025 فصل في الجمع بين الصلاتين

فَصْلٌ

وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ أَنَّهُ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَالَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ.

وَكَانَ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعَصْرِ فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.

لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَمِنْ مُصَحِّحٍ لَهُ، وَمِنْ مُحَسِّنٍ، وَمِنْ قَادِحٍ فِيهِ وَجَعْله مَوْضُوعًا كالحاكم، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، لَكِنْ رُمِيَ بِعِلَّةٍ عَجِيبَةٍ؛ قَالَ الحاكم: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أبي الطفيل، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إِلَى الْعَصْرِ وَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ سَارَ، وَكَانَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ.

قَالَ الحاكم: هَذَا الْحَدِيثُ رُوَاتُهُ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ، وَهُوَ شَاذُّ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، ثُمَّ لَا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً نُعِلُّهُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ عَنِ الليث، عَنْ أبي الزبير، عَنْ أبي الطفيل، لَعَلَّلْنَا بِهِ الْحَدِيثَ. وَلَوْ كَانَ عَنْ يَزِيدَ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أبي الطفيل، لَعَلَّلْنَا بِهِ. فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ لَهُ الْعِلَّتَيْنِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا. ثُمَّ نَظَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ لِيَزِيدَ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أبي الطفيل رِوَايَةً، وَلَا وَجَدْنَا هَذَا الْمَتْنَ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ أبي الطفيل، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ غَيْرَ أبي الطفيل، فَقُلْنَا: الْحَدِيثُ شَاذٌّ.

وَقَدْ حَدَّثُوا عَنْ أبي العباس الثَّقفي قَالَ: كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ يَقُولُ لَنَا: عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَامَةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَأَبِي بَكْرِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وأبي خيثمة. حَتَّى عَدَّ قتيبةُ سَبْعَةً مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَتَبُوا عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ إِنَّمَا سَمِعُوهُ مِنْ قتيبة تَعَجُّبًا مِنْ إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، ثُمَّ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ لِلْحَدِيثِ عِلَّةً.

ثُمَّ قَالَ: فَنَظَرْنَا فَإِذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ، وقتيبة ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، ثُمَّ ذُكِرَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْبُخَارِيِّ. قَالَ: قُلْتُ لِقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ: مَعَ مَنْ كَتَبْتَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ حَدِيثَ يَزِيدَ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أبي الطفيل؟ قَالَ: كَتَبْتُهُ مَعَ خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ خالد المدائني يُدْخِلُ الْأَحَادِيثَ عَلَى الشُّيُوخِ.

قُلْتُ: وَحُكْمُهُ بِالْوَضْعِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ فَإِنَّ أبا داود رَوَاهُ عَنْ يزيد بن خالد بن عبدالله بن موهب الرملي: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أبي الزبير، عَنْ أبي الطفيل، عَنْ معاذٍ. فَذَكَرَهُ.

فَهَذَا المفضل قَدْ تَابَعَ قتيبة، وَإِنْ كَانَ قتيبةُ أَجَلَّ مِنَ المفضل وَأَحْفَظَ، لَكِنْ زَالَ تَفَرُّدُ قتيبة بِهِ.

ثُمَّ إِنَّ قتيبة صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا، وَلَمْ يُعَنْعِنْ، فَكَيْفَ يُقْدَحُ فِي سَمَاعِهِ، مَعَ أَنَّهُ بِالْمَكَانِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمَانَةِ، وَالْحِفْظِ، وَالثِّقَةِ، وَالْعَدَالَةِ؟!

وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُويَه: حَدَّثَنَا شبابة: حَدَّثَنَا الليث، عَنْ عقيل، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أنسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ.

وَهَذَا إِسْنَادٌ كَمَا تَرَى، وَشَبَابَةُ هُوَ: شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، الثِّقَةُ، الْمُتَّفَقُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ، وَقَدْ رَوَى لَهُ مسلمٌ فِي "صَحِيحِهِ" عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ مُقَوِّيًا لِحَدِيثِ معاذٍ، وَأَصْلُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ جَمْعُ التَّقْدِيمِ.

ثُمَّ قَالَ أبو داود: وَرَوَى هشام، عَنْ عروة، عَنْ حسين بن عبدالله، عَنْ كريب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَ حَدِيثِ المفضل، يَعْنِي: حَدِيثَ معاذٍ فِي الْجَمْعِ وَالتَّقْدِيمِ، وَلَفْظُهُ: عَنْ حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس، عَنْ كريب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي السَّفَرِ؟ كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الزَّوَالِ، وَإِذَا سَافَرَ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ".

قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِثْلَ ذَلِكَ.

وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابن أبي يحيى، عَنْ حسين. وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَجْلَانَ بَلَاغًا عَنْ حسين.

قَالَ البيهقي: هَكَذَا رَوَاهُ الْأَكَابِرُ: هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ حسين بن عبدالله. وَرَوَاهُ عبدُالرزاق، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ حسين، عَنْ عكرمة، وَعَنْ كريب، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهُ أيوب، عَنْ أبي قلابة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا مَرْفُوعًا.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي إِدْرِيسَ.

الشيخ: إسماعيل ابن أبي أويس.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي أويس قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي.

س: .............؟

ج: الصحيح نعم: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، له أن يجمع جمع تقديمٍ وجمع تأخيرٍ، نعم.

قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي.

الشيخ: قال: حدَّثني أخي، يعني: عبدالعزيز.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي أويسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سليمان بن مالك.

الشيخ: لا، عن مالك، سليمان يعني ابن بلال، عن مالك ..... سليمان، عن مالك، يعني: سليمان بن بلال، "ابن" تصحفت إلى "عن".

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي أويس قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سليمان، عن مالك، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ كريب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فَرَاحَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ رَكِبَ، فَسَارَ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِذَا لَمْ يَرُحْ حَتَّى تَزِيغَ الشَّمْسُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ رَكِبَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ وَدَخَلَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ: رَوَى يَحْيَى بْنُ عَبْدِالْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، عَنِ الحجاج، عَنِ الحكم، عَنْ مقسم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه ﷺ إِذَا لَمْ يَرْتَحِلْ حَتَّى تَزِيغَ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، فَإِذَا لَمْ تَزِغْ أَخَّرَهَا حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَيَدُلُّ عَلَى جَمْعِ التَّقْدِيمِ جَمْعُهُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِمَصْلَحَةِ الْوُقُوفِ؛ لِيَتَّصِلَ وَقْتُ الدُّعَاءِ، وَلَا يَقْطَعُهُ بِالنُّزُولِ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ بِلَا مَشَقَّةٍ، فَالْجَمْعُ كَذَلِكَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَاجَةِ أَوْلَى.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَانَ أَرْفَقَ بِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ؛ لِأَنْ يَتَّصِلَ لَهُ الدُّعَاءُ، فَلَا يَقْطَعُهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَأَرْفَقَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَنْ يَتَّصِلَ لَهُ الْمَسِيرُ، وَلَا يَقْطَعُهُ بِالنُّزُولِ لِلْمَغْرِبِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: أما جمع التقديم فثابت، كما جمع التأخير سواء بسواءٍ، وقول الحاكم: "إنه موضوع" رواية قتيبة لا وجهَ له كما تقدم.

فَصْلٌ

وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ الْجَمْعُ رَاكِبًا فِي سَفَرِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.

الشيخ: بركة، شعيب ما تكلَّم بشيءٍ على هذا؟ ما تعرض له بشيءٍ؟

الطالب: ذكر كلام الحافظ.

الشيخ: نعم، نعم، سمّ ...........

فَصْلٌ

وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ الْجَمْعُ رَاكِبًا فِي سَفَرِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا الْجَمْعُ حَالَ نُزُولِهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَإِذَا سَارَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قِصَّةِ تَبُوكَ.

