تتبعته وتنقل أسانيده؛ لأني أعتقد والله أعلم ..... تقديم ما هو الأصحّ.
الشيخ: وهذا هو السنة في المحرم؛ لأنَّ المحرم لا يُغطَّى رأسه، ولا وجهه أيضًا، حتى الوجه، ثبت في "صحيح مسلم" أنه أمر ألا يُغطَّى رأسه، قال: لا تُخمِّروا رأسَه ولا وجهَه، وغسَّله بماءٍ وسدرٍ، ولا يُطيب، ويُكفَّن في ثوبيه ..... ويُصلَّى عليه، وقال: إنه يُبْعَث يوم القيامة مُلبِّيًا .....؛ ولهذا لا يُغطَّى رأسه، ولا وجهه، ولا يُطيب، مَن مات قبل الحجِّ، قبل التَّحلل الأول.
س: بعض الناس إذا وضعوا الميتَ في القبر يكشفون عن وجهه، هل لهذا أصل؟
ج: لا، ما له أصل، السنة أنه يُغطَّى ولا يكشف وجهه: لا امرأة، ولا رجل، يبقى عليه كفنه كاملًا، ولا يُكشف وجهه.
الشيخ: وهذا هو الأفضل، يكون الكفنُ أبيض، وإن كفَّنه بغيره فلا بأس، في الحديث: إنَّ من خير ثيابكم البياض، وكفِّنوا فيها موتاكم ..... للرجال والنساء، وإن كُفِّن بأسود أو أخضر فلا حرج، ولا ينبغي المبالغة، بل يكون من الوسط .....
الشيخ: هكذا فعلوا بمصعب بن عُمير، لم يجدوا له كفنًا يكفيه، فجعل الشَّملة على عورته، وعلى رأسه، وجعل على رجليه الإذخر، وهو نبات طيب الرائحة.
فَصْلٌ
وَكَانَ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ مَيِّتٌ يُصَلِّي عَلَيْهِ سَأَلَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَمْ لَا؟
............
فَصْلٌ
وَكَانَ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ مَيِّتٌ يُصَلِّي عَلَيْهِ سَأَلَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ، وَأَذِنَ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَهُ شَفَاعَةٌ، وَشَفَاعَتهُ مُوجَبَةٌ، وَالْعَبْدُ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْمَدِينِ وَيَتَحَمَّلُ دَيْنَهُ، وَيَدَعُ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ.
الشيخ: وكان هذا في أول الإسلام، كان إذا الميت عليه دَين قال: صلُّوا على صاحبكم، وفي الحديث: نفسه مُعلَّقة بدَينه حتى يُقضى عنه، ثم لما وسَّع الله كان يُصلي عليهم في المدينة، ويتحمَّل الدَّين عليه الصلاة والسلام، ويقضي عن الميت، يقول: ما كان عليه من دَين فعليَّ، وما كان له من مالٍ فهو لورثته، فيدع ماله لورثته، وضياعه، وميراثه، وهو يتحمل الدَّين عليه الصلاة والسَّلام.
فَإِذَا أَخَذَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ.
وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ، فَقَرَأَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ جَهْرًا، وَقَالَ: "لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ"، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ ابْنُ سَهْلٍ: "إِنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَى سُنَّةٌ".
وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ.
الشيخ: معنى "سنة" أي: لازمة، يعني: فرض لازم، وهو داخل في قوله ﷺ: لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وصلاة الجنازة داخلة في عموم الصَّلوات؛ فلهذا لا بدّ فيها من قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، ويُستحبّ أن يقرأ معها شيئًا.
س: قوله: "فإذا أخذ في الصلاة كبَّر وحمد الله، وأثنى على الله" يعني: هل هذا دعاء الاستفتاح؟
ج: ..... منهم مَن استحبَّه لعموم الأحاديث، ومنهم مَن لم يستحبّه؛ لأنها مبنية على التَّخفيف، المطلوب الإسراع بالجنازة؛ ولهذا قال جماعةٌ من أهل العلم: لا يُستحبّ الاستفتاح من أجل التَّخفيف. وهو قول جيد وظاهر؛ لأنه مأمور بالإسراع بها، فإن استفتح فلا بأس، وإن ترك فلا بأس، أيش قال المحشي عندك على "حمد الله وأثنى عليه"؟
الطالب: ما عليه شيء.
قَالَ شَيْخُنَا: لَا تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، بَلْ هِيَ سُنَّةٌ.
وَذَكَرَ أَبُو أُمَامَةَ ابْنُ سَهْلٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ.
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُخْبِرُكَ: تَبْدَأُ فَتُكَبِّرُ، ثُمَّ تُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَتَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَّ عَبْدَكَ فُلَانًا كَانَ لَا يُشْرِكُ بِكَ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ".
فَصْلٌ
وَمَقْصُودُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ: هُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ.
.............
وَمَقْصُودُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ: هُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ؛ لِذَلِكَ حُفِظَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَنُقِلَ عَنْهُ مَا لَمْ يُنْقَلْ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ﷺ.
فَحُفِظَ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعَفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ.
الشيخ: قال عوف الراوي: فتمنيتُ أن أكون ذلك الميت. لما سمع هذا الدُّعاء ......
س: على الإسلام والسُّنة؟
ج: هذه زيادات بعض الفقهاء، ذكره الموفق وغيره، والثابت على الإسلام يعني: على أفعال الإسلام الظاهرة، والإيمان محله القلوب؛ ولهذا قال: ومَن توفيتَه منا فتوفَّه على الإيمان، الوفاة على الإيمان حتى يكون مُصدقًا مُؤمنًا، فإن ..... محلّ الضَّعف، ومحل العجز عن الأعمال، فناسب أن يُقال: عن إيمانٍ. والحياة محل عملٍ، فناسب أن يكون على الإسلام: مَن أحييتَه منا فأحيه على الإسلام، ومَن توفيته منا فتوفه على الإيمان.
