068 فصل في سجود الشكر من عادة الصحابة

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدْفَعُهُ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: يُجْزِئُكَ، وَالْإِجْزَاءُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْعَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، إِذِ الشَّارِعُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْقُرَبِ، وَنَذْرُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ.

قِيلَ: أَمَّا قَوْلُهُ: يُجْزِئُكَ فَهُوَ بِمَعْنَى: يَكْفِيكَ، فَهُوَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَلَيْسَ مِنْ "جَزَى عَنْهُ" إِذَا قَضَى عَنْهُ، يُقَالُ: أَجْزَأَنِي: إِذَا كَفَانِي، وَجَزَى عَنِّي: إِذَا قَضَى عَنِّي، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ﷺ لأبي بردة فِي الْأُضْحِيَّةِ: تَجْزِي عَنْكَ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ، وَالْكِفَايَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ.

وَأَمَّا مَنْعُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ: فَهُوَ إِشَارَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ بِالْأَرْفَقِ بِهِ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مَنْفَعَةُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَإِنَّهُ لَوْ مَكَّنَهُ مِنْ إِخْرَاجِ مَالِهِ كُلِّهِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْفَقْرِ وَالْعَدَمِ، كَمَا فَعَلَ بِالَّذِي جَاءَهُ بِالصُّرَّةِ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا، فَضَرَبَهُ بِهَا وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ؛ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الْفَقْرِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ.

وَقَدْ يُقَالُ -وَهُوَ أَرْجَحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَامَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَرَادَ الصَّدَقَةَ بِمَالِهِ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ، فَمَكَّنَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ مِنْ إِخْرَاجِ مَالِهِ كُلِّهِ، وَقَالَ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّ عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ بِشَطْرِ مَالِهِ، وَمَنَعَ صَاحِبَ الصُّرَّةِ مِنَ التَّصَدُّقِ بِهَا، وَقَالَ لِكَعْبٍ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ الْمُخْرَجِ بِأَنَّهُ الثُّلُثُ، وَيَبْعُدُ جِدًّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُمْسَكُ ضِعْفَيِ الْمُخْرَجِ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ لأبي لبابة: يُجْزِئُكَ الثُّلُثُ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ.

وَعَلَى هَذَا فَمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَمْسَكَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَأَهْلُهُ، وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إِلَى سُؤَالِ النَّاسِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ، مِنْ رَأْسِ مَالٍ، أَوْ عَقَارٍ، أَوْ أَرْضٍ يَقُومُ مَغَلُّهَا بِكِفَايَتِهِمْ، وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: الأقرب والله أعلم في هذا كله ما أشار إليه المؤلفُ، وأنَّ الرسول ﷺ إنما خاطبهم بما فيه الرفق بهم، فللإنسان أن يتصدق بماله إذا كان عنده قُدرة وقُوة، كما فعل الصديقُ، وله أن يتصدق بالشَّطر، وله أن يتصدق بالثلث، فلا حجرَ على الإنسان ما دام أنه رشيد، ولكن ينبغي للمؤمن إذا أراد أن يتصدق أن ينظر ما هو الأرفق به، فيدع لنفسه بعض الشيء، ولا يتصدق بكل شيءٍ فيحتاج إلى الناس، فهذا من باب المشورة، من باب الرفق بالناس، فلا يتحدد بحدٍّ محدود؛ ولهذا قال في "الصحيحين" لكعبٍ: أمسك عليك بعض مالك يعني: الذي يقوم بحاله: ربعه، ثلثه، خمسه، الذي يحصل به المقصود، وقال لأبي لبابة: يجزيك الثلث، دلَّ على أنه إذا أراد الصَّدقة بماله يكفيه الثلث، يجزيه، وإن تصدَّق بأكثر فلا بأس، لكن يُجزئه الثلث، وقال لسعدٍ: الثلث، والثلث كثير لما أراد الوصية بأكثر.

هذا من رحمة الله، ومن إحسانه إلى عباده، فالواجب على المتصدق أن ينظر في الأمر، وأن يتحرى في صدقته وما يُنفقه حتى لا يضرَّ نفسه، ولا يضرّ من تحت يده، وحتى لا يحتاج إلى سؤال الناس، أو الرجوع في الهبة، أو الصَّدقة، فأحسن ما يُقال في هذا مثلما أشار إلى هذا، وهو أنَّ هذا من باب الحثِّ للمُتصدق على أن يرفق بنفسه، وأن يرعى نفسه، وألا يتصدق إلا بالشيء الذي لا يشقّ عليه، فإن رأى الثلث فلا بأس، وإن رأى أكثر من الثلث فلا بأس: أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك.