س: يعني ما يجمع جمع تقديم ثم يسير في السَّفر؟

ج: التعبير "عقيب الصلاة" إذا سار في أول الوقت، أو سار قبل دخول الوقت، ما هو بعقيب الصلاة، التعبير بعقيب الصلاة غريب على ظهر سير، أقول: إذا سار قبل دخول الوقت أخَّر الصلاة الأولى، أو بعد دخول الوقت يبدأ بالثانية مع الأولى، هذا في حكم مَن كان على ظهر سيرٍ، وثبت عنه الجمع ..... في تبوك عليه الصلاة والسلام، تكلم عليه المحشي؟

الطالب: ما عليه شيء.

............

الشيخ: .....؛ لأنَّ الفرائض ما تُصلَّى راكبة، الفرائض ما تُصلى إلا في الفرائض، إنما كان يُصلي في الركوب النَّوافل، مثل: الضحى، ومثل: التَّهجد في الليل.

وَأَمَّا جَمْعُهُ وَهُوَ نَازِلٌ غَيْرَ مُسَافِرٍ فَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَّا بِعَرَفَةَ؛ لِأَجْلِ اتِّصَالِ الْوُقُوفِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَشَيْخُنَا.

الشيخ: ما علَّق عليه؟

الطالب: ما في شيء.

الشيخ: لو علَّق عليه، وثبت في "صحيح مسلم" من حديث معاذٍ: أنه ﷺ جمع في غزوة تبوك وهو نازل، خرج رسولُ الله ﷺ فصلَّى بنا الظهر والعصر، ثم دخل قباءه، ثم خرج فصلَّى بنا المغرب والعشاء.

س: .............؟

ج: هذا جاء في رواية النَّسائي أنه صوري، صلوا الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها، والمغرب كذلك والعشاء.

وَلِهَذَا خَصَّهُ أبو حنيفة بِعَرَفَةَ، وَجَعَلَهُ مِنْ تَمَامِ النُّسُكِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلسَّفَرِ عِنْدَهُ فِيهِ.

وأحمد ومالك وَالشَّافِعِيُّ جَعَلُوا سَبَبَهُ السَّفَرَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ وأحمدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ التَّأْثِيرَ لِلسَّفَرِ الطَّوِيلِ، وَلَمْ يُجَوِّزَاهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَجَوَّزَ مالك وأحمد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ الْجَمْعَ وَالْقَصْرَ بِعَرَفَةَ.

الشيخ: لأنَّ الرسول أقرَّهم، ولم يمنعهم؛ ولهذا قال أبو حنيفة وجماعة: إنه من أجل النُّسك، ما بين مكة وعرفة ومُزدلفة شيء قليل، لا يُعدّ سفرًا عرفًا.

وَاخْتَارَهَا شَيْخُنَا وأبو الخطاب فِي عِبَادَاتِهِ، ثُمَّ طَرَّدَ شَيْخُنَا هَذَا وَجَعَلَهُ أَصْلًا فِي جَوَازِ الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، وَجَعَلَهُ مالك وأبو الخطاب مَخْصُوصًا بِأَهْلِ مَكَّةَ.

وَلَمْ يَحُدَّ ﷺ لِأُمَّتِهِ مَسَافَةً مَحْدُودَةً لِلْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، بَلْ أَطْلَقَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ السَّفَرِ وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، كَمَا أَطْلَقَ لَهُمُ التَّيَمُّمَ فِي كُلِّ سَفَرٍ.

الشيخ: ..... هذا مُستثنى، الذي يُصلي مع النبي في النُّسك يكون مُستثنًى فقط؛ لأنه لما أقرَّهم النبيُّ أقررناهم، سواء كان في السفر أو النُّسك، الله أعلم، أتوقف في هذا.

وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مِنَ التَّحْدِيدِ بِالْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ

فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَاسْتِمَاعِهِ، وَخُشُوعِهِ، وَبُكَائِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ.

الشيخ: علَّق عليه بشيءٍ؟

الطالب: ما عليه شيء، كل الذي قرأته ما عليه شيء.

الشيخ: التَّحديد باليوم والليلة جاء عن ابن عباسٍ وابن عمر، وهو قول الجمهور؛ الأئمة الأربعة والجمهور على أنه لا بدَّ من مسافةٍ، أقلّها يوم وليلة، وبعضهم قال: ثلاثة أيام. ومال الموفق إلى تقوية مَن قال بعدم التَّحديد؛ لأنه ليس هناك نصٌّ واضحٌ في التحديد؛ ولهذا ذهب الشيخُ تقي الدين رحمه الله إلى عدم التحديد، وإلى أن ما يُسمَّى: سفرًا، يحتاج إلى الزاد والمزاد، يعني: إلى الطعام والشراب؛ لبُعده، شرعت فيه الرخص، وما لا فلا، ولكن اعتماد الجمهور على ما قاله الصحابةُ أولى؛ لأنَّ الصحابة أعلم بتفسير كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ ولأنه ضبطه بالمسافات أضبط للسفر، وأقرب إلى ضبط الأحكام؛ لأنَّه ليس كل أحدٍ يستطيع أن يُحدد السفر بمجرد اجتهاده، فإذا عرف أنه محدود السفر بشيءٍ، معلوم في اليوم والليلة بالمطية: ثمانين كيلو، أو سبعين كيلو، أو نحوها تقريبًا، صار ذلك أقرب إلى ضبط الأمور، والبُعد عن التَّساهل في أمرٍ يقتضي قصر الصلاة إلى ركعتين، ويقتضي جمع هذه بهذه، وليس هذا بالأمر السَّهل، بل هو سفر مهمّ.

س: القصر بالنسبة لأهل مكة في عرفة سببه؟

ج: الله أعلم، قيل: للسفر والله أعلم، وأقرَّهم النبي، فنُقرهم، والله أعلم بأسباب ذلك: هل هو السفر، أو النُّسك؟ الله أعلم، فعلينا أن نحتاط للسفر، فتكون هذه المسألة مُستثناةً، لا نجرم فيها أنها للسفر، أو لشغل النُّسك وأعمال النُّسك مع إخوانهم.

س: .............؟

ج: المعروف عند الجمهور وأكثر أهل العلم إذا قطع المسافةَ يُعدّ مُسافرًا، ولو قطعها في سرعةٍ: كالسفن، والمركبات البحرية، ومثلها اليوم في المركبات الجوية والأرضية الجديدة، هي مثل السفن والبواخر وأشباهها، وهو رحمه الله لاحظ قطع المسافة البعيدة في المدة القريبة ليس بسفرٍ، ولكن هذا محلّ نظرٍ، وقد يحتاج إلى هذا ولو كان في مراكب سريعةٍ، قد يحتاج إلى ..... السفر، والذي يجيء بسهولةٍ ما هو محتاج إلى رخص السفر، مَن ذهب بسرعةٍ ورجع بسرعةٍ ما هو محتاج إلى الرُّخص.

س: ............؟

ج: إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك؛ ذهب بالطائرة إلى جهةٍ معينةٍ ووافقت الصلاة ..... ذهب إلى الخرج بالطائرة ووافقت الصلاة وهو في الخرج، أيش المانع؟ ما يُصلي قصرًا؟ أو سافر من مسافةٍ أخرى بالبرية، مسافة قصر، نزل بها لحاجةٍ ووافقت الصلاة .....

س: .............؟

ج: هو محلّ سؤال الأخ.

فَصْلٌ

فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَاسْتِمَاعِهِ، وَخُشُوعِهِ، وَبُكَائِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ وَاسْتِمَاعِهِ، وَتَحْسِينِ صَوْتِهِ بِهِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ.

كَانَ لَهُ ﷺ حِزْبٌ يَقْرَؤُهُ، وَلَا يُخِلُّ بِهِ، وَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ تَرْتِيلًا، لَا هَذًّا، وَلَا عَجَلَةً، بَلْ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً، حَرْفًا، حَرْفًا.

وَكَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً، وَكَانَ يَمُدُّ عِنْدَ حُرُوفِ الْمَدِّ، فَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ، وَكَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَتِهِ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ، وَكَانَ تَعَوُّذُهُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ.

الشيخ: قوله: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل:98] يعني: إذا أردت القراءةَ، مثل: إذا دخل أحدُكم محلَّ الغائط فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث يعني: إذا أراد الدُّخول.

وكان ﷺ يُرتل قراءته ويقطعها، ويقف على رؤوس الآي، ولا يعجل، ولا يتأخر كثيرًا، بل يُوالي القراءة عليه الصلاة والسلام حتى يفهمها السَّامع والمستمع ويستفيد، كما أخبرت عن ذلك أمُّ سلمة وعائشة رضي الله تعالى عنهما؛ لأنَّ المقصود ليس مجرد القراءة، المقصود مع ذلك الفهم والتأمل والاستفادة والتعقل والتدبر: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]؛ ولهذا كانت قراءته عليه الصلاة والسلام قراءةَ المتدبر، المتعقل، يُرتلها، ولا يعجل فيها عليه الصلاة والسلام، نعم، ويُعطي الحروفَ حقَّها.

س: .............؟

ج: الظاهر أنه المدّ المعروف، يُسمونه: المد الطبيعي: بسم الله الرحمن الرحيم. ما يعجل.

س: .............؟

ج: لا، هذا اصطلاح للقرَّاء: اللازم والمنفصل وقدر الحركات كذا، يعني: اجتهاد القرَّاء على ما سمعوا من مشايخهم.

..........

الشيخ: قد يحتمل هذا، وقد يحتمل أنه أراد الواجبَ الذي هو فرض، يعني: يأثم من تركه، ولكن فيه نظر، والأقرب والله أعلم أنَّ هذا من كمالات القراءة، ومن سُنن القراءة، فإنه متى قرأها قراءةً واضحةً بينةً ما يكون عليه فيه إثم، فالمدود التي فيها والتَّفخيم والتَّرقيق والإدغام والإظهار فيما يظهر والله أعلم أنه من باب السنن، من باب الكمالات، وليس من باب الفرائض التي يأثم مَن تركها؛ لأنه يحصل المقصود بالقراءة من دون ذلك، فهو من باب المحسنات للقراءة، والكمالات للقراءة.

س: مَن أوجب تعلم التَّجويد؟

ج: محل نظرٍ، أقول: محل نظر، قول الجزري: "مَن لم يُجود القرآنَ آثم" محل نظرٍ.

وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَمَرَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَرَأَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْمَعُ، وَخَشَعَ ﷺ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْهُ حَتَّى ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.

وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَائِمًا، وَقَاعِدًا، وَمُضْطَجِعًا، وَمُتَوَضِّئًا، وَمُحْدِثًا.

الشيخ: ..... من تفسير كونه يقرأ قائمًا، وقاعدًا، ومُضطجعًا، وماشيًا، ومُحدثًا، وعلى طهارةٍ، ما عدا الجنب فإنه يقف حتى يتطهر.

وَلَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُ مِنْ قِرَاءَتِهِ إِلَّا الْجَنَابَةُ.

س: ..............؟

ج: يقرأ إذا ساغ التَّيمم مثل الصلاة، الصلاة أعظم، إذا ساغ التَّيمم ساغت القراءة كالصلاة، من باب أولى .....

س: ..............؟

ج: لا يجوز، الصحيح الذي عليه الجمهور: لا يجوز.

س: ..............؟

ج: يُلحق به، ملحق به.

س: ..............؟

ج: لا، خارج المنفصل، مثل ..... الظاهرية، داود الظاهري.

س: ..............؟

ج: حمله بالجراب الذي فيه ما يضرّ، حمله بالجراب، أو بطرفٍ من الخرق ما يضرّ، أما حمله بدون شيءٍ وهو مُحدِث هذا معنى كلام أهل العلم ممنوع.

............

الشيخ: هذا فيه خلافٌ بين أهل العلم: بعض أهل العلم ألحقها بالجنب قال: لا تقرأ حتى تطهر. وبعض أهل العلم أجاز لها ذلك؛ لأنَّ حالها غير حال الجنب، مدتها تطول، وهكذا النفساء فلها أن تقرأ عن ظهر قلبٍ، وهو أقرب وأظهر: أنها لا تُقاس على الجنب؛ لأنَّ الفرق بينهما كبير، والجنب يستطيع أن يغتسل في الحال، أما هي لا حيلةَ لها، لكن لا تمسّ المصحف، تقرأ عن ظهر قلبٍ، فإن احتاجت لمسَه يكون من وراء حائلٍ.

س: ..............؟

ج: تغتسل من الجنابة، إذا أرادت القراءةَ تغتسل من الجنابة.

س: ..............؟

ج: لا، مطلقًا، الصحيح مطلقًا؛ لأنَّ حديث: لا يقرأ القرآنَ حائضٌ ولا جنبٌ حديث ضعيف عند أهل العلم، وإنما الثابت كونه ﷺ لا يقرأ وهو جنب، وقال: وأما الجنب فلا، ولا آية، والجنب له حال غير حال الحائض، والقياس لا يصلح إلا مع اتِّحاد الفرع مع الأصل، وليست الحائضُ مثل الجنب، الحائض والنُّفساء مدّتهما تطول، وقد تنسى القرآنَ، وقد يشقّ عليها، فالفرق بينهما واضح، ويقول هذا أنه ﷺ قال في حجّة الوداع لعائشة: افعلي ما يفعله الحاجُّ غير ألا تطوفي حتى تطهري، وفي اللفظ الآخر: غير ألا تطوفي ولا تُصلي حتى تطهري، ولم يقل لها: ولا تقرئي، والمحرم قد يقرأ القرآنَ، كما أنه يُلبي ويذكر الله قد يقرأ، فلو كان حيضها يمنع القراءة لنبَّهها.

س: ...............؟

ج: تسعى، تُمنع من الطَّواف.

.............

وَكَانَ ﷺ يَتَغَنَّى بِهِ، وَيُرَجِّعُ صَوْتَهُ بِهِ أَحْيَانًا، كَمَا رَجَّعَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي قِرَاءَتِهِ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، وَحَكَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ تَرْجِيعَهُ: "آآآ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.

الطالب: كيف المدُّ هذا؟

الشيخ: علَّق عليه بشيءٍ؟

الطالب: ما عليه شيء، مجرد رواية.

الشيخ: ..... من التَّرجيع، هو تكرار الآيات، أما قول: "آ" فلعله حصل عند هزيز الراحلة، تغير الصوت بعض الشيء، وإلا الترجيع ما هو "آآآ"، ما فيه "آآآ" فيها: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، ما فيها "آ"، ولعلَّ هذا الشيء الذي وقع في الرواية شيء حصل له عند القراءة في هزِّ الراحلة له في بعض الحالات، فصار شيئًا يتعلق بـ"آ"، غير القراءة المعروفة، أما القراءة: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] يعني: كرر الآيات وهو يقرأ عليه الصلاة والسلام، الترجيع: التَّكرار، مثلما في الآذان، ترجيع الشَّهادتين: تكرارهما، وكذلك رجع إلى المكان: عاد إليه، رجع الكلام: كرره.

س: .............؟

ج: ما فيه شيء، إذا كان لتحريك القلوب ما فيه شيء.

س: .............؟

ج: لفظ "الآآآ" بالهمزة.