س: ما وردت الزيادة هذه في شيءٍ من الطُّرق؟
ج: ما أعرف.
.........
وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ.
وَحُفِظَ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ، فَاغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وَحُفِظَ مِنْ دُعَائِهِ أَيْضًا: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنْتَ رَزَقْتَهَا، وَأَنْتَ هَدَيْتَهَا لِلْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ قَبَضْتَ رُوحَهَا، وَتَعْلَمُ سِرَّهَا وَعَلَانِيَتَهَا، جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهَا.
الطالب: رواه أبو داود من حديث أبي هريرة ، وفي سنده علي بن شمام، لم يُوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات .....
الشيخ: "التقريب" حاضر؟ انظر علي بن شمام.
وَكَانَ ﷺ يَأْمُرُ بِإِخْلَاصِ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ، وَكَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَبَّرَ خَمْسًا، وَكَانَ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ يُكَبِّرُونَ أَرْبَعًا وَخَمْسًا وَسِتًّا، فَكَبَّرَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ خَمْسًا، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَبَّرَهَا. ذَكَرَهُ مسلمٌ.
وَكَبَّرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَكَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ سِتًّا، وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ خَمْسًا، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا. ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يُكَبِّرُونَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسًا وَسِتًّا وَسَبْعًا.
وَهَذِهِ آثَارٌ صَحِيحَةٌ، فَلَا مُوجِبَ لِلْمَنْعِ مِنْهَا، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَمْنَعْ مِمَّا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، بَلْ فَعَلَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
وَالَّذِينَ مَنَعُوا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ: مِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ آخِرَ جِنَازَةٍ صَلَّى عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ كَبَّرَ أَرْبَعًا.
قَالُوا: وَهَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِر مِنْ فِعْلِهِ ﷺ هَذَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ قَالَ الْخَلَّالُ فِي "الْعِلَلِ": أَخْبَرَنِي حرب قَالَ: سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ حَدِيثِ أبي المليح، عَنْ ميمون، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَقَالَ أحمد: هَذَا كَذِبٌ، لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، إِنَّمَا رَوَاهُ محمد بن زياد الطحان، وَكَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا صَلَّتْ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسّلَامُ كَبَّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَقَالُوا: تِلْكَ سُنَّتُكُمْ يَا بَنِي آدَمَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ قَالَ الأثرم: جَرَى ذِكْرُ محمد بن معاوية النيسابوري الَّذِي كَانَ بِمَكَّةَ، فَسَمِعْتُ أبا عبدالله قَالَ: رَأَيْتُ أَحَادِيثَهُ مَوْضُوعَةً. فَذَكَرَ مِنْهَا: عَنْ أبي المليح، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا صَلَّتْ عَلَى آدَمَ كَبَّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. وَاسْتَعْظَمَهُ أبو عبدالله، وَقَالَ: أبو المليح كَانَ أَصَحَّ حَدِيثًا وَأَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَرْوِيَ مِثْلَ هَذَا.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ البيهقي مِنْ حَدِيثِ يحيى، عَنْ أُبي، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا صَلَّتْ عَلَى آدَمَ، فَكَبَّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَقَالَتْ: هَذِهِ سُنَّتُكُمْ يَا بَنِي آدَمَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا.
وَكَانَ أَصْحَابُ معاذٍ يُكَبِّرُونَ خَمْسًا، قَالَ علقمةُ: قُلْتُ لعبدالله: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ معاذٍ قَدِمُوا مِنَ الشَّامِ، فَكَبَّرُوا عَلَى مَيِّتٍ لَهُمْ خَمْسًا، فَقَالَ عبدالله: لَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي التَّكْبِيرِ وَقْتٌ، كَبِّرْ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ، فَإِذَا انْصَرَفَ الْإِمَامُ فَانْصَرِفْ.
الشيخ: وهناك شيء احتجُّوا به غير ما ذكره المؤلفُ، وهو قصة النَّجاشي؛ فإنه في آخر حياة النبي ﷺ، وصلَّى عليه أربعًا، فلو كانت هناك سنَّة في الزيادة لكان زادها في النَّجاشي وصلَّى عليه وهو غائب .....؛ لأنه آوى المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة، وحماهم، وأكرمهم، فعرف فضلَه، وصلَّى عليه مع الصحابة صلاةَ الغائب، وكبَّر عليه أربعًا كما في "الصحيحين"، هذا مما احتجَّ به القائلون بأنَّ الأفضل الاقتصار على أربع تكبيرات.
والأمر أوسع من هذا، الأفضل مثلما هو عليه العمل الآن الاقتصار على أربعٍ؛ لأنَّ هذا هو آخر ما حُفظ .....، ومَن كبَّر زيادةً: خمسًا أو سبعًا فالأصل الجواز؛ لحديث زيد بن أرقم، رواه مسلم في "الصحيح": أنه كبَّر على الجنازة خمسًا عليه الصلاة والسلام، لكن الذي حُفظ عنه في صلاته على النَّجاشي أنه كبَّر أربعًا كما في "الصحيحين"، والنجاشي صلَّى عليه في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، وكان مثله حريًّا بأن يُزاد، لو كانت الزيادات مشروعةً؛ لفضله، وإظهار شأنه، وحرص النبي ﷺ على نفعه ما يستطيع من أجل ..... وإكرامه للصحابة، وإيوائه إياهم، هذا مما يرجح أنَّ الاقتصار على أربعٍ أولى؛ ولهذا استقرَّ العملُ عليها، والذي ينبغي أن يُكتفى بذلك؛ حتى لا تقع مخالفة في هذا .........
فَصْلٌ
وَأَمَّا هَدْيُهُ ﷺ فِي التَّسْلِيمِ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ: فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ وَاحِدَةً. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ.
فَرَوَى البيهقي وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ المقبري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً.
لَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأثرم: هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي مَوْضُوعٌ. ذَكَرَهُ الخلالُ فِي "الْعِلَلِ".
وَقَالَ إبراهيمُ الهجري: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ ابْنَتِهِ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا، فَمَكَثَ سَاعَةً حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُكَبِّرُ خَمْسًا، ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْنَا لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَزِيدُكُمْ عَلَى مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَصْنَعُ. أَوْ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
الشيخ: إبراهيم الهجري ضعيف، يضعف في الحديث، ولا يُحتجُّ به، والمحفوظ عن الصحابة تسليمة واحدة، ولم يُحفظ عنه ﷺ ..... والله أعلم؛ لأنها مبنيَّة على الإسراع والتَّخفيف، فالسنة تسليمة واحدة عن اليمين.
س: .............؟
ج: هذا من رواية إبراهيم هذا، وهو ضعيف، والمحفوظ أنه وقف قليلًا كما رواه الجوزجاني ..... كان يقف قليلاً ثم يُسلم، ولا يُطيل.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "ثَلَاثُ خِلَالٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُهُنَّ تَرَكَهُنَّ النَّاسُ، إِحْدَاهُنَّ: التَّسْلِيمُ عَلَى الْجِنَازَةِ مِثْلَ التَّسْلِيمِ فِي الصَّلَاةِ". ذَكَرَهُمَا البيهقي.
وَلَكِنَّ إبراهيم بن مسلم العبدي الهجري ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وأبو حاتم، وَحَدِيثُهُ هَذَا قَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ حرملة، عَنْ سفيان، عَنْهُ، وَقَالَ: كَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، ثُمَّ قَامَ سَاعَةً، فَسَبَّحَ بِهِ الْقَوْمُ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنْ أَزِيدَ عَلَى أَرْبَعٍ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَبَّرَ أَرْبَعًا"، وَلَمْ يَقُلْ: ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ المحاربي عَنْهُ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ: ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ.
وَذِكْرُ السَّلَامِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ انْفَرَدَ بِهَا شريك عَنْهُ.
قَالَ البيهقي: ثُمَّ عَزَاهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي التَّكْبِيرِ فَقَطْ، أَوْ فِي التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ.
قُلْتُ: وَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى خِلَافُ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ وَاحِدَةً، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ: قِيلَ لأبي عبدالله: أَتَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً خَفِيفَةً عَنْ يَمِينِهِ. فَذَكَرَ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَوَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ، وَابْنَ أَبِي أَوْفَى، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ.
وَزَادَ البيهقي: عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وأبا أمامة ابن سهل بن حنيف.
فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وأبو أمامة أَدْرَكَ النَّبِيَّ ﷺ، وَسَمَّاهُ بِاسْمِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ أبي أمامة: أَسْعَد بْن زُرَارَةَ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَمِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ.
س: كيف هذا وهو معدود في الصحابة ومن كبار التَّابعين؟
ج: أي بعضهم عدَّه من التَّابعين؛ لأنه صغير، أدرك النبيَّ وهو صغير، لم يسمع منه، ومعدود في الصحابة من جهة السن، وفي عداد التَّابعين من جهة الرواية؛ روايته عن الصَّحابة.
وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُرْفَعُ لِلْأَثَرِ وَالْقِيَاسِ عَلَى السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ كَبَّرَهَا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَائِمٌ.
قُلْتُ: يُرِيدُ بِالْأَثَرِ مَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا كُلَّمَا كَبَّرَا عَلَى الْجِنَازَةِ، وَيُذْكَرُ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ التَّكْبِيرِ، وَيَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، ذَكَرَهُ البيهقي فِي "السُّنَنِ".
وَفِي الترمذي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بيزيد بن سنان الرهاوي.
الشيخ: السنة فيها الرفع؛ رفع اليدين في التَّكبيرات كلها، وهذا هو المحفوظ عن ابن عمر وجماعةٍ، وجاء عن ابن عباسٍ، وهو تكبير، يُشبه تكبير الأولى، فشُرع فيه رفع اليدين كالأولى: الأولى والثانية والثالثة والرابعة الأفضل فيها الرفع، رواه جماعةٌ عن ابن عمر بسندٍ صحيحٍ موقوفًا، ورواه بعضهم مرفوعًا، ولكن ..... هو الأصح، ورواه الدَّارقطني بسندٍ جيدٍ ..... ثم رفع يديه يُكبر التَّكبيرات الأربع جميعًا .....
..............
فَصْلٌ
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ، فَصَلَّى مَرَّةً عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ لَيْلَةٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ شَهْرٍ، وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ وَقْتًا.
قَالَ أحمدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ يَشُكُّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ؟!
الشيخ: يعني أنها ثابتة، كان عليه الصلاة والسلام إذا لم يُصلِّ على الميت، فاتته الصلاة عليه، وصلَّى عليه أصحابُه ولم يذكروه؛ صلَّى على القبر عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أنه تُشرع الصلاة على القبر، مَن فاتته الصلاة على الميت صلَّى على قبره، كما فعله النبيُّ عليه الصلاة والسلام.
وأكثر ما ورد في هذا شهر وما يُقاربه؛ ولهذا ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أنه يُحدد بشهرٍ، فإذا زاد على ذلك فلا يُصلَّى على القبر؛ لأنه يُفضي إلى الصلاة على القبور دائمًا؛ ولهذا .....
س: ولكن قوله: ولم يُوقِّت في ذلك وقتًا؟
ج: توقيت من قوله ﷺ، إنما ورد من فعله.
س: .............؟
ج: على القبر الذي لم يُصلِّ عليه أحدٌ.
س: .............؟
ج: لا، يُصلِّي على القبر الواحد فقط، القبر الجديد.
