قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة:68، 69]
يقول تعالى: قل يا محمد يا أهل الكتاب لستم على شيء أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل، أي حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها، ومما فيها الأمر باتباع محمد ﷺ والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته، ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: في قوله: وما أنزل إليكم من ربكم يعني: القرآن العظيم.
الشيخ: وهذا الخطاب وإن كان موجهًا لأهل الكتاب؛ فهو أيضًا موجه لنا في المعنى كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعن به سواكم! فهم ليسوا على شيء حتى يؤمنوا بالله وما أنزله على رسله، وهكذا أمة محمد ﷺ ليست على شيء حتى تؤمن بما أنزل إليها، وحتى تستقيم على الشرع الذي جاء به نبيها، ولهذا قال سبحانه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ أي اليهود والنصارى لَسْتُمْ عَلَى شَيء أي من الدين حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
يعني حتى تعملوا بهما وتعملوا بما أنزل بعدهما وهو القرآن، وإلا فلستم على شيء، فالمعنى لو أنهم أقاموا كل شيء و......... كل شيء ولم يؤمنوا بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام لم ينفعهم ذلك، فلا بدّ من الإيمان بكل ما أنزل الله على رسله والتصديق بذلك والانقياد لذلك كما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن كذب واحدًا منهم فقد كذب الجميع، ولهذا قال جل وعلا: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105] وهم كذبوا نوحًا فقط، لكن لما كان تكذيب الواحد من الرسل تكذيبًا للجميع قال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105] وهكذا في عاد وهكذا في هود، المقصود أن الواجب على اليهود والنصارى كالواجب على غيرهم من جميع الأمم، أن يؤمنوا بالله ويوحدوه وينقادوا لشرعه ويعظموه ويستجيبوا لما جاء به النبي محمد عليه الصلاة والسلام ويلتزموا به وإلا فليسوا على شيء من الدين بل هم هالكون ضالون لكفرهم بما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام.
س: ............
وقوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا تقدم تفسيره، فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أي فلا تحزن عليهم، ولا يهيدنك ذلك منهم.
..............
ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهم المسلمون، وَالَّذِينَ هَادُوا وهم حملة التوراة، وَالصَّابِئُونَ لما طال الفصل حسن العطف بالرفع، والصابئون طائفة بين النصارى والمجوس ليس لهم دين...............
الشيخ: يعني مخلوطون جمعوا بين هذا وهذا، هذا قول فيهم، قيل أنهم طائفة ليس لها دين بالكلية، طائفة مستقلة، كما هو ظاهر القرآن، طائفة مستقلة ليس لها تعلق لا باليهودية ولا بالنصرانية ....... واحدة كالوثنية المقصود، أنها طائفة مستقلة غير اليهود وغير النصارى.
س: وقول بأنهم عباد الكواكب؟
الشيخ: وفي قول أنهم من قوم إبراهيم.
س:...........
الشيخ: قول المؤلف ليس بجيد أنهم طائفة من النصارى والمجوس، والقول الثاني أظهر أنهم طائفة مستقلة ليسوا من النصارى ولا من المجوس، وفي هذا في سورة الحج: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الحج:17] فعدهم مع الطوائف.
س............
الشيخ: لا يهم أمرهم إلا الذين آمنوا واتبعوا الرسل وصلحوا واستقاموا آمنوا سواء يعبدون الكواكب أو مستقلين بعبادة نوع من الأوثان أو غير هذا من أنواع الكفر، المهم أن من دخل في دين الله منهم أو من اليهود أو من النصارى أو من المجوس أو من الوثنين فهذا هو السعيد، ومن لم يدخل في دين الله الذي بعث به نبيه محمد ﷺ فهو الشقي من أي طائفة كان، والجزم بأنها كذا وكذا يحتاج إلى أدلة وعناية بالتاريخ ومطالعة الكتب الكثيرة.
س: في آية الحج والصابئين، وهنا والصابئون؟
الشيخ: ماشي على القاعدة في العطف؛ لأن الذين منصوب اسم إن وهذا معطوف عليه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ [الحج:17]، أما قول المؤلف لما بعد وطال الفصل حصل الرفع فيه نظر، وقال بعضهم الصائبون عطف على محل الذين لأن الذين محله رفع لولا إن لكان مرفوعًا الَّذِينَ آمَنُوا .. إلى آخره، وهذا فيه نظر، ولعل الأقرب أن يكون مبتدأ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الحج:17] لأن ....... مبتدأ، ومن آمن وما بعده خبر..........
ويحتمل ومثلهم الصابئون والنصارى من آمن، يحتمل أن هناك خبر محذوف قبل الصابئون جاء بعدها من خبر إن الذين آمنوا، والمعول على القراءة أما الإعراب شيء ثاني.