وَإِذَا جُمِعَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ إِلَى قَوْلِهِ: زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، وَقَوْلِهِ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ؛ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا التَّرْجِيعَ مِنْهُ ﷺ كَانَ اخْتِيَارًا، لَا اضْطِرَارًا؛ لِهَزِّ النَّاقَةِ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ لِأَجْلِ هَزِّ النَّاقَةِ لَمَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الِاخْتِيَارِ، فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِيهِ وَيَفْعَلُهُ اخْتِيَارًا لِيُؤْتَسَى بِهِ، وَهُوَ يَرَى هَزَّ الرَّاحِلَةِ لَهُ حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: كَانَ يُرَجِّعُ فِي قِرَاءَتِهِ. فَنُسِبَ التَّرْجِيعُ إِلَى فِعْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ هَزِّ الرَّاحِلَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ يُسَمَّى: تَرْجِيعًا.

وَقَدِ اسْتَمَعَ لَيْلَةً لِقِرَاءَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ: "لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْمَعُهُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا" أَيْ: حَسَّنْتُهُ وَزَيَّنْتُهُ بِصَوْتِي تَزْيِينًا.

الشيخ: يدل على شرعية تعمد تحسين الصوت وتزيينه؛ ليخشع المستمعون ويستفيدوا، لا للرياء، بل ليُعالج قلوب المستمعين؛ ليخشعوا ويستفيدوا وترتاح نفوسُهم للسماع؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: زيِّنوا القرآنَ بأصواتكم يعني: بالتَّخشع وتحسين الصَّوت والترتيل وعدم العجلة؛ لأنَّ هذا يُؤثر في القلوب، وهكذا: ليس منا مَن لم يتغنَّ بالقرآن، يجهر به يرفع صوته به، محسن لصوته؛ حتى يُؤثر في قلوب المستمعين.

وثبت في "الصحيحين" من حديث ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: أنَّ الرسول قال له ذات يومٍ: اقرأ عليَّ القرآن، فقال عبدُالله: كيف أقرأ عليك وعليك أُنزل؟! قال: إني أحبّ أن أسمعه من غيري، وبدأ ابنُ مسعودٍ بسورة النساء، حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قال: حسبك، قال: فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرفان. يعني: تذكر الموقف هذا، الموقف يوم القيامة ومجيئه يشهد على أمَّته، فبكى عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ الهول عظيم: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، تأتي الأنبياء وتشهد على أممها يوم القيامة: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا على أمته، وهذه الأمة تشهد لتبليغ الأنبياء الماضين أيضًا أنهم بلَّغوا أممهم؛ أخذًا من كتاب الله.

س: هل يجوز للمرأة أن تتغنَّى بالقرآن ويسمعها محارمُها؟

ج: ما أعلم بأسًا في هذا: تحسين صوتها بالقرآن عند محارمها .....، أما عند غير المحارم فالأفضل الخفض، كما قال العلماء، في التلبية والقراءة الأفضل خفض الصوت؛ لئلا يفتتن بها أحدٌ، أما عند محارمها فالأمر واسع.

وَرَوَى أبو داود فِي "سُنَنِهِ" عَنْ عبدالجبار بن الورد قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ أَبِي يَزِيدَ: مَرَّ بِنَا أبو لبابة فَاتَّبَعْنَاهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، قَالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: يَا أبا محمد، أَرَأَيْتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ؟ قَالَ: يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ.

قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ كَشْفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذِكْرِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، وَاحْتِجَاجِ كُلِّ فَرِيقٍ، وَمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ، وَذِكْرِ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَعُونَتِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْأَلْحَانِ.

الشيخ: هذا بحثٌ مهم.

قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ كَشْفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذِكْرِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، وَاحْتِجَاجِ كُلِّ فَرِيقٍ، وَمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ، وَذِكْرِ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَعُونَتِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْأَلْحَانِ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ: أحمد، ومالك، وَغَيْرُهُمَا، فَقَالَ أحمد فِي رِوَايَةِ علي بن سعيد فِي قِرَاءَةِ الْأَلْحَانِ: مَا تُعْجِبُنِي، وَهُوَ مُحْدَثٌ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ المروزي.

الشيخ: المروذي.

وقال في رواية المروذي: الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ بِدْعَةٌ لَا تُسْمَعُ.

س: يعني ما روى عن أحمد شخصٌ يُقال له: المروزي؟

...........

وقال في رواية المروذي: الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ بِدْعَةٌ لَا تُسْمَعُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عبدالرحمن المتطبب: قِرَاءَةُ الْأَلْحَانِ بِدْعَةٌ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عبدالله، وَيُوسُفَ بْنِ مُوسَى، ويعقوب بن بختان، والأثرم، وإبراهيم بن الحارث: الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ لَا تُعْجِبُنِي، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُزْنًا فَيَقْرَأُ بِحُزْنٍ، مِثْلَ: صَوْتِ أبي موسى.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صالح: زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ مَعْنَاهُ: أَنْ يُحَسِّنَهُ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ المروذي: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، وَفِي رِوَايَة قَوْله: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: يَسْتَغْنِي بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ. وَذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ فِي قِصَّةِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفَتْحِ وَالتَّرْجِيعِ فِيهَا، فَأَنْكَرَ أبو عبدالله أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى الْأَلْحَانِ، وَأَنْكَرَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي يُحْتَجُّ بِهَا فِي الرُّخْصَةِ فِي الْأَلْحَانِ.

الشيخ: هذا المقام قد يشتبه على الناس، فتحسين الصوت بالقرآن والتَّحزن بالقرآن والتَّخشع أمر مطلوب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: زيِّنوا القرآنَ بأصواتكم، وقال: ليس منَّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن يجهر به يعني: يجهر به، مُحسنًا لصوته، مُتحزنًا، مُحركًا للقلوب، كما قال أبو موسى لما سمعه النبيُّ يقرأ القرآنَ: لقد سمعتُ قراءتك البارحة، وقال لأصحابه: لقد أُوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود، فقال أبو موسى: لو علمتُ أنك تسمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا. يعني: حسَّنته لك تحسينًا.

كذلك يقول ﷺ: ما أذن الله لشيءٍ كأذنه لنبيٍّ حسن الصوت بالقرآن يجهر به، هذا كله يدل على أن تحسين الصوت وتزيين الصوت بالقرآن، والتخشع فيه، والترتيل وعدم العجلة أمرٌ مطلوبٌ؛ حتى تتحرك هذه القلوب، حتى تلذّ القراءة، وحتى تخشع لها، وحتى تُنيب إلى التَّدبر والتَّعقل.

أما التَّلحين المكروه الذي قال فيه "لا يُعجبني"، أو قال: "إنه بدعة"، هذا هو الذي يتضمن الزيادات التي لا وجهَ لها، والتمطيطات التي لا وجهَ لها، كما يفعل بعضُ القراء، فيُعطي الكلمات زيادة، والمدود زيادة، ويمطط في قراءته تمطيطًا زائدًا حتى يُزيل حلاوةَ القرآن، ويزيل لذة القرآن، ويضيع الوقت في آيةٍ أو آيتين من غير حاجةٍ إلى ما عمل، فالزيادات مخالفة لقواعد التلاوة، مخالفة لما ينبغي للمؤمن من التلاوة للتَّحزين والتَّحسين والعناية بإخراج الحروف من محلِّها، وإعطائها حقّها، فما زاد على المطلوب هذا هو الذي كرهه أحمدُ وجماعة، وقال فيه: "لا يُعجبني"، وقال فيه: "إنه بدعة"؛ لأنه زيادة لا وجهَ لها، ولا حاجةَ إليها، وقد تُخرج القرآن عن حقيقته، وعن كونه كلام الله ، وعن المعنى المطلوب منه بهذا التَّمطيط والزيادات التي تُخرج الكلمَ عن محلها وعن معناها.

س: ............؟

ج: حسَّنته لك تحسينًا، يعني: يحصل به التَّلذذ، يعني: حسَّنه ..... صوته من أجل الناس، من أجل أن ينتفعوا ويستفيدوا ويخشعوا، ما هو لأجل الرياء، من أجل أن ينفعهم، يعني: يحصل لهم الخشوع والتَّلذذ والإقبال على التلاوة والتَّدبر لها.