س: .............؟
ج: هو صحيح، لكن المراد به الدعاء، صلاته عليهم في الصَّحيح أنه لم يُصلِّ عليهم في مرضه، لكنه زار قبر البقيع في آخر حياته، فصلَّى عليهم صلاة الميت، يعني: دعا لهم دعاء الميت، ..... الجمهور تأوَّلوه على أنَّ المراد الدُّعاء.
............
الشيخ: ..... قوله هو أقرب وموافق للسنة، وأقرب في التَّحديد؛ لأنه ..... وهو الصلاة على الميت مطلقًا، ولم .....؛ لأنه صلَّى على بعض الصحابة بعدما دُفن وكبَّر عليه، وكذلك الخادمة التي كانت تقمّ المسجدَ، لما لم يُشعروه بها وصلَّوا عليها قال: أفلا كنتم آذنتُموني؟ ثم قال: دلُّوني على قبرها، وخرج وصلَّى على قبرها عليه الصلاة والسَّلام.
الشيخ: هذا السنة: عند الوقوف يقف عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة، أما مَن قال: صدر الرجل، فليس عليه دليل، والصدر مُقارب للرأس، لكن السنة الرأس كما ثبت من حديث أنسٍ.
فَصْلٌ
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ الصَّلَاةُ عَلَى الطِّفْلِ، فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَفِي "سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ" مَرْفُوعًا: صَلُّوا عَلَى أَطْفَالِكُمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ أَفْرَاطِكُمْ.
الطالب: رواه ابن ماجه في "الجنائز" باب "ما جاء في الصلاة على الطفل"، وفي سنده البختري بن عبيد الصالحي الكلبي .....، وهو ضعيف متروك.
طالب آخر: أخرج أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجه من حديث المغيرة بن شعبة ، عن النبي ﷺ قال: الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها قريبًا، والسّقط يُصلَّى عليه، ويُدعا لوالديه بالمغفرة والرحمة، وإسناده صحيح، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذَّهبي.
...............
قَالَ أحمدُ ابن أبي عبدة: سَأَلْتُ أحمد: مَتَى يَجِبُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى السَّقْطِ؟ قَالَ: إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ.
قُلْتُ: فَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: الطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ قَالَ: صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ. قُلْتُ: لَيْسَ فِي هَذَا بَيَانُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَلَا غَيْرِهَا؟ قَالَ: قَدْ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
الشيخ: لأنه لا يكون طفلًا إلا بعد نفخ الروح فيه ..... إذا كان قبل ذلك ما هو بميتٍ، قطعة لحمٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ابْنِهِ إبراهيم يَوْمَ مَاتَ؟
قِيلَ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ: فَرَوَى أبو داود فِي "سُنَنِهِ" عَنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ".
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ ابْنُ أَبِي بَكْرِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عمرة، عَنْ عائشةَ ... فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أحمدُ فِي رِوَايَةِ حنبل: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَوَهَّى ابْنَ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ الخلالُ: وَقُرِئَ عَلَى عبدالله: حَدَّثَنِي أَبِي: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ: حَدَّثَنَا إسرائيل قَالَ: حَدَّثَنَا جابر الجعفي، عَنْ عامر، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا.
وَذَكَرَ أبو داود عَنِ البهي قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَقَاعِدِ. وَهُوَ مُرْسَلٌ، والبهي اسْمُهُ عبدالله بن يسار، كُوفِيٌّ.
وَذَكَرَ عَنْ عَطَاءِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ لَيْلَةً. وَهَذَا مُرْسَلٌ وَهِمَ فِيهِ عطاء؛ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَاوَزَ السَّنَةَ.
فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآثَارِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَمَنَعَ صِحَّةَ حَدِيثِ عائشة، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. قَالُوا: وَهَذِهِ الْمَرَاسِيلُ مَعَ حَدِيثِ البراء يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَ حَدِيثَ البراء بجابرٍ الجعفي، وَضَعَّفَ هَذِهِ الْمَرَاسِيلَ، وَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَصَحُّ مِنْهَا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ:
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: اسْتَغْنَى بِبُنُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ قُرْبَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ شَفَاعَةٌ لَهُ، كَمَا اسْتَغْنَى الشَّهِيدُ بِشَهَادَتِهِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: إِنَّهُ مَاتَ يَوْمَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَاشْتَغَلَ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ؛ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُبَاشِرْهَا بِنَفْسِهِ؛ لِاشْتِغَالِهِ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ. وَقِيلَ: لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: رِوَايَةُ الْمُثْبِتِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ، وَإِذَا تَعَارَضَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ قُدِّمَ الْإِثْبَاتُ.
الشيخ: والأظهر هو القول الأخير، وهو أنه صلَّى عليه في حديث المغيرة، وهو ثابت .....، ورواية ابن إسحاق قد يكون الطَّعن فيها وهم، وإن كان ثقةً إذا صرَّح بالسماع، فهو صرَّح بالسماع هنا، فلعله وقع وهمٌ في كونه لم يُصلِّ عليه، والصواب أنه صلَّى عليه، حتى يُوافق حديث المغيرة والآثار الأخرى.
وأما المقدم رواية المغيرة لأنها عامَّة، فإذا لم يصلح الجمعُ يكون هذا خاصًّا بإبراهيم، ولا يُقاس عليه غيره؛ فإنَّ العموم هو الحجَّة، والإثبات هو الحجَّة، وأنه صلَّى عليه؛ ولأنَّ في الصلاة عليه مصلحةً كبيرةً له ولوالديه.
فالحاصل أنَّ الصواب أنَّ الطفل يُصلَّى عليه، سواء ثبت أنَّ إبراهيم صلَّى عليه أم لم يثبت، العبرة بالعموم، وقصة إبراهيم يدخلها الخصوص، والأقرب والله أعلم أنه صلَّى عليه كما جاء في الآثار، وإن كان فيها ضعف؛ عملًا بالعموم؛ ولأنَّ ابن إسحاق يقع في روايته أوهام، وهذا من أفراده، وإن صرَّح بالسماع فيكون هذا من أفراده، ويُعمل فيه بالعموم الذي هو الإثبات.