أما الوصية لا، لا بدَّ الثلث فقط، ليس له أن يُوصي بأكثر من الثلث؛ لأنَّ الرسول منع من الزيادة، أما الصَّدقة: الحي كونه يتصدق من ماله وهو حي، إن تصدق بالثلث أو بالربع أو بالخمس أو بأكثر من ذلك وترك لنفسه وأهل بيته ما يقوم بحالهم فالحمد لله.

س: ...............؟

ج: يكفيه الثلث مثلما قال لأبي لبابة، يُجزئه الثلث، يقوم مقامه الثلث، مثل: الذي أوصى بكل ماله يكفيه الثلث، لو أوصى بكل ماله لا يُعطى ولا يُنفذ إلا الثلث.

س: ...............؟

ج: يحتاج إلى نظرٍ في صحة الحديث، علَّق عليه؟

الطالب: أخرجه أبو داود من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله ﷺ إذ جاءه رجلٌ بمثل بيضةٍ من ذهبٍ، فقال: يا رسول الله، أصبتُ هذه من معدنٍ، فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسولُ الله ﷺ، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رسولُ الله ﷺ، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسولُ الله ﷺ فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته، أو لعقرته، فقال رسولُ الله ﷺ: يأتي أحدُكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يستكفّ الناس، خير الصَّدقة ما كان عن ظهر غنًى، ورجاله ثقات، وفي الباب عن أبي هريرة ، خير الصدقة.

الشيخ: في صحة هذا نظر، في متنه نكارة وغرابة؛ لأنَّ هذا يُنافي خلقه المعروف عليه الصلاة والسلام، إنسان جاء يريد الصَّدقة بماله: هذا أصبته من معدنٍ، ثم يُعرض عنه هذا الإعراض كله! ثم يرميه بذلك! هذا محل نظرٍ، ولو قال: رجاله مُوثقون، يحتاج إلى نظرٍ، الذي يظهر أنه شاذٌّ، وأنه منكر المتن، ثم هو يُخالف الأحاديث الصَّحيحة التي قال فيها ﷺ لكعب: أمسك عليك بعض مالك، ولا شدد عليه، وقال لأبي لبابة: يُجزئك الثلث، وشجع أبا بكر على إنفاق ماله كله وقال: ماذا أبقيتَ لأهلك؟ قال: أبقيتُ لهم الله ورسوله. كيف يليق بهذا الجناب أن يفعل هذا مع الذي جاء بصدقةٍ من ذهبٍ مثل البيضة؟! هذا ما يليق بأخلاقه أبدًا، وأن هذا منكر المتن، غير صحيحٍ.

س: ...............؟

ج: محمد بن إسحاق هذا مُدلس، إذا قال: "عن" ما يُقبل، هذا من دلائل ضعفه، وأنه غير صحيح، يمكن نقله ابن إسحاق عن بعض الوضَّاعين والكذَّابين.

س: ...............؟

ج: نعم، لا شكَّ أنه ضعيف، كلهم ثقات إلا عنعنة ابن إسحاق، وحماد بن سلمة له أوهام، الظاهر له أوهام، له أغلاط، لكن الغالب أنه من جهة محمد بن إسحاق، لعله نقله عمَّن لا يُعتمد عليه، أو عن بعض الوضَّاعين.

س: ..............؟

ج: عاصم بن ..... لا بأس به، ثقة.

س: ..............؟

ج: إما ضعيف، وإما شاذّ مخالفٌ للأحاديث الصَّحيحة لو صحَّ سنده، يقول الحافظ ابن حجر: وأهل المصطلح إذا خُولف الحديث الصحيح بغيره، فالراجح المحفوظ، والمقابل هو الشَّاذ، فإن خالف بأرجح، فالراجح المحفوظ، والمقابل هو الشَّاذ، ولو كانت أسانيده صحيحةً.

وَقَالَ رَبِيعَةُ ابْنُ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ: يَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ، وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ.

الشيخ: وهذا أيضًا ضعيف، تحجر لما وسَّع الله، الزكاة واجبة، هو يريد فوق الزكاة، يريد شيئًا فوق الزكاة.