س: ............؟

ج: المقصود الإفادة، نعم.

وَرَوَى ابن القاسم، عَنْ مالك: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَلْحَانِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا تُعْجِبُنِي. وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ غِنَاءٌ يَتَغَنَّوْنَ بِهِ لِيَأْخُذُوا عَلَيْهِ الدَّرَاهِمَ.

وَمِمَّنْ رُوِيَتْ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، والحسن، وَابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ.

وَقَالَ عبدُالله بن يزيد العكبري: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ أحمد: مَا تَقُولُ فِي الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ؟ فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: محمد، قَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يُقَالَ لَكَ: يَا مُوحَمَّدُ مَمْدُودًا؟

الشيخ: ..... موحامد، ما يصلح هذا، إنما يستقيم: محمد، أما إذا مغطّ، مُغطت الحروف وزيد فيها في غير محلِّها فهذا تعدٍّ.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْكَرَاهَةِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ الْجَرَوِيُّ: أَوْصَى إِلَيَّ رَجُلٌ بِوَصِيَّةٍ، وَكَانَ فِيمَا خَلَّفَ جَارِيَةٌ تَقْرَأُ بِالْأَلْحَانِ، وَكَانَتْ أَكْثَرَ تَرِكَتِهِ، أَوْ عَامَّتهَا، فَسَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ مِسْكِينٍ، وأبا عبيدٍ: كَيْفَ أَبِيعُهَا؟ فَقَالُوا: بِعْهَا سَاذَجَةً. فَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا فِي بَيْعِهَا مِنَ النُّقْصَانِ، فَقَالُوا: بِعْهَا سَاذَجَةً. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّ سَمَاعَ ذَلِكَ مِنْهَا مَكْرُوهٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ، كَالْغِنَاءِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ هُوَ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِهِ وَالتَّرْجِيعُ بِقِرَاءَتِهِ.

س: ............؟

ج: كأنه ألحانًا زائدةً؛ فلهذا شبَّهوها بالغناء.

قَالَ: وَالتَّغَنِّي بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَصْوَاتِ وَاللُّحُونِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ.

قَالَ: وَمِمَّنْ أَجَازَ الْأَلْحَانَ فِي الْقُرْآنِ: ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لأبي موسى: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا. فَيَقْرَأُ أبو موسى وَيَتَلَاحَنُ. وَقَالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ غِنَاءَ أبي موسى فَلْيَفْعَلْ"، وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ عمر: "اعْرِضْ عَلَيَّ سُورَةَ كَذَا"، فَعَرَضَ عَلَيْهِ، فَبَكَى عمر وَقَالَ: "مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ"، قَالَ: وَأَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ.

الشيخ: وهذا لا يُخالف الأول، إنما تقع المخالفات في ظنِّ بعض الناس، الذي قاله عمر وفعله أبو موسى مثل حقيقة التَّلحين المباح، تلحين التَّحزين وتحسين الصوت الذي يحصل به خشوع القلب والتَّلذذ، حتى كأنه لم يسمع السورة قبل ذلك، يعني: بسبب حُسن صوته بقراءتها، وتلاوته لها، والوقوف عند المواقف، وإعطاء الحرف حقّه، والمد حقّه، فليس مخالفًا لما تقدم، فمَن قال بكراهة الألحان [فهي] كراهة الألحان الذي تُخرج الكلمات عن مواضعها، ومَن أحبَّ ذلك فالمراد به التَّلحين الذي يحصل به ترقيق الصوت وتحسينه وتزيينه، وإعطاء الحروف حقوقها، من غير عجلةٍ، مع الركود والترتيل، والوقوف عند رؤوس الآي لتخشع القلوب.

س: .............؟

ج: إذا كان ما في محذور، إذا سمعها ولا يتأثر بها من جهة نفسه لا بأس، مثلما يسمع كلامها واستفتاءها وخصومتها، أما إذا كان يخشى فتنةً لا يستمع لها، مثلما تعلم على المعلم، أو على المعلمة، لكن إذا كان يخشى استحبّ العلماءُ خفضَ الصوت: كالتلبية وأشباهها عند الأجانب، لكن التعليم غير استماع القرآن، شيء آخر.

قَالَ: وَكَانَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ يَتَتَبَّعُ الصَّوْتَ الْحَسَنَ فِي الْمَسَاجِدِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أبي حنيفة وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ بِالْأَلْحَانِ.

وَقَالَ محمدُ بن عبدالحكم: رَأَيْتُ أَبِي، وَالشَّافِعِيَّ، ويوسف بن عمر يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ بِالْأَلْحَانِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ.

قَالَ الْمُجَوِّزُونَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ جَرِيرٍ- الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ تَحْسِينُ الصَّوْتِ وَالْغِنَاءُ الْمَعْقُولُ الَّذِي هُوَ تَحْزِينُ الْقَارِئِ سَامِعَ قِرَاءَتِهِ، كَمَا أَنَّ الْغِنَاءَ بِالشِّعْرِ هُوَ الْغِنَاءُ الْمَعْقُولُ الَّذِي يُطْرِبُ سَامِعَهُ: مَا رَوَى سفيان، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أبي سلمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ التَّرَنُّمِ بِالْقُرْآنِ، وَمَعْقُولٌ عِنْدَ ذَوِي الْحِجَا أَنَّ التَّرَنُّمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالصَّوْتِ إِذَا حَسَّنَهُ الْمُتَرَنِّمُ وَطَرَّبَ بِهِ.

وَرُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَبْيَنِ الْبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا.

قَالَ: وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ -يَعْنِي: يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ غَيْرِهِ- لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ حُسْنِ الصَّوْتِ وَالْجَهْرِ بِهِ مَعْنًى، وَالْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ التَّغَنِّيَ إِنَّمَا هُوَ الْغِنَاءُ الَّذِي هُوَ حُسْنُ الصَّوْتِ بِالتَّرْجِيعِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا كُنْتَ قَائِلَهُ إِنَّ الْغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ

قَالَ: وَأَمَّا ادِّعَاءُ الزَّاعِمِ أَنَّ "تَغَنَّيْتَ" بِمَعْنَى: اسْتَغْنَيْتَ فَاشٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا قَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ لِتَصْحِيحِ قَوْلِهِ بِقَوْلِ الأعشى:

وَكُنْتُ امْرَءًا زَمَنًا بِالْعِرَاقِ عَفِيفَ الْمُنَاخِ طَوِيلَ التَّغَنْ

الشيخ: هذا محذوف الظرف، ويجوز: زمنا بالعراق عفيف المناخ ..... التَّغن يصير: فعول، فعول، فعول، فعول، يعني: متقارب، يصلح هذا وهذا، المتقارب هذا محذوف العرض، والظرف العرض ثلاث، والظرف ثلاث ..... أيضًا كامل.

ومثله:

واعجبًا كيف يُعصى الإله أو كيف يجحده الجاحدُ
فبكل شيءٍ له آية تدل على أنه واحد

هذا من المحذوف، من المتقارب المحذوف.

وَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "طَوِيلَ التَّغَنِّي" طَوِيلَ الِاسْتِغْنَاءِ، فَإِنَّهُ غَلَطٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا عَنَى الأعشى بِالتَّغَنِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْإِقَامَةَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: غَنَّى فُلَانٌ بِمَكَانِ كَذَا: إِذَا أَقَامَ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [الأعراف:92]، وَاسْتِشْهَادُهُ بِقَوْلِ الْآخَرِ:

كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ وَنَحْنُ إِذَا مِتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيَا

فَإِنَّهُ إِغْفَالٌ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّغَانِيَ تَفَاعُلٌ مِنْ "تَغَنَّى" إِذَا اسْتَغْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، كَمَا يُقَالُ: تَضَارَبَ الرَّجُلَانِ، إِذَا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَتَشَاتَمَا، وَتَقَاتَلَا.