س: قوله: وصلَّى عليه في المقاعد؟
ج: الذي كان يتوضأ فيه عثمان والناس، كأنه محل يُقعد فيه ..... وحوله الناس.
فَصْلٌ
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَا عَلَى مَنْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ.
وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَقْتُولِ حَدًّا: كَالزَّانِي الْمَرْجُومِ، فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ ﷺ صَلَّى عَلَى الْجُهَنِيَّةِ الَّتِي رَجَمَهَا، فَقَالَ عمرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَد زَنَتْ؟! فَقَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وُجِدَتْ تَوْبَةٌ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى؟! ذَكَرَهُ مسلم.
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" قِصَّةَ ماعز بن مالك، وَقَالَ: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ خَيْرًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ: فَأَثْبَتَهَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، عَنْ عبدالرزاق، عَنْهُ، وَخَالَفَهُ ثَمَانِيَةٌ مِنْ أَصْحَابِ عبدالرزاق فَلَمْ يَذْكُرُوهَا، وَهُمْ: إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، ونوح بن حبيب، والحسن بن علي، ومحمد بن المتوكل، وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ.
الشيخ: والصواب أنَّ المثبِتَ مُقدَّم على النَّافي، ولو أنه واحدٌ؛ لأنه زاد عليهم، فهو حديث مثقل، ويُؤيده حديث الغامدية، المحدود يُصلَّى عليه؛ ولهذا صلَّى النبيُّ ﷺ على الغامدية، ويُقال لها: الجهنية. ويقال: قصتان، وصلَّى على ماعزٍ كما جاء في الروايتين.
ثم التَّائب يستحق ذلك؛ لأنه رجع من ذنبه، ليس محلًّا للتَّعزير، وليس محلًّا للنُّكول عن الصلاة عليه، بخلاف العاصي الذي لم يتب؛ فهذا له حال أخرى، وهو جديرٌ بالتَّعزير وعدم الصلاة عليه: كالغالِّ الذي غلَّ من الغنيمة، والذي قتل نفسَه -انتحر- هؤلاء ترك النبيُّ الصلاةَ عليهم تعزيرًا لهم ولغيرهم؛ حتى ينتبه الناسُ لهذه الجريمة، وحتى ينفروا منها، وصلَّى عليه بعضُ الناس -القاتل نفسه- وفي هذا بعض الروايات، قال في القاتل: أما أنا فلا أُصلي عليه من باب التَّنفير من هذا العمل السيئ، وبيان عظمته للناس، وشرِّه، وحتى يكون ذلك أزجر عن الإقدام عليه.
فالذي قتل نفسه، أو غلَّ من الغنيمة ومات، وعُلم أنه غالٌّ، ولم يُرجعها، ولم يتب، ينبغي لكبار السن ألا يُصلوا عليه: كأمير الجيش، والقاضي، ورؤساء الناس، من باب التَّعزير، من باب التَّنفير، ويُصلي عليه بعضُ الناس، أما مَن مات بحدٍّ فهذا يُصلَّى عليه: حدّ بالزنا؛ لأنه محصَن، هذا يُصلَّى عليه، يُصلِّي عليه حتى الرؤساء والكبار والعلماء، كما صلَّى عليه النبيُّ ﷺ.
قَالَ البيهقيُّ: وَقَوْلُ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ: "إِنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ" خَطَأٌ؛ لِإِجْمَاعِ أَصْحَابِ عبدالرزاق عَلَى خِلَافِهِ، ثُمَّ إِجْمَاعِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قِصَّةِ ماعز بن مالك: فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: مَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَلَا سَبَّهُ.
وَقَالَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحصيبِ: إِنَّهُ قَالَ: اسْتَغْفِرُوا لماعز بن مالك، فَقَالُوا: غَفَرَ اللَّهُ لماعز بن مالك. ذَكَرَهُمَا مسلم.
وَقَالَ جابر: فَصَلَّى عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ حَدِيثُ عبدالرزاق الْمُعَلَّلُ.
وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ: لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ أبو داود.
قُلْتُ: حَدِيثُ الغامدية لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهَا، وَحَدِيثُ ماعز: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ هِيَ دُعَاؤُهُ لَهُ بِأَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، وَتَرْكَ الصَّلَاةِ فِيهِ هِيَ تَرْكُهُ الصَّلَاةَ عَلَى جِنَازَتِهِ تَأْدِيبًا وَتَحْذِيرًا.
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِذَا تَعَارَضَتْ أَلْفَاظُهُ عُدِلَ عَنْهُ إِلَى حَدِيثِ الغامدية.
الشيخ: ..... أن اختلاف الرواة في إثبات الحذف يُقدم رواية مَن أثبت، هذه القاعدة التي يجب التَّمسك بها، قاعدة أنه إذا اختلفوا في كلمةٍ زادها قومٌ، وحذفها قومٌ، فالمثبت لها هو المقدَّم ولو كان الأقلَّ، ما دام ثقةً، كحديثٍ مُستقلٍّ، ما دامت لا تُنافي رواية الآخرين، فإنما قصاراها أنهم سكتوا، وهو أثبتها، فمَن حفظ حُجَّة على مَن لم يحفظ. هكذا قالوا في الأصول.
قال العلماء في الأصول: أنَّ الزيادة مقبولة من الثِّقة. وقال الحافظ في "النخبة": "وزيادة راويهما -راوي الحسن والصحيح- مقبولة ما لم تقع منافيةً لمن هو أوثق". فلا تنافي، غاية ما هناك أنهم سكتوا أو جهلوا الأمر، وهو أثبت.