والصابئون طائفة بين النصارى والمجوس ليس لهم دين، قاله مجاهد، وعنه: من اليهود والمجوس، وقال سعيد بن جبير: من اليهود والنصارى، وعن الحسن والحكم: إنهم كالمجوس، وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى غير القبلة، ويقرؤون الزبور.
وقال وهب بن منبه: هم قوم يعرفون الله وحده، وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يحدثوا كفرا، وقال ابن وهب: أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: الصابئون هم قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون كل سنة ثلاثين يومًا، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات، وقيل غير ذلك، وأما النصارى فمعروفون وهم حملة الإنجيل، والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله واليوم الآخر وهو الميعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملًا صالحًا، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين، فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه.
الشيخ: ولا يكون العمل صالحًا إلا إذا وافق الشريعة مع إخلاصه لله؛ لأنه قال: وَعَمِلَ صَالِحًا يعني وعمل عملاً موافقًا للشريعة التي تجب عليه ويلزمه الأخذ بها، وبعد محمد ﷺ الشريعة هي شريعة محمد ﷺ وقبل شريعة النبي الذي أرسل إلى قومه، فإذا فعل هذا فهو الناجي السعيد.
س.............
س: قوله: بكوثى؟
الشيخ: محل في العراق منطقة أو مدينة.
ولا على ما تركوا وراء ظهورهم، ولا هم يحزنون، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه، ولهذا قال تعالى: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وَصَمُّوا فلا يسمعون حقًا ولا يهتدون إليه، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي مما كانوا فيه، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا أي بعد ذلك، كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أي مطلع عليهم، وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم.
الشيخ: والمقصود تحذير هذه الأمة أن تعمل عمل أولئك الذين أضاعوا أمر الله، واتبعوا أهواءهم، وقتلوا الكثير من الرسل، وكذبوا الكثير تبعًا لأهوائهم وإعراضًا عما جاءت به الرسل، فيجب على هذه الأمة أن تحذر طريقهم الوخيم، وأن تبتعد عن سبيلهم المنحرف، وأن تستقيم على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن تحكم شرع الله فيما وافق أهواءهم، وفيما خالف أهواءهم، هذا هو الواجب على كل مسلم إزاء ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فالله أرسلهم هداة للخلق ودعاة للحق، يبشرون وينذرون، يبشرون من أطاعهم بالسعادة والعاقبة الحميدة، وينذرون من عصاهم بالخيبة والندامة وسوء العاقبة.
ولما وقع ما وقع في هذه الأمة أصابهم ما أصابهم من قسوة القلوب واتباع الهوى وترك الحق حتى سلط الله عليهم أعداءهم وساموهم سواء العذاب، وللظالمين أمثالها، فالواجب اتباع الهدى والوقوف عند الحدود التي حدها الله ورسوله، والحذر مما يخالف ذلك، وإن نازعتك نفسك هواك في خلاف ذلك فالواجب جهاد النفس وجهاد الهوى ولزوم الحق والوقوف عنده والحذر مما خالفه، والله يقول جل وعلا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، وقال: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112] وقال: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] فلا بدّ من الاستقامة والثبات على الحق.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
يقول تعالى حاكمًا بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنسطورية، ممن قال منهم: بأن المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوًا كبيرًا، هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال: إني عبد الله، ولم يقل أنا الله ولا ابن الله، بل قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30] إلى أن قال: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:36].
وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمرا لهم بعبادة ربه وربهم، وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي فيعبد معه غيره فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، وفي الصحيح أن النبي ﷺ بعث مناديًا ينادي في الناس: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وفي لفظ: مؤمنة، وتقدم في أول سورة النساء عند قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، حديث يزيد بن بابنوس عن عائشة: الدواوين ثلاثة، فذكر منهم ديوانًا لا يغفره الله، وهو الشرك بالله، قال الله تعالى: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، والحديث في مسند أحمد، ولهذا قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72] أي وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه.
وقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا الفضل، حدثني أبو صخر في قول الله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ قال: هو قول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة، وهذا قول غريب في تفسير الآية أن المراد بذلك طائفتا اليهود والنصارى، والصحيح أنها أنزلت في النصارى خاصة، قاله مجاهد وغير واحد، ثم اختلفوا في ذلك فقيل: المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة: وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.الشيخ: جعلوا الله والمسيح وأمه مريم، فإنهما جعلوها آلهة ثلاثة، الله، والمسيح، ومريم، هؤلاء ثلاثة.
والقول الثاني: الله والمسيح وأقنوم الكلمة كن ،كل هذا كلام باطل لا يعقل لمن هدى الله قلبه وفتح بصيرته فالله -جل وعلا- هو خالق الجميع وإله الجميع، ومريم وابنها كلاهما مخلوق مربوب، فكيف يكون شريكًا لله وثالثا له ولا حول ولا قوة إلا بالله لولا عمى البصائر وانطماس العقول!.
..............
قال ابن جرير وغيره: والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم، وهم مختلفون فيها اختلافًا متباينًا، ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاثة كافرة.