وَمَنْ قَالَ: هَذَا فِي فِعْلِ اثْنَيْنِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي فِعْلِ الْوَاحِدِ، فَيَقُولُ: تَغَانَى زَيْدٌ، وَتَضَارَبَ عَمْرٌو. وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ: تَغَنَّى زَيْدٌ، بِمَعْنَى: اسْتَغْنَى، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَائِلُهُ أَنَّهُ أَظْهَرَ الِاسْتِغْنَاءَ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ، كَمَا يُقَالُ: تَجَلَّدَ فُلَانٌ، إِذَا أَظْهَرَ جَلَدًا مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ جَلِيدٍ، وَتَشَجَّعَ، وَتَكَرَّمَ، فَإِنْ وَجَّهَ مُوَجِّهٌ التَّغَنِّيَ بِالْقُرْآنِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى بُعْدِهِ مِنْ مَفْهُومِ كَلَامِ الْعَرَبِ، كَانَتِ الْمُصِيبَةُ فِي خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَأْذَنْ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِالْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ خِلَافَ مَا هُوَ بِهِ مِنَ الْحَالِ، وَهَذَا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ.

قَالَ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ تَأْوِيلِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يُوصَفَ أَحَدٌ بِهِ أَنَّهُ يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ أَوْ لَا يُؤْذَنُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأُذُنُ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِمَعْنَى: الْإِذْنِ الَّذِي هُوَ إِطْلَاقٌ وَإِبَاحَةٌ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ اللُّغَةِ. وَالثَّانِي: مِنْ إِحَالَةِ الْمَعْنَى عَنْ وَجْهِهِ.

أَمَّا اللُّغَةُ: فَإِنَّ الْأُذُنَ مَصْدَرُ قَوْلِهِ: أَذِنَ فُلَانٌ لِكَلَامِ فُلَانٍ، فَهُوَ يَأْذَنُ لَهُ: إِذَا اسْتَمَعَ لَهُ وَأَنْصَتَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق:2]، بِمَعْنَى: سَمِعَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّ لَهَا ذَلِكَ، كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: "إِنَّ هَمِّي فِي سَمَاعٍ وَأُذُنٍ"، بِمَعْنَى: فِي سَمَاعٍ وَاسْتِمَاعٍ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ: مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ مَا اسْتَمَعَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ.

وَأَمَّا الْإِحَالَةُ فِي الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِالْقُرْآنِ عَنِ النَّاسِ غَيْرُ جَائِزٍ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَسْمُوعٌ وَمَأْذُونٌ لَهُ. انْتَهَى كَلَامُ الطَّبَرِيِّ.

س: .............؟

ج: الإنسان ينظر إلى مصلحته التي يستفيد فيها، ما دام مسجدًا تُقام فيه الصلاة فينظر، بعضُ أهل العلم كره أن ..... إذا كان يتعطل فيه، ولكن في الغالب ما تتعطل القراءة، ولا تتعطل الصلاة فيه، إلا لو كان يتعطل المسجدُ، هذا محل نظرٍ، وإذا كان لا تتعطل الصلاة .....، ولكنه يلتمس إمامًا يخشع لقراءته، ويستفيد من قراءته، فلا حرج في ذلك، ولو كان بعيدًا عن مكانه؛ لأنَّ المقصود الفائدة.

قَالَ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ بَطَّالٍ: وَقَدْ وَقَعَ الْإِشْكَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَتَغَنَّوْا بِهِ وَاكْتُبُوهُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الْمَخَاضِ مِنَ الْعُقْلِ.

قَالَ: وَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ قَالَ: ذُكِرَ لِأَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ تَأْوِيلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ: يَسْتَغْنِي بِهِ، فَقَالَ: لَمْ يَصْنَعِ ابْنُ عُيَيْنَةَ شَيْئًا، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عطاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَتْ لِدَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ مِعْزَفَةٌ يَتَغَنَّى عَلَيْهَا، يَبْكِي وَيُبْكِي.

الشيخ: هذا لا يصحّ، ولا يُعول عليه؛ لأنَّ أخبار داود عليه الصلاة والسلام لا تُتلقَّى عن مثل هؤلاء، بينهم وبين داود آلاف السنين، وكونه له معزفة هذا شيء لا وجهَ له، بل كان عليه الصلاة والسلام حسن الصوت بالقراءة، كان إذا قرأ الزبورَ له صوت عظيم بالزبور؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ في قراءة أبي موسى: لقد أُوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود يعني: صوتًا حسنًا، جميلًا، عظيمًا، من جنس صوت آل داود.

قَالَ: ذُكِرَ لِأَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ تَأْوِيلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ: يَسْتَغْنِي بِهِ، فَقَالَ: لَمْ يَصْنَعِ ابْنُ عُيَيْنَةَ شَيْئًا، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عطاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ.

الشيخ: عبيد بن عمير تابعي، حتى لو كان صحابي؛ لأنَّ هذا لا يثبت إلا عن النبي ﷺ، لا تُتلقى أخبارُ الأنبياء الماضين إلا من طريق النبي عليه الصلاة والسلام، أو من طريق القرآن، فعبيد بن عمير تابعي، وبينه وبين داود مسافات طويلة، فلا يُلتفت إليه، ينبغي أن يُعلق عليه، ما علَّق عليه شعيب؟

الطالب: ما عليه شيء.

الشيخ: أما السند فلا بأس به عن عبيد، فأبو شبّة ثقة، وأبو عاصم ثقة، يحتمل أنه أيضًا دلَّسه ابنُ جريج، لكن الغالب على رواية ابن جريج عن عطاء لا بأس بها؛ لأنه يُحدث عن عطاء ما سمع من عطاء، لكن رواية التَّابعين ورواية الصحابة عن الماضين لا يُعتمد عليها؛ لأنَّ أخبار الماضين من الأمم والأنبياء إنما تثبت من طريق النبي ﷺ، أو من طريق القرآن.

قَالَ: كَانَتْ لِدَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ مِعْزَفَةٌ يَتَغَنَّى عَلَيْهَا، يَبْكِي وَيُبْكِي.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بِسَبْعِينَ لَحْنًا تَكُونُ فِيهِنَّ، وَيَقْرَأُ قِرَاءَةً يُطْرِبُ مِنْهَا الْجُمُوعَ.

وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ تَأْوِيلِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذَا، لَوْ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِغْنَاءَ لَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ"، وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ: "يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ" عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّغَنِّيَ.

قَالُوا: وَلِأَنَّ تَزْيِينَهُ وَتَحْسِينَ الصَّوْتِ بِهِ وَالتَّطْرِيبَ بِقِرَاءَتِهِ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ، وَأَدْعَى إِلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، فَفِيهِ تَنْفِيذٌ لِلَفْظِهِ إِلَى الْأَسْمَاعِ، وَمَعَانِيهِ إِلَى الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَلَاوَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ لِتُنْفِذَهُ إِلَى مَوْضِعِ الدَّاءِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْأَفَاوِيهِ وَالطِّيبِ الَّذِي يُجْعَلُ فِي الطَّعَامِ؛ لِتَكُونَ الطَّبِيعَةُ أَدْعَى لَهُ قَبُولًا، وَبِمَنْزِلَةِ الطِّيبِ وَالتَّحَلِّي وَتَجَمُّلِ الْمَرْأَةِ لِبَعْلِهَا؛ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى مَقَاصِدِ النِّكَاحِ.