س: قوله: عدل عنه إلى حديث الغامدية؟
ج: حديث الغامدية كافٍ، لكن هذا زيادة عليه، يُؤيده حديث الغامدية، يُؤيد الصلاة على ماعزٍ؛ لأنَّ كليهما أُقيم عليه الحدُّ، حديث الغامدية لم يقع فيه اختلاف أنه صلَّى عليها، وراجعه عمر في ذلك فقال: وهل وجدتْ أفضل من أن جادت بنفسها لله ؟! أو وجدتَ يُخاطب عمر، هذا حُجَّة قائمة.
ورواية ماعز المختلف فيها تلاحظ من جهتين:
إما أن تُلغى بالكلية كأنها ما جاءت، كأنها ما وردت، والعمدة على حديث الغامدية.
وإما أن يُقال فيها أنها مُؤيدة .....، ومُؤيدة من جهة رواية الغامدية .....، وهو مؤيد بحديث الغامدية، والذي أثبتها ثقة: محمود بن غيلان، ثقة، إمام.
س: العدول إلى حديث الغامدية معناه الاحتجاج بحديث الغامدية؟
ج: الجميع حُجَّة، كلاهما حُجَّة، لكن حديث الغامدية حُجَّة، ما فيه اختلاف، وحديث ماعز حُجَّة فيه اختلاف، والصواب مع مَن احتجَّ به.
...........
فَصْلٌ
وَكَانَ ﷺ إِذَا صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ تَبِعَهُ إِلَى الْمَقَابِرِ مَاشِيًا أَمَامَهُ.
وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّةَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ.
الشيخ: ..... هذا من رواية أبي هريرة وابن عباس في قطع الصلاة، أبو هريرة وابن عباس رويا الكلب مطلقًا، وحديث أبي ذرٍّ زاد فيه: الأسود، فأخذ الناسُ برواية أبي ذرٍّ، ولم ..... برواية أبي هريرة وابن عباس .....، وفي حديث أبي ذرٍّ تفصيل: قلت: يا رسول الله، ما بال الأسود من غيره؟ قال: الكلب الأسود شيطان، فأخذوا بالزيادة، هذا شيء كثير في الأحاديث، فالذين منعوا الأخذَ بالزيادة ..... في أحاديث كثيرةٍ أخذوا بها.
الشيخ: ..... في حديث عائشة في قصة المستحاضة ذكر البخاري وجماعة: وتوضَّئي لوقت كل صلاةٍ، ومسلم حذفها ولم يذكرها، وآخرون لم يذكروها، وأخذ علماء برواية مَن أثبتها ..... عليها الوضوء لكل صلاةٍ، يعني: لوقت كل صلاةٍ؛ أخذًا برواية عائشة في قصة فاطمة؛ لأنها زيادة لا تُخالف الرواية الأخرى .....، فإذا دخل الوقتُ لم تكتفِ بالوضوء للفرض السَّابق، تتوضأ لأنَّ حدثها دائم، حدثٌ لا يزول، فعليها الوضوء لوقت كل صلاةٍ، وهكذا غيرها من أصحاب السَّلس.
...........
وَكَانَ ﷺ إِذَا صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ تَبِعَهُ إِلَى الْمَقَابِرِ مَاشِيًا أَمَامَهُ.
وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّةَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ.
وَسُنَّ لِمَنْ تَبِعَهَا إِنْ كَانَ رَاكِبًا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهَا، وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهَا: إِمَّا خَلْفَهَا، أَوْ أَمَامَهَا، أَوْ عَنْ يَمِينِهَا، أَوْ عَنْ شِمَالِهَا. وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْإِسْرَاعِ بِهَا.
الشيخ: ..... والراكب خلفها، الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء، فالماشي يكون أمامها، وعن يمينها، وعن شمالها، وخلفها، والراكب يكون خلفها؛ حتى لا يعوق الناسَ عن السير بها؛ لأنَّ السنة الإسراعُ بها.
الشيخ: ..... قوله ﷺ: أسرعوا بالجنازة؛ فإن تكُ صالحةً فخيرٌ تُقدِّمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم، الإسراع بها هو السنة على وجهٍ لا يضرّ الماشين، ولا يضرّ المشيعين، ولا يُخلُّ بالجنازة، إسراعًا ليس فيه خطرٌ ولا أذًى.
س: ..............؟
ج: الأمر في هذا واسع، والمشي أفضل إذا تيسر، ولو أنها حُملت ما في بأس.
الشيخ: أيش قال المحشي على .....؟
الطالب: رواه أبو داود في "الجنائز" باب "الإسراع بالجنازة"، والنسائي في "الجنائز" باب "السرعة في الجنازة"، والطيالسي، وأحمد، والطحاوي، وإسناده صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذَّهبي، وصححه أيضًا الإمام النووي في "المجموع".
الطالب: رواه أحمد في "المسند"، والترمذي في "الجنائز" باب "ما جاء في المشي خلف الجنازة"، وأبو داود في "الجنائز" باب "الإسراع بالجنازة"، وفي سنده يحيى بن عبدالله التيمي، وهو لين الحديث. وأبو ماجد، واسمه: عائذ بن نضلة، وهو مجهول كما قال الحافظ في "التقريب".
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : سَأَلْنَا نَبِيَّنَا ﷺ عَنِ الْمَشْيِ مَعَ الْجِنَازَةِ، فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ. رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.
وَكَانَ يَمْشِي إِذَا تَبِعَ الْجِنَازَةَ، وَيَقُولُ: لَمْ أَكُنْ لِأَرْكَبَ وَالْمَلَائِكَةُ يَمْشُونَ، فَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهَا فَرُبَّمَا مَشَى، وَرُبَّمَا رَكِبَ.
الشيخ: يعني بعد الرجوع، المشي في الأول أفضل، وفي الرجوع أسهل.
س: .............؟
ج: يُوافق هذا، نعم. الأخير هذا؟
الطالب: رواه أبو داود في "الجنائز" باب "الركوب في الجنازة" من حديث ثوبان ، وإسناده صحيح، وصححه الحاكمُ، ووافقه الذَّهبي.