الشيخ: وهذا بنص القرآن كلهم كفار، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فهو كفرهم جميعًا، كما كفر النصارى كفر اليهود كلهم كفار بضلالهم وزعمهم أن المسيح ابن الله أو أن العزير ابن الله، ولأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله فلديهم مكفرات كثيرة، نسأل الله العافية.
وقال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، قال السدي: وهي كقوله تعالى في آخر السورة: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ [المائدة:116].
وهذا القول هو الأظهر -والله أعلم- قال الله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ أي ليس متعددًا بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، ثم قال تعالى متوعدًا لهم ومتهددًا وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ أي من هذا الافتراء والكذب لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة من الأغلال والنكال، ثم قال: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه.الشيخ: وهذا واضح في أن جميع الذنوب كلها تحت التوبة، وأن جميع أنواع المكفرات كلها خاضعة للتوبة، فمن تاب تاب الله عليه، مهما كان كفره، ومهما كان ضلاله، ومهما كان إجرامه، فالإنسان إذا صدق في التوبة وأناب إلى الله نادمًا مقلعًا من ذنبه تاركًا له تعظيمًا لله ورغبة فيما عنده عازمًا عزمًا صادقًا أن لا يعود فيه تاب الله عليه ، وهو القائل جل وعلا: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وهو القائل سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وهو القائل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، وهنا يقول للنصارى: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74]، ويقول النبي ﷺ في قصة الإفك: التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وقوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [المائدة:75] أي له أسوة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59].
وقوله وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى، استدلالًا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًا إلا من الرجال، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109]، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك.
وقوله تعالى: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ أي يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، ثم قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ أي نوضحها ونظهرها، ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون، وبأي قول يتمسكون، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون.
الشيخ: مثل ما قال سبحانه: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس:101] مع وضوح الأمر وبيان الحجج والآيات الساطعات والبراهين القاطعات على أن عيسى عبد الله ورسوله فهم في ضلالهم يعمهون، وفي كفرهم يترددون، وقد عميت البصائر، وأصر رؤساؤهم على الكفر والباطل، وتابعهم عامتهم على غير هدى، نسأل الله العافية.
س.............
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:76، 77].
يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ومبينا له أنها لا تستحق شيئا من الإلهية، فقال تعالى: قُلْ أي يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم، وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي السميع لأقوال عباده، العليم بكل شيء، فلم عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا، ولا يملك ضرًا ولا نفعًا لغيره ولا لنفسه؟الشيخ: وهذا وصف عام لجميع آلهة المشركين كلها بهذا الوصف لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ولهذا قال سبحانه: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فالأصنام والأموات والملائكة والأنبياء والكواكب وغير ذلك كلها لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًا، وقال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] وقال إبراهيم لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42]، وقال في الرد على عباد العجل: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [طه:89]، هذا وصفهم جميعًا، وصف الآلهة المعبودة من دون الله جميعًا، فهو الذي يملك الضر والنفع والعطاء والمنع والإحياء والإماتة، ويملك كل شيء، هو المعبود بالحق ، هو الله فجميع الآلهة كلها بهذا الوصف، جميع الآلهة المعبودة من دون الله كلها بهذا الوصف، لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًا، ولا تجيب دعاءهم إذا دعوها، ما بين جماد وما بين ميت لا شعور له بما يطلب منه، وما بين عاجز لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرًا ولا يجلب لها خيرًا، وإنما المعبود بالحق القادر على كل شيء هو الله ، وذكر السمع والعلم لأن المعبود إذا كان لا يسمع ولا يعلم أحوال العابدين كيف ينفعهم كيف يضرهم؟ لا يسمع دعاءهم ولا يعلم أحوالهم، وهو يسمع دعاءهم مهما أسروا ومهما كانوا في أي بقعة من بقاع الأرض، إنما الذي يسمع دعاءهم هو الله ، وهو الذي يعلم أحوالهم إن الله بكل شيء عليم، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12].
فهو العليم بأحوالهم، السميع لدعائهم، القادر على إتحافهم بمطالبهم .
ثم قال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم، شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديمًا، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبدالرحمن، حدثنا عبدالله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس، قال: وقد كان قائم قام عليهم فأخذ بالكتاب والسنة زمانًا، فأتاه الشيطان فقال: إنما تركب أثرًا أو أمرًا قد عمل قبلك، فلا تحمد عليه.
الشيخ: يعني الشيء الذي فعلته وركبته أنت مسبوق إليه، فلا تحمد عليه ولكن أتي بشيء جديد مبتدع وهو داخل في قوله تعالى: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، نسأل الله العافية.
..........