قَالُوا: وَلَا بُدَّ لِلنَّفْسِ مِنْ طَرَبٍ وَاشْتِيَاقٍ إِلَى الْغِنَاءِ، فَعُوِّضَتْ عَنْ طَرَبِ الْغِنَاءِ بِطَرَبِ الْقُرْآنِ، كَمَا عُوِّضَتْ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ وَمَكْرُوهٍ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْهُ، وَكَمَا عُوِّضَتْ عَنْ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ بِالِاسْتِخَارَةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ، وَعَنِ السِّفَاحِ بِالنِّكَاحِ، وَعَنِ الْقِمَارِ بِالْمُرَاهَنَةِ بِالنِّصَالِ، وَسِبَاقِ الْخَيْلِ، وَعَنِ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ بِالسَّمَاعِ الرَّحْمَانِيِّ الْقُرْآنِيِّ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

الشيخ: لأنَّ الله إذا حرَّم شيئًا عوَّض عبادَه ما يُغنيهم عنه، إذا حرَّم على عباده شيئًا عوَّضهم عنه ما يُغنيهم عن ذلك، فعوَّضهم عن المكاء والتَّصدية وسماع آلات الملاهي بما شرع الله لهم من التَّغني بالقرآن وتحسين الصوت به، وبالأذكار الشرعية، وبما شرع في الإعداد بالجهاد من المراهنات المنكرة المحرَّمة والقمار، شرع لهم ما يتعلق بالمسابقة الشَّرعية بالسِّهام والإبل والخيل، إلى غير ذلك، نعم.

قَالُوا: وَالْمُحَرَّمُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ خَالِصَةٍ، وَقِرَاءَةُ التَّطْرِيبِ وَالْأَلْحَانِ لَا تَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا لَا تُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ وَضْعِهِ، وَلَا تَحُولُ بَيْنَ السَّامِعِ وَبَيْنَ فَهْمِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً لِزِيَادَةِ الْحُرُوفِ كَمَا ظَنَّ الْمَانِعُ مِنْهَا لَأَخْرَجَتِ الْكَلِمَةَ عَنْ مَوْضِعِهَا، وَحَالَتْ بَيْنَ السَّامِعِ وَبَيْنَ فَهْمِهَا، وَلَمْ يَدْرِ مَا مَعْنَاهَا، وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

الشيخ: ..... تحسين الصوت بالقرآن والتَّطريب به ما يتضمن زيادة، يأتي بالكلمة على حالها، والآيات على حالها بدون زيادة حروفٍ، ولكن بتحسين الصوت والتَّحزن والخشوع والبكاء.

قَالُوا: وَهَذَا التَّطْرِيبُ وَالتَّلْحِينُ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَتَارَةً يَكُونُ سَلِيقَةً وَطَبِيعَةً، وَتَارَةً يَكُونُ تَكَلُّفًا وَتَعَمُّلًا، وَكَيْفِيَّاتُ الْأَدَاءِ لَا تُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ وَضْعِ مُفْرَدَاتِهِ، بَلْ هِيَ صِفَاتٌ لِصَوْتِ الْمُؤَدِّي، جَارِيَةٌ مَجْرَى تَرْقِيقِهِ وَتَفْخِيمِهِ وَإِمَالَتِهِ، وَجَارِيَةٌ مَجْرَى مُدُودِ الْقُرَّاءِ الطَّوِيلَةِ وَالْمُتَوَسِّطَةِ، لَكِنَّ تِلْكَ الْكَيْفِيَّاتِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْحُرُوفِ، وَكَيْفِيَّاتُ الْأَلْحَانِ وَالتَّطْرِيبِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَصْوَاتِ وَالْآثَارِ فِي هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ، لَا يُمْكِنُ نَقْلُهَا، بِخِلَافِ كَيْفِيَّاتِ أَدَاءِ الْحُرُوفِ؛ فَلِهَذَا نُقِلَتْ تِلْكَ بِأَلْفَاظِهَا، وَلَمْ يُمْكِنْ نَقْلُ هَذِهِ بِأَلْفَاظِهَا، بَلْ نُقِلَ مِنْهَا مَا أَمْكَنَ نَقْلُهُ: كَتَرْجِيعِ النَّبِيِّ ﷺ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ: "آآآ".

قَالُوا: وَالتَّطْرِيبُ وَالتَّلْحِينُ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرَيْنِ: مَدٍّ، وَتَرْجِيعٍ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَمُدُّ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ، يَمُدُّ "الرَّحْمَنَ"، وَيَمُدُّ "الرَّحِيمَ"، وَثَبَتَ عَنْهُ التَّرْجِيعُ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ ذَلِكَ: الْحُجَّةُ لَنَا مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: مَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: اقْرَأُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا، وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْفِسْقِ، فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ مِنْ بَعْدِي أَقْوَامٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، مَفْتُونَةً قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ.

رَوَاهُ أبو الحسن رزين فِي "تَجْرِيدِ الصِّحَاحِ"، وَرَوَاهُ أَبُو عَبْدِاللَّهِ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي "نَوَادِرِ الْأُصُولِ".

وَاحْتَجَّ بِهِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي "الْجَامِعِ"، وَاحْتَجَّ مَعَهُ بِحَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّهُ ﷺ ذَكَرَ شَرَائِطَ السَّاعَةِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْهَا: أَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ، يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لَيْسَ بِأَقْرَئِهِمْ، وَلَا أَفْضَلِهِمْ، مَا يُقَدِّمُونَهُ إِلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ غِنَاءً.

قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ زياد النَّهدي إِلَى أنسٍ مَعَ الْقُرَّاءِ، فَقِيلَ لَهُ: اقْرَأْ، فَرَفَعَ صَوْتَهُ وَطَرِبَ، وَكَانَ رَفِيعَ الصَّوْتِ، فَكَشَفَ أنسٌ عَنْ وَجْهِهِ -وَكَانَ عَلَى وَجْهِهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ- وَقَالَ: "يَا هَذَا، مَا هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ"، وَكَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ رَفَعَ الْخِرْقَةَ عَنْ وَجْهِهِ.

قَالُوا: وَقَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤَذِّنَ الْمُطْرِبَ فِي أَذَانِهِ مِنَ التَّطْرِيبِ، كَمَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عطاء، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُؤَذِّنٌ يُطْرِبُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ، فَإِنْ كَانَ أَذَانُكَ سَهْلًا سَمْحًا، وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

وَرَوَى عَبْدُالْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ قتادة، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمَدَّ، لَيْسَ فِيهَا تَرْجِيعٌ".

قَالُوا: وَالتَّرْجِيعُ وَالتَّطْرِيبُ يَتَضَمَّنُ هَمْزَ مَا لَيْسَ بِمَهْمُوزٍ، وَمَدَّ مَا لَيْسَ بِمَمْدُودٍ، وَتَرْجِيعَ الْأَلِفِ الْوَاحِدِ أَلِفَاتٍ، وَالْوَاوِ وَاوَاتٍ، وَالْيَاءِ يَاءَاتٍ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.

قَالُوا: وَلَا حَدَّ لِمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهُ، فَإِنْ حُدَّ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ كَانَ تَحَكُّمًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَدِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يُحَدَّ بِحَدٍّ أَفْضَى إِلَى أَنْ يُطْلَقَ لِفَاعِلِهِ تَرْدِيدُ الْأَصْوَاتِ وَكَثْرَةُ التَّرْجِيعَاتِ، وَالتَّنْوِيعُ فِي أَصْنَافِ الْإِيقَاعَاتِ وَالْأَلْحَانِ الْمُشْبِهَةِ لِلْغِنَاءِ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْغِنَاءِ بِالْأَبْيَاتِ، وَكَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ أَمَامَ الْجَنَائِزِ، وَيَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ قُرَّاءِ الْأَصْوَاتِ مِمَّا يَتَضَمَّنُ تَغْيِيرَ كِتَابِ اللَّهِ وَالْغِنَاءَ بِهِ عَلَى نَحْوِ أَلْحَانِ الشِّعْرِ وَالْغِنَاءِ، وَيُوقِعُونَ الْإِيقَاعَاتِ عَلَيْهِ مِثْلَ الْغِنَاءِ سَوَاء؛ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَتَلَاعُبًا بِالْقُرْآنِ، وَرُكُونًا إِلَى تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّطْرِيبَ وَالتَّلْحِينَ ذَرِيعَةٌ مُفْضِيَةٌ إِلَى هَذَا إِفْضَاءً قَرِيبًا، فَالْمَنْعُ مِنْهُ كَالْمَنْعِ مِنَ الذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْحَرَامِ.