وَكَانَ يَمْشِي إِذَا تَبِعَ الْجِنَازَةَ، وَيَقُولُ: لَمْ أَكُنْ لِأَرْكَبَ وَالْمَلَائِكَةُ يَمْشُونَ.
وَكَانَ إِذَا تَبِعَهَا لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ، وَقَالَ: إِذَا تَبِعْتُمُ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمُرَادُ وَضْعُهَا بِالْأَرْضِ.
قُلْتُ: قَالَ أبو داود: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سهيل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ. وَفِيهِ: "حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ".
وَرَوَاهُ أبو معاوية، عَنْ سهيل، وَقَالَ: "حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ".
قَالَ: وسفيان أَحْفَظُ مِنْ أبي معاوية.
وَقَدْ رَوَى أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
الشيخ: والصواب هو هذا، يعني: حتى تُوضع في الأرض؛ لأنَّ ..... فيه مشقَّة كبيرة، ويدل على هذا أنه ﷺ أتى جنازةً ولم يُلحد القبر، فوضعوها، وجلس النبيُّ ﷺ وتحدث إليهم حتى انتُهي منها ووُضعت في قبره.
فالحاصل أنَّ السنة الوقوف حتى تُوضع في الأرض، تنزل في الأرض، فإذا نزلت في الأرض جلس، هذا هو الأفضل، وإذا حُملت على السيارة تنزل على الأرض، كما لو كانت على رؤوس الرِّجال.
وَقَدْ رَوَى أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُومُ فِي الْجِنَازَةِ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ.
لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ بشر بن رافع، قَالَ الترمذي: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. وَقَالَ أحمدُ: ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: حَدَّثَ بِمَنَاكِيرَ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي أَشْيَاءَ مَوْضُوعَةً، كَأَنَّهُ الْمُتَعَمِّدُ لَهَا.
فَصْلٌ
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ ﷺ الصَّلَاةُ عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ غَائِبٍ.
الشيخ: الحاصل في هذا أنَّ السنة أن يمشى بالجنازة مشيًا لا يضرّ الناس، لا يضرّ الحاضرين، ولا يضرّ المتبعين المشيعين، مشيًا ليس .....، وليس بالعجلة المؤذية، ولكن مشي فيه سرعة، وفيه قوة، حتى توصل إلى مقرِّها.
فَصْلٌ
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ ﷺ الصَّلَاةُ عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ غَائِبٍ، فَقَدْ مَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ غُيَّبٌ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، وَصَحَّ عَنْهُ: أَنَّهُ صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا تَشْرِيعٌ مِنْهُ، وَسُنَّةٌ لِلْأُمَّةِ الصَّلَاةُ عَلَى كُلِّ غَائِبٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقَالَ أبو حنيفة ومالك: هَذَا خَاصٌّ بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.
الشيخ: يعني خاصّ بالنَّجاشي.
قَالَ أَصْحَابُهُمَا: وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ رُفِعَ لَهُ سَرِيرُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ يَرَى صَلَاتَهُ عَلَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، وَالصَّحَابَةُ وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ فَهُمْ تَابِعُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّلَاةِ.
قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى كُلِّ الْغَائِبِينَ غَيْرَهُ، وَتَرْكُهُ سُنَّةٌ، كَمَا أَنَّ فِعْلَهُ سُنَّةٌ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ يُعَايِنَ سَرِيرَ الْمَيِّتِ مِنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ، وَيُرْفَعُ لَهُ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى معاوية بن معاوية الليثي وَهُوَ غَائِبٌ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ فِي إِسْنَادِهِ العلاء بن زيد، ويُقال: ابن زيدل.
الطالب: عندنا: العلاء بن زياد.
الشيخ: "التقريب" حاضر؟ انظر العلاء.
الطالب: والعلاء بن زيد وصفه الحافظ في "التقريب" بقوله: متروك، رماه أبو الوليد بالكذب.
.........
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
وَرَوَاهُ محبوب بن هلال، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أنسٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيةَ: الصَّوَابُ أَنَّ الْغَائِبَ إِنْ مَاتَ بِبَلَدٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ فِيهِ؛ صُلِّيَ عَلَيْهِ صَلَاةَ الْغَائِبِ، كَمَا صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ عَلَى النَّجَاشِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ حَيْثُ مَاتَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ صَلَاةَ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ بِصَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ صَلَّى عَلَى الْغَائِبِ، وَتَرَكَهُ، وَفِعْلُهُ وَتَرْكُهُ سُنَّةٌ، وَهَذَا لَهُ مَوْضِعٌ، وَهَذَا لَهُ مَوْضِعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ فِي مَذْهَبِ أحمد، وَأَصَحُّهَا هَذَا التَّفْصِيلُ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا.
الشيخ: وهذا الذي قاله أبو العباس ابن تيمية رحمه الله؛ وهو أنَّ النَّجاشي لم يُصلَّ عليه في بلاده؛ ولهذا صلَّى عليه النبي ﷺ صلاة الغائب- فيه نظر أيضًا؛ لأنَّ وجود ملكٍ في بلدٍ -مملكة عظيمة- على الإسلام ولم يُتابعه أحدٌ على الإسلام هذا كان مستحيلًا؛ لأنَّ الملوك يتبعهم الكثير، ويتقرب إليهم الكثير فيما يُرضيهم، فإذا كان دخل في الإسلام وأعلن إسلامه فيبعد جدًّا ألا يُتابعه أحدٌ من أهل بيته، ولا من حاشيته، ومن أقاربه، ولا من جنوده، هذا مستحيل، فإنه لا بدَّ أن يُتابعه أحدٌ من مملكته من المسلمين ويُصلون عليه.