فأتاه الشيطان فقال: إنما تركب أثرًا أو أمرًا قد عمل قبلك، فلا تحمد عليه، ولكن ابتدع أمرًا من قبل نفسك، وادع إليه وأجبر الناس عليه، ففعل ثم ادكر بعد فعله زمانًا، فأراد أن يتوب منه، فخلع سلطانه وملكه، وأراد أن يتعبد، فلبث في عبادته أيامًا، فأتي فقيل له: لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك، ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سببك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة، فكيف لك بهداهم فلا توبة لك أبدًا، ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
الشيخ: وهؤلاء الذين جاءوه أرادوا أن يقنطوه، ولو قد ضل به أناس يتوبوا إلى الله، والتوبة تجب ما قبلها، والله يرضيهم عنه يوم القيامة إذا تاب ورجع إلى الله –سبحانه-، فهو الرؤوف الرحيم الحكيم العليم.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81]
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه ، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه. قال العوفي، عن ابن عباس: لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان، ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال تعالى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ أي كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد. حدثنا شريك بن عبدالله عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبدالله قال: قال رسول الله ﷺ: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا: فجالسوهم في مجالسهم قال يزيد: وأحسبه قال: في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، وكان رسول الله ﷺ متكئًا، فجلس وقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا.
وقال أبو داود: حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي، حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحلل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض- ثم قال-: لُعِنََ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إلى قوله: فَاسِقُونَ- ثم قال-: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو تقصرنه على الحق قصرًا، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من طريق علي بن بذيمة به، وقال الترمذي: حسن غريب، ثم رواه هو وابن ماجة عن بندار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة مرسلًا.الشيخ: وهذا أمر واضح في عمل بني إسرائيل، وأنهم تركوا التناهي وصاروا يجالسون أهل المنكر ويصاحبونهم في أسواقهم ومجالسهم وفي مآكلهم ومشاربهم ولا ينكرون عليهم، فلهذا عمت العقوبة، نسأل الله العافية، وفي الحديث: كلا والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم وفي اللفظ الآخر: على يد السفيه، ولتأطرونه على الحق أطرًا، أو لتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم، المقصود أن الواجب إنكار المنكر وعدم اتخاذ أصحابه جلساء وأكلاء حتى ينتهوا عما هم عليه من الباطل، حتى يعرفوا صدق الناهي، فإنه إذا جالسهم وآكلهم وسكت واكتفى بالمرة الأولى ما صار منكرًا بالحقيقة حتى يستمر بالإنكار، وحتى يظهر كراهة ما هم عليه، ولا يكون جليسًا لهم ولا وكيلاً ولا شريبًا إلى غير ذلك، وإذا رأى المصلحة هجرهم بالكلية، وأبو عبيدة لم يسمع من ابن مسعود لكنه مشهور من طريق أبي عبيدة، ونص القرآن كاف، فالرواية مرسلة عن أبي عبيدة، وعن أبي عبيدة عن أبيه فأبو عبيدة لم يسمع من والده ففيه انقطاع، لكن المعنى من الآية واضح، وأن الله جل وعلا لعنهم بسبب هذا العمل، بعصيانهم واعتدائهم، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فسر عصيانهم واعتداءهم بأنهم كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، لذهاب الغيرة، وعدم وجود الغيرة، نسأل الله السلامة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، وهارون بن إسحاق الهمداني، قالا: حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن العلاء بن المسيب، عن عبدالله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن ابن أبي عبيدة، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه، أن يكون أكيله وخليطه وشريكه، وفي حديث هارون وشريبه، ثم اتفقا في المتن فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثم قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم والسياق لأبي سعيد، وكذا قال في رواية هذا الحديث.
وقد رواه أبو داود أيضًا عن خلف بن هشام، عن أبي شهاب الخياط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم وهو ابن عجلان الأفطس، عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه، عن النبي ﷺ بنحوه.
الطالب: أبو شهاب الخياط مصحف اسمه، أبو شهاب الحناط بمهملة ثم نون.
الشيخ: أيش عندكم؟
الطالب: الخياط.
الشيخ: راجعته.
الطالب: نعم، هو أبو شهاب الحناط واسمه عبد ربه بن نافع الكناني الحناط بمهملة ونون، نزيل المدائن، وهو أبو شهاب الأصغر صدوق يهم من الثامنة مات سنة إحدى أو اثنتين وسبعين وهو عند أبي داود في الملاحم.
الشيخ: صلحه الحناط .
ثم قال أبو داود: كذا رواه خالد عن العلاء، عن عمرو بن مرة به، ورواه المحاربي عن العلاء بن المسيب، عن عبدالله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة عن عبدالله.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: وقد رواه خالد بن عبدالله الواسطي عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة عن أبي موسى....................
الشيخ: عندك شيء عن خالد الواسطي؟
الطالب: خالد بن عبدالله الواسطي هو خالد بن عبدالله بن عبدالرحمن بن يزيد الطحان الواسطي المزني مولاهم، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة ثنتين وثمانين، وكان موجودًا سنة عشرة ومائة، أخرج له الجماعة.