فَهَذَا نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ، وَمُنْتَهَى احْتِجَاجِ الطَّائِفَتَيْنِ.

س: .............؟

ج: إقدام: "نهاية إقدام العقول عقال"، المصدر أقدم.

س: .............؟

ج: لو حُمل على إقدامٍ له وجه، تشبيه ..... للمضي والبحث والسير، لكن الأظهر أنَّ المراد إقدام؛ لأنَّ المقام مقام إقدام.

س: الترجيع ظاهره تكرار المدّ ثلاث مرات؟

ج: الترجيع ترداد الكلمة أو الكلمات أو الآية، وتأتي بقية البحث.

وَفَصْلُ النِّزَاعِ أَنْ يُقَالَ: التَّطْرِيبُ وَالتَّغَنِّي عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا اقْتَضَتْهُ الطَّبِيعَةُ وَسَمَحَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَمْرِينٍ وَلَا تَعْلِيمٍ، بَلْ إِذَا خُلِّيَ وَطَبْعَهُ وَاسْتَرْسَلَتْ طَبِيعَتُهُ جَاءَتْ بِذَلِكَ التَّطْرِيبِ وَالتَّلْحِينِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ أَعَانَ طَبِيعَتَهُ بِفَضْلِ تَزْيِينٍ وَتَحْسِينٍ، كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِلنَّبِيِّ ﷺ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا.

وَالْحَزِينُ وَمَنْ هَاجَهُ الطَّرَبُ وَالْحُبُّ وَالشَّوْقُ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ دَفْعَ التَّحْزِينِ وَالتَّطْرِيبِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَقْبَلُهُ وَتَسْتَحْلِيهِ لِمُوَافَقَتِهِ الطَّبْعَ، وَعَدَمِ التَّكَلُّفِ وَالتَّصَنُّعِ فِيهِ، فَهُوَ مَطْبُوعٌ لَا مُتَطَبَّعٌ، وَكَلَفٌ لَا مُتَكَلَّفٌ.

فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَهُ وَيَسْتَمِعُونَهُ، وَهُوَ التَّغَنِّي الْمَمْدُوحُ الْمَحْمُودُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَأَثَّرُ بِهِ التَّالِي وَالسَّامِعُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تُحْمَلُ أَدِلَّةُ أَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ كُلُّهَا.

الشيخ: هذا واضح؛ فإن تحسين الصوت بالقراءة والتَّحزن بالقراءة وتحدير القراءة حتى تخشع لها النفوس، وحتى ترتاح لها القلوب، وحتى يتأثر بها القارئ والمستمع، هذا هو المطلوب، مثلما قال أبو موسى، لما قال له النبيُّ ﷺ: استمعتُ لقراءتك، وقال للناس: لقد أُوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود، قال: لو كنتُ أعلم أنك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا. يعني: حسَّنته لك تحسينًا أكثر.

وهكذا في الحديث الصحيح: ليس منا مَن لم يتغنَّ بالقرآن، يجهر به، وفي حديث: ما أذن الله لشيءٍ أذنه لنبيٍّ حسن الصوت بالقرآن يجهر به.

كل هذا يدل على تحسين الصوت، والعناية بالقراءة، وإعطاء الحروف حقَّها، من غير رياءٍ، ولا سمعةٍ، ولا تكلُّفٍ زائدٍ يُخرج الحروف عن معناها، وعن حدِّها، فهذا هو المطلوب، وهذا هو المسنون أن يجتهد به المؤمن، وأن يُحسن صوته ويُحبره؛ حتى يخشع، ويخشع لقراءته غيره، فأما الزيادات التي تُسمَّى: التلحين، الزيادات الزائدة على القدر المشروع هذا هو الذي كرهه السَّلف.

الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ صِنَاعَةً مِنَ الصَّنَائِعِ، وَلَيْسَ فِي الطَّبْعِ السَّمَاحَةُ بِهِ، بَلْ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ وَتَصَنُّعٍ وَتَمَرُّنٍ، كَمَا يُتَعَلَّمُ أَصْوَاتُ الْغِنَاءِ بِأَنْوَاعِ الْأَلْحَانِ الْبَسِيطَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ عَلَى إِيقَاعَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَأَوْزَانٍ مُخْتَرَعَةٍ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّكَلُّفِ، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي كَرِهَهَا السَّلَفُ وَعَابُوهَا وَذَمُّوهَا وَمَنَعُوا الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَرَأَ بِهَا. وَأَدِلَّةُ أَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا تَتَنَاوَلُ هَذَا الْوَجْهَ.

وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ، وَيَتَبَيَّنُ الصَّوَابُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ السَّلَفِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِأَلْحَانِ الْمُوسِيقَى الْمُتَكَلَّفَةِ الَّتِي هِيَ إِيقَاعَاتٌ وَحَرَكَاتٌ مَوْزُونَةٌ مَعْدُودَةٌ مَحْدُودَةٌ، وَأَنَّهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَقْرَأُوا بِهَا وَيُسَوِّغُوهَا، وَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَأُونَ بِالتَّحْزِينِ وَالتَّطْرِيبِ، وَيُحَسِّنُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَيَقْرَأُونَهُ بِشَجًى تَارَةً، وَبِطَرَبٍ تَارَةً، وَبِشَوْقٍ تَارَةً، وَهَذَا أَمْرٌ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ تَقَاضِيهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ الشَّارِعُ مَعَ شِدَّةِ تَقَاضِي الطِّبَاعِ لَهُ، بَلْ أَرْشَدَ إِلَيْهِ وَنَدَبَ إِلَيْهِ وَأَخْبَرَ عَنِ اسْتِمَاعِ اللَّهِ لِمَنْ قَرَأَ بِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْوَاقِعِ الَّذِي كُلُّنَا نَفْعَلُهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفْيٌ لِهَدْيِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ عَنْ هَدْيِهِ وَطَرِيقَتِهِ ﷺ.

الشيخ: وهذا هو ..... نفي وحثّ: ليس منا فيه الحثّ والتَّحريض على العناية بالقراءة، وتحسين الصوت بها، والحرص على الجهر بها جهرًا ينفع الناس، ولا يضرّ أحدًا، وهو تحسين وتحبير وتزيين للصوت بالقرآن، وجهر به لمن يستمع له، أو للشخص نفسه إذا استلذَّ ذلك، ورأى المصلحةَ في ذلك؛ ولهذا قالت عائشةُ: "ربما جهر، وربما أسرَّ" عليه الصلاة والسلام، وجاء في قصة أبي بكر وعمر، وقال للصديق: ارفع شيئًا، ولعمر: اخفض شيئًا، وأمر مَن كانوا يُصلون جميعًا أن لا يُؤذي بعضُهم بعضًا، وألا يجهر بعضُهم على بعضٍ.

س: .............؟

ج: ..... حذرًا من الزيادات التي فيها، والتلحين والزيادة الممقوتة، فهذا من القرَّاء من باب ضبط ..... المدود بين ستٍّ وأربعٍ وثنتين ليس داخلًا فيما ذكره المؤلف.

س: .............؟

ج: يخشى، يخشى أن يكون داخلًا ما دام .....، وينبغي له أن يُلاحظ، أما الشيء ما يتعمده، ولكن من جهة عنايته بالمدود، وعنايته بتحسين الصوت، والخشوع، والتَّحزن، قد يزيد، وقد ..... ما يضرّه ذلك إذا كان ليس عن رياءٍ، ولا عن تلاعبٍ.