لكن الأقرب والأظهر في هذا قول مَن قال بجواز الصلاة على الغائب إذا كان ممن له قدم في الإسلام، وله عمل في الإسلام: كالنَّجاشي؛ فإنه آوى المسلمين ونصرهم، وأحاطهم ومنعهم من عدوهم، فإذا كان الميتُ الغائبُ له شأنٌ في الإسلام بعلمه، أو دفاعه عن الإسلام، أو شُهرة بشيءٍ ينفع المسلمين، مما يحصل بالصلاة عليه تشجيع لغيره، تشجيع لأمثاله، فهذا يفعل كما فعل مع النَّجاشي، وإذا كان ممن ليس كذلك، بل هو من عامَّة الناس، وممن ليس له شيء يشتهر به في الإسلام؛ لا يُصلَّى عليه صلاة الغائب؛ لأنَّ الرسول ﷺ مات في زمانه جمٌّ غفير غائبون: مات بعضهم في مكة، وبعضهم في الطائف، وبعضهم في أماكن أخرى، ولم يُصلِّ عليهم صلاة الغائب، فدلَّ ذلك على أنه لا تُصلَّى صلاة الغائب على كل أحدٍ.
فالصواب إما أن يُقال: لا يُصلَّى على الغائب مطلقًا، ويكون هذا من خصائص النَّجاشي، سواء وجده في بلده ..... هذا من خصائصه.
أو يقال: ليس من خصائصه؛ لأنَّ الأصل عدم التَّخصيص، ولكن يُلحق به مَن كان يُقاربه أو يُماثله في نصر الإسلام، والدَّعوة إلى الإسلام، وعمل شيءٍ في الإسلام يستحقّ أن يُشجع عليه، وأن يُراعى من أجله.
.........
س: القول بأنه يستحيل أن يكون أحدٌ في هذا البلد وهو عظيم على ملكه ولم يُتابعه أحدٌ، ما يُدفع هذا بهرقل أيضًا؛ لأنه خشي من شأن الملك فقال: لا، إنما أردتُ أن أختبركم؟
ج: هذا رجع، ولكن هذا ما رجع، بقي على إسلامه ..... نصر الصحابة وآواهم وأعلن إسلامه.
........
الطالب: ذكر المحشي أنَّ الخطابي سبق شيخ الإسلام إلى هذا التَّفصيل.
الشيخ: هذا ليس بجيدٍ، ليس بجيدٍ.
فَصْلٌ
وَصَحَّ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَامَ لِلْجِنَازَةِ لَمَّا مَرَّتْ بِهِ، وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ لَهَا، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَعَدَ، فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ: فَقِيلَ: الْقِيَامُ مَنْسُوخٌ، وَالْقُعُودُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ. وَقِيلَ: بَلِ الْأَمْرَانِ جَائِزَانِ، وَفِعْلُهُ بَيَانٌ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَتَرْكُهُ بَيَانٌ لِلْجَوَازِ. وَهَذَا أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءِ النَّسْخِ.
الشيخ: وهذه ..... أن النبي ﷺ قال: إذا رأيتُم الجنازةَ فقوموا، فقيل له في بعض الرِّوايات: أنها جنازة كافرٍ، فقال: أليست نفسًا؟ وفي لفظٍ: إنَّ للموت فزعًا، وفي لفظٍ: إنما قمنا للملائكة.
فالحاصل أنَّ السنة أن يُقام للجنازة إذا مرَّت؛ لعظم شأن الموت، وفزع الموت، وتذكر الموت، ولكن ليس للوجوب، بل للاستحباب؛ ولهذا قام وترك، ففعله حين ترك يدل على جواز التَّرك، وأنه ليس للوجوب، وأمره يدل على السنية ..... للناس: فقوموا، والقاعدة أنَّ الجمع مُقدم على النَّسخ، مهما أمكن الجمعُ بين النصوص فهو مُقدَّم على النَّسخ، ولا يُقال بالنَّسخ إلا عند تعذر الجمع، وعند علم التَّأريخ.
س: أمرهم بالجلوس؟
ج: المعروف في الرواية: جلس، أما الأمر بالجلوس ففيه نظر، جاء في بعض الروايات الأمر بالجلوس، لكن فيه نظر، ولو صحَّ لكان ظاهرًا في النَّسخ. المعروف في الأحاديث الصَّحيحة أنه قام وجلس.
س: القيام يكون إلى أن تنصرف، أو إلى أن تُوضع؟
ج: حتى تُوضع في الأرض.
...........
الطالب: أخرجه مسلم، وابن ماجه، والطيالسي عن علي بن أبي طالب أنه قال: قام رسولُ الله ﷺ من جنازةٍ فقمنا، ثم جلس فجلسنا.
ورواه مالك وأبو داود عنه بلفظ: كان يقوم في الجنائز، ثم جلس بعد.
ورواه أحمد والطحاوي بلفظ: كان رسولُ الله ﷺ أمرنا بالقيام للجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس. ورواه البيهقي.
الشيخ: هذه الزيادة فيها محل نظرٍ.
الطالب: ورواه البيهقي بلفظ: قام رسولُ الله ﷺ مع الجنائز حتى تُوضع، وقام الناسُ معه، ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود.
وأخرج الطحاوي من طريق مسعود بن الحكم الزرقي قال: شهدتُ جنازةً بالعراق، فرأيتُ رجالًا قيامًا ينتظرون أن تُوضع، ورأيتُ علي بن أبي طالب يُشير إليهم أن اجلسوا؛ فإنَّ النبي ﷺ أمرنا بالجلوس بعد القيام.
الشيخ: هذا هو محل النَّظر، .....، وهو يدل على النَّسخ، يحتاج إلى تتبع الرواية بالأمر ..... سلامته من العلَّة، الأحاديث الصَّحيحة الكثيرة في "الصحيحين" وغيرهما ما فيها الأمر بالجلوس، وإنما هذا ..... رواه أحمد ..... ليس في الصحاح، يحتاج إلى تأمُّلٍ في الطرق، فإن ثبت أمره فهو أظهر في النَّسخ.