...................
يقول تعالى: قل يا محمد يا أهل الكتاب لستم على شيء أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل، أي حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها، ومما فيها الأمر باتباع محمد ﷺ والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته، ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: في قوله: وما أنزل إليكم من ربكم يعني: القرآن العظيم.
الشيخ: وهذا الخطاب وإن كان موجهًا لأهل الكتاب؛ فهو أيضًا موجه لنا في المعنى كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعن به سواكم! فهم ليسوا على شيء حتى يؤمنوا بالله وما أنزله على رسله، وهكذا أمة محمد ﷺ ليست على شيء حتى تؤمن بما أنزل إليها، وحتى تستقيم على الشرع الذي جاء به نبيها، ولهذا قال سبحانه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ أي اليهود والنصارى لَسْتُمْ عَلَى شَيء أي من الدين حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
يعني حتى تعملوا بهما وتعملوا بما أنزل بعدهما وهو القرآن، وإلا فلستم على شيء، فالمعنى لو أنهم أقاموا كل شيء و......... كل شيء ولم يؤمنوا بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام لم ينفعهم ذلك، فلا بدّ من الإيمان بكل ما أنزل الله على رسله والتصديق بذلك والانقياد لذلك كما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن كذب واحدًا منهم فقد كذب الجميع، ولهذا قال جل وعلا: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105] وهم كذبوا نوحًا فقط، لكن لما كان تكذيب الواحد من الرسل تكذيبًا للجميع قال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105] وهكذا في عاد وهكذا في هود، المقصود أن الواجب على اليهود والنصارى كالواجب على غيرهم من جميع الأمم، أن يؤمنوا بالله ويوحدوه وينقادوا لشرعه ويعظموه ويستجيبوا لما جاء به النبي محمد عليه الصلاة والسلام ويلتزموا به وإلا فليسوا على شيء من الدين بل هم هالكون ضالون لكفرهم بما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام.
س: ............
وقوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا تقدم تفسيره، فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أي فلا تحزن عليهم، ولا يهيدنك ذلك منهم.
..............
ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهم المسلمون، وَالَّذِينَ هَادُوا وهم حملة التوراة، وَالصَّابِئُونَ لما طال الفصل حسن العطف بالرفع، والصابئون طائفة بين النصارى والمجوس ليس لهم دين...............
الشيخ: يعني مخلوطون جمعوا بين هذا وهذا، هذا قول فيهم، قيل أنهم طائفة ليس لها دين بالكلية، طائفة مستقلة، كما هو ظاهر القرآن، طائفة مستقلة ليس لها تعلق لا باليهودية ولا بالنصرانية ....... واحدة كالوثنية المقصود، أنها طائفة مستقلة غير اليهود وغير النصارى.
س: وقول بأنهم عباد الكواكب؟
الشيخ: وفي قول أنهم من قوم إبراهيم.
س:...........
الشيخ: قول المؤلف ليس بجيد أنهم طائفة من النصارى والمجوس، والقول الثاني أظهر أنهم طائفة مستقلة ليسوا من النصارى ولا من المجوس، وفي هذا في سورة الحج: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الحج:17] فعدهم مع الطوائف.
س............
الشيخ: لا يهم أمرهم إلا الذين آمنوا واتبعوا الرسل وصلحوا واستقاموا آمنوا سواء يعبدون الكواكب أو مستقلين بعبادة نوع من الأوثان أو غير هذا من أنواع الكفر، المهم أن من دخل في دين الله منهم أو من اليهود أو من النصارى أو من المجوس أو من الوثنين فهذا هو السعيد، ومن لم يدخل في دين الله الذي بعث به نبيه محمد ﷺ فهو الشقي من أي طائفة كان، والجزم بأنها كذا وكذا يحتاج إلى أدلة وعناية بالتاريخ ومطالعة الكتب الكثيرة.
س: في آية الحج والصابئين، وهنا والصابئون؟
الشيخ: ماشي على القاعدة في العطف؛ لأن الذين منصوب اسم إن وهذا معطوف عليه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ [الحج:17]، أما قول المؤلف لما بعد وطال الفصل حصل الرفع فيه نظر، وقال بعضهم الصائبون عطف على محل الذين لأن الذين محله رفع لولا إن لكان مرفوعًا الَّذِينَ آمَنُوا .. إلى آخره، وهذا فيه نظر، ولعل الأقرب أن يكون مبتدأ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الحج:17] لأن ....... مبتدأ، ومن آمن وما بعده خبر..........
ويحتمل ومثلهم الصابئون والنصارى من آمن، يحتمل أن هناك خبر محذوف قبل الصابئون جاء بعدها من خبر إن الذين آمنوا، والمعول على القراءة أما الإعراب شيء ثاني.