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ فَأَكْثَرَ أَخْرَجَ عُشُرَهُ، وَإِنْ كَانَ أَلْفًا فَمَا دُونَ فَسُبُعَهُ، وَإِنْ كَانَ خَمْسَمِئَةٍ فَمَا دُونَ فَخُمُسَهُ.

الشيخ: هذا من كيسه، هذا الكلام من كيسه، ما له وجه .....

............

وَقَالَ أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: يَتَصَدَّقُ بِكُلِّ مَالِهِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: يُخْرِجُهُ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ شَيْءٌ.

الشيخ: وهذا أيضًا أعجب وأعجب.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِمَالِهِ كُلِّهِ. وَقَالَ مالكٌ وَالزُّهْرِيُّ وأحمد: يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ.

الشيخ: وهذا هو الأظهر، الثلث يُجزئ والحمد لله كما تقدم في حديث أبي لبابة، وكما يشهد له حديث سعدٍ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ.

............

فَصْلٌ

وَمِنْهَا: عِظَمُ مِقْدَارِ الصِّدْقِ، وَتَعْلِيقُ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ شَرِّهِمَا بِهِ، فَمَا أَنْجَى اللَّهُ مَنْ أَنْجَاهُ إِلَّا بِالصِّدْقِ.

الشيخ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، ويقول جلَّ وعلا في آخر المائدة: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [المائدة:119].

وَمِنْهَا: عِظَمُ مِقْدَارِ الصِّدْقِ، وَتَعْلِيقُ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ شَرِّهِمَا بِهِ، فَمَا أَنْجَى اللَّهُ مَنْ أَنْجَاهُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا أَهْلَكَ مَنْ أَهْلَكَهُ إِلَّا بِالْكَذِبِ.

الشيخ: لأنَّ الثلاثة صدقوا: كعب وصاحباه صدقوا، قالوا: ما لنا عذر، فهُجروا، ثم تاب الله عليهم، والأعراب المتخلِّفون كذبوا فغضب الله عليهم، نسأل الله العافية.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

وَقَدْ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْخَلْقَ إِلَى قِسْمَيْنِ: سُعَدَاءَ، وَأَشْقِيَاءَ، فَجَعَلَ السُّعَدَاءَ هُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْأَشْقِيَاءَ هُمْ أَهْلَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ؛ فَالسَّعَادَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالشَّقَاوَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ.

وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا صِدْقُهُمْ، وَجَعَلَ عَلَمَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ هُوَ الْكَذِبَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَجَمِيعُ مَا نَعَاهُ عَلَيْهِمْ أَصْلُهُ الْكَذِبُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَالصِّدْقُ بَرِيدُ الْإِيمَانِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقُهُ وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ، بَلْ هُوَ لُبُّهُ وَرُوحُهُ.

وَالْكَذِبُ: بَرِيدُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقُهُ وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ وَلُبُّهُ، فَمُضَادَّةُ الْكَذِبِ لِلْإِيمَانِ كَمُضَادَّةِ الشِّرْكِ لِلتَّوْحِيدِ.

الشيخ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105].

فَلَا يَجْتَمِعُ الْكَذِبُ وَالْإِيمَانُ إِلَّا وَيَطْرُدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَيَسْتَقِرُّ مَوْضِعَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْجَى الثَّلَاثَةَ بِصِدْقِهِمْ، وَأَهْلَكَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ بِكَذِبِهِمْ، فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِنِعْمَةٍ أَفْضَلَ مِنَ الصِّدْقِ الَّذِي هُوَ غِذَاءُ الْإِسْلَامِ وَحَيَاتُهُ، وَلَا ابْتَلَاهُ بِبَلِيَّةٍ أَعْظَمَ مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ مَرَضُ الْإِسْلَامِ وَفَسَادُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

س: ...............؟

ج: يعني الإيمان المطلق والكذب المطلق؛ لأنَّ الكذَّاب ينفي الإيمان، ويبطل الإيمان، ككذب المنافقين، يعني: الكذب المطلق هو ضد الإيمان، والمنافقون قالوا: آمنا، وهم يكذبون، ما يجتمعان، هذا مقصوده، مقصوده كذب مُطلق، وإيمان مطلق، وإلا قد يكذب الإنسانُ وهو مسلم، ولكن كذب مطلق وإيمان مطلق لا يجتمعان؛ لأنَّ الكذب المطلق يُبطل الإيمان، إذا قالوا: "آمنا" وهم كاذبون، فإيمانهم باطل، هذا إيمان المنافقين.