والصابئون طائفة بين النصارى والمجوس ليس لهم دين، قاله مجاهد، وعنه: من اليهود والمجوس، وقال سعيد بن جبير: من اليهود والنصارى، وعن الحسن والحكم: إنهم كالمجوس، وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى غير القبلة، ويقرؤون الزبور.
وقال وهب بن منبه: هم قوم يعرفون الله وحده، وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يحدثوا كفرا، وقال ابن وهب: أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: الصابئون هم قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون كل سنة ثلاثين يومًا، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات، وقيل غير ذلك، وأما النصارى فمعروفون وهم حملة الإنجيل، والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله واليوم الآخر وهو الميعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملًا صالحًا، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين، فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه.
الشيخ: ولا يكون العمل صالحًا إلا إذا وافق الشريعة مع إخلاصه لله؛ لأنه قال: وَعَمِلَ صَالِحًا يعني وعمل عملاً موافقًا للشريعة التي تجب عليه ويلزمه الأخذ بها، وبعد محمد ﷺ الشريعة هي شريعة محمد ﷺ وقبل شريعة النبي الذي أرسل إلى قومه، فإذا فعل هذا فهو الناجي السعيد.
س.............
س: قوله: بكوثى؟
الشيخ: محل في العراق منطقة أو مدينة.
ولا على ما تركوا وراء ظهورهم، ولا هم يحزنون، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه، ولهذا قال تعالى: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وَصَمُّوا فلا يسمعون حقًا ولا يهتدون إليه، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي مما كانوا فيه، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا أي بعد ذلك، كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أي مطلع عليهم، وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم.
الشيخ: والمقصود تحذير هذه الأمة أن تعمل عمل أولئك الذين أضاعوا أمر الله، واتبعوا أهواءهم، وقتلوا الكثير من الرسل، وكذبوا الكثير تبعًا لأهوائهم وإعراضًا عما جاءت به الرسل، فيجب على هذه الأمة أن تحذر طريقهم الوخيم، وأن تبتعد عن سبيلهم المنحرف، وأن تستقيم على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن تحكم شرع الله فيما وافق أهواءهم، وفيما خالف أهواءهم، هذا هو الواجب على كل مسلم إزاء ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فالله أرسلهم هداة للخلق ودعاة للحق، يبشرون وينذرون، يبشرون من أطاعهم بالسعادة والعاقبة الحميدة، وينذرون من عصاهم بالخيبة والندامة وسوء العاقبة.
ولما وقع ما وقع في هذه الأمة أصابهم ما أصابهم من قسوة القلوب واتباع الهوى وترك الحق حتى سلط الله عليهم أعداءهم وساموهم سواء العذاب، وللظالمين أمثالها، فالواجب اتباع الهدى والوقوف عند الحدود التي حدها الله ورسوله، والحذر مما يخالف ذلك، وإن نازعتك نفسك هواك في خلاف ذلك فالواجب جهاد النفس وجهاد الهوى ولزوم الحق والوقوف عنده والحذر مما خالفه، والله يقول جل وعلا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، وقال: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112] وقال: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] فلا بدّ من الاستقامة والثبات على الحق.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
يقول تعالى حاكمًا بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنسطورية، ممن قال منهم: بأن المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوًا كبيرًا، هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال: إني عبد الله، ولم يقل أنا الله ولا ابن الله، بل قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30] إلى أن قال: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:36].
وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمرا لهم بعبادة ربه وربهم، وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي فيعبد معه غيره فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، وفي الصحيح أن النبي ﷺ بعث مناديًا ينادي في الناس: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وفي لفظ: مؤمنة، وتقدم في أول سورة النساء عند قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، حديث يزيد بن بابنوس عن عائشة: الدواوين ثلاثة، فذكر منهم ديوانًا لا يغفره الله، وهو الشرك بالله، قال الله تعالى: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، والحديث في مسند أحمد، ولهذا قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72] أي وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه.
وقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا الفضل، حدثني أبو صخر في قول الله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ قال: هو قول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة، وهذا قول غريب في تفسير الآية أن المراد بذلك طائفتا اليهود والنصارى، والصحيح أنها أنزلت في النصارى خاصة، قاله مجاهد وغير واحد، ثم اختلفوا في ذلك فقيل: المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة: وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.الشيخ: جعلوا الله والمسيح وأمه مريم، فإنهما جعلوها آلهة ثلاثة، الله، والمسيح، ومريم، هؤلاء ثلاثة.
والقول الثاني: الله والمسيح وأقنوم الكلمة كن ،كل هذا كلام باطل لا يعقل لمن هدى الله قلبه وفتح بصيرته فالله -جل وعلا- هو خالق الجميع وإله الجميع، ومريم وابنها كلاهما مخلوق مربوب، فكيف يكون شريكًا لله وثالثا له ولا حول ولا قوة إلا بالله لولا عمى البصائر وانطماس العقول!.
..............
قال ابن جرير وغيره: والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم، وهم مختلفون فيها اختلافًا متباينًا، ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاثة كافرة.
الشيخ: وهذا بنص القرآن كلهم كفار، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فهو كفرهم جميعًا، كما كفر النصارى كفر اليهود كلهم كفار بضلالهم وزعمهم أن المسيح ابن الله أو أن العزير ابن الله، ولأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله فلديهم مكفرات كثيرة، نسأل الله العافية.
وقال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، قال السدي: وهي كقوله تعالى في آخر السورة: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ [المائدة:116].
وهذا القول هو الأظهر -والله أعلم- قال الله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ أي ليس متعددًا بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، ثم قال تعالى متوعدًا لهم ومتهددًا وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ أي من هذا الافتراء والكذب لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة من الأغلال والنكال، ثم قال: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه.الشيخ: وهذا واضح في أن جميع الذنوب كلها تحت التوبة، وأن جميع أنواع المكفرات كلها خاضعة للتوبة، فمن تاب تاب الله عليه، مهما كان كفره، ومهما كان ضلاله، ومهما كان إجرامه، فالإنسان إذا صدق في التوبة وأناب إلى الله نادمًا مقلعًا من ذنبه تاركًا له تعظيمًا لله ورغبة فيما عنده عازمًا عزمًا صادقًا أن لا يعود فيه تاب الله عليه ، وهو القائل جل وعلا: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وهو القائل سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وهو القائل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، وهنا يقول للنصارى: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74]، ويقول النبي ﷺ في قصة الإفك: التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وقوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [المائدة:75] أي له أسوة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59].
وقوله وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى، استدلالًا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًا إلا من الرجال، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109]، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك.
وقوله تعالى: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ أي يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، ثم قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ أي نوضحها ونظهرها، ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون، وبأي قول يتمسكون، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون.
الشيخ: مثل ما قال سبحانه: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس:101] مع وضوح الأمر وبيان الحجج والآيات الساطعات والبراهين القاطعات على أن عيسى عبد الله ورسوله فهم في ضلالهم يعمهون، وفي كفرهم يترددون، وقد عميت البصائر، وأصر رؤساؤهم على الكفر والباطل، وتابعهم عامتهم على غير هدى، نسأل الله العافية.
س.............
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:76، 77].
يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ومبينا له أنها لا تستحق شيئا من الإلهية، فقال تعالى: قُلْ أي يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم، وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي السميع لأقوال عباده، العليم بكل شيء، فلم عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا، ولا يملك ضرًا ولا نفعًا لغيره ولا لنفسه؟الشيخ: وهذا وصف عام لجميع آلهة المشركين كلها بهذا الوصف لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ولهذا قال سبحانه: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فالأصنام والأموات والملائكة والأنبياء والكواكب وغير ذلك كلها لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًا، وقال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] وقال إبراهيم لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42]، وقال في الرد على عباد العجل: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [طه:89]، هذا وصفهم جميعًا، وصف الآلهة المعبودة من دون الله جميعًا، فهو الذي يملك الضر والنفع والعطاء والمنع والإحياء والإماتة، ويملك كل شيء، هو المعبود بالحق ، هو الله فجميع الآلهة كلها بهذا الوصف، جميع الآلهة المعبودة من دون الله كلها بهذا الوصف، لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًا، ولا تجيب دعاءهم إذا دعوها، ما بين جماد وما بين ميت لا شعور له بما يطلب منه، وما بين عاجز لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرًا ولا يجلب لها خيرًا، وإنما المعبود بالحق القادر على كل شيء هو الله ، وذكر السمع والعلم لأن المعبود إذا كان لا يسمع ولا يعلم أحوال العابدين كيف ينفعهم كيف يضرهم؟ لا يسمع دعاءهم ولا يعلم أحوالهم، وهو يسمع دعاءهم مهما أسروا ومهما كانوا في أي بقعة من بقاع الأرض، إنما الذي يسمع دعاءهم هو الله ، وهو الذي يعلم أحوالهم إن الله بكل شيء عليم، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12].
فهو العليم بأحوالهم، السميع لدعائهم، القادر على إتحافهم بمطالبهم .
ثم قال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم، شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديمًا، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبدالرحمن، حدثنا عبدالله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس، قال: وقد كان قائم قام عليهم فأخذ بالكتاب والسنة زمانًا، فأتاه الشيطان فقال: إنما تركب أثرًا أو أمرًا قد عمل قبلك، فلا تحمد عليه.
الشيخ: يعني الشيء الذي فعلته وركبته أنت مسبوق إليه، فلا تحمد عليه ولكن أتي بشيء جديد مبتدع وهو داخل في قوله تعالى: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، نسأل الله العافية.
..........