س: ...............؟

ج: يُنفى عنه كمال الإيمان، إذا كان معه التوحيد والإيمان فمعه كمال الإيمان، أما إذا كان معه النِّفاق فهذا ضدّ الإيمان، أما الكذب الذي يقع بين الناس: كذب على زيد، وعلى عمرو، هذا من ضعف إيمانه، ومن جملة المعاصي، ومن خصال أهل النِّفاق.

س: ...............؟

ج: يعني النِّفاق العملي.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117]، هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعَرِّفُ الْعَبْدَ قَدْرَ التَّوْبَةِ وَفَضْلَهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهَا غَايَةُ كَمَالِ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُمْ هَذَا الْكَمَالَ بَعْدَ آخِرِ الْغَزَوَاتِ، بَعْدَ أَنْ قَضَوْا نَحْبَهُمْ، وَبَذَلُوا نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ لِلَّهِ، وَكَانَ غَايَة أَمْرِهِمْ أَنْ تَابَ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ تَوْبَةِ كَعْبٍ خَيْرَ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْهِ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا حَقَّ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ اللَّهَ، وَعَرَفَ حُقُوقَهُ عَلَيْهِ، وَعَرَفَ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَعَرَفَ نَفْسَهُ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا، وَأَنَّ الَّذِي قَامَ بِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ، هَذَا إِذَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسَعُ عِبَادَهُ غَيْرُ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَتَغَمُّدِهِ لَهُمْ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ أَوِ الْهَلَاكَ، فَإِنْ وَضَعَ عَلَيْهِمْ عَدْلَهُ فَعَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَإِنْ رَحِمَهُمْ فَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يُنْجِي أَحَدًا مِنْهُمْ عَمَلُهُ.

الشيخ: ..... لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [التوبة:117] بعد أعمالهم العظيمة، وصُحبتهم العظيمة، وجهادهم العظيم في ساعة العسرة تأتي التوبةُ العظيمة الكاملة بعد غزوة تبوك، هذا يدل على أنَّ الإنسان قد تكون عنده هفوات، وعنده قصور، وعنده سيئات، لكن الله جعل هذا العمل الصَّالح في غزوة تبوك وساعة العسرة، جعل اللهُ صدقَهم وإخلاصَهم وصبرَهم جعله مُكفِّرًا لجميع سيئاتهم، وسببًا لتوبة الله عليهم من جميع الذُّنوب.

............

الشيخ: نعم، التورية محل تفصيلٍ: إن كان في نفاقٍ فهو عمل منافق، وإن كان في أمورٍ مباحةٍ فسهلة، الأمور التي يضرّ بها أحدًا هذا من عمل المنافقين، إذا كانت التَّوريةُ تتضمن الكذب.

فَصْلٌ

وَتَأَمَّلْ تَكْرِيرَهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ، فَلَمَّا تَابُوا تَابَ عَلَيْهِمْ ثَانِيًا بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِفِعْلِهَا، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِهَا، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ وَفِي يَدَيْهِ، يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ إِحْسَانًا وَفَضْلًا، وَيَحْرِمُهُ مَنْ يَشَاءُ حِكْمَةً وَعَدْلًا.

فَصْلٌ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118] قَدْ فَسَّرَهَا كعبٌ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ خُلِّفُوا مِنْ بَيْنِ مَنْ حَلَفَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَاعْتَذَرَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ، فَخَلَّفَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ عَنْهُمْ، وَأَرْجَأَ أَمْرَهُمْ دُونَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَخَلُّفَهُمْ عَنِ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ: تَخَلَّفُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة:120]؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَخَلَّفُوا بِأَنْفُسِهِمْ، بِخِلَافِ تَخْلِيفِهِمْ عَنْ أَمْرِ الْمُتَخَلِّفِينَ سِوَاهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَّفَهُمْ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

............

الشيخ: هذه أمور عادية، ما عليها .....، أمور عادية ما فيها حيلة للتَّخلص منها، ولم يتعمدها، ما عليها شيء إن شاء الله، الله يجبر مُصيبتها ويُعطيها خيرًا منه...