فأتاه الشيطان فقال: إنما تركب أثرًا أو أمرًا قد عمل قبلك، فلا تحمد عليه، ولكن ابتدع أمرًا من قبل نفسك، وادع إليه وأجبر الناس عليه، ففعل ثم ادكر بعد فعله زمانًا، فأراد أن يتوب منه، فخلع سلطانه وملكه، وأراد أن يتعبد، فلبث في عبادته أيامًا، فأتي فقيل له: لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك، ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سببك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة، فكيف لك بهداهم فلا توبة لك أبدًا، ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
الشيخ: وهؤلاء الذين جاءوه أرادوا أن يقنطوه، ولو قد ضل به أناس يتوبوا إلى الله، والتوبة تجب ما قبلها، والله يرضيهم عنه يوم القيامة إذا تاب ورجع إلى الله –سبحانه-، فهو الرؤوف الرحيم الحكيم العليم.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81]
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه ، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه. قال العوفي، عن ابن عباس: لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان، ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال تعالى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ أي كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد. حدثنا شريك بن عبدالله عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبدالله قال: قال رسول الله ﷺ: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا: فجالسوهم في مجالسهم قال يزيد: وأحسبه قال: في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، وكان رسول الله ﷺ متكئًا، فجلس وقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا.
وقال أبو داود: حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي، حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحلل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض- ثم قال-: لُعِنََ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إلى قوله: فَاسِقُونَ- ثم قال-: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو تقصرنه على الحق قصرًا، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من طريق علي بن بذيمة به، وقال الترمذي: حسن غريب، ثم رواه هو وابن ماجة عن بندار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة مرسلًا.الشيخ: وهذا أمر واضح في عمل بني إسرائيل، وأنهم تركوا التناهي وصاروا يجالسون أهل المنكر ويصاحبونهم في أسواقهم ومجالسهم وفي مآكلهم ومشاربهم ولا ينكرون عليهم، فلهذا عمت العقوبة، نسأل الله العافية، وفي الحديث: كلا والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم وفي اللفظ الآخر: على يد السفيه، ولتأطرونه على الحق أطرًا، أو لتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم، المقصود أن الواجب إنكار المنكر وعدم اتخاذ أصحابه جلساء وأكلاء حتى ينتهوا عما هم عليه من الباطل، حتى يعرفوا صدق الناهي، فإنه إذا جالسهم وآكلهم وسكت واكتفى بالمرة الأولى ما صار منكرًا بالحقيقة حتى يستمر بالإنكار، وحتى يظهر كراهة ما هم عليه، ولا يكون جليسًا لهم ولا وكيلاً ولا شريبًا إلى غير ذلك، وإذا رأى المصلحة هجرهم بالكلية، وأبو عبيدة لم يسمع من ابن مسعود لكنه مشهور من طريق أبي عبيدة، ونص القرآن كاف، فالرواية مرسلة عن أبي عبيدة، وعن أبي عبيدة عن أبيه فأبو عبيدة لم يسمع من والده ففيه انقطاع، لكن المعنى من الآية واضح، وأن الله جل وعلا لعنهم بسبب هذا العمل، بعصيانهم واعتدائهم، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فسر عصيانهم واعتداءهم بأنهم كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، لذهاب الغيرة، وعدم وجود الغيرة، نسأل الله السلامة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، وهارون بن إسحاق الهمداني، قالا: حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن العلاء بن المسيب، عن عبدالله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن ابن أبي عبيدة، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه، أن يكون أكيله وخليطه وشريكه، وفي حديث هارون وشريبه، ثم اتفقا في المتن فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثم قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم والسياق لأبي سعيد، وكذا قال في رواية هذا الحديث.
وقد رواه أبو داود أيضًا عن خلف بن هشام، عن أبي شهاب الخياط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم وهو ابن عجلان الأفطس، عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه، عن النبي ﷺ بنحوه.
الطالب: أبو شهاب الخياط مصحف اسمه، أبو شهاب الحناط بمهملة ثم نون.
الشيخ: أيش عندكم؟
الطالب: الخياط.
الشيخ: راجعته.
الطالب: نعم، هو أبو شهاب الحناط واسمه عبد ربه بن نافع الكناني الحناط بمهملة ونون، نزيل المدائن، وهو أبو شهاب الأصغر صدوق يهم من الثامنة مات سنة إحدى أو اثنتين وسبعين وهو عند أبي داود في الملاحم.
الشيخ: صلحه الحناط .
ثم قال أبو داود: كذا رواه خالد عن العلاء، عن عمرو بن مرة به، ورواه المحاربي عن العلاء بن المسيب، عن عبدالله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة عن عبدالله.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: وقد رواه خالد بن عبدالله الواسطي عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة عن أبي موسى....................
الشيخ: عندك شيء عن خالد الواسطي؟
الطالب: خالد بن عبدالله الواسطي هو خالد بن عبدالله بن عبدالرحمن بن يزيد الطحان الواسطي المزني مولاهم، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة ثنتين وثمانين، وكان موجودًا سنة عشرة ومائة، أخرج له الجماعة.
...................